أ. د. عادل الأسطة - في ذكرى سميح القاسم

1- ما تبقى لنا... ما تبقى منا: في ذكرى سميح القاسم

خطر ببالي في ذكرى رحيل الشاعر سميح القاسم السؤال الآتي: ماذا تبقى من الشاعر بعد ثلاثة أعوام من الرحيل؟
لا يخطر السؤال السابق في ذهني في ذكرى غسان كنفاني أو في ذكرى محمود درويش أو في ذكرى ناجي العلي . ربما أثيره في ذكرى معين بسيسو أو عبد اللطيف عقل أوجبرا ابراهيم جبرا أو علي الخليلي أو فدوى طوقان والسبب يعود بالتأكيد إلى الالتفات إلى هؤلاء الأدباء في ذكرى رحيلهم-أو عدم الالتفات.
تحظى ذكرى كنفاني ودرويش والعلي باهتمام لافت، فيما تمر ذكرى الباقين مرورا عاديا، وتقع ذكرى إميل حبيبي بين الذكريين.
أحاول شخصيا أن أحتفي بالرموز كلها، فقد قرأت هؤلاء كلهم وعشت مع نتاجهم، وأحاول أن أكون دارسا وباحثا ومنتميا إلى فلسطين لا إلى شخوصها أو فصائلها. أحاول يحدوني بيتا امريء القيس:
"بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه/
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا/
فقلت له: لا تبك عينك إنما/
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا " وأنا أحاول.
في أيار زرت حيفا ورأيت البحر الأبيض المتوسط من أعلى الكرمل، فرددت سطري سميح "من قمت (؟) جبل الجرمق ، أعلى جبل في وطن الأسماء/
صار كلام الرب إلي أنا المنبوذ سميح القاسم "و..وتذكرت قصته "ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يوميا " و بطلتها اليهودية (نوريت) وعلاقة مأمون/ سميح بها، وتساءلت: لماذا شاعت قصة علاقة درويش بريتا ولم تشع قصة علاقة سميح ببطلات ثلاثيته "إلى الجحيم أيها الليلك "و"الصورة الأخيرة في الألبوم "و"ملعقة سم صغيرة..."؟ ألأن الشعر أسهل انتشارا وأسرع أم لأن درويش عبر عن تجربته بضمير المتكلم ولم يختف وراء قناع، كما فعل سميح الذي كتب عن سميح و (ايلانة) وأمير و ( روتي) ومأمون و (نوريت)؟أم لأن الأول سبق الثاني في الكتابة؟
كتب درويش قصيدته في 1966 وكتب سميح حكاياته وقصصه في 1977 و1980 و2011. هل ربح الأول لأنه تقدم وخسر الثاني لأنه تأخر؟
وأنا أقرأ ثلاثية سميح لا أتوقف أمام المرأة اليهودية من حيث هي محبوبة في الأدب الفلسطيني أو الأدب العربي وحسب، وإنما أتوقف أيضا أمام الأدب الأيديولوجي وما آل إليه، وما كتبه سميح في ثلاثيته يعد أدبا أيديولوجيا بامتياز، تخلص الشاعر نفسه من بعض أشعاره التي حفلت بالشعار السياسي والحزبي والأيديولوجي.وفعل درويش الشيء نفسه مبكرا،وتحديدا حين لم تعد قصيدة "بطاقة هوية" تروق له قراءتها في العالم العربي. ولطالما عبر عن عدم رضاه عن كثير من أشعاره الأولى.
تحفل ثلاثية سميح النثرية بالخطاب الأيديولوجي وتعبر عن آراء فكرية وسياسية تبناها وطغت في مرحلة، وخفت بريقها لاحقا. هل يمكن أن نقرأ اليوم تلك النصوص كما كنا نقرؤها في 70 القرن العشرين؟ وكم طبعة صدر منها بعد 90 القرن العشرين؟
وإذا انتقلنا إلى أشعار سميح لنسأل السؤال نفسه:ماذا تبقى منها أيضا؟
شغل الشاعر وشعره القراء العرب وكتب الدارسون عنه الكثير، فمن يقرأ اليوم أشعاره وما كتب عنها؟
طبعا قد لا يتعلق الإحجام بشعر سميح نفسه، فالإحجام يخص جنس الشعر في فلسطين وفي العالم العربي وفي العالم. هذا مؤكد.
حقا ماذا بقي من قصائد الشاعر؟ "خطاب من سوق البطالة"أو "تقدموا..تقدموا " او "إليك هناك حيث تموت "او"برسونا نن غروتا "أو "رسالة إلى غزاة لا يقرؤون" أو "منتصب القامة أمشي "أو "ليد ظلت تقاوم"؟
من يقرأ اليوم القصائد السابقة سوى من تبقى من مقاومين ؟ وهل مازال تأثيرها كما كان؟
الأسئلة التي أثيرها أثارها شعراء عرب من قبل. أثاروها بعد اتفاق (أوسلو )، وتحديدا يوم أصدر درويش "سرير الغريبة"،إذ تساءلت الشاعرة ظبية خميس عن اختلاف درويش بعد إصداره الديوان المذكور؟ ومؤخرا قرأت رأيا أكثر جرأة عما آل إليه أدب المقاومة الفلسطينية بشكل عام.
الكاتب السوري خالد خليفة سئل عن مصير الأدب السوري منذ 2011،حيث يركز على الأحداث في سورية، فأجاب بأن مصيره مثل مصير أدب المقاومة الفلسطينية، وهو يرى أنه لم يبق من أدب المقاومة الذي كتب في أثناء صعود المقاومة شيء، فقد خفت بريقه.
هل كان سميح القاسم نفسه أدرك مبكرا أن الشعر التعبوي الأيديولوجي لن يعمر طويلا؟
دافع الشاعر في مقدمة الجزء الأول من ديوان "الحماسة" عن شعره الحزبي وعن طغيان الشعارية والتقريرية والمنبرية فيه، ولكنه عاد وحذف قصائد كثيرة من ديوان "الحماسة"،وبعد أن هجا غالي شكري هجاء قاسيا عاد في سيرته "إنها مجرد منفضة" ومدحه.
في العقدين الأخيرين من حياته عاد سميح وكتب قصائد كلاسيكية مطولة أطلق على قسم منها لفظ "المعلقة".كتب المعلقة "البغدادية/ معلقة سميح القاسم "وكتب القصيدة العمانية والقصيدة الدمشقية و..و...وكتب شعرا عموديا دل على تمكنه من القصيدة التراثية؛ صورة وبناء ولفظا وتعابير، فهل بقيت هذه القصائد وعمرت أم نظر إليها على أنها قصائد لا تختلف عن قصائد الجواهري والبردوني ولا ترقى إلى قصائد المتنبي الذي خصه سميح ببعض قصائده ورأى فيه قريبا له.
في ذكرى رحيل الشاعر سميح القاسم نتساءل عما آل إليه نتاج صوت شعري شغل الناس في حياته، ومن حقنا أن نسأل، كما أنه من حقه علينا أن نتذكره ونتذكر نتاجه.
كانت فكرة سؤال ال"ما تبقى" وردت في رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم " وقد راودت ذهن حامد بطل الرواية الذي فقد أباه في حرب 1948 وفقد أمه إثر الحرب وفقد شرف أخته حين أقامت علاقة مع زكريا وحملت منه قبل زفافها، وفقد يافا مدينته و79 بالمائة من فلسطين "لقد حملت أمي السر معها وتركتنا. ما تبقى لها.ما تبقى لكم. ما تبقى لي. حساب البقايا. حساب الخسارة. حساب الموت. ما تبقى لي في العالم كله: ممر من الرمال السوداء. عبارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفيه. كله مؤجل، كله مؤجل، ثم صفق الباب وخلع نعليه وجلس، كأن البيت بيته، ولو كنت أملك خشبة وشبر أرض لاعدمته، ولكنها لم تقل شيئا، وتركتني أمضي دون كلمة نداء واحدة " ( 216 ).
ضاع الوطن ولم يبق منه إلا بقاياه، فهل يحق لنا أن نتساءل ماذا بقي منا؟
في 1990 أو قبلها بقليل كتب سميح في مجلة "الناقد " اللندنية إنه لن يواصل كتابة الشعر لأنه نذر حياته لثلاثة مشاريع أخفقت: الوحدة العربية وتحرير فلسطين وانتصار الاشتراكية، ولكنه واصل الكتابة.
كانت أحلامنا كبيرة و"كم أصبحت أحلامنا صغيرة " على رأي شخصية "شارع فرعي في رام الله " للقاص أكرم هنية وكما ورد على لسان حامد في 1966 :"ما تبقى لي في العالم كله: ممر من الرمال السوداء، عبارة بين خسارتين، نفق مسدود من طرفيه، كله مؤجل، كله مؤجل ".
الثلاثاء 14 آب 2018
الجمعة 17 آب 2018

***

2- في ذكرى سميح القاسم : بيروت ثانية

لا أعرف إن كان المرحوم سميح زار بيروت ، وإن عرفت أنه زار القاهرة وعمان ودمشق وبعض مدن المغرب العربي .
كان الشاعر قبل انهيار الاتحاد السوفيتي يزور البلدان الاشتراكية وبعض العواصم الغربية ، وكانت صلته بالبلدان العربية ، زيارة ، منعدمة ، ومع اتفاقية ( كامب ديفيد ) اختلف الأمر فقد زار القاهرة ، ومع توقيع اتفاقية أوسلو ، بل وقبلها بقليل ، انفتحت أمامه أبواب العالم العربي ، وما عليك إلا أن تعود إلى " معلقة سميح القاسم المعاصرة : بغداد وقصائد أخرى " الصادرة في الناصرة في ٢٠٠٨ عن منشورات " إضاءات " لتقرأ قصائد كتبها في بعض المدن العربية ، وهذه الكتابة لم ينجز مثلها قبل ١٩٩٠ :
- بغداد " معلقة سميح القاسم المعاصرة "
- مصر " وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين "
- عمان " القصيدة العمانية "
- القيروان " القصيدة القيروانية "
- إربد " القصيدة الإربدية "
- دمشق " ما الموت : في رحيل حافظ الأسد "
- الجزائر " القصيدة الجزائرية "
و ...
وفي فترة مبكرة من حياته أتى على بيروت وكتب عنها مبرزا لها صورة لم تصدر عن تخيله الشخصي ، وإنما عن تخيل صديق له أقام فيها وأبرز لها صورة جميلة ، ورمى إلى إغراء الشاعر لترك حيفا والهجرة إلى بيروت .
تخيل صديق الشاعر للحياة في بيروت يقترن مع تخيله لحياة الشاعر في حيفا المحتلة منذ ١٩٤٨ ، وكانت الحياة في المدينتين في نهاية ٦٠ ق ٢٠ ، من حيث الانفتاح والازدهار الثقافي ، تميل لصالح بيروت ، وهو ما يبرز في النص الآتي :
" تحياتي وأشواقي
تطير إليك من بيروت
إليك هناك .. حيث تموت
فدى الباقي من التافه من ميراثك الباقي
تحياتي وأشواقي
أنا أصبحت انسانا جديدا .. غير ما تعهد
ختمت دراستي العليا .. ونلت شهادة المعهد
وأصبح مكتبي أكبر
وصار اسمي هنا أشهر
ولي صاحبة شقراء .. جدتها فرنسية
وأخرى جدها قاد الفتوحات الصليبة
ومثل بقية الأسياد
تربض في فناء الدار .. فارهة خصوصية
أخي الغالي !
لماذا أنت لا تأتي إلى بيروت
وتترك جرحك الممقوت
وتهجر جرحك المغموس في الوحل
وتنسى عيشة الذل
.....
إليك هناك في المستنقع البالي " .
الحياة في بيروت غيرها في حيفا ولا ضرورة لشرح الواضح ، ولكن الشاعر في حيفا له وجهة نظر مختلفة ، فالحياة في بيروت هي الموت لا الحياة ، وتخيل صاحب الرسالة لم يرق لسميح ، فقد رأى الإقامة في بيروت الموت " إليك هناك حيث تموت " .
لم تكن الحرب الأهلية ، حين كتب سميح قصيدته ، بدأت ، ومع ذلك تخيل أن الإقامة في بيروت تعني الموت . هل كان سميح ذا نبوءة ؟
بعد العام ١٩٧٥ تحولت بيروت إلى جحيم وصارت الحياة فيها جحيم ، ولا نعرف ما ألم بكاتب الرسالة وإلى أين قادته الأحداث ، وكل ما نعرفه أن محمود درويش الذي ترك حيفا ندم على فعلته وتمنى لو ظل مقيما فيها " لماذا نزلت عن الكرمل ؟ " ، علما بأن سميح كتب قصيدته قبل هجرة محمود .
قبل درويش عبر راشد حسين عن ندمه لمغادرة حيفا ، وفي المنفى ، وتحديدا في نيويورك ، لم يرها جنة الدنيا فلم ير سوى حيفا :
" ذهبت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
فقالوا : أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا ولست ترى سوى حيفا " .
أصر القاسم على البقاء في حيفا والموت فيها ، وقبله اميل حبيبي . كلاهما دفن في تراب بلاده ، فماذا لو هاجرا واستقرا في بيروت وامتد بهما العمر وعاشا حتى اللحظة ؟
في مقاله " حنين مكبوت إلى بيروت " كتب درويش إن " ما هو مأثرة أمس يتحول الآن إلى عار ، وما هو عار اليوم يتحول غدا إلى وطن " ويجوز أن نحور في قوله قليلا لنقول إن ما هو مأثرة لشخص هو عار لشخص آخر ، بل إن ما هو أمنية لشخص في زمن ما قد يكون له غدا عذابا وجحيما.
لقد رأى القاسم حياة صديقه في بيروت غير ما رآها الصديق . لقد رأى سميح صديقه هناك :
" كزنبقة بلا جذر
كنهر ضيع المنبع
كأغنية بلا مطلع
وعاصفة بلا عمر .. "
من المؤكد أن الأهم مما رآه كاتب الرسالة والشاعر هو ما يراه أهل بيروت فيها . وكما كتب درويش في مقاله " ولكل منا بيروته " وقد أبرز في كتابه " ذاكرة للنسيان " صورا عديدة لتلك المدينة .
كان الله في عون أهل بيروت وأهل لبنان ؛ لبنانيين وفلسطينيين وسوريين و .... وبقيت إشارة لطالما ذكرتها وهي أن سميح كتب قصيدته قبل هجرة درويش وأن بعض النقاد في زمن لاحق اساؤوا تفسيرها .
الجمعة والسبت
١٤ و١٥ آب ٢٠٢٠

***

3- سميح القاسم والتعاويذ المضادة للطائرات: الطفل أبو الرجل؟

في ١٩ من آب ٢٠١٤ توفي سميح القاسم، ومع مرور ٨ سنوات فإن أشعاره ما زالت موضع دراسة. آخر ما صدر عنها كان كتاب د. نبيل طنوس «سميح القاسم: شاعر الغضب النبوئي، دراسات وقصائد مختارة» (دار الرعاة، ٢٠٢٢). وفي الأعوام الأخيرة صدر للمؤلف نفسه كتابان آخران عن درويش «اقتفاء أثر الفراشة: دراسات في شعر محمود درويش» (مؤسسة محمود درويش، ٢٠١٩) وراشد حسين «ويسكنه المكان: دراسات وقصائد مختارة» (دار الرعاة ٢٠٢١ ).
كتاب د. طنوس عن سميح يقع في ١٩٨ صفحة نصفها الثاني قصائد مختارة لها صلة بالدراسات وقد جاءت أمثلة على اجتهادات الدارس وآرائه التي توصل إليها، وضم نصفها الأول أربع دراسات عناوينها «ثلاثية الانتماء في شعر سميح القاسم» و»سيرورة الانتماء في شعره بعد النكسة» و»الألم والأمل وما بينهما في قصيدة «تعالي لنرسم معا قوس قزح» و»الأساليب الفنية في قصيدة الانتفاضة (تقدموا)».
لم يحدد الدارس في مقدمة الكتاب المنهج الذي سار عليه ولم يكتب عن اختلاف دراساته عن دراسات السابقين، والجديد الذي أتى به، ويبدو أنه ترك هذا لقراء أشعار الشاعر ودارسيه ممن يتابعون الدراسات وممن سيقرؤون ما كتب. ويخيل إلي أن الدارس أفاد من بعض مصطلحات المنهج البنيوي الشكلاني «الثنائيات/ الثنائيات الضدية» ومن الجانب الإحصائي فيه «التكرار ونسبته وعدد القصائد التي تنتمي إلى دائرة» وبعض دراسات في علم النفس، كما أفاد من البلاغة العربية القديمة «الجناس التام والناقص».
وأنا أقرأ الكتاب، عدت أقرأ بعض قصائد سميح من جديد وخاصة قصيدتي «خطاب من سوق البطالة» و»التعاويذ المضادة للطائرات»؛ الأولى لأن البطالة بين أبناء الشعب الفلسطيني في ازدياد، ولأن الجدل حول المقاومة وجدواها وتضييق الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين المقاومين وغير المقاومين، من أجل الاستسلام ورفع الرايات البيض والإقرار بالهزيمة، ما زال محتدما، وأن هناك أصواتا ما زالت تقول «سأقاوم»، وهي الكلمة التي كررها الشاعر في قصيدته، والثانية، وهي الأهم لي هنا تتعلق بطفولة سميح وتأثيرها على مواقفه في العقود الثلاثة الأخيرة وبروزها في أشعاره وسيرته الذاتية «إنها مجرد منفضة».
في «التعاويذ المضادة للطائرات» يأتي أنا المتكلم «سميح» على ما حل بالفلسطينيين في العام ١٩٤٨ والهزيمة التي لحقت بجيش الإنقاذ وخيانات القيادة وعار الرجال وما علموه إياه في حينه:
«كنت طفلا، آنذاك..
علموني أن مجرى الأرض في كف السماء
علموني أنه، سبحانه، يحيي ويفني ما يشاء
علموني أن أطيع الأولياء
....
علموني الدجل والرقص على الحبل
وإذلال النساء
علموني السحر والإيمان والأشباح»
وعلموه أيضا الخوف إذا جاء المساء وأن فرس الخضر كفيل به وحسبه الفقهاء.
عندما صار أنا المتكلم شابا رأى في تعاليم القبيلة إرثا أورثه الهزيمة والذل فقذف به للشيطان، فخاطب والديه بالآتي:
«يا أبي المهزوم.. يا أمي الذليلة
أنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية»
ولم يكتف بالرفض فلقد أراد اجتثاثها من جذرها فبصق أحقاده وعاره «في وجوه الأولياء الصالحين» وركل قاذورات ذله وانكساره للتكايا والدراويش وأقزام الكراسي النابحين!
هل ظل الشاعر بعد ثلاثين عاما على ما توصل إليه؟
في كتابه «سميح القاسم: مبدع لا يستأذن أحدا»(٢٠١٣) يتوقف نبيه القاسم أمام ظاهرة استلهام سميح للتراث الفاطمي بسبب اكتشافه حقائق كان يجهلها «وهي أنه يعود بانتمائه المذهبي إلى طوائف دينية، كان لها الباع الطويل في دفع الفكر العربي والفلسفة اليونانية والهندية والفارسية..» وأن سميح «يعود بانتمائه إلى أحد دعاة القرامطة الثوريين» (صفحة ١١٢)، ما يعني أنه اكتشف من منظور تقدمي ماركسي أن تعاليم القبيلة ليست كما رآها يوم نظم قصيدته، وأن ما تبرأ منه عاد إليه ونظر إليه نظرة جديدة مغايرة.
في العام ١٩٩٦، كتب سميح قصائد عنوانها «الإدراك» نشرها في مجلة «إضاءات» وأعاد نشرها في العام ٢٠٠٠ في كتاب عنوانه «الإدراك» (دار الأسوار/ عكا) والقصائد تقول لنا إن ما تعلمه في طفولته من تعاليم القبيلة ومن كلام الأولياء الصالحين ظل منقوشا في ذاكرته، ولا أعرف إن كان نظر أيضا إلى السحر والتعاويذ والأحاجي والألغاز كما نظر إلى الفاطميين والقرامطة الذين ثمن اليساريون ثوراتهم (بندلي جوزي، من تاريخ الحركات الفكرية الثورية في الإسلام، مثالا).
في سيرته «إنها مجرد منفضة» (٢٠١١ ) يتصالح في شخص سميح الديني والقومي والعلماني ويذكر أنه منذ مرحلة الطفولة لم يكن محايدا، فلا حيدة في جهنم. والمهم هنا تركيزه على مرحلة الطفولة، المرحلة التي تلقى فيها تعاليم القبيلة التي رفضها شابا، إذ سيعود كهلا إلى ما تعلمه في الطفولة وما اقتنع به شابا ناضجا بانتمائه إلى الحزب الشيوعي بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ ليعترف لنا بما دار في خلده - «ولا تثريب عليك» والعبارة له يخاطب نفسه - «أنه ليس من الاعتباطية إمكانية المؤاخاة، وفي صيغة عليا، بين جوهر الماركسية وخلاصة الدين...» (١٨٣).
هل كان هذا هو موقف سميح يوم انتمى للحزب بعد هزيمة حزيران وكتب على إثرها «التعاويذ المضادة للطائرات»؟.
أعتقد أن إعادة قراءة تجربة الشاعر في ضوء سيرته وفق منهج (أدموند ولسون) النفسي سيكون أمرا مجديا، ولطالما حثثت بعض طلابي على إنجاز ذلك، وأتمنى من الدكتور نبيل طنوس أن يحقق ذلك.
رأى الشاعر الإنجليزي (وردزوورث) أن الطفل أبو الرجل، وآمن جبرا إبراهيم جبرا بمقولته فكتب «البئر الأولى» في ١٩٨٦.

***

4- غزة وسربية سميح القاسم : " أنا متأسف "

في أثناء الحرب على غزة استحضرت نصوصاً أدبية قديمة لأدباء كانوا رحلوا عن عالمنا: معين بسيسو ومحمود درويش ويوسف الخطيب.
أدرجت هذه على صفحات الفيسبوك وأنجزت عنها مقالات في الصحف، لم يشهد معين بسيسو (1984) ومحمود درويش (2008) أياً من حروب غزة الثلاث في السنوات الست الأخيرة، وكان يوسف الخطيب كتب قصيدته "رأيت الله في غزة" إبان الانتفاضة الأولى. وفي أثناء الحرب على غزة كان الشاعر سميح القاسم يكابد أوجاع السرطان الذي أخذ يفتك في جسده، وكان سميح قد شهد الحروب الثلاث 2008 ـ 2009/2012/2014، ومع ذلك فلم يلفت نظري أي نص له عن غزة.
ربما أنا الملوم بسبب عدم قراءتي نصوص سميح قدر قراءتي نصوص درويش، لكن أيضاً لا أقرأ نصوص معين قدر قراءتي نصوص درويش، بل إنني قليلاً ما قرأت يوسف الخطيب الذي سرعان ما تذكرت قصيدته الوارد ذكرها. لماذا؟ الآن عنوانها لافت؟ ولماذا تذكرت نصوص درويش ومعين ولم أتذكر نصوص سميح؟ الأن غزة وردت في عناوين بعض كتابات درويش؟ ولأن معين هو ابن غزة؟ ربما.
قصيدة سميح القاسم التي حضرت في الحرب على غزة هي قصيدة "تقدموا، تقدموا"، وقد بثت مغناةً بكثرة، وهي قصيدة كتبها الشاعر في أثناء الانتفاضة الأولى، وذاعت ذيوع قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر"، بل إنها غالباً ما درست معها، كما فعل ناقد هو المثنى عطية الذي درس القصيدتين وأصدر دراسته في كتاب ضم أيضاً القصيدتين.
هل كانت حربا غزة 2008 ـ 2009/2012 مرّتا دون أن يكتب عنهما سميح شيئاً، هو الذي ما مر عام عليه، في العقود الأخيرة، إلاّ أصدر ديوان شعر، وكانت الأحداث الكبيرة محفزاً له للكتابة؟ إن عدد دواوين سميح يقول لنا إنه كان يصدر كل سنة، تقريباً، ديواناً: ستون ديواناً في مسيرة شعرية قاربت الـ 56 عاماً.
ومن المؤكد أن الشاعر كتب عن غزة، وخص حروبها بقصائد. سربية "أنا متأسف" (2009) كتب بوحي من حرب غزة الأولى.
في مقابلة أجراها محمد بكري مع سميح، وبثتها الفضائية الفلسطينية مراراً، وآخرها صباح الجمعة 22/8/2014، لمناسبة موت الشاعر، قال سميح إنه كتب هذه السربية، بعد حرب غزة 2008/2009، وأنه تأثر لمناظر القتل ولعدد الإعاقات، وأنه فيها يدحض الفكر الصهيوني الرجعي وينقضه.
دحض الفكر الصهيوني ونقضه بدأ في الأدب الفلسطيني منذ قرأ الفلسطيني نجيب نصار في 1905 مقالة بالإنجليزية عن الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، واستمر هذا النقض والدحض منذ ذلك التاريخ: سليمان التاجي الفاروقي وأشعار إبراهيم طوقان "في الرد على رئوبين شاعر اليهود" وناصر الدين النشاشيبي "حفنة رمال" (1962) و"حبات البرتقال" (1964) وغسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) ومحمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1968) و"الكتابة على ضوء بندقية" (1971) وسميح القاسم "إلى الجحيم أيها الليلك" (1977) و"الصورة الأخيرة في الألبوم" (1976) ومن قبل هذين العملين رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) و.. و.. حتى أنني في العقود الثلاثة الأخيرة غدوت أخوض في هذا الموضوع، وفي هذه النصوص، كما لم يخض أحد فيها من قبل.
حقاً لمَ لمْ تبرز هذه السربية إلى وسائل الإعلام في الحرب الأخيرة على غزة؟ لمَ لمْ تنشر منها مقاطع على صفحات الفيسبوك وفي الجرائد؟ ألأنها قصيدة طويلة يصل عدد صفحاتها إلى 146 صفحة؟ أم لأنها قصيدة فكرية بالدرجة الأولى، وكما أقر سميح فإنه أراد منها أن يدحض الفكر الصهيوني؟ أم لأن الكتابة عن غزة فيها كانت قليلة وباهتة، وبالتالي فإنها بدت وكأنها لا تمت إلى غزة بصلة؟ أم لأن الشاعر فيها يكثر من عبارات لا يستسيغها الناس إبان الحرب الوحشية المدمرة؟
ترد العبارات التالية في السربية بكثرة، بخاصة في الصفحات الأخيرة: أنا يا أخي يا عدوي، يا صديقي اللدود، يا صاحبي وعدوي، أخوك أنا يا عدوي اللدود، أخوك فلا تختصرني، يا أخي وعدوي العزيز، يا صاحبي وعدوي اللدود، يا أخي وعدوي الوجيه، فهل كانت هذه العبارات، مثلاً، سبباً مهماً في عدم الالتفات إلى السربية؟ وهل هي السبب الأهم؟ أم يعود السبب إلى أن زمننا ما عاد زمن الشعر؟ أم أن إكثار سميح من الكتابة هو المسؤول عن عدم شيوع أشعاره وحفظها ومتابعتها، وهو ما أشرت إليه في مقال الأحد الماضي؟
في كتابه "ولدت هناك.. ولدت هنا" (2009) يتوقف مريد البرغوثي أمام غزارة الكتابة، فيكتب: "يقولون إن الوجع الدائم يشكل باعثاً على الكتابة، ولا أصدق هذا الهراء. الوجع يشكل عائقاً للكتابة أحياناً. أعد نفسي شاعراً مقلاً في نهاية المطاف وأعجب لأولئك الذين ينشرون أربعين أو خمسين ديواناً بحجة أن معاناتهم "مستمرة".
الوجع التاريخي عبء على القصيدة، لأن تاريخيته تعني أنه مزمن، وكل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي...." ويتابع الكتابة عن رأيه في شعر المقاومة: "نحن نعيش "وجعاً مزمناً" و"مقاومة مزمنة" منذ أكثر من قرن. شعراء العالم كتبوا شعراً مقاوماً لسنة أو سنتين ثم عادوا لشعر الحياة العادية. كم سنة يقاوم الناس وكم سنة يكتب شعراؤهم شعراً مقاوماً. المقاومة الفرنسية لم تزد على أربع أو خمس سنوات عاد بعدها آراجون دايلوار، وسواهما إلى تجريبهم الشعري ولعبهم الجمالي على هواهم." (245/246).
رأي مريد رأي فيه نظر، ويمكن أن يساءل، ويمكن أن يؤخذ به جزئياً، ويمكن أن تبدى فيه وجهات نظر مؤيدة ومناقضة".
كل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي". ـ ألاحظ هذا حقاً، فحين تزورني أخواتي ونتحدث عن داء السكر المزمن فينا، يمل أولادهم وقد يعقبون ساخرين منا: سكر، سكر، سكر، دائماً الحديث عن السكر ـ ولكن السؤال الذي يُسأل هو: ماذا لو عاشت فرنسا سبعين عاماً تحت الاحتلال النازي، لا أربع أو خمس سنوات فقط؟ هل كان آراجون وآيلوار سيكفان عن كتابة شعر المقاومة؟
وكما ذكرت، فإن الكتابة عن غزة في "أنا متأسف" التي أنجزت في شهرين على أكثر تقدير، (الرامة 21/1/2009 في نهاية الديوان/ السربية) تبدو خجولة، بل إن دال غزة لم يتكرر إلاّ مرات قليلة جداً، وهذا إذا ما قورن بكتابة محمود درويش النثرية "صمت من أجل غزة" (1973، يوميات الحزن العادي) بدا شاحباً وقليلاً. ألتكرار دال غزة في النصين أهمية وباعث على الانتشار والتذكر؟ ربما.
في ص55 يأتي سميح على الحافز الرئيس الذي جعله يكتب: فقدان الشاب الغزي لؤي بصره بسبب الحرب، وبتر ساقي الشابة جميلة، وقصتهما قصة حرب، لا قصة حب مثل قصة قيس وليلى وروميو وجولييت، فماذا يقول الصهيوني؟ يقول سميح: "لقيس وليلى حكاية حب جميلة/ ولروميو وجولييت رواية عشق طويلة/ فماذا تقول لعينيّ "لؤي" وماذا تقول لساقي "جميلة"؟ / أتعرف كيف تقول "أنا متأسف"/ أتعرف؟" (55، 56).
"لماذا تقص الجديلة/ لتجدل مشنقة تتدلّى عليها رقاب الطفولة/ وتسمل عينين حالمتين بنور قليل/ يجوب السماء القليلة/ أتغلب عيناً سملت وتغلب ساقاً بترت/ وتغلب قلباً سحقت ورأساً قطعت/ أتغلب؟ لا أنت تهزم/ وتذوي وتهرم/ وأنت تهون وتسقط.. والله غالب/ هو الله غالب/ فقل متأسف/ أنا متأسف".
سميح القاسم المتكلم في القصيدة يتأسف للإسرائيلي الصهيوني، فولادة سميح هي السبب في قتله، ولو لم يولد لما كان اليهودي الصهيوني قاتلاً. سخرية لا شك، ودال: أنا متأسف هو الأكثر حضوراً في النص الذي يعيد فيه سميح مقولات ظهرت في نثره ومقالاته وهو يدحض الأدب الصهيوني يوم كان شيوعياً وملتزماً. وربما تذكر المرء وهو يقرأ "أنا متأسف" رواية أحمد حرب "الجانب الآخر لأرض المعاد" وما قاله إميل لليهود وهو يحاورهم: فقط اعترفوا بأخطائكم وبما ارتكبتم، ولنعش معاً في دولتين. وآمل ألاّ تكون الذاكرة خانتني.
قصيدة القدس : سميح القاسم : هل كتب قصيدة القدس؟
السؤال الذي يثيره قارئ أشعار سميح القاسم هو: هل كتب الشاعر قصيدة القدس ومتى كتبها؟
في فهارس د. عبد الله الخباص التي رصد فيها أسماء الشعراء الذين كتبوا عن القدس، يرد اسم الشاعر سميح القاسم مرتين، في الفصل الثالث، وهو الفصل الذي كان عنوانه «القدس في الشعر: المرحلة الثالثة، من نكسة حزيران العام 1967 حتى العام 1984، والمرتان تردان تحت عنوان «الشعر الوطني والقومي»، ويذكر الخباص في ص105 اسم سميح ضمن قصائد الصنف الأول من الشعر الوطني، ويذكر قصيدته «سقوط الأقنعة»، كما يذكره في ص110 تحت قصائد الصنف الثاني، ويذكر له قصيدة «افكار ازدحمت بدون ترتيب»، ويرى الخباص، أن قصائد الصنف الثاني أكثر عناية واهتماماً بالقدس وما يتصل بها من قصائد الصنف الأول. فما هو رأي الشاعر سميح القاسم في كتابته عن القدس؟
في العام 2010 صدر عن بيت الشعر الفلسطيني (وزارة الثقافة الفلسطينية) كتاب عنوانه «كتاب القدس»، وهو لسميح القاسم. ويفهم من هذا أن سميح هو الذي أعده، فماذا أورد من قصائد له رأى أنها تدرج تحت باب «شعر القدس»؟
يورد سميح قصائد كتبها قبل العام 1984، عام انتهاء الخباص من دراسته (1900 ـ 1984) وهذه القصائد هي: زنابق لمزهرية فيروز (1968)، المذلة (1968)، مزامير 5 ـ 6 ـ 67، إذا نسيت القدس (1972)، أرى (1981)، متى (1983).
ويبدو أن هذه القصائد لم تلفت نظر الخباص في متن دراسته، وإن كان أوردها في بيبلوغرافيا الشعر (ص287 و288) بل وأورد قصائد أخرى ذكر فيها اسم القدس.
والسؤال هو: هل ذاعت أية قصيدة من هذه القصائد ذيوع قصيدة تميم البرغوثي «في القدس؟ ويلي هذا السؤال سؤال آخر هو: لماذا؟ أيعود الأمر إلى أن الاهتمام بالمدينة المقدسة بدأ يتزايد أكثر وأكثر منذ منع أهل الضفة والقطاع من زيارتها، منذ انتفاضة 1987، وإلى التهويد الذي بدأ يتسارع؟ أم يعود الأمر إلى أن القصائد، وإن أتت على القدس، إلاّ أنها لم تكن قصائد قدس؟ ولا أريد أن أغبن الشاعر القاسم، فالأمر يحتاج إلى إمعان نظر، وإن كان المرء، بهدوء واطمئنان، يرى أن أياً منها لم يرق إلى مستوى قصيدة تميم، بل وإلى مستوى قصيدة تليق بالقدس.
طبعاً علينا ألاّ ننسى أن القاسم كان يزور القدس متى يشاء، وأنه لم يمنع من دخولها على الإطلاق، كونه مواطناً يحمل هُويّة تجيز له هذا، شأن عرب فلسطين المحتلة في العام 1948 كلهم، وأنه في أشعاره الأولى كان ماركسياً وأيديولوجياً، اهتم بالكتابة عن معاناة الشعب الفلسطيني أكثر من اهتمامه بالكتابة عن المدن، وإن لم تخلُ أشعاره من ذكر مدن زارها وطلب منه أحياناً أن يكتب قصائد فيها أسوة بشعراء عالميين.
ففي ديوان الحماسة (ج1) (1978) يأتي سميح على زيارته مدينة (تفليس) عاصمة جمهورية جورجيا السوفياتية، في حينه، وروى له مضيفوه أن الشاعر (ماياكوفسكي) زار المدينة وكتب فيها شعراً، وطلبوا منه أن يرتجل قصيدة، فارتجل قصيدته «لقاء آخر مع الجميلة تفليس».
وسيبدأ سميح القاسم يلتفت إلى القدس أكثر وأكثر منذ العام 1990. حقاً إنه كتب في 1984 قصيدة لافتة عنوانها «فسيفساء على قبة الصخرة» إلا أنه في 1990 سيصدر مجموعة عنوانها «أخذة الأميرة يبوس»، وستكون أول مجموعة يحتل فيها أحد أسماء القدس مكانة له في العنوان، عنوان المجموعة لا عنوان القصيدة، ومع ذلك فإن قصائد الشاعر عن المدينة لم تلفت الأنظار، وظل الأمر على ما هو عليه حتى العام 2008، حيث كتب أفضل قصائده عن القدس، القصائد التي تعد قصائد قدس حقاً، وهي: «اسمك القدس»، «موعظة لجمعة الخلاص»، «قدس الأرض».
وباطمئنان كبير يمكن القول إن سميح فيها كتب قصيدة قدس، وأن القدس غدت إحدى مدنه الأثيرة، ذلك أن ما كتبه، من قبل، عن المدينة، لا يرقى إلى مستوى ما كتبه في العام 2003 عن بغداد، في قصيدته «بغداد» التي عدها معلقة سميح القاسم المعاصرة، وجعلها عنواناً لمجموعته «بغداد»: «بغداد وقصائد أخرى».
ترى هل كان لقصيدة تميم البرغوثي «في القدس»، وقصيدة محمود درويش «في القدس» من قبل، تأثير على سميح، فآثر أن يكتب، مثلهما، قصائد تليق بالمدينة، وترتقي إلى قصيدة كل منهما؟
في العام 2000، وفي كتاب «صرة الزلزال» كتب سميح القاسم كتابة نثرية عن مدينة القدس وأتى فيه على أسمائها العديدة: يبوس، أورشليم، أور سالم، إيلياء، القدس، وهو وإن أشار في قصائده، من قبل، إلى هذه الأسماء، إلاّ أنه، هنا، أوردها كلها، وهذه عادة سنلحظها لاحقاً في قصائد شعراء آخرين، منهم أحمد دحبور في قصيدته «سؤال شخصي للقدس» من مجموعته «هناك.. هنا» (1997).
وإذا كان القاسم في العام 1990 كتب «أخذة الأميرة يبوس»، فإنه في العام 2008 يصر على اسم القدس اسماً للمدينة، علماً بأنه كتب قبل 1990 مقطعين برز دال القدس فيهما «إذا نسيت القدس» و»اسمي القدس» وسيعود في العام 2008 لينحاز لاسم القدس «اسمك القدس» و»قدس الأرض»، وفي الأولى يذكر أسماء القدس التاريخية كلها، كما فعل في كتابته «ميثاق القدس»، حتى إن المرء ليلحظ ضرباً من التكرار لدى سميح؛ في عناوين القصائد «اسمي القدس» و»اسمك القدس» وفي تكرار ذكر أسماء القدس التاريخية.
قصيدة «اسمك القدس»
يهدي سميح هذه القصيدة «لذكرى أخي وصديقي الرائع الراحل فيصل عبد القادر الحسيني»، وفيها لا يكتب عن فيصل، وإنما يكتب عن المدينة. ترى أيعود السبب إلى أنه لم يفصل بين المدينة وابنها حامل مفتاحها؟
دم سميح في شوارع القدس، كل يوم، يراق. إنها مدينة محتلة، الأطفال فيها مقاومون، وهي مدينة الزيتون الذي باركه المسيح. مدينة أسماؤها متعددة: القدس، يبوس، أورشليم، إيلياء، وهي عروس، ويأتي الشاعر على ملامح المدينة: زواريبها وأجراسها وقبابها، ويرى فيها ـ في القدس ـ بوصلة للجهات.
وفوق ما سبق فهي مدينة السلام: يحزن الناس لحزنها، ويولدون لميلادها، وهي له ولمن يتحدث باسمهم: شمسنا وعرسنا، وليلها قمر الليل. ولأنها مدينة السلام فهي لم تعاد الآخرين: لم تعاد اليهود ولم تصدّ النصارى ولا ردّت المسلمين. مدينة تجود على الآخرين، وهم يجحدون جودها، ويركز سميح على البعد الديني للمدينة، ويبرز صورة للمحتل، ويدعو القادمين إليها، من بعيد، يدعوهم للتعايش، هؤلاء الذين ضربوا الحصار عليها جداراً وراء جدار.
هل بدت الكتابة عن القدس في القصيدة ضرباً من التكرار؟ تكرار الكتابة عن القادمين من بعيد، وعن احتلال المدينة، وما ألمّ بها، وماذا تعني للشاعر: قفلته الضائعة؟ وكما ذكرت يكرر الشاعر أسماء المدينة ويأتي على ما ألمّ بها عبر التاريخ وما تعرضت له من احتلالات: «خطفتك الشعوب، طالما خطفتك الشعوب» ولهذا كانت مسبيّة يحل فيها الخراب، وتظل تعود سبيّة، وستغدو المدينة لسميح: «أنت لي/ مريمي.. أم جرحي، وأمسي ويومي ومستقبلي/ أنت لي/ فانظري، واسمعي/ المناديل قتيل يسمى سميح».
ويبدو أن الشاعر، وهو يكتب عن المدينة، لاحظ أنه مثل شعراء آخرين كثيرين من قبل، كتب عن القدس باعتبارها مدينة دينية، ونسي، مثل غيره من الشعراء، أن يكتب عنها باعتبارها مدينة على الأرض، ولهذا خصها بقصيدة عنوانها «قدس الأرض»، وكتب عن زياراته لها، وعن كعكها المقدسي و.. و.. والأمر يحتاج إلى إمعان نظر أكثر. لا شك.
سميح القاسم: وداعاً آخر شعراء المقاومة
برحيل الشاعر العربي الفلسطيني سميح القاسم تنطوي صفحة شعراء المقاومة البارزين في فلسطين المحتلة. راشد حسين ومحمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران وآخرون لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء، ممن حملوا لواء الشعر في نهاية 50 ق20 انطفأت قناديلهم قبل أن ينطفئ قنديل زميلهم وصديقهم ورفيق دربهم سميح القاسم.
عرف سميح القاسم شاعراً قبل أن يعرف كاتب مسرحية وقاصاً وكاتب مقالة وكاتب رسالة، وظل يعرف شاعراً ويقرأ شاعراً، وإن أنجزت عن قصصه الطويلة الثلاث التي هي أشبه بحكاية أوتوبيوغرافية، كما كتب هو، دراسات عديدة.
وقد أقر هو في سيرته الذاتية "إنها مجرد منفضة" (2012) أنه شاعر بالدرجة الأولى، وإن كتب النثر بين فترة وفترة.
وكان سميح القاسم، كاتباً وشاعراً، غزير الإنتاج، فقد أصدر أكثر من ستين كتاباً، أعيت متابعي نتاجه، بل وأربكتهم، وما زاد الطين بلة أنها صدرت بطبعات عديدة مختلفة لا تكاد تتطابق، فقد أسهم هو، وأسهم بعض الناشرين أيضاً، بحذف نصوص شعرية وإضافة أخرى، ما يجعل طبعات أعماله موضع دراسة لدارس يروق له تحقيق الأعمال الأدبية في طبعاتها المختلفة.
كتب سميح القاسم القصيدة القصيرة الأشبه بالأبجرام، والقصيدة الطويلة، والسربية/ المطولة، وهو الذي ذهب إلى أن مصطلح السربية من اختراعه هو، فالقصيدة الطويلة التي غالباً ما صدرت في كتاب كانت تتموّج في حركاتها كما تتموّج حركة سرب الطيور. وكتب أيضاً القصيدة العمودية، فأصدر ما عرف بديوان الحماسة، وهو في ثلاثة أجزاء تذكر المرء بحماسة أبي تمام، ودافع سميح عن هذا اللون من الكتابة تحت عنوان "سوناتا جيدة ومارش جيد"، وربما ما شجعه على كتابة هذا اللون من القصائد هو انتماؤه للحزب الشيوعي الذي يركز على دور الأديب في الحركة الجماهيرية والأخذ بيدها وتحريضها على واقعها من أجل عالم أفضل، وهو ما تطلبه واقع العرب الباقين في فلسطين، هؤلاء الذين تعرضوا لاضطهاد قومي وتمييز عنصري حارب الحزب الشيوعي من أجل إلغائه، وكان لا بد من توعية المظلومين المضطهدين وقراءة الأشعار على مسامعهم، وهذا ما فعله سميح بامتياز، حتى أن بعض النقاد ذهب إلى أن الشاعر شاعر منبري أشبه بخطيب.
وظل سميح يكتب قصيدة المقاومة، وإن خفتت حدتها مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه في العام 1989، يومها أعلن سميح أنه لن يكتب الشعر، ونشر إعلانه في مجلة "الناقد" اللندنية، وكانت حجته في ذلك أن المشاريع الثلاثة التي عقد عليها حياته قد أخفقت: المشروع القومي والمشروع الوطني والمشروع الأممي. انتهى الأول بهزيمة حزيران 1967 وموت جمال عبد الناصر، ووصل الثاني إلى نهايته مع خروج منظمة التحرير من بيروت في العام 1982، وأما الثالث فتجسد بانهيار الاتحاد السوفياتي.
غير أن سميح، مثل شعراء كثيرين، يقولون ما لا يفعلون ولا يلتزمون دائماً بما يقولون، فقد واصل كتابة الشعر واستمر يكتبه حتى في أوج مرضه، وأصدر مجموعات شعرية كثيرة لا يستطيع المرء حفظ عناوينها لكثرتها وكثرة ما كتب الشاعر ربما جعل بعض محبيه والمعجبين به يحجمون عن مواصلة قراءته ومتابعته، إذ يبدو أن هاجس الشكل الفني، وكتابة القصيدة التي تتجاوز سابقتها، وإصدار الديوان الذي يشكل إضافة نوعية، لا كمية، لم يكن هاجس سميح، قدر ما كان هاجس محمود درويش.
وربما كان لكل واحد من الاثنين ظروفه، لقد اختلفت التجربة المعيشية واختلفت أيضاً المرجعية الثقافية، خلافاً لما كان عليه الأمر قبل رحيل درويش في العام 1970.
نشأ سميح شاعراً ذا حس قومي عروبي، وهو انتساب ما بدا في أشعاره الأولى التي كتبها قبل قصيدته "طلب للحزب"، وتعد قصيدته "ليلى العدنية" من ديوان "دخان البراكين" 1968 خير تعبير عن المرحلة العروبية القومية، تضاف إليها قصائده في الثورات العربية الصاعدة في 60 ق20، وأهمها الثورة المصرية وقائدها جمال عبد الناصر الذي خصه بمديح، كما خص إنجازاته المتمثلة في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي: يا أسطى سيِّد، ابنِ وشيِّد، شيِّد لي السدّ العالي.. إلخ.
وفي "ليلى العدنية" يبدو سميح مفعماً بالروح القومية، ممتلئاً بها ومنتشياً، يتغنّى بالعروبة وبأمجادها وانتصاراتها، لكن هذا التغنّي والانتشاء سوف يتراجع كثيراً، وقد بدأ في بداية 80 ق20، حين حاصرت القوات الإسرائيلية مدينة بيروت ولم ينجدها العرب، وحين خرجت قوات م.ت.ف من لبنان وتفرّقت أيدي عرب في السودان وفي ليبيا وفي تونس وفي اليمن وفي الجزائر وفي.. وفي.. وفي هذه الفترة سيكتب سميح القاسم مجموعة قصائد ينشرها في ديوان جهات الروح (1983) ومنها قصيدة تغريبة التي يهديها لمحمود درويش. ما عاد العالم العربي كما بدا في "ليلى العدنية".
"شاءها الله شهية/ شاءها الله.. فكانت/ كبلادي العربية: نكهة الغوطة والموصل فيها/ ومن الأوراس.. عنف وقمامة/ وأبوها شاءها أحلى صبية/ شاءها اسماً وشكلاً/ فدعاها الوالد المعجب: ليلى/ وإليكم أيها الإخوان: .. ليلى العدنية"
وإنما غدا العالم العربي شيئاً آخر، وهو ما يقوله في تغريبة: "يفرقنا العالم اليعربي/ ويجمعنا العالم الأجنبي/ ونبقى أجانب في العالمين/ ويبقى الرحيل".
وستصل ذروة شعوره بالخيبة من العالم العربي في مطوّلته التي كتبها في 90 ق20 وعنوانها "خذلتني الصحارى"، فالصحراء التي تغنى بها في 60 ق20 ومدحها، الصحراء التي كانت تقف إلى جانبه وتمد له يد العون، خذلته وما عادت تقدم له شيئاً. لم تتخلّ عنه وحسب، بل وخذلته.
والطريف أن الشاعر نفسه أخذ يتردد على عواصم الصحارى/ العالم العربي، والأكثر طرافة أنه أخذ يمدح رؤساءها وملوكها، وهذا ما بدا في أحد دواوينه الذي جمع فيه قصائد تمدح هذه العاصمة أو تلك، بل هذا الحاكم أو ذاك، ما يؤكد الصلة الحميمة بين سميح القاسم ومحمد مهدي الجواهري، ومن قبل المتنبي، وقد ذهب سميح إلى أن هناك صلة نسب تجمعه بالمتنبي.
مدح المتنبي كافوراً ثم ذمه، وكم مدح الجواهري هذا الملك أو ذاك الرئيس، وأكمل سميح المهمة، هو الذي كان في 70 و80 ق20 شاعراً شيوعياً ملتزماً يهجو النظام العربي كله.
أهذا هو ما أغنى أشعاره وجعلها قابلة للتساؤل؟ ولم يقتصر الأمر على هذا، فلم يعد سميح، في عقديه الأخيرين، يكتب كما كتب في شبابه. أهو الملوم أم الواقع العربي هو الذي خذله أم أنه الزمن والسن والعمر و... و...؟
كانت عناوين دواوين سميح الأولى عناوين مقاومة متمردة "أغاني الدروب" "دخان البراكين" و"ويكون أن يأتي طائر الرعد"، وغدت لاحقاً عناوين مليئة بالخيبة والانكسار: "خذلتني الصحارى" و"أرض مراوغة.. حرير كاسد، لا بأس". ومع كل هذا فقد خسر الشعر العربي شاعراً مهماً.
سميح القاسم: إنها مجرد منفضة
"إنها مجرد منفضة: سيرة الجزء قبل الأخير" (2011)، هي سيرة سميح القاسم الصادرة العام 2011 عن دار راية في فلسطين / حيفا. يبرز اسم صاحب السيرة على صفحة الغلاف الأولى بحرف بارز أعلى الصفحة بالخط الأسود، وبحرف بارز، أيضاً، أسفل اسم الشاعر يبدو العنوان الرئيس "إنها مجرد منفضة" باللون الأبيض، فيمَ تبرز صورة الشاعر محتلة أكثر صفحة الغلاف، وفي الزاوية اليمنى شعار دار راية للنشر، فيمَ نلحظ في الزاوية اليسرى العنوان الفرعي: سيرة: الجزء قبل الأخير.
زمن كتابة السيرة:
لم يكتب سميح القاسم سيرته مرةً واحدةً، في فترة واحدة، ففي ص 170 إشارة إلى أن ما سبق من صفحات أنجز في 23/10/2004، وفي ص 286 تاريخ آخر هو 2/10/2005، وفي ص 288 إلى ص 299 نصّ كان سميح كتبه في 30/12/1966، أما في ص 324 فهناك تاريخ آخر هو 23/10/2005، وفي ص 358 - آخر صفحة في السيرة، قبل صفحات الصور، إشارة إلى تاريخ 22/5/2006. وهناك اقتباسات من كتب ومقالات صحافية تعود إلى فترات سابقة.
ومن حق الدارس أن يثير هنا السؤال التالي: هل أثر هذا على السيرة أسلوباً وتكراراً لأحداث ما؟ وربما يسبق هذا السؤال سؤال آخر هو: هل كان صاحب السيرة، وهو يكتب جزءاً جديداً، يراجع ما كتبه من قبل، منعاً للتكرار وتوحيداً للأسلوب؟
الأسلوب الذي وظفه سميح في كتابه السيرة هو أسلوب الضمير الثاني: الأنا / أنت، فقد جرد من نفسه شخصاً آخر يخاطبه. هو الراوي والمروي معاً. وهذا الأسلوب بدا في "يوميات الحزن العادي" و"في حضرة الغياب" لمحمود درويش، ومن قبل أو من بعد في سيرة الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي "مجنون الأمل"، وقد وظفه روائيون كتبوا سيرتهم رواية (أنا في "تداعيات ضمير المخاطب") (1993).
ويمكن القول إن الكاتب ظل محافظاً على هذا الأسلوب من ص 10 حتى ص 358، ولم يخرج عنه إلا قليلاً: حين يورد تقريراً كان كتبه في العام 1966 عن يافا، وحين يورد حوارات دارت بينه وبين آخرين، هنا لا يكون الراوي المروي - أي شخصاً واحداً، وإنما يكونان اثنين مختلفين يتبادلان مواقع الراوي / المروي.
مرات قليلة نسي سميح نفسه وسرد بضمير النحن أو بضمير الأنا (ص94، ص326). هنا ثمة خروج عن أسلوب الأنا / أنت. ثمة تغير في الإيقاع.
وماذا عن التكرار؟ هل أثر تعدد الزمن الكتابي على سرد الحكايات والقصص وأوقع صاحبها في التكرار؟ في ص 327 نقرأ الفقرة التالية: "وتتداعى في مخيلتك المرهفة بعض تجارب السفر القديمة دون أن تكون متأكداً من أنك رويتها سابقاً على صفحات هذه الدفاتر"، وفي صفحة أسبق (ص 325) تتكرر إشاراته عن التكرار وخوفه منه. إنه يريد سرد قصة ويتردد في تدوينها خوفاً من التكرار، ولكنه سرعان ما يستدرك قائلاً: "ثم إنه لا بأس أحياناً في التكرار غير الحرفي، لأنه يساعد في اكتشاف تفاصيل صغيرة تحمل دلالات كبيرة...".
الكتابة عن التكرار سابقاً تتجاوز الكتابة عن تكرار الكتابة إذا ما نظر المرء مثلاً في السيرة وفي كتب الشاعر والمقابلات التي أجريت معه والمقالات التي كتبها. وقارئ السيرة وقارئ كتاب "الرسائل" مثلاً يلحظ
أن هناك غير قصة وردت في كتاب الرسائل ترد ثانية في كتاب "إنها مجرد منفضة"، بل وفي كتاب "إلى الجحيم أيها الليلك" أيضاً. في ص 54 يذكر اللاجئ حسن الكسيح، وقد كتب عنه في الحكاية الأوتوبغرافية "إلى الجحيم أيها الليلك" - هناك مواطن عديدة متشابهة بين النصين - وفي ص 163 و164 يروي قصة كذبه على أبيه حين أرسله وأخاه لبذر الأرض، وكانت القصة وردت في كتاب "الرسائل" المتبادلة بينه وبين درويش. (ص235 عن احتقار العرب في حيفا، وص 262 و263 و264 عن فقره أيام كان حزبياً وتوظيفه ودرويش الشعر للحصول على وجبة طعام...).
طريقة العرض والاعتماد على الذاكرة:
لا يترك سميح قارئه يستنتج أسلوبه في القص وطريقته في العرض. إنه يسلم له شخصياً مفاتيحه كلها، وهكذا يتساءل القارئ / الكاتب إن كان سيأتي باستنتاج يُعدُّ له إذا ما كتب عن طريقة العرض. ويمكن التوقف أمام الصفحات التالية ونقل فقرات منها ليعرف القارئ، أي قارئ الطريقة التي وظفها الكاتب في أثناء كتابته: (ص 58، ص 59، ص 82، ص 97، ص 112، ص 163، ص 271، ص 275، ص 276، ص 278، ص 340، ص 185 وصفحات أخرى). هناك اعتماد على الذاكرة، والذاكرة خداعة، وهناك نسيان، وهناك استرسال عفوي، وهناك تشظٍّ وتداعيات وعدم تسلسل زمني في السرد. ما يورده في ص 58 عن عدم اتباعه التسلسل الزمني في السرد، فهو ليس مؤرخاً أو أكاديمياً، يورده في ص 172 "ومرة أخرى تجابه مسألة التسلسل الزمني، ومرة أخرى تقنع نفسك بأن التسلسل الزمني هذا هو من شأن المؤرخين والأكاديميين، وتجد لك عذراً عن الاسترسال العفوي"، ولهذا نجده يتحدث عن الطفولة في صفحات مختلفة غير متتابعة، والشيء نفسه نجده ونحن نقرأ كتابته عن السفر وأهميته وجدواه / وعن علاقته بالرموز العربية وغير العربية، وعن علاقته بالآخر أيضاً.
الجزء قبل الأخير:
العنوان الفرعي هو "سيرة: الجزء قبل الأخير". وهذا العنوان له دلالته، إذ إن القارئ قبل أن يلج إلى السيرة يلج إليها وهو على قناعة بأن هناك جزءاً أخيراً سيكتبه صاحب السيرة لاحقاً. وهنا أيضاً لا يترك الكاتب قارئه يستنتج هذا، فهو في مواطن كثيرة يكرر هذه العبارة، كأن القارئ غبي لا يستوعب الأمر من قراءة واحدة أو من عبارتين لهما المدلول نفسه. ستتكرر العبارة هذه غير مرة داخل المتن السيري (ص 197، ص 278، ص 388)، إن امتد العمر بسميح فسيكتب الجزء الأخير، وإن لم يمتد فهناك شخص ثالث سيكتبه. في ص 324 تقرأ:
"وستكون معرفتنا للاحتجاج والنقد والمساءلة. ولا بأس في ذلك، فما هذا الذي بين يديك سوى الجزء قبل الأخير، إذن فهناك جزء أخير قادم. متى؟. لا تدري! كيف؟ لا تدري! تكتبه أنت؟ لا تدري! يكتبه الآخرون؟
لا تدري. كل ما تدريه هو أن هناك جزءاً أخيراً...".
إنها مجرد منفضة:
أيضاً لا يترك الكاتب فرصة لقارئه ليبحث عن مدلول دال العنوان. على من يعود الضمير في إنها، وما مدلول دال المنفضة؟ سيخبر سميح القارئ بهذا كله في مواطن عديدة (ص 170، ص 278، ص 279، ص 280، ص 286، ص 324، ص 358). ص 286 نقرأ الفقرة التالية:
"وها هو رمادك يتساقط من منفضة العالم، منفضة الحياة الدنيا، ها هو رمادك يتهاوى في منفضتك. وإلاّ فماذا ظننت يا أخي وصديقي؟ ماذا ظننت دنياك أيها الإنسان الذي أراد أن يكون شاعراً وأيها الشاعر الذي أراد أن يكون إنساناً؟ ماذا ظننت؟ هل فاتك أن دنياك ليست سوى منفضة؟ بلى، إنها منفضة وإنها مجرد منفضة".
خلاصات وتساؤلات:
ستكون سيرة سميح هذه رافداً آخر، إلى جانب مقالاته والمقابلات التي أجريت معه، من روافد دراسة أشعاره وتجربته، وستضيء بعض جوانب قصائده وتجربته الشعرية وموقفه من الشعر وفهمه له وعلاقة الشعر بالسياسة، وموقفه من الطائفة والآخر والأنا الفردية والقومية أيضاً، وستكون مادة لدراسة نفسية سميح القاسم وتقلباته وارتداداته. (هل يدافع سميح القاسم عن تحولاته العديدة؟).
أول ملاحظة دونتها وأنا أقرأ الصفحات الأولى من "إنها مجرد منفضة" تكمن في السؤال التالي: هل كان سميح القاسم ذات يوم شيوعياً حقاً؟ وسأتبعها بملاحظات مثل: الشيخ سميح القاسم، المؤمن سميح القاسم.
وسوف يتوقف هو طويلاً أمام هذا الجانب ويوضحه (ص 136 وما بعدها يأتي على تدينه وتبرعه لمسجد وهو في الاتحاد السوفياتي، ما جعل الرفاق يلومونه).
ينعت سميح نفسه بأنه خليفة المتنبي، وأنه شاعر الله المختار - لولا أنه أوضح في صفحات متأخرة أنه يستخدم الصيغة من باب المزاح لقال القارئ إن سميح مغرور، وعموماً فإن فقرات كثيرة وصفحات عديدة تدفع القارئ إلى نعت سميح بأنه مغرور ونرجسي ومتعال ومالك الحقيقة الوحيد و... و... ومع ذلك فالسيرة هذه تظل مهمة لدراسة الشاعر وشعره.
سميح القاسم: ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يومياً
عن منشورات "دار الحقيقة" في كفر ياسيف، صدر في العام 2011 "حكاية أوتوبيوغرافية" للشاعر سميح القاسم، وليست هذه هي حكاية سميح القاسم الأولى الأوتوبيوغرافية، فقد سبق أن أصدر في آب 1977 عن منشورات صلاح الدين في القدس حكاية أوتوبيوغرافية عنوانها "إلى الجحيم أيها الليلك"، ولما استقبلها النقاد استقبالاً حسناً، عاود الكرّة وكتب قصته الطويلة "الصورة الأخير في الألبوم" (1979). ولم يتوقف الشاعر عن كتابة النثر، فعدا مقالاته الأسبوعية في "الاتحاد" الحيفاوية و"الجديد" الحيفاوية أيضاً، كتب الرسالة التي تبادلها مع الشاعر محمود درويش، فأصدرا معاً كتاب "الرسائل"، وهو كتاب جمع فيه الروائي إميل حبيبي ما نشراه معاً، أسبوعياً، على صفحات مجلة "اليوم السابع" الصادرة في باريس.
والعام المنصرم أصدر القاسم كتابه "إنها مجرد منفضة: سيرة الجزء قبل الأخير". وعموماً فإن أعماله النثرية، قياساً إلى أشعاره تظل قليلة، ولا تكاد تذكر، وإن كان الدارسون توقفوا أمامها توقفاً بدا لافتاً أيضا. فهل أدرك سميح أن زمننا هذا هو حقاً زمن الرواية، لا زمن الشعر؟
في سيرته "إنها مجرد منفضة" يقول سميح إنه شاعر بالدرجة الأولى، وإن نثره إن هو إلا نزوة عابرة، فالقصيدة تبقى همّه الأساس، لماذا إذاً كتب النثر؟ سأنقل الفقرة التالية من سيرته على طولها:
"تظل قصيدتك هاجسك الأكبر ولا ترى في هذا النزيف سوى محاولة لتشجيع الإضاءة على اقتحام زوايا ومنعطفات وفواصل وأصداء داخل القصيدة نفسها. قد لا يعنى الناس كثيراً بمبررات حبك أو أسباب نفورك، لأن جوهر علاقتهم بك لا يخرج عن نطاق القصيدة.. وهذا الكلام في المحصلة، ليس أكثر من ديكور ورتوش، ووسائل إيضاح أيضاً، على خلفية القصيدة أو على هامشها، وأنت على قناعة بأنه ما من شيء يستطيع اختراع خط أقصر من الخط المستقيم بين جوهر القصيدة ووعي المتلقي.." (ص279/280).
ولعل ما يقصده سميح بما سبق هو إضاءة النثر، وتحديداً السيرة، للشعر. كيف يمكن أن تساعدنا سيرته لفهم أشعاره؟ هذا هو السؤال، وهو ضرب من النقد الذي اعتمده (ادموند ولسن) حين درس (تشارلز ديكنز) وآخرين. لقد درس (ولسن) سيرة حياة الأدباء واستخرج منها شيئاً حول نفسيتهم، وطبّق ذلك على نصوصهم. وأعتقد أن هذا المنهج يصلح أيضاً لأن يطبق على سميح، وقد طبق على فدوى طوقان بعد كتابة سيرتها.
حكاية لا رواية، وحكاية أوتوبيوغرافية:
لا يدعي سميح أنه يكتب رواية، وإن درس الدارسون "الصورة الأخيرة.." على أنها رواية أو قصة طويلة. في "إلى الجحيم" و"ملعقة سم" يحدد الشاعر الجنس الأدبي: "حكاية أوتوبيوغرافية". وقد صاغ "الصورة.." بضمير الهو، فكتب عن أمير، فيما صاغ الحكايتين بضمير الأنا، فكتب في الأولى عن سميح، وكتب في الثانية عن مأمون عبد الرحمن. ومع أن الحكايتين حكايتان أوتوبيوغرافيتيان، إلا أن أنا الراوي في كل واحدة تحمل اسماً مختلفاً، وليس الاختلاف في اسم أنا الراوي هو الخلاف الوحيد، فهناك اختلافات أخرى.
"إلى الجحيم" حكاية ذات أسلوب شاعري ولغة شعرية، فيما بدت "ملعقة سم.." ذات لغة سردية تقريرية مملة أحياناً. وإذا كانت الأولى عبّرت عن أفكار ورؤى سياسية وفكرية، فإن الثانية أتت على هذا بصيغ تقريرية، لكنها تجاوزت الأولى في أنها عبّرت عن علاقة حب ربطت بين مأمون و"نوريت" – هنا تقترب من "الصورة الأخيرة.." التي عبّرت عن علاقة حب بين أمير وروتي-، ولم يكتف مأمون بالإفصاح عن علاقة حبه بامرأة واحدة هي اليهودية البولندية (نوريت)، وإنما أتى على علاقات حب مع روسية وأخرى فرنسية. هل بدا سميح، وهو يكتب "ملعقة سم" يحسب للمجتمع وللأقرباء حساباً؟ هل خجل من عياله، فاخترع شخصية مأمون، وما مأمون إلا سميح نفسه؟
إذا ما عقد القارئ العارف بسميح وحياته مقارنة بين الكاتب وبطله، فسيقول إنهما شخص واحد، فهناك خطوط تواز كثيرة بينهما: كتابة الشعر والعمل في الصحيفة والقدوم إلى حيفا من القرية التي تقع على جبل حيدر، والموقف من الأنا والآخر، الآخر الإسرائيلي، بل والاقتراب من الحزب الشيوعي. وإذا ما ربط المرء بين طفولة مأمون وطفولة سميح كما كتب عنها في "إنها مجرد منفضة" فإنه سيعزز ما يذهب إليه. مأمون كاتب صحافي يحمل أفكاراً قومية يسارية تقدمية ويكتب في جريدة الحزب الذي يقترب منه (انتمى سميح للحزب بعد هزيمة 1967 وكتب قصيدته "طلب انتساب للحزب" وقدم لها بأسطر عن انتمائه، ثم حذف الأسطر النثرية التي تضم الإهداء، وكما زار سميح الدول الاشتراكية ودولاً أوروبية، زار مأمون هذه الدول. وإذا ما عدنا إلى سيرة سميح "إنها مجرد منفضة" لاحظنا أنه يورد فيها تقريراً كاملاً كتبه عن مدينة يافا. ويذكر مأمون أنه كتب عن المدينة تقريراً نشره في صحف الحزب. وعموماً، فإن المرء إذا ما أمعن النظر في سيرة سميح وفي حكايته الأوتوبيوغرافية، فإنه سيجد تقاطعات أكثر من تلك التي أوردتها بين الشاعر وبطل حكايته، ما يعني أن مأمون ليس إلا سميح نفسه. لماذا، إذاً، نشر سميح حكايته، مع أنه نشر سيرته قبل ذلك بعام. وبم اختلفت الحكاية عن السيرة "إنها مجرد منفضة"؟).
يبدو أن سميح رأى أنه لم يكتب كل شيء في سيرته، بخاصة فيما يخص الجانب العاطفي – أي علاقته بالنساء، ويبدو أنه رأى أنه لا يستطيع أن يكتب ذلك الجانب في السيرة، لأنه قد يسبب له، كما ذكرت، إحراجات كثيرة مع المحيط، وربما مع ما هو أبعد من المحيط العائلي، في مجتمع عربي ما زال ينظر إلى المناضل على أنه إنسان غير عادي، إنسان فوق الحب ومشاعر الحب. وقد أتى سميح على هذا في "ملعقة سم.."، وكلنا يذكر ما ألمّ بصورة الشهيد غسان كنفاني، لدى بعض محبيه، حين قرأ رسائله إلى غادة السمان. إن الحكاية التي يكون لها بطل اسمه مأمون، لا سميح، تجعله أكثر جرأة في التعبير.
زمن السرد / زمن الحكاية:
إذا كان زمن السرد في "إنها مجرد منفضة" زمناً لاحقاً ومتأخراً جداً عن زمن طفولة الشاعر وشبابه ورجولته، فإنه في "ملعقة سم.." يبدو موازياً له. كأن سميح يسرد ما يجري معه في اللحظة نفسها. ولولا ذكر تاريخ الكتابة في نهاية الحكاية "تموز 2010" لقال قارئها الملمّ بمصطلح الزمن وأنواعه: إن سميح كان كتب هذه الحكاية في 60 ق20 وأخفاها ولم ينشرها في حينه. هل ثمة دليل على هذا الكلام؟ نعم، ويمكن النظر في الصفحات التالية ص10، وص48. إن قول مأمون في الصفحة العاشرة "أمس الأول، حوالي الساعة العاشرة صباحاً، كنت مزهواً في طريقي إلى الجريدة بالتقرير الذي نشرته عن عرب يافا في ضائقتهم الاستثنائية والمزمنة" يعيدنا إلى التقرير الذي نشره سميح في الجريدة / الاتحاد وأعاد نشره في سيرته "إنها مجرد منفضة".
بين ريتا وعيوني بندقية:
أقرّ درويش بأنه كان على علاقة مع غير فتاة يهودية، وكتب غير قصيدة في هذا، وشاعت هذه القصائد وانتشرت وغنّاها المغنون. هل أقام سميح القاسم علاقة مع فتيات يهوديات؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فهل كتب قصائد فيهن؟ وإذا كان كتب قصائد فلماذا لم تشتهر؟
في سيرته "إنها مجرد منفضة" يكتب سميح في ص282 عن حكايته هذه "ملعقة سم.." : "تسجل فيها تجربتك مع فتاة [يهودية] فقدت والدها في المعسكرات النازية ونجت مع والدتها المصابة بمرض نفسي يطوح بها بين العقل والجنون... فلا حرج عليك إذا أنت تذكرت كيف حاولت والدة صديقتك الناجية من الموت قتلك بالسكين التي طلبتها منها لتقطيع كعكة عيد ميلاد ابنتها، ثم صحت من نوبة الجنون المفاجئة لتنقض عليك عناقاً وتقبيلاً وبكاءً واعتذاراً، أما صديقتك فلم تجد في النهاية حلاً لعلاقتكما المركبة والمعقدة والبركانية سوى قيادة سيارتها البرتقالية الصغيرة من ماركة "ميني مايتور"، بسرعة جنونية والارتطام بدبابة في استعراض عيد الاستقلال الإسرائيلي، فتتحول صديقتك وسيارتها والدبابة إلى كتلة نارية هائلة.."
إن الفقرة السابقة تلخص جزءاً كبيراً من حكاية "ملعقة سم.."، بل إنها تضيء لنا حقاً زمن كتابة الحكاية 2010، فلماذا بدا زمن سردها وكأنه في 60 ق 20؟ لعلها لعبة. كما تضيء لنا الفقرة السابقة أن مأمون ليس سوى سميح نفسه، ما يجعل تساؤلاتنا واجتهاداتنا المذكورة مبررة وممكنة.
"ملعقة سم.." و"الصورة الأخيرة..": التوازي والاختلاف
وأنا أقرأ ملعقة سم تذكرت الصورة الأخيرة، بخاصة فيما يخص صورة اليهود. لا تختلف نظرة أمير في الصورة عن نظرة مأمون في "ملعقة سم.." إلى الآخر، بل إنها لا تختلف عن نظرة سميح نفسه في "إنها مجرد منفضة": هناك يهود تقدميون ويهود طيبون ويهود متعصبون. ولا ينكر الثلاثة: أمير ومأمون وسميح الكارثة ولا يقللون من شأنها، وإذا ما أتيحت لهم فرصة شتم النازي فلا يفوتونها، بل إنهم يرون فيه وحشاً مجرماً. هل زار الثلاثة معسكر (بوخنفالد) أيضاً؟
تقيم الفتاة اليهودية علاقة مع العربي وتتعاطف معه وتتفهم مشاكله ومعاناته، وتنتهي "الصورة.." و"ملعقة سم.." بموت الفتاتين: روتي ونوريت، لكن روتي ابنة ضابط اشكنازي يحقد على اليهود الشرقيين والعرب، فيما والد نوريت ضحية من ضحايا النازيين.
بقي أن أشير إلى أن روح سميح القاسم تطبع أعماله كلها: شعره ونثره، ما يجعل التمييز بين المؤلف وبطله، في نصوصه النثرية، ضرباً من العبث الذي لا طائل وراءه.

***

5- ظاهرة الحذف

تعد ظاهرة الحذف في أشعار سميح القاسم، لمن يتابع أعماله في طبعاتها المتعددة، أمراً لافتاً، شأنه في ذلك شأن محمود درويش. وإذا كان النقاد التفتوا إلى هذه الظاهرة، لأنها بدت بارزة، في أشعار الأخير، فإنهم لم يلتفتوا إليها، إلا التفاتاً عابراً، لدى سميح القاسم (انظر: دراستي محمود درويش: حذف البدايات وقصائد أخرى، مجلة مجمع اللغة العربية، فلسطين، ع2، 2000). ولا أظن أن هناك دراسة واحدة مفصلة أتت على هذه الظاهرة لدى سميح، علماً بأن مجموعاته الأولى صدرت في غير طبعة، عدا أنه أشرف شخصياً على طبعة الأعمال الكاملة التي صدرت في العام 1992 عن دار الجيل ودار الهدى، وخلت من قصائد عديدة ظهرت في مجموعاته في طبعاتها الأولى ( انظر كتابي، أدب المقاومة، غزة، 1998، ص111-123 ).

وإذا ما أراد الباحث أن يصل إلى نتائج نهائية في هذا الجانب، - أي دراسة ظاهرة الحذف – فلا بد له من متابعة الصحف والمجلات التي نشر الشاعر قصائده فيها، وطبعات الدواوين المختلفة، وطبعة الأعمال الكاملة التي أشرف عليها. ولا بد أيضاً للباحث من مقابلة الشاعر وسؤاله عن الأسباب والدوافع التي حدت به إلى القيام بما قام به. ولما كان هذا، الآن، في ظل الظروف التي نعيش فيها، غير ممكن، فإنني سأقدم هنا مدخلاً لظاهرة الحذف، لا أدّعي أنه نهائي وذلك للأسباب التالية:

أولاً: عدم توفر جريدة الاتحاد، ومجلة الجديد والغد، والصحف الأخرى التي نشر الشاعر قصائده فيها، عدم توفرها لي وفي الأماكن التي أستطيع التنقل فيها.

ثانياً: عدم توفر طبعات مجموعات الشاعر المختلفة لي.

ثالثاً: إنكار الشاعر أنه أقدم على حذف قصائد معينة، وهذا ما قاله لي أحد طلبة الدراسات العليا في جامعة النجاح، وكنت حثثته على أن يكتب أطروحة الماجستير في هذا الجانب، ولكنه تراجع بعد اتصاله بالشاعر.

رابعاً: قلة المقابلات التي أتى فيها سميح على هذه الظاهرة، إذ أنه يأتي في الغالب على ما فعله الرقيب الإسرائيلي بقصائده، لا على ما يقوم به هو شخصياً. وكل من يتابع طبعة ديوانه " دخان البراكين "(1967) يلحظ إشارة سميح إلى حذف مقاطع من بعض قصائده، ارتكبه الرقيب الإسرائيلي، دون أن يلحظ إشارات إلى ما قام به هو شخصياً، حين ارتكب حذف مقاطع معينة، أو عبارات دالة.

وعلى سبيل المثال، لا الحصر، يلحظ قارئ " دخان البراكين " أن الشاعر أتى على ما قام به الرقيب الإسرائيلي، حين كتب في نهاية قصيدة " مفكرة أيوب ": ملاحظة: سادتي القراء! الصفحات الباقية من " مفكرة أيوب، غارقة في " الحبر الأحمر " .. وتتعذر قراءتها .. فمعذرة! 28/3/67 "، ولكنه – أي القارئ – لا يلحظ إشارة سميح القاسم نفسه إلى ما أقدم هو نفسه عليه، حين نشر هذا الديوان في الأعمال الشعرية الكاملة (1992)، إذ حذف عبارات مهمة وذات دلالة خطيرة، هي ما صدر به قصيدته " طلب انتساب للحزب "، وهذه العبارات هي:

" إلى ما ير فلنر ... وشيوعيين لا أعرف أسماءهم من أسيوط واللاذقية وفولغوغراد ومرسيليا ونيويورك وازمير، ومن جميع المدن والقرى وأكواخ الصفيح والعرائش.. المتشبثة بكوكبنا – بكرتنا الأرضية !"(ص75) و ( أعمال سميح القاسم الكاملة، المجلد الأول، ص295، حيث ظهرت القصيدة هنا خالية من هذا التصدير ).

وانطلاقاً مما سبق سأقتصر في هذه الورقة، على جوانب من ظاهرة الحذف، بخاصة ما قام به الشاعر نفسه، وسوف أتوقف أمام دلالات هذا، آملاً ما أمكن أن أكون في تفسيري لهذه الظاهرة علمياً وموضوعياً.

الدواوين والطبعات التي سأعتمد عليها:

ديوان " دخان البراكين "، طبعة دار المحتسب في القدس، وهي (د.ت). ( 1968 ؟).

دواوين الحماسة الثلاثة الصادرة عن دار الأسوار في عكا، في الأعوام ( 1978، 1979، 1981 ).

جهات الروح، منشورات عربسك، (د.ت) ويرجح 1983.

قرابين، الأسوار، عكا، 1983.

قرآن الموت والياسمين، مكتبة المحتسب، القدس (د.ت) (1971).

الموت الكبير، ط2، حيفا، 1973.

ديوان سميح القاسم، منشورات عربسك، أيار، 1979، وكتب مقدمتها مطاع صفدي، وهي طبعة مصورة عن طبعة دار الآداب اللبنانية.

وسأقارن بين ما ورد في هذه المجموعات، وبين الطبعة الصادرة في العام 1992، عن دار الهدى، ودار الجيل، راصداً ابتداءً القصائد والعبارات والمقالات المحذوفة، لأتوقف، من ثم، أمام دلالات ذلك.

أولاً: يلحظ قارئ ديوان سميح القاسم ( عربسك، 1979) أنها تضم قصيدة عنوانها " السلام "، أسقطها الشاعر من طبعة ( أ.ك ) 1992. وكانت هذه القصيدة وردت في ديوان " أغاني الدروب "(1964) ابتداءً.

ثانياً: ويلحظ قارئ الطبعتين أيضاً سقوط القصائد التالية:

" لأننا "(ص37) و " غرباء "(ص50/51) من ط (أ.ك). وربما يجدر هنا الإشارة إلى أن ط عربسك / دار الآداب (1979) خلت من الديوان الأول لسميح " مواكب الشمس "(1958)، ولم يثبت الشاعر نفسه في ط. أ.ك، سوى قصائد قليلة، حيث شكل الديوان هذا واحدة وعشرين صفحة من أ.ك، ما يعني بالتأكيد حذف قصائد كثيرة.

ثالثاً: يلحظ من يمعن النظر في ط " دخان البراكين " الأولى، حين يقارن ما غدت عليه في أ.ك، سقوط بعض عبارات نثرية صدر الشاعر بها بعض قصائده، وقد أتيت على هذا ومما حذفه أيضاً في هذا الجانب الأسطر التالية التي صدّر بها قصيدة " ليلى العدنية ":

" إلى واحد من فدائيي الشمس في جنوبنا المقاتل .. واحد .. من الرجال الذين صنع من عظام أطفاله القتلى، سكاكين ثار ومناجل حصاد، ومن بيته المنسوف، صنع تماثيل أطفال وقوّارات ورد، إلى القوي مكاوي .. أخاً ومعلماً "(ص9).

ولم أعثر على المقطع الشعري التالي أيضاً:

أنا في الأسلاك، مشتاق إلى طعم العذوبة
أنا في البركان، مشتاق إلى لمس الرطوبة
كدسوا من حولي القندول .. لكن
حرموني زهرة القندول، في أرضي الحبيبة
فاسمعوني!
وافهموني!
إنني أصنع في الأرض عجيبة "(ص97/دخان).

رابعاً: ظهرت في ديوان " قرآن الموت والياسمين "(1971) قصيدتان عنوانهما: " أريد أن أذهب إلى عملي " و " مرثية إلى محمد " (ص102 وص 106 ) وقد خلت منهما ط أ.ك (1992).

خامساً: كان الشاعر ذيّل قصيدته " انتقام الشنفرى " (جهات الروح، 1983 ) بالمقطع التالي:

" معظم النقاد يؤثرون عروة بن الورد على الشنفرى، ويظل الأمر منوطاً بالذوق والذات والمنطلق.ولا بأس من سؤال قد يبدو ساذجاً: لو عاش عروة تجربة صاحبه الأشد قسوة ووحشية وظلماً. أما كانت الصورة ستتغير، ولو بعض الشيء ؟! ". وقد خلت طبعة أ.ك من هذا المقطع. ( جهات الروح، ص38 و أ.ك، مجلد 2، ص614 ).

سادساً: وتبدو ظاهرة الحذف أبرز ما تكون في أثناء مقارنة المرء بين ديوان الحماسة بأجزائه الثلاثة وبين ما ورد منه من قصائد في ط أ.ك. وقبل تبيان ذلك لا بدّ من الإشارة إلى إسقاط المقدمة التي صدّر بها الشاعر الجزء الأول من الديوان تحت عنوان: " عن هذا الديوان: هناك أيضاً سوناتا رديئة ومارش جيد " (ص7-ص11). واستبدال مفردات بأخرى لها دلالة كبيرة. في الجزء الأول صدر الشاعر قصيدته " شهداء الحب "(ص37) بكلمة أتى فيها على مناسبة هذه القصيدة، ومما ورد فيها: " وقد كتب سميح القاسم هذه القصيدة في غمرة الأنباء الواردة من العراق آنذاك، عن تعذيب الشيوعيين واختطافهم وقتلهم " (ص36). ولقد استبدل سميح كلمة الوطنيين بكلمة الشيوعيين. ( انظر المجلد الثاني من أ.ك، ص390 ). ولهذا دلالته الكبيرة كما سنرى.

وأما القصائد التي حذفها سميح من ديوان الحماسة بأجزائه الثلاثة فهي:

الجزء الأول: نداء من المنفى، فك القيد، عزم المطارق والمناجل، لقاء آخر مع الجميلة تفليس، هكذا تكلم العم هو، رسالة إلى أمريكي بشع، شمس أيار، ثورة الجذع، برقية إلى جنرال غبي، فواتير رمضان.

الجزء الثاني: شعبي حيٌ، نخبك يا كوبا، من أول الأرض إلى أواخر السماء، العيد عيدان، مارش للعلم الأحمر، إن صحت قصة إبراهيم، صيحة الدم، دراكولا ليس دراكولا، أغلى الهدايا، ضوء جديد للقصر العتيق.

الجزء الثالث: فلسطين، زمن للخروج على يأجوج ومأجوج، لن يمروا، يوسف وإخوته ( إلى شاعر عبري )، كفر قاسم، قصيدة دينية.

وبلغ عدد القصائد في الأجزاء الثلاثة ثمانيا وثلاثين قصيدة، أثبت منها سميح اثنتي عشرة وحذف ستا وعشرين، بالإضافة إلى المقدمة التي شكلت يوم نشر ديوان الحماسة مبرر نشر قصائد على هذه الشاكلة.

اجتهادات لتفسير الظاهرة:

لو أشار سميح القاسم إلى أنه أقدم على حذف مقاطع شعرية أو قصائد أو حذف عبارات صدر بها هذه القصيدة أو تلك، ولو أنه أعفى نفسه من إلصاق عبارة " أعمال سميح القاسم الكاملة " على صفحة الغلاف الأخيرة، لو أنه فعل ذلك لكان صادقاً مع نفسه ومع قارئه، ولما جعل القارئ أو الناقد يرميه بما يمكن أن يرميه به حين يعلم أن الأعمال الكاملة ليست كاملة. أما وأنه – أي سميح – فعل ما فعل، واكتشف القارئ هذا، فمن حق الأخير أن يعلن للأول أنه خدعه، ومن حقه أيضاً أن يدرس هذه الظاهرة، ويبين الأسباب التي دفعت بالشاعر لأن يقدم على ما أقدم عليه.

ربما تكفي الإشارة التالية للوقوف على الأسباب، علماً بأنني لن أكتفي بها، ولكني سأذكرها لأنها دالة بما يكفي، وقد أوردتها وأنا أدرس ظاهرة الحذف في مسيرة محمود درويش الشعرية ( انظر دراستي في مجلة مجمع اللغة العربية، عدد2، 2000 ).

لمّا ترك درويش الأرض المحتلة في العام 1970 استاء منه الرفاق في الحزب الشيوعي وهاجموه لما أقدم عليه، وكان سميح يومها رفيقاً من الرفاق الذين آثروا الحزب على العلاقة الشخصية، وهكذا هاجم درويش، وبدأت معركة، عبر الصحافة، بين الاثنين، وقفت فدوى طوقان إلى جانب سميح، فيما وقف معين بسيسو إلى جانب درويش. ومرت الأيام وعادت المياه بين درويش وسميح إلى مجاريها، وتبادل الاثنان، عبر مجلة " اليوم السابع " الصادرة في باريس، الرسائل التي أظهرت ضرباً من الصداقة بينهما، وقد جمعهما الاثنان في كتاب كتب له مقدمة إميل حبيبي، قبل أن تسوء علاقته بسميح القاسم. وقد أخفى درويش وسميح الرسائل غير السارة التي كتباها في سبعينيات القرن العشرين، علماً بأن الكتاب كان عنوانه " الرسائل "، ولعل هذه الإشارة تقول ما سأقوله في الصفحات اللاحقة حول القصائد التي حذفها سميح من أشعاره، وإن كانت هناك اجتهادات أخرى أيضاً لعلها تخفف قليلاً من قسوة دلالات الإشارة السابقة ( انظر كتاب الرسائل حيفا، 1986 ).

فيما أعرف انتمى سميح إلى الحزب الشيوعي بعد العام 1967، وهذا ما تقوله قصيدة " طلب انتساب للحزب "(دخان البراكين، ص75 ) وغدا عضواً فاعلاً فيه. ولأن الحزب له آراؤه وأفكاره ونهجه السياسي، ولأنه لا ينظر إلى الأدب على أنه نتاج أدبي فقط، وإنما هو نشاط إنساني له وظيفة مثل وظيفة السياسة، فإن الأديب لا يقل أهمية وقيمة عن السياسي والمفكر، وعليه – وهذا ما تقوله الواقعية الاشتراكية – أن يوظف فنه لخدمة الحزب الذي هو بدوره يوظف نفسه لخدمة الطبقة العاملة، لخدمة الشعب.

وانطلاقاً من هذا كان على سميح أن يوظف شعره لخدمة أفكاره السياسية الجديدة التي قد تكون استمراراً لأفكاره السابقة، وقد تختلف عنها قليلاً. إن ( سميح ) الآن لن يقول ما يراه شخصياً، وعليه أن يقول ما يراه الحزب، حتى لو تعارض جزئياً مع قناعاته.

وإذا كان قال قبل انضمامه للحزب قصيدة تعبر عن مشــاعره وعواطفه، وقد تكون صادقة، فإنه لن يســتطيع أن يقولها إذا ما تعارضت مع أفكار الحزب الذي قد تكون له سـياسـة ورؤية مغايرة أو مختلفة، لأنه – أي الحزب – لا يرى الأمور من منظار ذاتي أو من منظار محلي أو قومي، وإنما من منظار أوســع، منظار أممي يتجاوز القومية. كان سميح في شبابه فلســطينياً رأى ما ألم بالشعب الفلسـطيني، وقد تأثر لذلك، ومن هنا كتب قصيدة " السلام " ( ديوان سميح القاسم، عربسك، 1979 )، وقد ظهرت في ديوان " أغاني الدروب " (1964) / انظر أ.ك 1979، ص84 وما بعدها ). ومما قاله في القصيدة:

" ليغن غيري للسلام ..
وعلى ربى وطني وفي وديانه .. قتل السلام "

( ديوان سميح القاسم، 1979، ص87 ).

وهي قصيدة لم ترق للرقيب الصهيوني، فحذف منها مقاطع في موضعين، كل مقطع يتكون من ثمانية أسطر. وقد أشار سميح إلى هذا، فكتب: " الأسطر الثمانية الأخيرة من هذه القصيدة محذوفة بالشكل التالي ×××××××× "(ص87).

وكتب أيضاً في نهاية القصيدة:

" الأسطر الثمانية الأخيرة من هذه القصيدة أيضاً محذوفة بإشارة الرقيب الصهيوني "(ص88).

ولما كان الحزب الشيوعي يدعو إلى السلام، ولما انتمى إليه سميح، فإن قوله السابق يتناقض وسياسة الحزب، ومن هنا نجده في حماسته يقول:

جرح اليهودي المعذب لم يزل
جرحي .. ففك القيد واترك معصمي
أنا للسلام نواظري ومواسمي
وتشح أنت بنظرة وبموسم

( الحماسة، ج1، ص32 )

ولن ينشر سميح هذه القصيدة في أ.ك (1992)، العام الذي تلا عام مفاوضات الصلح في مدريد، وربما كان السبب في ذلك أنه أيد م.ت.ف التي أخذت تفاوض الإسرائيليين.

وإذا ما أمعن المرء النظر في قصائد الحماسـة بأجزائها الثلاثة، لاحظ أن جلها تمجد ( لينين ) والاتحاد السوفييتي والثورة الحمراء. لقد تراجع الحس القومي لدى سميح وتقدم الحس الأممي، وما عاد يغني لليلى العدنية، قدر ما أخذ يغني للينين، ولا أظن شاعراً عربياً معاصراً غنّى للينين قدر ما مدحه سميح ومجده، حتى معين بسيسو الذي كان يرى في الاتحاد السوفييتي وطناً ثانياً له، لم تحفل أشعاره بمديح ( لينين )كما حفلت حماسة سميح بمديحه. وفي العام 1992 كان الاتحاد السوفييتي انهار، وكان سميح ترك الحزب الشيوعي وصحافته، وغدا رئيس تحرير لجريدة " كل العرب " التي تختلف كلياً عن " الاتحاد " الشيوعية، وربما لهذا أقدم على حذف القصائد أكثرها ومعظمها التي نجد فيها ذكر لينين والثورة الحمراء، ولم يبق من هذه إلا أقلها. هنا ســأشير مرة ثانية للتبديل الدال الذي أجراه الشاعر على تصدير قصيدته " شهداء الحب " (الحماسة، ص37)، حين نشره في أ.ك./ مجلد2 / ص390 ).

غدت عبارة " عن تعذيب الشيوعيين "، " غدت " عن تعذيب الوطنيين "، فهل كان التغيير لأن الشاعر اكتشف أن الذين عذبوا كانوا شيوعيين وغير شيوعيين، وأنه كان مخطئاً ولا يرى إلا بعيون حزبية، حين نشر التصدير وهو شيوعي؟ والإجابة متروكة للشاعر، وإن كان سميح حذف أشياء أخرى تمس تاريخه الشيوعي، بعد أن ترك الحزب، منها ما أوردته سابقاً أيضاً عن تصدير قصيدة " طلب انتساب للحزب "( دخان البراكين، ص75 ).

ولما كان الحذف لا يتم لأسباب سياسية فقط، وإنما يمكن أن يتم لأن الشاعر لا يعود، حين تنضج تجربته الشعرية، ينظر بعين الرضا إلى أشعاره الأولى، وهكذا يغدو سبب الحذف جمالياً، فإنني سأتوقف هنا أمام هذا السبب، لعلني لا أظلم الشاعر ولا أتحامل عليه.

صدّر سميح الجزء الأول من ديوان الحماسة بمقدمة يدافع فيها عن سبب إقدامه على نشر قصائد لم ينشرها، من قبل، في مجموعاته، مع أنه نظمها في سنوات سابقة. وهذه القصائد ذات نبرة خطابية، يتغني فيها الشاعر بالحزب ويدافع عن آرائه وأفكاره ونهجه. ولأن هذا النمط من الشعر ما عاد يلتفت إليه نقاد عرب معاصرون، فإن سميحاً صَبَّ جام غضبه على هؤلاء وسخر منهم سخرية لا تخلو أيضاً من تهكم، ومنهم غالي شكري. وكتب سميح ما كتب تحت عنوان " هناك أيضاً سوناتا رديئة ومارش جيد ! " ( الحماسة، ج1، ص7 ).

ومما كتبه:

" إن جملة من التعابير النقدية مثل " الخطابية " و " المباشرة " و " المنبرية " توشك أن تصبح سبة على أيدي النقاد والشعراء البرجوازيين الهابطين .. ويمارس هؤلاء، حملات إرهابية ضد كل شاعر يخرق اتيكيت الصالونات الأدبية، ضد كل شاعر يقطف التفاحة عن أمها ....... أنا شخصياً لم أتردد ولن أتردد ساعة الضرورة عن دوس سجاجيد السادة بحذائي الموحل .......... قد يشرئب هنا كويتب حاقد على العرب، من أمثال طراز الفرعوني، غالي شاكر ( أو شكري؛ غالي، فلا أذكر اسمه بالضبط ) قد يشرئب هنا ليلصق بي من جديد نعت " السلفية "!.. لن يضيرني الأمر في شيء ... وبعد .. تعالوا أيها الناس، لنقرأ معاً هذه القصائد التي كتبناها معاً، فأنا أنتم وأنتم أنا ... "(ص8، ص9، ص10 ).

والســؤال الذي يثار هنا هو: هل اختلفت نظرة سميح القاسم للشعر في العام 1992؟ وهل أخذ يرى في القصائد التي ضمها ديوان الحماسة قصائد خطابية ومباشرة ومنبرية وسلفية؟ من المؤكد أن الإجابة عن السؤال هي بالنفي، لأن سميح القاسم لم يحذف القصائد كلها التي اتســمت بهذه السمة، فقد أبقى على قصائد من ديوان الحماسة، ونشرها في أ.ك، تتسم بالصفات السابقة كلها. هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد واصل الشاعر كتابة هذا اللون من القصائد، وأخذ يلقيها في جماهير مختلفة، بل ونشرها في أعمال صدرت له في العام 2000، ولعل خير مثال على ذلك مجموعة " الممثل " الصادرة عن دار الأسوار في عكا في العام 2000. ولا أظن أن القصيدة اللبنانية أو القصيدة الشامية أو القصيدة العمانية تخلو من مباشرة ومنبرية. وربما الفارق الوحيد بين قصائد الحماسة وهذه القصائد يكمن في أن الشاعر لم يعد يمجد شـخصاً واحداً. اختلفت وجهة الشاعر ومكان رحلته فاختلف المخاطب. لم يعد الشاعر شيوعياً، فتخلى عن قصائده التي مَجَّدَ فيها الشيوعية، وأخذ يسافر إلى العالم العربي الذي فتح له أبوابه، ففتح الشاعر قاموسه الشعري لهذا العالم، حاله حال الجواهري في " أسعف فمي ... " ( إشارة إلى قصيدة محمد مهدي الجواهري المشهورة في مديح الملك حسين ).

سأتوقف، هنا، أمام ما أوردته تحت الرقم: خامساً. لقد أتيت في مقالة نشرتها، ابتداءً، في جريدة الشعب المقدسية، وأعدت، من ثم، نشرها في كتابي " دراسات نقدية "(1987) على العبارة التي ذيّل بها سميح قصيدته " انتقام الشنفرى "، وذهبت إلى أن سميحاً في القصيدة استعار تجربة الشنفرى ليعبر " من خلالها عما يعتمل في ذهنه، وعما يعيشه أحياناً من قلق ناجم، على ما يبدو، من غبن بعض النقاد له "( دراسات نقدية، ص72 ) ومما قلته أيضاً " ولعلني لا أتعسف القول حين أزعم أن سميح القاسم لا ينصف الشنفرى إزاء عروة بقدر ما ينصف ذاته إزاء أحد شعرائنا الذين أنصفهم النقاد، ولعله – أي سميح القاسم – يود أن يلفت أنظار النقاد إلى أن التجربة التي يعيشها تختلف عن التجربة التي يعيشها ذلك الشاعر، وأن الأخير لو عاش تجربة الأول بالتمام والكمال لربما تغيرت الصورة "(دراسات نقدية،ص73 ).

وكنت أقصد بالشاعر الآخر محمود درويش الذي التفت إلى أشعاره التفاتاً بارزاً.

ما ذهبت إليه في قراءتي ذهب إليه الناقد أنطون شلحت، ولكنه لم ير في الشنفرى وعروة سميحاً ومحموداً، وإنما رأى فيهما حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، وذلك حين كتب:

" إذا صح أن نقارن تفضيل النقاد لعروة بن الورد على الشنفرى بنموذج من الأدب الحديث يبرز أمامنا شوقي وحافظ إبراهيم، مع كل الفارق. يؤثر غالبية النقاد شوقي على حافظ بدون الاحتكام إلى المقاييس الفنية التي ترجع أيضاً لصالح شوقي، وذلك لأنه أمير الشعراء وشاعر الأمراء. مرد ذلك، بدون شك، إلى موقف طبقي واضح !! " ( انظر أ.ك لسميح القاسم، مجلد 7، ص 54 ).

وبغض النظر عن فهمي وفهم أنطون للمغزى من وراء تلك العبارة، إلاّ أن كلينا، ونقاداً آخرين أيضاً، رأينا أن القاسم يسقط هموم الحاضر على الشخوص التي يستحضرها من الماضي. ( ينظر أيضاً: سميح القاسم، أ.ك، مجلد 7، ص49، والمرجع نفسه دراسة مصطفى زين، ص71، وما بعدها، وتحديداً ص73 وص76 ).

وقد أكون وأنطون، يوم كتبنا ما كتبنا عن تلك الملاحظة ودلالاتها، رؤوفين بسميح، غير راغبين في إحراجه، حين لم نذكر اسم محمود درويش تحديداً. فالشاعران اللذان كتبا الشعر في الفترة نفسها، والتفت إليهما النقادُ بالقدر نفسه تقريباً في الستينيات من ق20، تفاوت مستواهما الشعري في السبعينيات، ما جعل النقاد يلتفتون إلى درويش أكثر من التفاتهم إلى سميح. ومن المؤكد أن ( سميح ) كان يدرك الفارق بين تجربته وتجربة محمود، فهو الذي ظل مقيماً في فلسطين لم يغادرها، لم يثقف نفسه، فالظروف والمعطيات التي غدت مهيأة لدرويش هي غير الظروف والمعطيات التي كانت مهيأة لسميح. عاش درويش في مصر وفي بيروت ونهل من الثقافة العربية، فيم ظل سميح محاصراً ثقافياً لا يقرأ إلا ما يصل إلى حيفا المحاصرة التي لا تتوفر فيها الكتب المتوفرة في العاصمتين المذكورتين: بيروت والقاهرة، عدا أن الأجواء الثقافية فيهما غير ما هي عليه في الرامة بلدة سميح أو في حيفا المدينة التي يعمل فيها.

وما سبق لا ينفي تأويلات النقاد المختلفة للقصيدة، فقد رأى هؤلاء فيها تعبيراً عن مأساة الفلسطيني بشكل عام، والفلسطيني المقيم تحت الحكم الإسرائيلي أيضاً ( انظر: أ.ك، مجلد 7، ص58، 59، وص 73، 74 ).

وكما ذكرت، كتب القاسم هذه القصيدة في العام 1981- الزمن الكتابي – ونشرها في العام نفسه في " الاتحاد " (25/12/1981) – زمن النشر -، وقد أنجزت عنها العديد من المقالات ( أنطون شلحت، مصطفى زين، عادل الأسطة )، ولما صدرت الأعمال الكاملة (1992) كان الشاعر قرأ مراجعات عديدة عنها، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية أنجز عنه، خلال السنوات العشرة – أي ما بين النشر الأول 1981 والنشر الثاني 1992، العديد من الدراسات، وربما شعر ببعض رضى ما جعله يسقط هذه الملاحظة. وربما يعود سبب إسقاطها أيضاً عائداً إلى أن العلاقة بين سميح ومحمود غدت أفضل مما كانت عليه يوم نشرها للمرة الأولى. فالعلاقة الجيدة التي ساءت لفترة، عادت تتحسن من جديد، والرسائل المتبادلة التي نشراها في أوساط الثمانينيات خير دليل على ذلك، وهي بالتأكيد مختلفة اختلافاً كلياً عن الرسائل التي كتباها في السبعينيات من ق20. وربما لاحظ سميح أيضاً أن تأويلات بعض النقاد لهذه العبارة تسيء إليه، وهكذا حذفها.

ما يشبه الخلاصة:

مما سبق يلاحظ أن الشاعر نفسه أقدم على حذف قصائد مما كتب، وأسقط مقاطع من قصائد، واستبدل كلمات بأخرى، لا لسبب جمالي، وإنما لأسباب أيديولوجية وسياسية في الغالب. وأكثر القصائد التي حذفها هي تلك التي كتبها يوم كان شيوعياً، وقد أقدم على حذفها بعد تركه الحزب وانهيار الاتحاد السوفييتي، وهي قصائد مجّد فيها الحزب و ( لينين )، ودعا فيها إلى وحدة الشعوب، وألقاها أمام الجماهير العربية ناطقاً باسم الحزب الشيوعي، محققاً من خلالها ما تدعو إليه الواقعية الاشتراكية: حزبية الأدب والأديب، وتوظيف الأدب لخدمة الشعب.

والذي يدفعني إلى الاعتقاد بما سبق أن الشاعر أبقى قصائد لا تختلف جمالياً عن تلك التي حذفها. ويبدو أن هناك تحولاً طرأ على تفكير الشاعر واكب تركه الحزب وأثر، من ثم، على كتابته، ويتمثل في ارتداد الشاعر إلى الماضي، لا جمالياً، فهذا حاصل لأن سميحاً لم يتخل عن كتابة القصيدة العمودية، بل إنه دافع عن كتابتها، وإنما فكرياً، وأظن أن التربية الدينية له كان لها إسهام كبير في هذا. وإذا كان، يوم غدا شيوعياً، غدا يقوم بدور النبي شعرياً، فكتب قصيدة عنوانها " ضوء جديد للقصر العتيق " يبشر فيها بعالم جديد، وتخلى عنها وحذفها من ط أ.ك، فإنه منذ بداية التسعينيات بدأ يكتب شعراً أشبه بالتمائم التي يتحوط بها المرضى ويكتبها لهم المشعوذون، وقد بلغ هذا ذروته في كتاب " الإدراك "(2000 ). لكأن كتاب الإدراك يعبر عن ردة فكرية كبيرة، ربما توجزها قصيدة " نكوص " التي نصها:

ثاب من وعكة المعجزات إلى رشده * إنه الآن
متزن عاقل * وهو يا سيّدي رجل ميت * رجل
ميت طيب القلب * لا حقد في صدره * لا غليل
على أحد من بني آدم * إنما لا يطيق البراكين
خامدة * لا يحب الزهور من الشمع * يا
سيدي إنه ميت فاضل * همه قوت أطفاله
ومناهج تدريسهم * ثاب من وعكة المعجزات
إلى شغلنا بصنوف الطعام وأزيائنا *
والتزامات زوجاتنا بالزيارات والإتيكيت
وأعياد ميلادنا * إنه ميت مخلص للتقاليد *
منضبط بالمواعيد * أخلاقه لا غبار عليها *
ويا سيدي إنّ صاحبنا مؤمن بالقضاء
ومعترف بالقدر
وهو يا سيدي جاهز للسفر
ميت جاهز للسفر
مثل كل البشر

من هو هذا الذي تمثله سميح ليكتب عنه؟ من هو هذا الذي عاد إلى رشده من وعكة المعجزات، هذا الذي لا يحب البراكين خامدة عاد ليشغلنا بصنوف الطعام وأزيائنا؟ أيكون هو سميحاً نفسه؟ أعبر الشاعر عن نفسه بضمير الغائب لأنه غاب عن عالمه الأول الذي أحبه، عالم البراكين والثورة، لأن العالم ذاك غادر أيضاً، وسميح صاحب " دخان البراكين " الثائر شاباً ما عاد يرى البراكين ثائرة، وإنما يراها الآن خامدة. وهل عاد سميح ليخلص للتقاليد ويعترف بالقدر، وها قد بلغ الخامسة والستين وأوشك – بعد عمر مديد – على السفر؟

عاد ســميح إلى ما ربي عليه في طفولته من إيمان بالقضاء والقدر، وعاد إلى طفولة أمته وأزمتها التي وصفت بعصور الانحطاط. وهناك غير دليل، وهو ما تقوله قصيدة " نكوص " التي ربما تعبر عن نكوص سميح.

الشاعر الذي كتب قصائد المقاومة يوم كانت هذه قوية، ويوم كان هو أيضاً شاباً وقوياً، غدا في الستين من عمره، وقد آلت المقاومة إلى بقايا مقاومة وسلطة حكم ذاتي، غدا يكتب قصائد عن الطعام واللباس، وينظّر لذلك. في آخر زياراته لبعض بلدان الخليج قرأ الشاعر قصائده الجديدة، ظاناً أن الجمهور لاتشغله إلا الترهات، فإذا به يفاجأ بأسئلة عن شعر المقاومة وسميح شاعر المقاومة.

والشـاعر الذي كتب قصائد الغضب والعنف ووجهها لجماهير مقموعة رأى فيها نفسه ( أنا أنتم، أنتم أنا )، غدا همه قوت أطفاله ومناهج تدريسهم، وهو يدرك هذا " إنه ميت فاضل "، وليس هذا حال سميح وحده، إنه حال أكثرنا منذ العام 1991، وربما قبل ذلك بقليل. وقد عبر سميح، ذات نهار، في ذلك التاريخ، عن خيبته، إذ انهارت المشاريع الثلاث التي عقد عليها آماله: المشروع القومي والمشروع الأممي والمشروع الوطني. وربما وجب أن نضيف: والمشروع الشخصي أيضاً.

انهارت المشاريع الكبيرة: القومي والأممي والوطني، وبلغ الشاعر الستين من العمر، فماذا بقي ؟ وهل يلام الشاعر حين يكتب قصائد جديدة تناسب المرحلة الجديدة؟

ولعلني أكون لامست ظاهرة الحذف والتغيير في أشعار القاسم، وإن كنت أجزم أنني لم أكتب كل شيء، وأن هناك هامشاً يمكن أن يخوض فيه آخرون.

انتهت

ملاحظة: أنجزت هذه الورقة للمشاركة في مؤتمر جامعة بيت لحم المخصص لدراسة الأدب الفلسطيني في الجليل، المؤتمر الذي سيعقد في 25 و 26/5/2006.

وقد تمت كتابتها في الأيام 20 و 21 و 22 و 23 و 24 و 25 / نيسان /2006.

***

6- سميح القاسم والتعاويذ المضادة للطائرات: الطفل أبو الرجل؟

في ١٩ من آب ٢٠١٤ توفي سميح القاسم، ومع مرور ٨ سنوات فإن أشعاره ما زالت موضع دراسة. آخر ما صدر عنها كان كتاب د. نبيل طنوس «سميح القاسم: شاعر الغضب النبوئي، دراسات وقصائد مختارة» (دار الرعاة، ٢٠٢٢). وفي الأعوام الأخيرة صدر للمؤلف نفسه كتابان آخران عن درويش «اقتفاء أثر الفراشة: دراسات في شعر محمود درويش» (مؤسسة محمود درويش، ٢٠١٩) وراشد حسين «ويسكنه المكان: دراسات وقصائد مختارة» (دار الرعاة ٢٠٢١ ).
كتاب د. طنوس عن سميح يقع في ١٩٨ صفحة نصفها الثاني قصائد مختارة لها صلة بالدراسات وقد جاءت أمثلة على اجتهادات الدارس وآرائه التي توصل إليها، وضم نصفها الأول أربع دراسات عناوينها «ثلاثية الانتماء في شعر سميح القاسم» و»سيرورة الانتماء في شعره بعد النكسة» و»الألم والأمل وما بينهما في قصيدة «تعالي لنرسم معا قوس قزح» و»الأساليب الفنية في قصيدة الانتفاضة (تقدموا)».
لم يحدد الدارس في مقدمة الكتاب المنهج الذي سار عليه ولم يكتب عن اختلاف دراساته عن دراسات السابقين، والجديد الذي أتى به، ويبدو أنه ترك هذا لقراء أشعار الشاعر ودارسيه ممن يتابعون الدراسات وممن سيقرؤون ما كتب. ويخيل إلي أن الدارس أفاد من بعض مصطلحات المنهج البنيوي الشكلاني «الثنائيات/ الثنائيات الضدية» ومن الجانب الإحصائي فيه «التكرار ونسبته وعدد القصائد التي تنتمي إلى دائرة» وبعض دراسات في علم النفس، كما أفاد من البلاغة العربية القديمة «الجناس التام والناقص».
وأنا أقرأ الكتاب، عدت أقرأ بعض قصائد سميح من جديد وخاصة قصيدتي «خطاب من سوق البطالة» و»التعاويذ المضادة للطائرات»؛ الأولى لأن البطالة بين أبناء الشعب الفلسطيني في ازدياد، ولأن الجدل حول المقاومة وجدواها وتضييق الاحتلال الإسرائيلي على الفلسطينيين المقاومين وغير المقاومين، من أجل الاستسلام ورفع الرايات البيض والإقرار بالهزيمة، ما زال محتدما، وأن هناك أصواتا ما زالت تقول «سأقاوم»، وهي الكلمة التي كررها الشاعر في قصيدته، والثانية، وهي الأهم لي هنا تتعلق بطفولة سميح وتأثيرها على مواقفه في العقود الثلاثة الأخيرة وبروزها في أشعاره وسيرته الذاتية «إنها مجرد منفضة».
في «التعاويذ المضادة للطائرات» يأتي أنا المتكلم «سميح» على ما حل بالفلسطينيين في العام ١٩٤٨ والهزيمة التي لحقت بجيش الإنقاذ وخيانات القيادة وعار الرجال وما علموه إياه في حينه:
«كنت طفلا، آنذاك..
علموني أن مجرى الأرض في كف السماء
علموني أنه، سبحانه، يحيي ويفني ما يشاء
علموني أن أطيع الأولياء
....
علموني الدجل والرقص على الحبل
وإذلال النساء
علموني السحر والإيمان والأشباح»
وعلموه أيضا الخوف إذا جاء المساء وأن فرس الخضر كفيل به وحسبه الفقهاء.
عندما صار أنا المتكلم شابا رأى في تعاليم القبيلة إرثا أورثه الهزيمة والذل فقذف به للشيطان، فخاطب والديه بالآتي:
«يا أبي المهزوم.. يا أمي الذليلة
أنني أرفضها تلك الطقوس الهمجية»
ولم يكتف بالرفض فلقد أراد اجتثاثها من جذرها فبصق أحقاده وعاره «في وجوه الأولياء الصالحين» وركل قاذورات ذله وانكساره للتكايا والدراويش وأقزام الكراسي النابحين!
هل ظل الشاعر بعد ثلاثين عاما على ما توصل إليه؟
في كتابه «سميح القاسم: مبدع لا يستأذن أحدا»(٢٠١٣) يتوقف نبيه القاسم أمام ظاهرة استلهام سميح للتراث الفاطمي بسبب اكتشافه حقائق كان يجهلها «وهي أنه يعود بانتمائه المذهبي إلى طوائف دينية، كان لها الباع الطويل في دفع الفكر العربي والفلسفة اليونانية والهندية والفارسية..» وأن سميح «يعود بانتمائه إلى أحد دعاة القرامطة الثوريين» (صفحة ١١٢)، ما يعني أنه اكتشف من منظور تقدمي ماركسي أن تعاليم القبيلة ليست كما رآها يوم نظم قصيدته، وأن ما تبرأ منه عاد إليه ونظر إليه نظرة جديدة مغايرة.
في العام ١٩٩٦، كتب سميح قصائد عنوانها «الإدراك» نشرها في مجلة «إضاءات» وأعاد نشرها في العام ٢٠٠٠ في كتاب عنوانه «الإدراك» (دار الأسوار/ عكا) والقصائد تقول لنا إن ما تعلمه في طفولته من تعاليم القبيلة ومن كلام الأولياء الصالحين ظل منقوشا في ذاكرته، ولا أعرف إن كان نظر أيضا إلى السحر والتعاويذ والأحاجي والألغاز كما نظر إلى الفاطميين والقرامطة الذين ثمن اليساريون ثوراتهم (بندلي جوزي، من تاريخ الحركات الفكرية الثورية في الإسلام، مثالا).
في سيرته «إنها مجرد منفضة» (٢٠١١ ) يتصالح في شخص سميح الديني والقومي والعلماني ويذكر أنه منذ مرحلة الطفولة لم يكن محايدا، فلا حيدة في جهنم. والمهم هنا تركيزه على مرحلة الطفولة، المرحلة التي تلقى فيها تعاليم القبيلة التي رفضها شابا، إذ سيعود كهلا إلى ما تعلمه في الطفولة وما اقتنع به شابا ناضجا بانتمائه إلى الحزب الشيوعي بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ ليعترف لنا بما دار في خلده - «ولا تثريب عليك» والعبارة له يخاطب نفسه - «أنه ليس من الاعتباطية إمكانية المؤاخاة، وفي صيغة عليا، بين جوهر الماركسية وخلاصة الدين...» (١٨٣).
هل كان هذا هو موقف سميح يوم انتمى للحزب بعد هزيمة حزيران وكتب على إثرها «التعاويذ المضادة للطائرات»؟.
أعتقد أن إعادة قراءة تجربة الشاعر في ضوء سيرته وفق منهج (أدموند ولسون) النفسي سيكون أمرا مجديا، ولطالما حثثت بعض طلابي على إنجاز ذلك، وأتمنى من الدكتور نبيل طنوس أن يحقق ذلك.
رأى الشاعر الإنجليزي (وردزوورث) أن الطفل أبو الرجل، وآمن جبرا إبراهيم جبرا بمقولته فكتب «البئر الأولى» في ١٩٨٦.

***
أعلى