د. طيب تيزيني - وهج الطفولة والجدلية المفتوحة

لعل الذكرى الأولى من طفولتي الباكرة, تتمثل في حدث مؤلم ألم بي. فقد كان من العادة أن تخزن العائلة مئونتها السنوية من عصير الحصرم, بعد غسله وغليه ممزوجاً بكمية كافية من الملح, وصبه بعد ذلك في طبق نحاسي كبير يبرد فيه تهيئة لتعبئته في قنان أو علب مناسبة. ومن طرفي, كنت ذات يوم من أيام ذلك العمل المنزلي- وربما كان عمري آنئذ بحدود الخامسة- ألعب لعبة (الغميضة) وحيداً في ساحة منزلنا العربي, مستمتعاً بقدرتي على الخطو الحذر الوئيد والمفعم بألوان ساذجة زاهية من التخيل. وإذا كنت أتذكر بمرارة شيئاً مما حدث بعد لحظات من الخطو المذكور, فهو انزلاقي السريع باتجاه الطبق النحاسي والغوص فيه لهنيهات, أحسست بعدها أن يداً انتشلتني منه, لتضعني تحت مضخة المياه القريبة, حيث راح الماء يتدفق على جسمي الصغير.
كانت تلك اليد, يد أخي الثاني ضمن ترتيب إخوتي من أمي. ذلك لأن الوالد كان قد تزوج خالتي, أولاً, ثم تزوج أمي بعد وفاة الخالة عن طفلين (فتاة وصبي). وقد انطلق بي أخي هذا, بإشارة من أمي وبعد اضطراب قصير حدث في العائلة إلى (أم مكاوي) المرأة العريقة المجربة والتي غالباً ما كانت تزورنا لتقدم مساعدة جادة في شئون المنزل. وأظن أنها قدمت من الخدمة العلاجية ما سكن من آلامي, وأسهم في شفائي.
كان علي بعد ذلك الحدث أن أحذر ما أواجهه وألمسه وأفكر فيه, إن (الغميضة) أيقظت في طفولتي الوجه المقابل لها, وهو (الفتيحة), ومع استمرار ذكرى الحدث إياه, استمرت عملية تقوم على (التحذير) و (الهجاء): التحذير من مسببه (إغماض العينين والسير في طريق مجهولة), والهجاء لكل انزلاق عن هذه القاعدة الذهبية, وسوف تتبلور عملية التحذير والهجاء هذه, حيث يلح عليها الأبوان (والوسط القريب), محاولين أن يعمماها على كل المستويات الحياتية لطفل آخذ في النماء الجسمي والعاطفي والعقلي. والحق, كان الوالد أكثر حزماً من الوالدة في المطالبة بالتعميم المذكور. وهذا أمر لعله يدخل في طبائع الأمور ضمن مجتمع ذكوري, فالوالد كان واحداً من مثقفي مرحلته, يقرأ ويحاور, أحياناً بشيء من القسوة, نظراً لاقتناعه بموقفه, الذي يراه صحيحاً, والذي يسعى إلى إقناع ذويه وأصدقائه ومعارفه به.
كان ذلك يتم في لقاءات دورية وغير دورية, تنعقد في (المنزول) أو (المضافة) الكائنة في منزلنا, مع الإشارة إلى أن هذه الأخيرة كان يطلق عليها تعبير آخر ينحدر من التركية, وهو (فناق), وما هو جدير بالذكر أن ذلك جميعاً كان يتصل بمرحلة دقيقة من تطور العالم, ومن ضمنه سوريا, تلك كانت أواخر الحرب العالمية الثانية باتجاه النصف الأول من هذا القرن, فهي مرحلة أتت نهاية وبداية, نهاية الاحتلال الاستعماري الفرنسي لسوريا, وبداية الاستقلال الوطني والبناء الداخلي, الذي سيخترق من موقع عدد من الانقلابات العسكرية, ويتواكب معها, في هذا وذاك وذلك, كان (المنزول) الإطار الجغرافي والاجتماعي المناسب. وإذا كانت تلك المرحلة قد جسدت الإرهاصات الأولى من ذاكرتي الثقافية والاجتماعية والسياسية, إلا أن أصداء كثيرة متلاحقة ومتشابكة من سنوات قليلة سابقة كانت تختلط مع هذه الإرهاصات وتتواشج, لتكون معها حالة ذهنية وعاطفية نفسية مفتوحة ومتحفزة.
كانت تلك الأصداء تدور حول آراء ومواقف رواد المنزول, وحول ذكرياتهم القريبة, التي اتصلت ب (الخلافة العثمانية), وبمصائرها التاريخية المأساوية. كان ذلك يطرح على خلفية دينية إسلامية, غالباً, وعروبية, أحياناً, أما السلطان عبدالحميد والملك فيصل, فكانا من الأسماء, التي جرى تداولها بكثافة, بحيث كان ذلك بمنزلة توضع أولي لبعض المفاهيم والمشكلات السياسية والدينية في ضمير الطفل المتنامي. وقد زاد الموقف الحواري غنى وتعددية أن كان رواد المنزول منحدرين من مرجعيات دينية واجتماعية (وربما كذلك سياسية) متعددة, فعلى الصعيد الديني, كان هنالك مشايخ مسلمون بتعددية مذهبية مفتوحة ورجال دين مسيحيون, أما أولئك فكانوا كثراً, وربما مثلوا - في حينه - طرفاً من أعيان الوسط الديني ونخبته, في مدينتي حمص وحماة. وكان منهم من كنت أراه دورياً في المنزول, ومن لم يكن يأتي إلا في حالات خاصة, وأذكر من أسمائهم مفتي مدينة حمص الشيخ طيب الأتاسي, والشيخ محمد ياسين, والشيخ طاهر الرئيس, والشيخ الكيلاني, وهاشم بك الأتاسي الذي تسلم منصب رئيس الجمهورية السورية, أما من الرواد المسيحيين, فأذكر الخوري عيسى الأسعد, وكان هذا رجلاً ضليعاً باللاهوت المسيحي وبكثير من قضايا الفقه والكلام الإسلاميين, إضافة إلى ممارسة دءوب للتأريخ خصوصاً لمدينة حمص, هذا مع الإشارة إلى أنه كان ذا شخصية دمثة ودود ومرنة متسامحة إلى حدود لافتة. ولعلي أذكر أصداء مناقشة بينه وبين الشيخ راغب الجمالي, تركت في نفسي أثراً حياً ونموذجاً طريفاً لما ينبغي أن يكون الحوار عليه.
لم يكن دوري في المنزول, في بداءة الأمر, أكثر من منصت خجول لما يدور فيه من حوارات وسجالات, ومن مساعد في تقديم القهوة المرة أحياناً, وحين كان هذا الأمر الأخير يحدث, فإنه كان يظهر بوصفه (تعدياً) على (أبوعبود), الذي نيطت به هذه المهمة, أساساً, ويثير انتباهي أن ذكرياتي عن هذا الرجل لا تخرج عن أمرين اثنين, أولهما يتمثل في دوره المذكور, أي دور (القهواتي), في حين يفصح الأمر الثاني عن نفسه من خلال ما غدا وشماً لاحق أبا عبود حتى وفاته, وهو أنه كان مصاباً بالنوم في صحوه ورقاده, كليهما, ومن طريف ما فعله مرة, كما تناهى إلي, أنه شوهد (والبعض قال: ضبط) نائماً واقفاً أمام منزله, حيث كان يهم في دخوله. ومن طرف آخر وعلى نحو متمم, كان هنالك (منتدى) في منزل الفتى, يقارب المنزول, ويختلف عنه, يقاربه باتجاه تماثله في حيويته الثقافية المتدفقة, وفي مثابرته على طرح أسئلة كانت قد بدت - في حينه- وكأنها تحرث في البحر, ويختلف عنه في رواده من الشباب المفعمين بمطالب التغيير في العادات والتقاليد, كما في الحياة السياسية, إضافة إلى التوجه صوب ثقافة عصرية مرنة ومفتوحة, أما صلة الوصل بيني وبين هؤلاء فقد جسدها, بحميمية أخي الذي انتشلني من خنق محقق في عصير الحصرم الغالي, على نحو ما أوردته سابقاً. كان أخي هذا, وهو عبدالودود الذي خلف موته جرحاً سأحمله إلى قبري, شاباً بل فتى متألقاً في عقله وهيئته, اجتمع حوله عقد من الفتيان المتألقين المحبين بعضهم بعضا, فلقد جمعت بينهم حياة الفتوة والشباب المترعة بالمغامرة والأحلام والدعابة والبحث عن مكان يحقق لهم الكسب والمتعة اللطيفة, وربما كذلك بعض التألق الاجتماعي.
كان أولئك يجتمعون في منزلنا على نحو غير دوري, ومفاجئ أحياناً, فيجلسون ويهذرون وينشدون ما طاب لهم وقد ازدادت لقاءاتهم طيباً وعذوبة, بعد أن كسبوا لصفهم واحداً من كبار المطربين الحمصيين, وهو ممدوح الشلبي. في إطار ذلك كله, كانت مناقشات مثيرة تنشأ بينهم حول الفن (الغنائي) والأدب والشعر, وحول مشكلات اجتماعية ودينية, بألفة وروح تلقائية مرنة, ومفتقدة, إلا أحياناً, العمق, كما قد يبدو الأمر لي الآن, وحدث أني تعزفت إلى شاب جديد من رواد المنتدى ما كنت قد رأيته من قبل, فأحسست أني منشد إليه, حالما راح, بحماسة ورفق, يتحدث عن الحرية والمساواة بين الرجال والنساء, مهاجماً ما اعتبره مؤسسات إقطاعية وبورجوازية لها الحضور الأقوى في البلد, وكان, بين الحين والآخر, يأتي على ذكر كتاب وبعض عناوين كتبهم, ومن بين هؤلاء, كان يثير إلى عبدالحميد الزهراوي وسلامة موسى وطه حسين وجورج حنا, في حين كان قد وقر في ذهني, قبل حين, ذكر أسماء أخرى من الكتاب من أمثال مصطفى لطفي المنفلوطي ومحمد عبدالحليم عبدالله وساطع الحصري وعباس محمود العقاد وغائب طعمة.
وراح الصبي المتصاعد فتوة يعيش هذه التجربة, الأخرى, معملاً عقله باتجاه المقارنة بينها وبين تجربته الباكرة في (المنزول) وحوله, وهو في هذا وذاك, يحاول طرح أسئلة صغيرة, ولكن جديدة, على نفسه, تتصل بمسائل بدت- في حينه- غير مألوفة ومعقدة, وغير مرغوب فيها أحياناً.
وقد لاحظ الفتى ذلك, خصوصاً بعد أن قطع بعض السنين في المدرسة الابتدائية, فلا هذه المدرسة, ولا الكتاب من قبلها, كانا قادرين على الاستجابة لمطامحه الذهنية والإنسانية. فشيخ الكتاب, الذي انتمى إليه لحين, وهو الشيخ (ع. ب), لم يكن - في سلوكه مع صغاره - ليخرج عن النمط التلقيني الإملائي والوعظي, ناهيك عن أن (المادة الدرسية) لم تكن لتتجاوز قراءة (أحزاب) و (آيات) من القرآن وضرورة اختزانها في الذاكرة, دون إيضاح أو شرح, إلا فيما ندر. والطريف أن الشيخ المذكور- وكان فقيراً وذا أخلاقية عالية- كان يقوم بعمل آخر مزامن لتعليمنا, وهو الحياكة على (نول عربي- يدوي), بهدف تغطية حاجاته المادية المتواضعة.
بيد أنني, فيما أذكر, لم أتمكن من (التخرج) من ذلك الكتاب على نحو ما فعله آخرون, مثل أختي سهام, فلقد تخرجت, بعد أن (ختمت المصحف), أي حفظته عن ظهر قلب, مما جعلها تعيش احتفالا رمزيا طريفا في بيتنا, شارك فيه الشيخ, وانتهى بتقديم هدية طيبة له, وكان ذلك التخرج بمنزلة (إجازة) في إجادة القراءة والكتابة وفي حفظ القرآن ومعرفة أحكام الدين الأولية, أما المدرسة التي ارتدتها فكانت, هي كذلك, دون مستوى رغباتي الذهنية, وربما كذلك الجمالية, هذا بالرغم من أن من تعرفت إليهم من معلميها, كانوا لطفاء, بل إن مديرها كان ذا صوت جميل في إنشاد الأناشيد الوطنية. وأذكر أنه كان يحذر أحد (المجاهدين) ضد الاحتلال الفرنسي, وهو نظير النشيواتي. أما موضع حذره فقد تمثل في أن ابنًا لهذا المجاهد كان يثير بعض الشغب في صفه أثناء الدرس. لكن معلم الحصة, ومعه المدير, لم يكونا ليردعا هذا الابن احتراما لأبيه. وقد لفت نظري ذلك الموقف, حيث تساءلت فيما بيني وبين نفسي: أيصح هذا, حتى لو كان الأمر متصلا بمجاهد? ولعل ذلك قد أثار في ذهني ملاحظات وتساؤلات تتصل بما سأتعرف إليه لاحقا تحت حد (دولة القانون).
ولم تكن المدرسة هذه- وقد حملت اسم (الإرشاد) لتكتفي بذلك في علاقتها بالتلميذ الصبي, فلقد تركت في نفسه أثرا سيبقى مديدا, خصوصا في إطار تكوينه الفكري. فالطريق الذي يقود إليها من بيته كان (طريقا آخر) بالنسبة إليه, أو هكذا خيل إليه. ذلك أنه اكتشف في بعض منعرجاته منازل تقيم فيها عائلات تمارس طقوسها الدينية, على نحو مخالف لما ألفه. وكان التلميذ- في هذا- يشعر بالفضول والدهشة, لكن دون أن يعتريه شعور ب (الحذر) و(التوجس), وشيئا فشيئا (اكتشف) أن تلك العائلات تنتمي إلى (الشيعة), وكان هذا بالنسبة إلى التلميذ بمنزلة (فكرة جديدة) يضع يده عليها, تلك هي أنه يوجد أكثر من فريق أو فئة في الدين الواحد, وأن الآراء مختلفة ومتعددة لا يمكن ضبطها تحت مظلة واحدة, سواء تعلق الأمر بالعقائد الدينية, أو بالآراء الأخرى التي يأخذ الناس بها, بوعي أو دون وعي.
ولقد عمقت ذلك الميل لدى التلميذ الصبي خطوة لاحقة تمثلت بانتسابه إلى (المدرسة الإنجيلية)- وكان ذلك واردا بالنسبة إلى فريق كبير من عائلات حمص نظرا لانتشار الوعي الوطني التنويري يدا بيد مع نهوض أولي على صعيد التجربة السياسية والثقافية الديمقراطية بعيد الاستقلال وحتى عام 1958.
فهاهنا, سوف تتضح في ذهنه اللوحة الاعتقادية بعيدا عن اللون الواحد, بحيث إنه يصل شيئا فشيئا إلى ما سيقرأه لاحقا في (فصوص الحكم) لابن عربي, وفي غير قليل من شعر أبي العلاء, وفي (حي بن يقظان) لابن طفيل, وفي (ناتان الحكيم) للألماني (لسنج): الحقيقة واحدة من حيث العموم, ومتعددة من حيث الخصوص, أي تعدد مع يقفون أمام المرآة (الحقيقة).
كانت المدرسة الإنجيلية, بمعلميها المتعددي الانتماءات الدينية والطائفية والثقافية والسياسية, حقلا خصبا مناسبا للتعرف إلى أصدقاء وزملاء جدد بأنماط متعددة من السلوك والتفكير والانتماءات, وفي سياق ذلك, كان إحساس عميق يتنامى في عقلي وعواطفي بأن احترام الناس, كائنا من كانوا في تعدديتهم, واجب منوط, بالحد الأدنى والأقصى, بكل إنسان, خصوصا إذا اقترن ذلك بالانتماء إلى وطن واحد, وعلى هذه الطريق, كانت فكرة (الإنسانية) توغل عمقا في حياتي, وفي ضوء ذلك, كان أي استفزاز أو أي إساءة متعمدة لأقراني والآخرين من أديان وطوائف أخرى, بمنزلة إيذاء لعواطفي الوطنية (والقومية وقد وعيتها لاحقا) والإنسانية, وتحفز باتجاه مزيد من النشاط الثقافي التنويري في منزلي, كما في الحقل المدرسي والمجتمعي العام.
ويلاحظ التلميذ الفتي - وقد أخذ يتقدم باتجاه الشهادة الإعدادية, البروفيه, ثم الشهادة الثانوية, أن ذلك, إجمالا, أسهم في تسهيل عملية انتقاله إلى النشاط السياسي في أفقه (اليساري) وفي تجليه النظري والعملي العام, دون الانخراط في تنظيم سياسي إلا في مراحل لاحقة متأخرة ولفترة محددة. بيد أنه في لجة التغير, الذي كان يخترق شخصية الصبي التلميذ بكيفية سريعة متصاعدة, غالبا, كانت تواجهه (مواقف اختبار) من موقع الكبار من ذويه ومن غيرهم, ففي حمأة حماسته للكتب واقتنائها وقراءتها وتكوين مكتبة منزلية خاصة, كان أخوه الأول من أمه ينظر إليه نظرة ريبة وارتياب. فأخوه هذا, ويكبره بخمس وعشرين سنة ونيف, اتخذ في نموه الباكر طريق التصوف الزهدي العملي, ثم أتجه صوب الفقه, في صيغة متزمتة ذات طابع وعظي, وهجومي إذا اقتضى الأمر, وحدث يوما أن زار هذا الأخ, الدمث والطريف والطيب مع ذلك, أخاه التلميذ الفتي وما يختزنه من كتابات تنويرية نقدية (فلسفية وسوسيولوجية خصوصا) في غرفته, التي غدت (غرفته الخاصة) على سبيل التعود, وراح يحاوره ويسايره, مظهرا له الود والرغبة في الاطلاع الصادق على ما يقرأ.
لقد دلل الفتى على أنه يملك من القوة العضلية ما يكفيه للدفاع عن نفسه, مع العلم أن هذا المشهد كان فيه من الجد, بقدر ما انطوى على الدعابة, إنما (الدعابة) من نمط (جاد), ولم يدر الفتى أن مثل هذا المشهد عاشته الإنسانية في تاريخها وتعيشه في راهنها, حين يتوقف البشر عن الحوار العقلاني الديموقراطي بوصفه حلا لمشكلاتهم الفكرية والاعتقادية, وقد كان من نتائج تلك (المنازلة) أن أدرك الفتى أن هنالك حدودا عليه أن يلتزمها في أثناء الحوار مع أخيه, إلا إذا أراد أن يداعبه بصورة (مثيرة استفزازية) لطيفة تبقي على الود والمحبة. وسوف يكتشف الفتى- الشاب لاحقا- أن ذلك الخلاف بينه وبين أخيه هو- في صيغته المعممة- إحدى خصوصيات الفكر العربي الحديث والمعاصر, وقد راح الأمر يزداد وضوحا في ذهنه مع أحداث سياسية وتحولات فكرية في شخصيته. أما ذاك وهذا فقد تمثلا في حدثين اثنين كونا منعطفين مركزيين في حياته. الأول: منهما- وهو ذو طابع سياسي- فقد أفصح عن نفسه بصيغة المعركة السياسية, التي نشبت بين تجمع سياسي واسع في سوريا والحكم الذي قاده أديب الشيشكلي في طلائع النصف الثاني من هذا القرن العشرين. أما الحدث الثاني, فقد تجلى في محاولات الفتى اليافع الأولى على صعيد الكتابة الصحفية, مع الإشارة إلى أن رغبته في الكتابة كانت قد سبقت هذه المحاولات ببضع سنوات.
كان لمشاركة الفتى اليافع الصاعد في حركات طلابية متواضعة ضد النظام العسكري الدكتاتوري في مرحلة الشيشكلي, أثر سياسي وفكري وعاطفي أخلاقي في تبلور شخصيته. لقد تظاهر ضد هذا النظام, وتوارى عن الأنظار لأيام عدة, وعمل على تعزيز الحركة الطلابية الوطنية إلى أن سقط ذلك النظام. وكان هذا السقوط أمرا أذهله فرحا, بقدر ما عمق فكرة (التاريخية) التي بمقتضاها لا يستطيع الظلم والاضطهاد أن يستمرا, مهما طال أمرهما. وقد تمخضت عن هذا الحدث بعض النتائج الكتابية, كانت في مقدمتها محاولة كتابة رواية بعنوان (العجول السمينة) إشارة إلى (المترفين الظلمة) في مقابل (الفقراء التعسين), وأظن أن الفتى كان قد وقر في ذهنه مالم ينسه فيما بعد, وهو الدلالة الفنية والاجتماعية التي استقاها من لوحة (الحطاب) للفنان الحمصي الراحل (صبحي شعيب).
كانت التجربة الجامعية ممتعة ومثمرة, حيث بدأ الطالب الفتي الجديد بتحقيق (مشروعه الفكري), فانكب على أسماء جديدة من الكتاب, وكان في مقدمتهم شكسبير, حيث كان يظن أنه ربما تابع دراسته في حقل (الأدب الإنجليزي) جنبا إلى جنب مع (الفلسفة). وفي دمشق, تبدأ مرحلة جديدة على الصعيد السياسي, وكانت هذه قد أخذت تتبلور في تصاعد العمل الحزبي بأنساق متعددة, كان من عقابيله نوع من ازدهار الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. لكن ذلك لن يطول كثيرا, حيث تبدأ مرحلة (الوحدة) بين مصر وسوريا, وكانت مرحلة بدأت بالترحيب الشعبي والحزبي معا, إلى أن ظهرت اتجاهات إلغاء الحياة الحزبية في سوريا, إضافة إلى إلغاء المنابر الثقافية المتعددة.
كان كثير من الناس قد أخذوا يعيشون حالة من خيبة الآمال, مع تعاظم الأجهزة الأمنية ونشاطها المقلق في أوساط من لم يرغب في التنازل عن نتائج التطور السياسي في سوريا منذ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان الطالب يعيش هذه الوضعية بقلق على مصيره الجامعي, حيث بدأت حالة من الاضطراب بسبب انقسام الطلبة سياسيا, وعلى وضعه الاجتماعي المادي, حيث راحت مراكز وظيفية تشغر من العاملين فيها لصالح سياسة خاطئة تمثلت في جلب أعداد كبيرة من المواطنين المصريين للعمل في سوريا. وكان من نتائج ذلك, أنني فقدت إمكانية الحصول على عمل يساعد على اجتياز المرحلة الجامعية, ويذكر الطالب أن أحد الوزراء- وكان صديقا لأخ لي- أشار لي أنه لا يستطيع مساعدتي بتقديم مكان شاغر في وزارته لتعاظم أزمة العمل داخلا وخارجا.
ولم يطل قرار الطالب في ضرورة التفكير بحل آخر, يكون بمنزلة بديل عن (الجامعة السورية) خصوصا أن حالة من القمع أخذت تجتاح البلاد لتشمل حتى أولئك الذين قبلوا - في البداية- بكل مقتضيات الوحدة. لقد برز (الحل) ممثلا - أولا- بالمغادرة إلى لبنان, ليفكر هناك فيما ينبغي أن يعمل وينجز الفتى الشاب هذه المهمة, حيث ينتقل إلى طرابلس في لبنان (فأخته تقيم هناك مع زوجها تاجر الأجواخ), ليتجه بعد ذلك إلى لبنان المركز, إلى بيروت. وهنا تبدأ مرحلة صعبة وجادة, حيث يجد الطالب الشاب نفسه مضطرا للعمل كي يحقق أمرين اثنين, الأول منهما تمثل في تلبية حاجاته اليومية من مسكن وطعام ولباس, في حين ظل الأمر الثاني مضمرا في ضميره, وهو تجميع ما يكفي من المال في سبيل الخروج إلى أوربا, وكانت ألمانيا, وخصوصا الشطر الشرقي منها, تطرح نفسها كبلد جديد يعمل على تلقف الطلبة من أبناء (العالم الثالث), مما جعل الشاب يركن إلى فكرة التوجه إلى هناك, خصوصا أنه كان يحلم في أن يقرأ هيجل وجوته وماركس ونيتشه في لغتهم الأم.
لقد تحقق الحلم! راح الشاب الطالب يلتهم هناك الأعمال الكلاسيكية التهاما, ويذكر أنه في الأسابيع الأولى من تعلم اللغة الألمانية, حاول مناقشة معلمته المثقفة, كما بدا له, في كتاب جوته (فاوست), فدهشت هذه, رغم تعبير الشاب الغامض والركيك.
ها هنا, بدأت صولة كبرى في حياته, فلقد قسم وقته إلى مرحلتين, واحدة تضم ستة أيام هي من الاثنين إلى السبت, وأخرى تتلخص بيوم الأحد وحده. أما في المرحلة الأولى, فعمل دائم وصارم وشامل يتوقف في المرحلة الثانية (يوم الأحد), حيث يخرج الشاب إلى المدينة يعب من مسراتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا, وكان ذلك سبيلا مفتوحا لنيل إجازة الماجستير بدرجات عليا ومتميزة على درجات أقرانه من الطلبة الألمان. ولم يكن ذلك قد ظهر على صعيد (الاختصاص- الفلسفة), فحسب, بل انسحب كذلك على (اللغة الألمانية), وقد كان هذا بمنزلة حافز كبير لمتابعة الشاب دراسته الفلسفية, خصوصا بعد أن (حرر) نفسه من اختصاص ظن أنه يمثل رغبته ومتعته, وهو (الطب البشري). لقد دخل الشاب عالم الفلسفة الأوربية من أوسع الأبواب. ولكنه سيكتشف أنه قد أغرق في ذلك, والطريف أن هذا التنبيه أتى من قبل أحد الأساتذة الألمان, الذي سمع به كفيلسوف يؤرخ للفلسفة الألمانية والعربية كلتيهما.
هاهنا, وضعت يدي على مسألتين ما أزال أعيش هاجسهما. المسألة الأولى توجهي نحو دواسة التاريخ, في خصوصيته الفلسفية والسوسيولوجية. أما المسألة الأخرى فقد تمثلت في اكتشافي لـ (ابن خلدون وماركس) كحلقتين كبريين في تاريخ الفكر البشري, ينبغي القيام بعمل مفتوح لفض ما قدماه, ضمن خصوصية كل منهما التاريخية.
في هذا وذاك, راح الشاب الباحث يستعيد ابن خلدون, ومعه الفارابي وابن سينا والرازي الفيلسوف وابن رشد والمقريزي, موطنا العزم على إنجاز أمر (جديد), ذلك هو اجتراح (مشروع جديد) للنظر في التاريخ والتراث العربيين, اللذين عوملا من معظم المستشرقين والباحثين العرب كما تعامل الخالة زوجة الأب أطفاله, ولعل ما قدمه هرمان لاي في (دراسته) قد تمثل في وهج لفح عقل الشاب باتجاه البحث في ذينك التاريخ والتراث, وكذلك في تقصي مصائرهما التاريخية في الفكر الأوربي الوسيط والحديث.
لقد خرجت من ذلك ب (زاد) وفير, ربما تمثل- خصوصا - في التدقيق في الغرب (ألمانيا وغيرها) بوصفه غربين أو أكثر, مما راح يحملني عبئا في البحث في الفكر الغربي, ولكن كذلك وبالدرجة الأولى في البحث في الفكر العربي تراثا وتاريخا وراهنا. وتتم العملية عبر إنجاز رسالتين أكاديميتين, واحدة تحمل لقب (دكتوراه في الفلسفة), وأخرى تحمل لقب (أستاذية في العلوم الفلسفية). ولم يكن هذا, في ذاته, هو ما يعنيني, وإنما ما ينبغي أن أصوغ منه (البداية الجديدة), بداية الإقلاع في (مشروع رؤية جديدة) للفكر العربي.
سيعود الشاب الأستاذ إلى الوطن مفعما بآمال التغيير والبحث والتدقيق على صعيده, وحيث تبدأ الرحلة الجديدة هاهنا, يكتشف الرجل ما كان يخمنه: وجود رجال في الجامعة السورية (وقد غدت جامعة دمشق) نذروا أنفسهم لمناهضة أي وافد جديد. وقد كان هذا الشاب الأستاذ أول العائدين في فترة ما بعد الستينيات. فكان المحرقة, وكان التصميم على متابعة العمل الفلسفي السوسيولوجي, إنما الآن عبر الإعلان عن عدم التراجع, حتى لو كان أحد الأساتذة وكان رئيس قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية قد كرس كل جهده لإثناء الرجل عن عزمه. وكان ذلك قد استوعب مرحلة زمنية استمرت سبع سنين, استطاع بعدها الشاب أن يعود إلى جامعته العتيدة أستاذا موفور الأحلام والآمال.
كان دخول الأستاذ إلى الجامعة حدثا حاسما في تبلور نشاطه الثقافي التنويري والعلمي الأكاديمي. وبقدر ما وجد معارضة ومقاومة من سابقيه في قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية, كان يتوغل في عقول الطلبة وعواطفهم, محاولا أن يقدم إليهم كل ما اختزنه من منظومات نظرية ومنهجية بكيفية جدلية مفتوحة. وقد عمق هذه العملية بما كان قد اكتسبه من تجربة في النشاط الفكري الصحفي مارسها في بعض الصحف والدوريات السورية أولا, ثم العربية ثانيا. وفي هذه الأثناء, عمل على ترجمة رسالته الأولى (دكتوراه في الفلسفة) تحت عنوان (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي الوسيط- المرحلة الأولى) 1971, كي تتحول إلى أيدي الطلبة والناقدين والباحثين.
ولكنه بعد أن أصدرها بصيغة كتاب, راح يعيش هاجسا جديدا أخذ عليه عقله وعواطفه, وتمثل في التساؤل التالي: ألم يكن من الأهمية بمكان أن يكون قد بدأ نشاطه الفكري البحثي بعمل يؤسس له منهجيا, بحيث يأتي ذلك الكتاب في سياق آخر لاحق وفي ضوء العمل التأسيسي المنهجي هذا? وقد حفز ذلك على التفكير بتساؤل آخر يأخذ المسألة ببعد تاريخي مفتوح باتجاه (الأصول).
وكان هذا بالصيغة التالية: هل من المصداقية المعرفية التاريخية أن يقبل البدء, بالتأريخ للتاريخ العربي, بما يسمى- على نحو الغموض والتشويش التاريخي المنهجي- (العصر الجاهلي).
كان هذا وذاك قد برزا في ذهن الأستاذ بوصفهما مسألتين لازمتي الحضور في أي جهد للتأريخ ل (الفكر العربي). وهذا ما كان, حين راح الأستاذ يعيد بناء الموقف التأريخي المنهجي للفكر المذكور باتجاهين اثنين, أولهما تركز في إنجاز مراجعة منهجية نقدية لما كتبه ولما كان في طور كتابته, في حين قام الثاني على البدء بأرشفة مادة البحث وفق تسلسلها التاريخي وفي سياقها التاريخي انطلاقا من العهود الأولى للأسطورة في الشرق (العربي القديم).
فعلى الصعيد الأول, كتبت الجزء الأول مما ضبطته تحت العنوان الجامع التالي. (مشروع رؤية جديدة للفكر العربي منذ بواكيره حتى المرحلة المعاصرة- في اثني عشر جزءا). قد حمل هذا الجزء الأول عنوان (من التراث إلى الثورة - حول نظرية منهجية في قضية التراث العربي). وكان ذلك عام 1976, أي بعد مرور خمس سنوات ونيف على صدوره الكتاب الأول. وإذا كان لي أن أعود إلى هذا الجزء الجديد ضمن مستجدات العصر داخلا وخارجا, فلعلي أعيد النظر في الشطر الأول من العنوان, بحيث يكون: (من التراث إلى النهضة...). أما السبب في ذلك فهو, فيما أرى, بروز قضية النهوض العربي مجددا بعد أن كانت قضية الثورة هي المهيمنة. وبالطبع, فإن من شأن هذا أن يحدث تغييرا, بقدر أو بآخر, في بعض المشكلات, التي عالجتها في الجزء المعني.
أما على الصعيد الآخر, فقد أتى الجزء الثاني من (المشروع الجديد) بعنوان هو (الفكر العربي في بواكيره وآفاقه الأولى), وكان ذلك عام 1982. وإذا كان الجزء الأول قد أثار اهتمام النقاد سلبا وإيجابا حيث اعتبر الكتاب الأكثر مبيعا في سنته, إلا أن الجزء الثاني لم يثر إلا اهتماما من نمط محدد, هو تسفيهه ورفض الإشكالية التي انطلق منها. ولعله من طريف الأمور ومأساويتها, في الآن ذاته, أن من كتب حول هذا الجزء الثاني لم ينطلق من الأطروحة أو الأطروحات المحددة في متنه, بقدر ما انطلق من إضمارات أيديولوجية مسبقة أفسدت فعل القراءة وفعل النقد, بحيث فوتت علي إمكان الإفادة منه, إلا سلبا.
وقد جاء الجزء الثالث ليعالج مرحلتين كبريين في التاريخ العربي الفكري والاعتقادي قبل الإسلام, وهما اليهودية الشرقية والمسيحية الباكرة, وذلك بمجلدين وتحت عنوان (من يهوه إلى الله). وكان ذلك عام 1985.
وكان الأستاذ الجامعي, في هذا وذاك, يعمل باتجاهين آخرين, هما متابعة (مشروع الرؤية) كعمل ذي بعد بحثي استراتيجي, وإنتاج كتابات أخرى تعالج ما هو راهن في دائرة الفكر العربي. أما متابعة (المشروع) فقد تجسدت, حتى الآن, بصدور جزأين آخرين هما الرابع (وقد حمل عنوان: مقدمات أولية في الإسلام المحمدي الباكر نشأة وتأسيا), عام 1994, والخامس (وعنوانه: النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة) عام 1997, وقد واجه الأستاذ, عبر هذين العملين الأخيرين حالة نقدية إيجابية حفزته باتجاه استكمال (مشروعه), وكان, في الثاني منهما, قد عمل على دراسة المتون والآليات التي أنتجت إمكانات استنباط (التعددية) في البنية النصية الدينية, وما اقتضته من قراءات كلها تمتلك شرعيتها النصية ومشروعيتها الاجتماعية التاريخية, دون أن تكون جميعها في الموقع الذي يتيح لها (مصداقية معرفية) تتماهى أو تتوالف مع تغيرات العصور والأحوال البشرية. وقد جاء ذلك, بعد أن اشتغل الأستاذ على (نشأة) النص الديني في طور تحوله من (نص تنزيل) إلى (نص تأويل).
لكن الاتجاه الآخر المتصل بمعالجة ما هو راهن في الفكر العربي, فقد خاض فيه الأستاذ معارك وسجالات وحوارات لاتزال أصداؤها تخترق أذنيه, على هذا الصعيد, وجد الأستاذ نفسه أمام ضرورة ضبط الراهن العربي فكريا, وقد انطلق, في هذا, من العام الذي عاد فيه من ألمانيا, وهو 1968, حيث حضر لمادة عمل كان يشغله على صعيد المصائر التاريخية العربية, هذه المادة التي حملت عنوان كتاب (حول مشكلات الثورة والثقافة في العالم الثالث- الوطن العربي نموذجا), وصدر عام 1972. وتتالت كتاباته من هذا النسق متوازية ومتواشجة مع (مشروعه) الاستراتيجي, فأتى كتاب (في السجال الفكري الراهن- حول بعض قضايا التراث العربي منهجا وتطبيقا), ليصدر معه وفي العام ذاته (1989) كتابان آخران هما (على طريق الوضوح المنهجي- كتابات في الفلسفة والفكر العربي), و (فصول في الفكر السياسي العربي). ولعل أهم كتابين سجاليين قدمهما الأستاذ ضمن الحراك الفكري العربي هما (من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي- بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية) عام 1996, و (الإسلام والعصر- تحديات وآفاق) عام 1997 (وصدر كعمل مشترك بيني وبين الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي وبصيغة مناقشة ونقد قام بها كل واحد منا حيال النص الذي قدمه الآخر). أما في الكتاب الأول, فقد عمل الأستاذ الباحث على تفكيك الآليات المنهجية, التي قادت محمد عابد الجابري إلى ما وصل إليه من نتائج, ومن ثم على مناقشة هذه النتائج.
لكن وهج السجال, الذي عاشه الأستاذ عمقا وسطحا, سيفصح عن نفسه ببعد آخر هو البعد الديني الإسلامي, فلقد دخل في حوار اتخذ طابعا جماهيريا مع الدكتور البوطي, على أساس أن يقدم كلاهما نصا ينتقده الآخر. وكان هاجسه المعرفي والأيديولوجي, في ذلك, قد تركز باتجاه الكشف عن (قراءة) عقلانية نقدية للنص الإسلامي الأول تسمح بالقول بإمكان الإقرار بمبدأ (التعددية) في الإسلام, مما يعمل على خلق حركة فكرية تنويرية في أوساط المؤمنين من شأنها الإسهام في اندماجهم ضمن مجتمع عربي يقوم على التعددية والمؤسسات المدنية والتسامح بين كل فرقائه. وقد كان الأستاذ الباحث قد شعر بالأسى وخيبة الأمل لدى تبينه أن الدكتور البوطي يصم مصطلح (القراءة العصرية) للنص الإسلامي بسمات تحيله إلى معجمية (الاتهام والشتائم), ولدى قراءته ما يدعو إليه من ضرورة وجود (إمام أعظم) يلم شمل المؤمنين والبشر عامة, بدلا من البحث عن آليات سياسية وثقافية تسمح لغالبية الناس أن يسهموا في صوغ مصائرهم التاريخية.
وفي كلتا الحالتين, ظل الأستاذ الباحث في موقع من يحترم المخالفين في الرأي انطلاقا من أن الاختلاف الفكري المفتوح يمثل حالة فكرية ناضجة وراقية ينبغي السعي لتعميمها في وطن يراد له أن يستباح من الداخل والخارج.


ـــــــــــــــــــــــــ
من كتاب: مرفأ الذاكرة، سلسلة كتاب العربي، منشورات مجلة العربي، صدر في 15 تشرين أول 2003 ص 108
أعلى