(٣٥)
ما يزال طرد السيد عبداللطيف موضوعا بجانب السرير. حينما أراد السيد عمران بن يوسف أن يطفئ مصباح المنضدة لامس غلاف الطرد أو الظرف، استشعر حرارة كهربائية تسري في شرايينه. بحدسه كذلك استشعر فراغات منسية في اللقاء أو في قراءة مضمون هذه الصفحات. استوى من جديد مستندا على وسادتين بدل واحدة. مسح زجاج نظارتيه. أخذ في البداية سيرة وصورة الشهيد جبيهة رحال. تأمل ملخصها وحاول جعل علاقة بفحوى ما ناقشاه أو سبب اختيارها ضمن الرسالة. لاحظ أن صديقه قد جعل خطّاً تحت فقرة معينة:
(في يوم 15 أكتوبر من العام 1979 ستفقد الحركة الماركسية – اللينينية المغربية واحدا من خيرة أبناء الطبقة العاملة والشعب المغربي.
وقد استشهد المناضل العمالي الماركسي- اللينيني البارز جبيهة رحال خلال محاولة للهروب من المستشفى(مستشفى ابن سينا بالرباط) بغية استئناف عمله الثوري خارج السجن. لقد وهب رحال حياته لتستمر شعلة النضال والمقاومة للنظام متقدة، تنير درب اليسار الثوري. هكذا سقط الصقر الأحمر في خندق النضال شامخا في صمود وعزة وكبرياء ليلتحق بقافلة شهداء الحرية بأبطالها وملاحمها الخالدة. لقد أدى مهمته التاريخية مبدعا في العطاء ووهب روحه بكل سخاء، سخاء الثوريين العظام)).
يستلقي عمران بن يوسف على ظهره. ينزع الوسادة من تحت عنقه إذ يشعر بتشنج رقبة فوقها. تظل عيناه جاحظتان إلى أعلى حيث انعكاس ضوء المنضدة هندسيا في شكل صحن مستطيل. يفتح داخل مجاله الضوئي المنعكس ذاكرة الأحداث الماضية. سنة 1979 وشهر أكتوبر، كانت الجماعة المعتقلة قد نُقِلتْ إلى جبال الأطلس. مات بعضهم خلال التعذيب. انقطعت أخبار البعض الآخر. هي بداية رحلة عذاب. الطقس القاري الذي بدأ يزحف ببرودة على فصل الخريف ثم فصل الشتاء. بداية انتقال الآلام من خارج الجسد إلى مفاصله وأحشائه. تحتبس دمعة عفوية على جانب مقلة العين اليسرى. يداعبها في الاستمالة فتتدحرج لتستقر وتنسكب فوق الوسادة. آثار دمع على الشراشيف. بقعة مبللة ومالحة. رائحة منسية من زمن الرصاص. دمعة مقتطعة من سكرات الموت المؤجلة. منبّه سابق لأوانه. هل تريد الموت ندائي ودعوتي إلى خُلدها؟
استنشق هواء مفعما بالسؤال الأخير. وهذا الحنين النكوصي الداعي للراحة الأبدية. رحلة الوجود السرابية الخادعة. الحاجة إلى الهناء المطلق. هذه الذات المنهكة والمتعبة. هذا الفراغ الكبير الذي هو الهوية الحقوقية الكلية المتبقية. هذا الانسلاخ للذات عن شجرتها الكبرى كفرع يابس منهك ومعدَم الخلايا والحياة، تساقطت أوراقه وأغصانه فما عاد سوى خشب بل حطب معَدٍّ ومنتظر للاتقاد.
يتقلب برأسه جهة اليمين. أوراق أخرى تدعوه لإعادة التصفح: ما تزال عندك مهمات يا عمران في هذه الحياة قبل الممات، ولو كانت للحظات، فعليك أن تقرأ هذا التقرير من جديد والمشكّل من 67 صفحة.
و كأنه روح جنية انتظرت اختلاءه بنفسه وانعزالها وذهاب من يملؤون حيز حياتها الاجتماعية، تريد أن تسكنه في لياليه الانفرادية المنسية. آهٍ. لا أحد يعلَم بأن عمران بن يوسف يعيش حيوات داخل واحدة. وأقساها تلك المعتزلة لاجتماعه وعاطفته. بنَت عالمَهَا غرفُ الاعتقال والزنزانات الباردة والرطبة، وروائحها القاتلة ببطء والخالية من كل عطر إنعاش. إنه فراغ الجحيم الذي أدى ثمنه من أجل حرية منفلتة عن التحقق.
(( الحرية سراب منفلت. كلما حاولتُ القبض على أفقه تبخر وراقص أوهامي وضحك ساخرا من يقيني فابتعد مسافة وهمٍ جديد وظمإٍ مُجْهِدٍ جديد.
الحرية ! حلوى أغلال توقع الطفل الساكن فينا في تغرير الاشتهاء وحلاوة المذاق.
الحرية، كمال منعدم، وعدم مكتمل في نهاية السباق.
يسألونك عن الحرية، قل هي راحة خلاص في نهاية السباق.)).
خطَّ هذه السطور على ظهر ورقة من ملف السيد عبداللطيف باهوش. أطفأ نور المصباح وخلُدَ لنوم عميق ربما كان مؤجّلا منذ الأزل، ينتظر هذه اللحظة في توقيع بيان الفصل بين الحياة والموت.
للغد، بعث بما كتب وما أضافه كملاحظات للممثلة المسرحية والفنانة صباح، كذا لمخرج المسرحية المنبعثة من رماد الزمن النورسي ( سيرة نورس ). ربما هي البيان الأخير والفصل الأخير الذي سيتضمن رحلة النورس في البحث عن الحرية والتخلص من أغلال الأقفاص.
سيتلقى بعد أيامٍ ردّاً إلكترونيا يتضمن تصوّرا لمشهد جديد ينضاف إلى المسرحية دائما. يقترح عليه المخرج السيد عزيز زكرياء مشهد أقفاص. واحد وسط الآخر بعدد مشاهد وفصول المسرحية. هذه المرة سيكون حضور نورس حقيقي من لحم ودم وريش ونداء. وحيث يظن الإنسان أنه الوحيد من لحم ودم. أنه الوحيد الذي تكون النفس والحياة عزيزة عليه. سيبدأ المشهد بمحاكمة المخرج. هذا الأخير سيتحول إلى المسؤول عن النكبات والاعتقالات وأقفاص الحياة. سيد الاختناق. هكذا سيتم نداؤه وتسميته فوق الخشبة.
ربما عاش ويعيش السيد عمران مناخ المشاهد بشعور وإحساس حقيقيين في حياته اليومية والمعيشية. ربما يكون الصعود فوق الخشبة مجرد تنفيس لضغط حمولتها.
لم يعدْ يدري في لحظاتٍ أيُّهما الحقيقي من المجازي، مسرح الحياة أم حياة المسرح. يؤجّل الحسم في الجواب على السؤال ويترك لصفحات التقرير ال67 ترك وقعها وأثرها في قراءته لها كيفما تشاء.
سينتظر مرور فصل الخريف والشتاء. سينتظر حتى شهر يونيو في الحقيقة لكي يعود لنفض الغبار عن كل هذا الوقع. وخلال هذه المدة كانت الحياة تأخذ شكلا من أشكالها المبتغاة قدرا واجتماعا وثقافة وأدبا وفنًّا وحياة.
حسن إمامي / المغرب
ما يزال طرد السيد عبداللطيف موضوعا بجانب السرير. حينما أراد السيد عمران بن يوسف أن يطفئ مصباح المنضدة لامس غلاف الطرد أو الظرف، استشعر حرارة كهربائية تسري في شرايينه. بحدسه كذلك استشعر فراغات منسية في اللقاء أو في قراءة مضمون هذه الصفحات. استوى من جديد مستندا على وسادتين بدل واحدة. مسح زجاج نظارتيه. أخذ في البداية سيرة وصورة الشهيد جبيهة رحال. تأمل ملخصها وحاول جعل علاقة بفحوى ما ناقشاه أو سبب اختيارها ضمن الرسالة. لاحظ أن صديقه قد جعل خطّاً تحت فقرة معينة:
(في يوم 15 أكتوبر من العام 1979 ستفقد الحركة الماركسية – اللينينية المغربية واحدا من خيرة أبناء الطبقة العاملة والشعب المغربي.
وقد استشهد المناضل العمالي الماركسي- اللينيني البارز جبيهة رحال خلال محاولة للهروب من المستشفى(مستشفى ابن سينا بالرباط) بغية استئناف عمله الثوري خارج السجن. لقد وهب رحال حياته لتستمر شعلة النضال والمقاومة للنظام متقدة، تنير درب اليسار الثوري. هكذا سقط الصقر الأحمر في خندق النضال شامخا في صمود وعزة وكبرياء ليلتحق بقافلة شهداء الحرية بأبطالها وملاحمها الخالدة. لقد أدى مهمته التاريخية مبدعا في العطاء ووهب روحه بكل سخاء، سخاء الثوريين العظام)).
يستلقي عمران بن يوسف على ظهره. ينزع الوسادة من تحت عنقه إذ يشعر بتشنج رقبة فوقها. تظل عيناه جاحظتان إلى أعلى حيث انعكاس ضوء المنضدة هندسيا في شكل صحن مستطيل. يفتح داخل مجاله الضوئي المنعكس ذاكرة الأحداث الماضية. سنة 1979 وشهر أكتوبر، كانت الجماعة المعتقلة قد نُقِلتْ إلى جبال الأطلس. مات بعضهم خلال التعذيب. انقطعت أخبار البعض الآخر. هي بداية رحلة عذاب. الطقس القاري الذي بدأ يزحف ببرودة على فصل الخريف ثم فصل الشتاء. بداية انتقال الآلام من خارج الجسد إلى مفاصله وأحشائه. تحتبس دمعة عفوية على جانب مقلة العين اليسرى. يداعبها في الاستمالة فتتدحرج لتستقر وتنسكب فوق الوسادة. آثار دمع على الشراشيف. بقعة مبللة ومالحة. رائحة منسية من زمن الرصاص. دمعة مقتطعة من سكرات الموت المؤجلة. منبّه سابق لأوانه. هل تريد الموت ندائي ودعوتي إلى خُلدها؟
استنشق هواء مفعما بالسؤال الأخير. وهذا الحنين النكوصي الداعي للراحة الأبدية. رحلة الوجود السرابية الخادعة. الحاجة إلى الهناء المطلق. هذه الذات المنهكة والمتعبة. هذا الفراغ الكبير الذي هو الهوية الحقوقية الكلية المتبقية. هذا الانسلاخ للذات عن شجرتها الكبرى كفرع يابس منهك ومعدَم الخلايا والحياة، تساقطت أوراقه وأغصانه فما عاد سوى خشب بل حطب معَدٍّ ومنتظر للاتقاد.
يتقلب برأسه جهة اليمين. أوراق أخرى تدعوه لإعادة التصفح: ما تزال عندك مهمات يا عمران في هذه الحياة قبل الممات، ولو كانت للحظات، فعليك أن تقرأ هذا التقرير من جديد والمشكّل من 67 صفحة.
و كأنه روح جنية انتظرت اختلاءه بنفسه وانعزالها وذهاب من يملؤون حيز حياتها الاجتماعية، تريد أن تسكنه في لياليه الانفرادية المنسية. آهٍ. لا أحد يعلَم بأن عمران بن يوسف يعيش حيوات داخل واحدة. وأقساها تلك المعتزلة لاجتماعه وعاطفته. بنَت عالمَهَا غرفُ الاعتقال والزنزانات الباردة والرطبة، وروائحها القاتلة ببطء والخالية من كل عطر إنعاش. إنه فراغ الجحيم الذي أدى ثمنه من أجل حرية منفلتة عن التحقق.
(( الحرية سراب منفلت. كلما حاولتُ القبض على أفقه تبخر وراقص أوهامي وضحك ساخرا من يقيني فابتعد مسافة وهمٍ جديد وظمإٍ مُجْهِدٍ جديد.
الحرية ! حلوى أغلال توقع الطفل الساكن فينا في تغرير الاشتهاء وحلاوة المذاق.
الحرية، كمال منعدم، وعدم مكتمل في نهاية السباق.
يسألونك عن الحرية، قل هي راحة خلاص في نهاية السباق.)).
خطَّ هذه السطور على ظهر ورقة من ملف السيد عبداللطيف باهوش. أطفأ نور المصباح وخلُدَ لنوم عميق ربما كان مؤجّلا منذ الأزل، ينتظر هذه اللحظة في توقيع بيان الفصل بين الحياة والموت.
للغد، بعث بما كتب وما أضافه كملاحظات للممثلة المسرحية والفنانة صباح، كذا لمخرج المسرحية المنبعثة من رماد الزمن النورسي ( سيرة نورس ). ربما هي البيان الأخير والفصل الأخير الذي سيتضمن رحلة النورس في البحث عن الحرية والتخلص من أغلال الأقفاص.
سيتلقى بعد أيامٍ ردّاً إلكترونيا يتضمن تصوّرا لمشهد جديد ينضاف إلى المسرحية دائما. يقترح عليه المخرج السيد عزيز زكرياء مشهد أقفاص. واحد وسط الآخر بعدد مشاهد وفصول المسرحية. هذه المرة سيكون حضور نورس حقيقي من لحم ودم وريش ونداء. وحيث يظن الإنسان أنه الوحيد من لحم ودم. أنه الوحيد الذي تكون النفس والحياة عزيزة عليه. سيبدأ المشهد بمحاكمة المخرج. هذا الأخير سيتحول إلى المسؤول عن النكبات والاعتقالات وأقفاص الحياة. سيد الاختناق. هكذا سيتم نداؤه وتسميته فوق الخشبة.
ربما عاش ويعيش السيد عمران مناخ المشاهد بشعور وإحساس حقيقيين في حياته اليومية والمعيشية. ربما يكون الصعود فوق الخشبة مجرد تنفيس لضغط حمولتها.
لم يعدْ يدري في لحظاتٍ أيُّهما الحقيقي من المجازي، مسرح الحياة أم حياة المسرح. يؤجّل الحسم في الجواب على السؤال ويترك لصفحات التقرير ال67 ترك وقعها وأثرها في قراءته لها كيفما تشاء.
سينتظر مرور فصل الخريف والشتاء. سينتظر حتى شهر يونيو في الحقيقة لكي يعود لنفض الغبار عن كل هذا الوقع. وخلال هذه المدة كانت الحياة تأخذ شكلا من أشكالها المبتغاة قدرا واجتماعا وثقافة وأدبا وفنًّا وحياة.
حسن إمامي / المغرب