بعض كتاب المسرح يتعثرون كثيرًا في مقدمات مسرحياتهم، فنشعر أن القلم لا يطاوعهم في الكتابة، وقد يعترينا الظن بأنهم لم يعدوا لهذه المقدمات بشكل جيد، فأصبح الأمر أشبه بالثرثرة والعرض الباهت للشخصيات والتقديم المفتعل للأحداث.
وللأسف هذه الظاهرة نراها في كتابات كثير من الكتاب الذين ليست لديهم خبرة كبيرة في الكتابة المسرحية، وغالبًا ما يؤدي ضعف المقدمات في مسرحياتهم إلى تشتت أذهان القرّاء والمشاهدين عند محاولتهم التفاعل معها، وقد يؤدي أحيانًا إلى انصرافهم عنها، وعدم استكمالهم قراءتها أو مشاهدتها.
وكاتب المسرح المتمكن يدرك جيدًا أنه لا بد أن يجذب المشاهد لمسرحيته من خلال المشاهد الأولى لها، بل لا أبالغ لو قلت: إنه عليه أن يجذب المشاهد لمسرحيته من خلال أول مشهد فيها، ومن خلال الدقائق الأولى للعرض المسرحي، ولا شك أن للمخرج والممثلين دورًا مهمًّا في جذب الجمهور للمسرحية، ولكن يبقى للنص المسرحي الدور الأهم في التأثير على المشاهدين.
وكبار كتاب المسرح يدخلون في القضية التي يريدون طرحها مباشرة في مسرحياتهم، ويبدأ الصراع مع المشاهد الأولى للمسرحية؛ مما يجعل المشاهد ينجذب إليها، وتستمر إثارتها له حتى تصل لنهايتها وتفك جميع خيوط الاشتباك فيها.
وسوفوكليس كان أبرع كتاب الإغريق في جذب النظارة لمسرحياته مع الدقائق الأولى لمشاهدتهم لها، كما نرى في مسرحية "أوديب ملكًا"، فمنذ بداية الأحداث نواجه بمشكلة أهل ثيبة في إصابة مدينتهم بطاعون يقضي على كل شيء حي فيها، ويتشوق المشاهد؛ ليعرف أسباب هذا الطاعون، فنعرف أن وحي الإله بدلف قد قال: إن سبب هذا الطاعون هو عدم القِصَاص للملك السابق لايوس، الذي قُتِلَ ولم يقتص له، ويبدأ أوديب رحلة البحث عن قاتل ذلك الملك، مع وجود إثارة كبيرة لدى المتلقي خلال ذلك، ويكتشف أوديب في النهاية–ويكتشف معه الجمهور المشاهد لهذه المسرحية –أن قاتل لايوس هو أوديب نفسه، ومن الاكتشافات الأخرى التي نراها في هذه المسرحية معرفة أوديب أن لايوس أبوه، وأن جوكاستا التي تزوجها هي في الوقت نفسه أمه.
وأيضًا نرى سوفوكليس في مسرحية "أنتيجونا" يدخل بنا مع الدقائق الأولى للمسرحية في القضية التي ينشأ عنها صراع كبير يؤدي لتشويق المشاهد وإثارته وشدة انجذابه للمسرحية، فأنتيجونا مع بداية المسرحية تقرر أن تدفن جثة أخيها بولينيكيس –الذي جاء معتديًا بصحبة جيش أجنبي على بلده ثيبة؛ ليصبح ملكًا مكان أخيه الذي اغتصب منه الملك، وخلال المعركة يقتل كل أخ منهما الآخر–وتخالف أنتيجونا بهذا قرار الملك الجديد كريون في منعه دفن جثة بولينيكيس وعدم إقامة شعائر دينية لدفنه، وترفض إسمينا مشاركة أختها أنتيجونا في القيام بتلك المهمة الخطيرة، ثم تتتابع الأحداث، ويقبض على أنتيجونا، وهي تحاول للمرة الثانية دفن جثة أخيها، ويأمر كريون بحبسها حية في نفق حتى تموت، وتشنق أنتيجونا نفسها، ويقتل هيمون بن كريون نفسه بعد موت حبيبته وخطيبته أنتيجونا، وتقتل أم هيمون نفسها بعد موت ابنها، وأخيرًا يدرك كريون خطأ قراراته، ويصبح وحيدًا يتألم ويتعذب ويجأر بالشكوى.
والأمر نفسه في مسرحية "إلكترا" لسوفوكليس، فمع بداية الأحداث تترقب إلكترا وصول مخلصها من العذاب الذي تناله من أمها وزوج أمها؛ لأنها تواصل اتهامهما بقتل والدها البطل العظيم أجاممنون، وتنتظر إلكترا أيضًا وصول أخيها أوريستيس؛ ليثأر لأبيه من هذين القاتلين الخائنين،وتتتابع الأحداث بعد ذلك في تشويق وإثارة للمشاهدلهذه المسرحية.
وابتكر يوربيديس مقدمة سردية صاغها في بعض مسرحياته
– وتكلم عنها أرسطوفان في مسرحية "الضفادع" على لسان يوربيديس خلال مناظرته مع أيسخيلوس، ويذكر يوربيديس في هذه المناظرة أنه ابتكر تلك الطريقة في مقدمات مسرحياته؛ ليسهل على المشاهد تتبع الحدث الرئيس فيها بأبعاده الماضية– وفيها تقوم إحدى الشخصيات في بدايتها بسرد الأحداث السابقة على الحدث الرئيس في المسرحية، وتجمع كل الخيوط فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "أندروماخا"، ففي بدايتها تحكي أندروماخا مآسي حدثت لها ولأهلها في طروادة في الماضي، وكان من آثارها هزيمة أهلها في طروادة على أيدي الإغريق، وأنها أصبحت أمة لابن أخيل، وأنجبت منه ولدًا، وتحاول هرميونا زوجة ابن أخيل قتله وقتلها في غيابه، ثم يتم عرض الحدث بعد ذلك بما فيه من اشتباكات قوية بين أندروماخا من ناحية وهرميونا ووالدها مينيلاوس من ناحية أخرى.
والأمر نفسه نراه في مسرحية "الفينيقيات" ذات الأحداث المتشعبة التي يجمعها يوربيديس في مصب واحد مع نهاية المسرحية، فمع بداية المسرحية تسرد "جوكاستا" المآسي التي مرت بها أسرتها، وتتكلم عن ترصد بعض الآلهة لها، ثم يبدأ عرض الأحداث الرئيسة في هذه المسرحية.
ووصيفة ميديا في مسرحية "ميديا" ليوربيديس تقوم بهذه المهمة في سرد الأحداث الماضية وتلخيصها في بداية هذه المسرحية، وتهييء بذلك للحدث الرئيس الذي يتم عرضه فيها.
وقد يقوم بهذه المهمة السردية في تلخيص الأحداث السابقة على الحدث الرئيس الذي يتم عرضه في مسرحيات يوربيديس – أحد الآلهة الوثنية، كما نرى في مسرحية "هيبوليت"، فنرى في بدايتها إلهة الجمال أفروديت تشكو من عدم اهتمام هيبوليت بها، وأنه يوجه عبادته وقرابينه لإلهة الصيد أرتيميس، وتتوعد أفروديت هيبوليت بالمصائب، وتوضح كيف سيكون انتقامها منه، وتسير الأحداث في هذه المسرحية وفق ما قررته أفروديت.
وكتاب المسرح الكلاسيكي في القرن السابع عشر قلدوا سوفوكليس –على وجه الخصوص –في أن يبدءوا مسرحياتهم بالدخول في الحدث الرئيس دون عرض مقدمات لا علاقة لها به، فكانوا يبدءون تلك المسرحيات وهي ملتهبة بأجواء الصراع، كما نرى في مسرحيات كورني، كمسرحية"السيد" ومسرحية "أوديب"، وكما نرى في مسرحيات راسين، كمسرحية "فيدر"، ومسرحية "أندروماك".
وكثير من كتاب المسرح في العصر الحديث يدخلون في عرض قضايا مسرحياتهم مباشرة؛ من أجل التركيز الدرامي، ولجذب المشاهدين لمسرحياتهم، كما نرى ذلك في كثير من مسرحيات إبسن، مثل مسرحية "بيت الدمية" ومسرحية "البناء العظيم"، ومسرحيات أوجست استرندبرج، مثل مسرحية "سوناتا الشبح" ومسرحية "الآنسة جوليا".
والحق أن كبار كتاب المسرح في العصر الحديث يفضلون تلك الطريقة في الدخول في الحدث مباشرة وأجواء الصراع مع بدايات مسرحياتهم، كما نرى في مسرحيات يوجين أونيل وآرثر ميللر وبرنارد شو وأوسكار وايلد وغيرهم.
واللافت للنظر في مسرحيات تشيكوف الطويلة أننا نرى مقدماتها بطيئة، وفيها قدر من الملل أحيانًا لمن يتعجل وجود الصراع وشدته في المسرحيات، ولكننا نرى الأحداث فيها بعد ذلك تأخذ في التصعيد والسخونة، كما نرى ذلك في مسرحية "بستان الكراز" ومسرحية "الخال فانيا" ومسرحية "إيفانوف".
ونرى في بعض مسرحيات بريشت الملحمية مقدمات فيها كسر للإيهام، فالممثلون الذين يمثلون في هذه المسرحيات يقدمون أنفسهم للنظارة بأسمائهم الحقيقية، ويعرفون المشاهدين ببعض المعلومات عن المسرحية التي سيمثلونها بعد قليل، ويطلبون إليهم عدم الاندماج الكامل معها؛ حتى يُكَوِّنُوا رأيًا في القضية التي تطرح فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "القائل نعم والقائل لا" ومسرحية "الاستثناء والقاعدة"، وغيرهما من المسرحيات.
ومن الواضح أن بريشت في مسرحياته هذه ذات الطابع الملحمي
لا يهمه تشويق المشاهدين باندماجهم الشديد مع مسرحياته بقدر ما يهمه تفكيرهم في القضايا السياسية التي يعرضها لهم في تلك المسرحيات، وأن يكون لهم مواقف منها، فهو مسرح سياسي توجيهي وتحريضي أيضًا.
وكتاب مسرح العبث نرى مقدمات مسرحياتهم تحمل طابع التغريب وكسر المنطق والحقائق، مثلما هو الأمر في باقي أجزاء مسرحياتهم، ولكن التغريب يزداد مع سخونة الأحداث فيها، كما نرى في مسرحية "فتاة في سن الزواج" ليونسكو، ففي بدايتها نرى حديثًا بين رجل وامرأة يتشعب في جوانب مختلفة لا رابط بينها، والرجل هو الذي يقود دفة هذا الحديث ويوجهه، وتتحدث هذه المرأة عن ابنتها التي تستعد للزواج، ونكتشف قرب نهاية أحداث هذه المسرحية أن هذه الابنةهى رجل،
وهذا هو أهم جزء في المسرحية فيه تغريب وخروج عن المألوف، وأيضًا نرى في مسرحية "الدرس" ليونسكو معلمًا يعلم فتاة بأسلوب سادي حتى لكأنه يعذبها به، وتزداد المسرحية مع نهايتها غرابة بقتل ذلك المدرس لتلك الفتاة، ونكتشف أن هذه عادته مع كل الفتيات اللائي يدرس لهن.
وأحيانًا نرى في بعض مسرحيات كتاب العبث تلك المقدمة التي فيها شدة التغريب ومخالفة المنطق، وتسير الأحداث وفقها بعد ذلك، كما نرى في مسرحية "الأيام السعيدة" لصمويل بيكيت، فنرى في هذه المسرحية امرأة مدفونة في الرمل إلى قريب من آخر صدرها، وتتحدث إلى زوجها الذي يظهر أحيانًا من خلف ربوة، ولكنه قلما يشاركها الحوار، وتتكلم هذه المرأة عن أمور عادية في حياتها، وتدعي مع هذا أنها سعيدة، وفي الفصل الثاني من هذه المسرحية نراها مدفونة في الرمال إلى عنقها، وتستمر في ثرثرتها التي توحي بأنها سعيدة، ولكنها في حقيقة الأمر غير سعيدة، فهي مكبلة بأغلال الحياة، وتعيش في ظل أحداث تافهة،
ولا تجني منها غير الملل والتعاسة، ولكنها توهم نفسها بالسعادة؛ لكي تستطيع الاستمرار في العيش.
وللأسف هذه الظاهرة نراها في كتابات كثير من الكتاب الذين ليست لديهم خبرة كبيرة في الكتابة المسرحية، وغالبًا ما يؤدي ضعف المقدمات في مسرحياتهم إلى تشتت أذهان القرّاء والمشاهدين عند محاولتهم التفاعل معها، وقد يؤدي أحيانًا إلى انصرافهم عنها، وعدم استكمالهم قراءتها أو مشاهدتها.
وكاتب المسرح المتمكن يدرك جيدًا أنه لا بد أن يجذب المشاهد لمسرحيته من خلال المشاهد الأولى لها، بل لا أبالغ لو قلت: إنه عليه أن يجذب المشاهد لمسرحيته من خلال أول مشهد فيها، ومن خلال الدقائق الأولى للعرض المسرحي، ولا شك أن للمخرج والممثلين دورًا مهمًّا في جذب الجمهور للمسرحية، ولكن يبقى للنص المسرحي الدور الأهم في التأثير على المشاهدين.
وكبار كتاب المسرح يدخلون في القضية التي يريدون طرحها مباشرة في مسرحياتهم، ويبدأ الصراع مع المشاهد الأولى للمسرحية؛ مما يجعل المشاهد ينجذب إليها، وتستمر إثارتها له حتى تصل لنهايتها وتفك جميع خيوط الاشتباك فيها.
وسوفوكليس كان أبرع كتاب الإغريق في جذب النظارة لمسرحياته مع الدقائق الأولى لمشاهدتهم لها، كما نرى في مسرحية "أوديب ملكًا"، فمنذ بداية الأحداث نواجه بمشكلة أهل ثيبة في إصابة مدينتهم بطاعون يقضي على كل شيء حي فيها، ويتشوق المشاهد؛ ليعرف أسباب هذا الطاعون، فنعرف أن وحي الإله بدلف قد قال: إن سبب هذا الطاعون هو عدم القِصَاص للملك السابق لايوس، الذي قُتِلَ ولم يقتص له، ويبدأ أوديب رحلة البحث عن قاتل ذلك الملك، مع وجود إثارة كبيرة لدى المتلقي خلال ذلك، ويكتشف أوديب في النهاية–ويكتشف معه الجمهور المشاهد لهذه المسرحية –أن قاتل لايوس هو أوديب نفسه، ومن الاكتشافات الأخرى التي نراها في هذه المسرحية معرفة أوديب أن لايوس أبوه، وأن جوكاستا التي تزوجها هي في الوقت نفسه أمه.
وأيضًا نرى سوفوكليس في مسرحية "أنتيجونا" يدخل بنا مع الدقائق الأولى للمسرحية في القضية التي ينشأ عنها صراع كبير يؤدي لتشويق المشاهد وإثارته وشدة انجذابه للمسرحية، فأنتيجونا مع بداية المسرحية تقرر أن تدفن جثة أخيها بولينيكيس –الذي جاء معتديًا بصحبة جيش أجنبي على بلده ثيبة؛ ليصبح ملكًا مكان أخيه الذي اغتصب منه الملك، وخلال المعركة يقتل كل أخ منهما الآخر–وتخالف أنتيجونا بهذا قرار الملك الجديد كريون في منعه دفن جثة بولينيكيس وعدم إقامة شعائر دينية لدفنه، وترفض إسمينا مشاركة أختها أنتيجونا في القيام بتلك المهمة الخطيرة، ثم تتتابع الأحداث، ويقبض على أنتيجونا، وهي تحاول للمرة الثانية دفن جثة أخيها، ويأمر كريون بحبسها حية في نفق حتى تموت، وتشنق أنتيجونا نفسها، ويقتل هيمون بن كريون نفسه بعد موت حبيبته وخطيبته أنتيجونا، وتقتل أم هيمون نفسها بعد موت ابنها، وأخيرًا يدرك كريون خطأ قراراته، ويصبح وحيدًا يتألم ويتعذب ويجأر بالشكوى.
والأمر نفسه في مسرحية "إلكترا" لسوفوكليس، فمع بداية الأحداث تترقب إلكترا وصول مخلصها من العذاب الذي تناله من أمها وزوج أمها؛ لأنها تواصل اتهامهما بقتل والدها البطل العظيم أجاممنون، وتنتظر إلكترا أيضًا وصول أخيها أوريستيس؛ ليثأر لأبيه من هذين القاتلين الخائنين،وتتتابع الأحداث بعد ذلك في تشويق وإثارة للمشاهدلهذه المسرحية.
وابتكر يوربيديس مقدمة سردية صاغها في بعض مسرحياته
– وتكلم عنها أرسطوفان في مسرحية "الضفادع" على لسان يوربيديس خلال مناظرته مع أيسخيلوس، ويذكر يوربيديس في هذه المناظرة أنه ابتكر تلك الطريقة في مقدمات مسرحياته؛ ليسهل على المشاهد تتبع الحدث الرئيس فيها بأبعاده الماضية– وفيها تقوم إحدى الشخصيات في بدايتها بسرد الأحداث السابقة على الحدث الرئيس في المسرحية، وتجمع كل الخيوط فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "أندروماخا"، ففي بدايتها تحكي أندروماخا مآسي حدثت لها ولأهلها في طروادة في الماضي، وكان من آثارها هزيمة أهلها في طروادة على أيدي الإغريق، وأنها أصبحت أمة لابن أخيل، وأنجبت منه ولدًا، وتحاول هرميونا زوجة ابن أخيل قتله وقتلها في غيابه، ثم يتم عرض الحدث بعد ذلك بما فيه من اشتباكات قوية بين أندروماخا من ناحية وهرميونا ووالدها مينيلاوس من ناحية أخرى.
والأمر نفسه نراه في مسرحية "الفينيقيات" ذات الأحداث المتشعبة التي يجمعها يوربيديس في مصب واحد مع نهاية المسرحية، فمع بداية المسرحية تسرد "جوكاستا" المآسي التي مرت بها أسرتها، وتتكلم عن ترصد بعض الآلهة لها، ثم يبدأ عرض الأحداث الرئيسة في هذه المسرحية.
ووصيفة ميديا في مسرحية "ميديا" ليوربيديس تقوم بهذه المهمة في سرد الأحداث الماضية وتلخيصها في بداية هذه المسرحية، وتهييء بذلك للحدث الرئيس الذي يتم عرضه فيها.
وقد يقوم بهذه المهمة السردية في تلخيص الأحداث السابقة على الحدث الرئيس الذي يتم عرضه في مسرحيات يوربيديس – أحد الآلهة الوثنية، كما نرى في مسرحية "هيبوليت"، فنرى في بدايتها إلهة الجمال أفروديت تشكو من عدم اهتمام هيبوليت بها، وأنه يوجه عبادته وقرابينه لإلهة الصيد أرتيميس، وتتوعد أفروديت هيبوليت بالمصائب، وتوضح كيف سيكون انتقامها منه، وتسير الأحداث في هذه المسرحية وفق ما قررته أفروديت.
وكتاب المسرح الكلاسيكي في القرن السابع عشر قلدوا سوفوكليس –على وجه الخصوص –في أن يبدءوا مسرحياتهم بالدخول في الحدث الرئيس دون عرض مقدمات لا علاقة لها به، فكانوا يبدءون تلك المسرحيات وهي ملتهبة بأجواء الصراع، كما نرى في مسرحيات كورني، كمسرحية"السيد" ومسرحية "أوديب"، وكما نرى في مسرحيات راسين، كمسرحية "فيدر"، ومسرحية "أندروماك".
وكثير من كتاب المسرح في العصر الحديث يدخلون في عرض قضايا مسرحياتهم مباشرة؛ من أجل التركيز الدرامي، ولجذب المشاهدين لمسرحياتهم، كما نرى ذلك في كثير من مسرحيات إبسن، مثل مسرحية "بيت الدمية" ومسرحية "البناء العظيم"، ومسرحيات أوجست استرندبرج، مثل مسرحية "سوناتا الشبح" ومسرحية "الآنسة جوليا".
والحق أن كبار كتاب المسرح في العصر الحديث يفضلون تلك الطريقة في الدخول في الحدث مباشرة وأجواء الصراع مع بدايات مسرحياتهم، كما نرى في مسرحيات يوجين أونيل وآرثر ميللر وبرنارد شو وأوسكار وايلد وغيرهم.
واللافت للنظر في مسرحيات تشيكوف الطويلة أننا نرى مقدماتها بطيئة، وفيها قدر من الملل أحيانًا لمن يتعجل وجود الصراع وشدته في المسرحيات، ولكننا نرى الأحداث فيها بعد ذلك تأخذ في التصعيد والسخونة، كما نرى ذلك في مسرحية "بستان الكراز" ومسرحية "الخال فانيا" ومسرحية "إيفانوف".
ونرى في بعض مسرحيات بريشت الملحمية مقدمات فيها كسر للإيهام، فالممثلون الذين يمثلون في هذه المسرحيات يقدمون أنفسهم للنظارة بأسمائهم الحقيقية، ويعرفون المشاهدين ببعض المعلومات عن المسرحية التي سيمثلونها بعد قليل، ويطلبون إليهم عدم الاندماج الكامل معها؛ حتى يُكَوِّنُوا رأيًا في القضية التي تطرح فيها، كما نرى ذلك في مسرحية "القائل نعم والقائل لا" ومسرحية "الاستثناء والقاعدة"، وغيرهما من المسرحيات.
ومن الواضح أن بريشت في مسرحياته هذه ذات الطابع الملحمي
لا يهمه تشويق المشاهدين باندماجهم الشديد مع مسرحياته بقدر ما يهمه تفكيرهم في القضايا السياسية التي يعرضها لهم في تلك المسرحيات، وأن يكون لهم مواقف منها، فهو مسرح سياسي توجيهي وتحريضي أيضًا.
وكتاب مسرح العبث نرى مقدمات مسرحياتهم تحمل طابع التغريب وكسر المنطق والحقائق، مثلما هو الأمر في باقي أجزاء مسرحياتهم، ولكن التغريب يزداد مع سخونة الأحداث فيها، كما نرى في مسرحية "فتاة في سن الزواج" ليونسكو، ففي بدايتها نرى حديثًا بين رجل وامرأة يتشعب في جوانب مختلفة لا رابط بينها، والرجل هو الذي يقود دفة هذا الحديث ويوجهه، وتتحدث هذه المرأة عن ابنتها التي تستعد للزواج، ونكتشف قرب نهاية أحداث هذه المسرحية أن هذه الابنةهى رجل،
وهذا هو أهم جزء في المسرحية فيه تغريب وخروج عن المألوف، وأيضًا نرى في مسرحية "الدرس" ليونسكو معلمًا يعلم فتاة بأسلوب سادي حتى لكأنه يعذبها به، وتزداد المسرحية مع نهايتها غرابة بقتل ذلك المدرس لتلك الفتاة، ونكتشف أن هذه عادته مع كل الفتيات اللائي يدرس لهن.
وأحيانًا نرى في بعض مسرحيات كتاب العبث تلك المقدمة التي فيها شدة التغريب ومخالفة المنطق، وتسير الأحداث وفقها بعد ذلك، كما نرى في مسرحية "الأيام السعيدة" لصمويل بيكيت، فنرى في هذه المسرحية امرأة مدفونة في الرمل إلى قريب من آخر صدرها، وتتحدث إلى زوجها الذي يظهر أحيانًا من خلف ربوة، ولكنه قلما يشاركها الحوار، وتتكلم هذه المرأة عن أمور عادية في حياتها، وتدعي مع هذا أنها سعيدة، وفي الفصل الثاني من هذه المسرحية نراها مدفونة في الرمال إلى عنقها، وتستمر في ثرثرتها التي توحي بأنها سعيدة، ولكنها في حقيقة الأمر غير سعيدة، فهي مكبلة بأغلال الحياة، وتعيش في ظل أحداث تافهة،
ولا تجني منها غير الملل والتعاسة، ولكنها توهم نفسها بالسعادة؛ لكي تستطيع الاستمرار في العيش.