(١)
انقشعت عن عقلي ظلمات الحيدة، والبعد عن حركة الأحداث، ومعتركات الحياة التي لم يكن لي بها شأن ، ولم يكن ببالي لها ذكر عقب التحاقي بالجامعة في أوئل تسعينات القرن الماضي أو قبل ذلك بقليل ، وكان ذلك راجعا لنشأتي الهادئة التي لا تبرح المحيط العائلي والأسري إلا في رحلتي الشتاء والصيف من وإلى الإسكندرية ، ولم أسع لممارسة أي نشاط رياضي كان أم اجتماعي - وإن كنت قد حاولت - كسر حالة الصمت التي غلفت حياتي دون القدرة على الفكاك منها ، فقد خلت حياتي الأولى من الأصدقاء والأتراب إلا من واحد تعلقت به تعلقا شديدا ، حتى بات رفيق طفولتي الوحيد ، لقربه المكاني والزماني مني ، ولصلة القرابة التي قربتنا زمنا ، وباعدت بيننا زمنا آخر ، ولكن ظلت المحبة في قلوبنا مغروسة رغم فعل الأفاعيل إنه ابن عمي الحبيب (محمد أحمد مصيلحي).
****
(٢)
بعد حصولي على الثانوية العامة ( القسم الأدبي ) وليت وجهي - عن قصد - شطر كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ، وبدأت أعي المكان والمكانة التي وصلت إليها ، وأنا جالس بأحد مدرجات الكلية ، وأمام أكبر الأساتذة علما ومكانة ، تذكرت حينها مقولة أمير المؤمنين عمربن الخطاب ( بخٍ بخٍ ياعمر ) عند توليه خلافة المسلمين ، فقلتها لنفسي ( بخٍ بخٍ ياحاتم ) .
ومنذ تلك اللحظة وعيت المسؤلية التي ألقيت على عاتقي ، ومن خلالها بدأ التعامل معي داخل أسرتي ، والمجتمع المحيط بي ، وقد أحدثت هذه النقلة في حياتي تغيرا في طريقة فكري ، واتساع مداركي الحسية والعقلية وإن شابها شيء من التزمت غير المتعمد في بداية الأمر إلا أن الاعتدال ومحاولة الفهم العميق للأشياء كان سمة أساسية وأصيلة لأفكاري وآرائي ، بفضل التربية التي نشأت عليها أسريا وعلميا ، وكان أول من لفت انتباهي إلي موهبتي الأدبية أستاذي الدكتور علي الجندي (رحمه الله) في إحدى محاضراته في الأدب الجاهلي بقوله: (يابني إن لديك موهبة أدبية، فاقرأ كثيراً) ومنذ ذلك الحين أخذت أقرأ الكتب وأحرص على اقتنائها، وصادف ذلك مشروع الدولة الكبير (مهرجان القراءة للجميع) ونشر الأعمال الأدبية والفكرية والدينية والعلمية، فأسهم ذلك إسهاما فاعلا في تثقيفي ،وانتقاء ماأقرأ.
****
(٣)
بدأت أخطو أولى خطواتي في طريق الكتابة الاحترافية ، وبدأت مقالاتي تنشر على نطاق ضيق ، اتسع مع الوقت مع مراعاة عمق ما أكتب ، وقادني هذا الطريق إلي الصحافة ، وقد استطعت تكوين مصادر صحفية وشرعت في عمل التحقيقات ، وتنظيم الندوات الثقافية التي يغلب عليها الطابع الديني ، ولكني اكتشفت فيما بعد سوء الوسط الذي تعاملت معه من الصحفيين ولا أريد أن أعمم حكمي على الصحفيين والصحافة بوجه عام - ففي كل مجال رجاله الشرفاء -ووجدت نفسي قد تحولت إلى آلة تسجيل أمينة لما يقوله العلماء والمفكرون فكرهت ذلك ، ولم ابتعد كثيرا عن الوسط بل ظللت أكتب وأعرض لأحدث اصدارات الكتب لبعض الأساتذة الذين تعرفت عليهم من خلال عملي الصحفي فلاقت استحسانهم ، وتوج ذلك بكتابي ( عاشق المخطوطات) بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور كرم أمين أبوكرم ، خبير التراث والمخطوطات وأحد المؤثرين في حياتي الفكرية .
تخرجت في كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ، وقد حصلت على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية وقد تخلفت عن ركب الزملاء والأصدقاء الأعزاء ولم أنل التقدير الذي يؤهلني لأن أكون في يوم ما أستاذا في الكلية ، لانشغالي بما لم ينشغلوا به ولم يشغلوا أنفسهم به ، ورغم ذلك شعرت بالفرحة الغامرة ، وانفكاك عقالي وقيدي لأنطلق إلى عالم الفكر والثقافة ، ولكن سرعان ما صدمت بالواقع المرير حيث لا مكان لأمثالي من غير ذوي الخبرة ، فكل مدرسة أتقدم إليها تشترط الخبرة ، وباتت الخبرة عائقا بيني وبين الالتحاق بأي عمل يتناسب ومؤهلي الدراسي ، وظلت رحلة البحث مستمرة عن عمل يضمن لي الاستمرار في مواصلة طموحاتي الفكرية والبحثية ، بعد أن تبددت أحلامي في العمل بالصحافة ، أو بالتراث والمخطوطات...... ولم يبق أمامي سوى العمل بالتدريس.
****
(٤)
وبعد رحلة بحث مضنية بين الإدارات التعليمية وفقت للعمل بمدرسة مشتهر الإعدادية بنين بــ (الحصة) وبالفعل أُعطيت جدول لغة عربية وتربية دينية إسلامية للشهادة الإعدادية ، وبعد أيام قليلة وجدت أن مستحقات أمثالي تصرف في نهاية الفصل الدراسي ، وكنت وقتئذ طالب دبلوم خاص دراسات إسلامية بالكلية ، فرفضت هذا العبث وتحميل والدي (رحمه الله) مصروفاتي الدراسية (كطالب) ، والمدرسية ( كمعلم ) ثم وفقت فيما بعد إلى مدارس السلام الخاصة (النيل الإنجيلي) ببنها بعد اختبارات لتحديد المستوى ، ثم دورة في التربوي وإدارة الوقت وورش عمل عقدتها المدرسة لإعداد المدرسين الجدد ، والتي كانت في رأيي ضربا من التنظيم البحت الذي لا يحمل في ثناياه أي فائدة مرجوة، ولكني تحملت على مضض هذه الدورة التي استمرت حوالى أربعة أيام ، ثم جاء موعد المقابلة مع السيد مدير المدارس بحضور المشرفين والوكلاء ، وفور جلوسي أمامه سألني عن السبب في عدم حصولي على أعلى درجة في التربوي ، فكان ردي ، يا أستاذ: "إن التربية ليست نصوصا تُحفظ أو عناصر تدون ، ولكن التربية فلسفة حياة ومعايشة وطريقة يتبعها المعلم مع تلاميذه ، فهي عملية اجتهادية بحتة ، ولا يستطيع المعلم أن يطبق في فصل بأكمله نسقا تربويا معينا" وعن سؤاله وكيف يمكنني أن أقيمك؟ فأجبت، بأن تزورني داخل الفصل الذي سأقوم بالتدريس له ، وسيتبين لك صدق ما أقول ، وانتهى اللقاء بمزحة سخيفة وهو سؤاله عن أي نوع من السجائر أدخن؟ فأجبته بأنني لم أدخن في حياتي. وتم قبولي مدرسا بالمدرسة.
****
(٥)
وفي تلك الأثناء كان والدي ( رحمه الله ) بالإسكندرية يقضي أيامه الأخيرة في الدنيا ومن حسن حظي أني قضيت طرفا منها معه، وأثناء تواجدي معه انخفضت نسبة الهيموجلوبين عنده إلى (٤.٦) وهذا مؤشر خطر ، وكان لزاما عليه أن يدخل المستشفى لإجراء نقل الدم المعتاد ، وبالفعل دخل المستشفى ورقد على سريره رقدته الأخيرة دون أن يدري أو ندري ، وتركته وسافرت إلى بنها لاستلام مهام عملي بالمدرسة المذكورة آنفا... وفي أثناء تواجدي بمقر إقامتي انبئت بتدهور حالة والدي الصحية ، وضرورة الحضور لرؤيته ، ومن ثم دب القلق في قلبي ووجدت نفسي أبكي مستشعرا نهاية أبي ، فهرعت إلى محطة القطار متوجها إلى الإسكندرية وإلى المستشفى حيث والدي الذي هش وبش لرؤيتي لقربي إلى قلبه ، ولكنني فوجئت بتأخر حالته الصحية رغم أنني ما تركته إلا ليوم واحد فقط ، فسألته ماذا حدث؟ فرد قائلا : حالتي تدهورت يابني ، فحاولت طمأنته قائلا ما هي إلا جرعات من أكياس الدم وتصبح سالما معافى إن شاء الله ، وظللت ساهرا إلى جواره إلى أن انتصف الليل فاستأذنته لبعض شأني فأذن لي وكان يرافقه أخي الأصغر .
وعند وصولي إلى البيت فوجئت بأخي الأصغر يخبرني عبر الهاتف أن والدي يقيء دما ، فأسرعت بالعودة إلى المستشفى فوجدت الأطباء من حوله يجرون له عملية غسيل معدة لاستخراج الدم المتبقي بمعدته حتى لا يحدث له تسمما ورغم ذلك وجدته يقول لي: ما الذي أتى بك ثانية؟ فقلت له لمجرد الاطمئنان عليك ، ومنذ ذلك الحين أيقنت أن والدي يقضي نحبه ولكنني لم أخبر أحدا بذلك ... وفي اليوم التالي تعدد القيء الدموي وتكرر وما أن حان المساء تركته على أن أعود إليه في اليوم التالي وسلمت عليه السلام الأخير وعدت إلى بنها.
****
(٦)
وفي صبيحة يوم السبت الموافق ٢٠٠٣/٩/٢٠ - ٢٣ من شهر رجب الفرد ١٤٢٤ه ذهبت إلى المدرسة ، وفور وصولي إليها ، توالت علي المكالمات الهاتفية من أخواي تخبرني بسوء حالة والدنا وخطورتها ، وهذا يستوجب حضوري بأقصى سرعة ممكنة ، فاستأذنت السيد مدير المدارس بحجة أن والدي يحتضر ، وحاول الرجل إبعاد هذه الفكرة عن ذهني
ثم أذن لي على أن أعود صباح الإثنين ، وبعد وصولي محطة القطار بدقائق معدودة جاءتني أصعب مكالمة هاتفية في حياتي معلنة وفاة والدي (رحمة الله تعالى عليه) في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحا ، وعندئذ وقفت قليلا أبكي وأواري دموعي تارة ، ومحاولا التجلد تارة أخرى ، وكان قراري بالذهاب إلي (كفر الزيات) لتحضير مراسم الدفن وخلافه اعمالا بوصيته ، وبالفعل وصل جثمانه في عربة مجهزة لحمل الموتى برفقة أخي الأصغر ( محمد) وشقيق والدي عمي الحاج (أحمد) أمام الجامع السهلي مع أذان العصر أو قبله بدقائق معدودة ، ثم صليت عليه صلاة الجنازة، ثم شيعت جنازته إلى مقره الأخير بمقابر الأسرة فتذكرت حينئذ مرثية أبي العلاء المعري لوالده فرددتها:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماح المنايا قادرات على الطعن
مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى
وسهد المنى ، والجيب والذيل والردن
فياليت شعري هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
مع الناس أم يأبى الزحام فيستأنى
وأذكر أنه بعد أن انفض المشيعون من حولي وعدت إلى بنها لممارسة مهام عملي مساء يوم الأحد - اليوم التالي لوفاة أبي - بكيته بكاء حارا لم ابكه في حياتي وظللت أدعو له ومازلت بالمغفرة وحسن المآب.
****
(٧)
عدت إلى المدرسة بنفس يملؤها الحزن على فراق والدي ، الذي كان لي خير معين وخير نصير بعد الله سبحانه وتعالى ، وكان لقائي بزملائي المدرسين وتلاميذي عاملا مساعدا على تجاوز هذه المحنة.
ولكم عانيت في هذه المدرسة من سلوكيات الطلاب غير السوية ، وتدليل الإدارة للطلاب بطريقة مستفزة ، ونصرتهم ولو على حساب المدرس، ولقد شاهدت بعيني رأسي الكثير والكثير من الحوادث التي أسفت لها، فالتلميذ دائما على حق بحجة أنه ابن فلان بك أو فلان باشا ، وإنه بمصروفاته المدرسية العالية قد تحكم في مصائر العاملين في تلك المدرسة ، وما على المدرس - على حد قول ناظر المدرسة - ( أن يربط الحمار مكان ما يقول صاحبه ) حتى صارت تلك الكلمات مثلا أتندر به عليهم ، وأسأل أين الحمار كي أربطه ؟!
وظللت في هذه المدرسة محافظا ولست متحفظا ، أعمل بجد حتى صرت مضرب المثل بين زملائي والمشرفين والموجهين في الالتزام والقوة ، وقد حدث مع مرور الوقت ألفة بيني وبين تلاميذي بفضل اجتهادي معهم وتشجيعي إياهم بالجوائز والحوافز ، ولعلهم لمسوا ذلك الجهد مني فأحبوني ... ومرت الأيام ، وانقضى الفصل الدراسي الأول ، وأعدت المدرسة عدتها لعقد الامتحان ، وكان ذلك إيذانا بتسريح المدرسين الجدد تسريحا جميلا على أن يعودوا قبل بداية الفصل الدراسي الثاني بيومين لأخذ جداولهم ، وكنت بالفعل في حاجة لهذه الإجازة لأرتاح من الإجهاد الفظيع الذي عانيته ، ولكنه كان إجهادا مقرونا بلذة الثمرة الحسية التي كنت أجنيها في نتيجة تلاميذي وقوة استيعابهم وتفوقهم ، أما الثمرة المادية فهي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولكن حسبي الله ونعم الوكيل.
****
(٨)
اكتب عن ذلك كله في وقت مبكر من حياتي ، وقد يظنه البعض ضربا من الفراغ وإضاعة الوقت ، أقول لمَ ، وللتجارب الإنسانية وقع طيب على نفوس قارئيها ولاسيما إن كانت لأقرب الناس إليهم ، أكتب هذه الشذرات وأنا في بداية العقد الثالث من عمري - عند كتابتها - أقف عند مفارق الطريق المحيرة، التمس طريقا خاليا من التعاريج والالتواءات والصعوبات التي لا محالة واردها، ولكني أمد بصري نحو تلك الطرق غير عابئ بسراب أراه هنا أو هناك ، وإن كان السراب في بعض الأحيان يبعث الأمل في نفوس الحيارى ، فيساعدهم على مواصلةالحياة، والصبر على تبعاتها ، اكتب تلك الذكريات والتجارب ولا أدري كم من عمري بقي ، ولازلت وحيدا أفكر في أمر مستقبل غير ظاهر المعالم ، أحاول رسم بعض خطوطه التي ما إن رسمت بعضها وحددت طولها وعرضها ماتلبث أن تندرس بفعل عوامل القضاء والقدر ، وما قدمته بانوراما سريعة لتلك السنوات القليلة الماضية ، لكن متى وأين وكيف كانت البداية؟
****
انقشعت عن عقلي ظلمات الحيدة، والبعد عن حركة الأحداث، ومعتركات الحياة التي لم يكن لي بها شأن ، ولم يكن ببالي لها ذكر عقب التحاقي بالجامعة في أوئل تسعينات القرن الماضي أو قبل ذلك بقليل ، وكان ذلك راجعا لنشأتي الهادئة التي لا تبرح المحيط العائلي والأسري إلا في رحلتي الشتاء والصيف من وإلى الإسكندرية ، ولم أسع لممارسة أي نشاط رياضي كان أم اجتماعي - وإن كنت قد حاولت - كسر حالة الصمت التي غلفت حياتي دون القدرة على الفكاك منها ، فقد خلت حياتي الأولى من الأصدقاء والأتراب إلا من واحد تعلقت به تعلقا شديدا ، حتى بات رفيق طفولتي الوحيد ، لقربه المكاني والزماني مني ، ولصلة القرابة التي قربتنا زمنا ، وباعدت بيننا زمنا آخر ، ولكن ظلت المحبة في قلوبنا مغروسة رغم فعل الأفاعيل إنه ابن عمي الحبيب (محمد أحمد مصيلحي).
****
(٢)
بعد حصولي على الثانوية العامة ( القسم الأدبي ) وليت وجهي - عن قصد - شطر كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ، وبدأت أعي المكان والمكانة التي وصلت إليها ، وأنا جالس بأحد مدرجات الكلية ، وأمام أكبر الأساتذة علما ومكانة ، تذكرت حينها مقولة أمير المؤمنين عمربن الخطاب ( بخٍ بخٍ ياعمر ) عند توليه خلافة المسلمين ، فقلتها لنفسي ( بخٍ بخٍ ياحاتم ) .
ومنذ تلك اللحظة وعيت المسؤلية التي ألقيت على عاتقي ، ومن خلالها بدأ التعامل معي داخل أسرتي ، والمجتمع المحيط بي ، وقد أحدثت هذه النقلة في حياتي تغيرا في طريقة فكري ، واتساع مداركي الحسية والعقلية وإن شابها شيء من التزمت غير المتعمد في بداية الأمر إلا أن الاعتدال ومحاولة الفهم العميق للأشياء كان سمة أساسية وأصيلة لأفكاري وآرائي ، بفضل التربية التي نشأت عليها أسريا وعلميا ، وكان أول من لفت انتباهي إلي موهبتي الأدبية أستاذي الدكتور علي الجندي (رحمه الله) في إحدى محاضراته في الأدب الجاهلي بقوله: (يابني إن لديك موهبة أدبية، فاقرأ كثيراً) ومنذ ذلك الحين أخذت أقرأ الكتب وأحرص على اقتنائها، وصادف ذلك مشروع الدولة الكبير (مهرجان القراءة للجميع) ونشر الأعمال الأدبية والفكرية والدينية والعلمية، فأسهم ذلك إسهاما فاعلا في تثقيفي ،وانتقاء ماأقرأ.
****
(٣)
بدأت أخطو أولى خطواتي في طريق الكتابة الاحترافية ، وبدأت مقالاتي تنشر على نطاق ضيق ، اتسع مع الوقت مع مراعاة عمق ما أكتب ، وقادني هذا الطريق إلي الصحافة ، وقد استطعت تكوين مصادر صحفية وشرعت في عمل التحقيقات ، وتنظيم الندوات الثقافية التي يغلب عليها الطابع الديني ، ولكني اكتشفت فيما بعد سوء الوسط الذي تعاملت معه من الصحفيين ولا أريد أن أعمم حكمي على الصحفيين والصحافة بوجه عام - ففي كل مجال رجاله الشرفاء -ووجدت نفسي قد تحولت إلى آلة تسجيل أمينة لما يقوله العلماء والمفكرون فكرهت ذلك ، ولم ابتعد كثيرا عن الوسط بل ظللت أكتب وأعرض لأحدث اصدارات الكتب لبعض الأساتذة الذين تعرفت عليهم من خلال عملي الصحفي فلاقت استحسانهم ، وتوج ذلك بكتابي ( عاشق المخطوطات) بالاشتراك مع الأستاذ الدكتور كرم أمين أبوكرم ، خبير التراث والمخطوطات وأحد المؤثرين في حياتي الفكرية .
تخرجت في كلية دار العلوم - جامعة القاهرة ، وقد حصلت على درجة الليسانس في اللغة العربية وآدابها والعلوم الإسلامية وقد تخلفت عن ركب الزملاء والأصدقاء الأعزاء ولم أنل التقدير الذي يؤهلني لأن أكون في يوم ما أستاذا في الكلية ، لانشغالي بما لم ينشغلوا به ولم يشغلوا أنفسهم به ، ورغم ذلك شعرت بالفرحة الغامرة ، وانفكاك عقالي وقيدي لأنطلق إلى عالم الفكر والثقافة ، ولكن سرعان ما صدمت بالواقع المرير حيث لا مكان لأمثالي من غير ذوي الخبرة ، فكل مدرسة أتقدم إليها تشترط الخبرة ، وباتت الخبرة عائقا بيني وبين الالتحاق بأي عمل يتناسب ومؤهلي الدراسي ، وظلت رحلة البحث مستمرة عن عمل يضمن لي الاستمرار في مواصلة طموحاتي الفكرية والبحثية ، بعد أن تبددت أحلامي في العمل بالصحافة ، أو بالتراث والمخطوطات...... ولم يبق أمامي سوى العمل بالتدريس.
****
(٤)
وبعد رحلة بحث مضنية بين الإدارات التعليمية وفقت للعمل بمدرسة مشتهر الإعدادية بنين بــ (الحصة) وبالفعل أُعطيت جدول لغة عربية وتربية دينية إسلامية للشهادة الإعدادية ، وبعد أيام قليلة وجدت أن مستحقات أمثالي تصرف في نهاية الفصل الدراسي ، وكنت وقتئذ طالب دبلوم خاص دراسات إسلامية بالكلية ، فرفضت هذا العبث وتحميل والدي (رحمه الله) مصروفاتي الدراسية (كطالب) ، والمدرسية ( كمعلم ) ثم وفقت فيما بعد إلى مدارس السلام الخاصة (النيل الإنجيلي) ببنها بعد اختبارات لتحديد المستوى ، ثم دورة في التربوي وإدارة الوقت وورش عمل عقدتها المدرسة لإعداد المدرسين الجدد ، والتي كانت في رأيي ضربا من التنظيم البحت الذي لا يحمل في ثناياه أي فائدة مرجوة، ولكني تحملت على مضض هذه الدورة التي استمرت حوالى أربعة أيام ، ثم جاء موعد المقابلة مع السيد مدير المدارس بحضور المشرفين والوكلاء ، وفور جلوسي أمامه سألني عن السبب في عدم حصولي على أعلى درجة في التربوي ، فكان ردي ، يا أستاذ: "إن التربية ليست نصوصا تُحفظ أو عناصر تدون ، ولكن التربية فلسفة حياة ومعايشة وطريقة يتبعها المعلم مع تلاميذه ، فهي عملية اجتهادية بحتة ، ولا يستطيع المعلم أن يطبق في فصل بأكمله نسقا تربويا معينا" وعن سؤاله وكيف يمكنني أن أقيمك؟ فأجبت، بأن تزورني داخل الفصل الذي سأقوم بالتدريس له ، وسيتبين لك صدق ما أقول ، وانتهى اللقاء بمزحة سخيفة وهو سؤاله عن أي نوع من السجائر أدخن؟ فأجبته بأنني لم أدخن في حياتي. وتم قبولي مدرسا بالمدرسة.
****
(٥)
وفي تلك الأثناء كان والدي ( رحمه الله ) بالإسكندرية يقضي أيامه الأخيرة في الدنيا ومن حسن حظي أني قضيت طرفا منها معه، وأثناء تواجدي معه انخفضت نسبة الهيموجلوبين عنده إلى (٤.٦) وهذا مؤشر خطر ، وكان لزاما عليه أن يدخل المستشفى لإجراء نقل الدم المعتاد ، وبالفعل دخل المستشفى ورقد على سريره رقدته الأخيرة دون أن يدري أو ندري ، وتركته وسافرت إلى بنها لاستلام مهام عملي بالمدرسة المذكورة آنفا... وفي أثناء تواجدي بمقر إقامتي انبئت بتدهور حالة والدي الصحية ، وضرورة الحضور لرؤيته ، ومن ثم دب القلق في قلبي ووجدت نفسي أبكي مستشعرا نهاية أبي ، فهرعت إلى محطة القطار متوجها إلى الإسكندرية وإلى المستشفى حيث والدي الذي هش وبش لرؤيتي لقربي إلى قلبه ، ولكنني فوجئت بتأخر حالته الصحية رغم أنني ما تركته إلا ليوم واحد فقط ، فسألته ماذا حدث؟ فرد قائلا : حالتي تدهورت يابني ، فحاولت طمأنته قائلا ما هي إلا جرعات من أكياس الدم وتصبح سالما معافى إن شاء الله ، وظللت ساهرا إلى جواره إلى أن انتصف الليل فاستأذنته لبعض شأني فأذن لي وكان يرافقه أخي الأصغر .
وعند وصولي إلى البيت فوجئت بأخي الأصغر يخبرني عبر الهاتف أن والدي يقيء دما ، فأسرعت بالعودة إلى المستشفى فوجدت الأطباء من حوله يجرون له عملية غسيل معدة لاستخراج الدم المتبقي بمعدته حتى لا يحدث له تسمما ورغم ذلك وجدته يقول لي: ما الذي أتى بك ثانية؟ فقلت له لمجرد الاطمئنان عليك ، ومنذ ذلك الحين أيقنت أن والدي يقضي نحبه ولكنني لم أخبر أحدا بذلك ... وفي اليوم التالي تعدد القيء الدموي وتكرر وما أن حان المساء تركته على أن أعود إليه في اليوم التالي وسلمت عليه السلام الأخير وعدت إلى بنها.
****
(٦)
وفي صبيحة يوم السبت الموافق ٢٠٠٣/٩/٢٠ - ٢٣ من شهر رجب الفرد ١٤٢٤ه ذهبت إلى المدرسة ، وفور وصولي إليها ، توالت علي المكالمات الهاتفية من أخواي تخبرني بسوء حالة والدنا وخطورتها ، وهذا يستوجب حضوري بأقصى سرعة ممكنة ، فاستأذنت السيد مدير المدارس بحجة أن والدي يحتضر ، وحاول الرجل إبعاد هذه الفكرة عن ذهني
ثم أذن لي على أن أعود صباح الإثنين ، وبعد وصولي محطة القطار بدقائق معدودة جاءتني أصعب مكالمة هاتفية في حياتي معلنة وفاة والدي (رحمة الله تعالى عليه) في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحا ، وعندئذ وقفت قليلا أبكي وأواري دموعي تارة ، ومحاولا التجلد تارة أخرى ، وكان قراري بالذهاب إلي (كفر الزيات) لتحضير مراسم الدفن وخلافه اعمالا بوصيته ، وبالفعل وصل جثمانه في عربة مجهزة لحمل الموتى برفقة أخي الأصغر ( محمد) وشقيق والدي عمي الحاج (أحمد) أمام الجامع السهلي مع أذان العصر أو قبله بدقائق معدودة ، ثم صليت عليه صلاة الجنازة، ثم شيعت جنازته إلى مقره الأخير بمقابر الأسرة فتذكرت حينئذ مرثية أبي العلاء المعري لوالده فرددتها:
أبي حكمت فيه الليالي ولم تزل
رماح المنايا قادرات على الطعن
مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى
وسهد المنى ، والجيب والذيل والردن
فياليت شعري هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
مع الناس أم يأبى الزحام فيستأنى
وأذكر أنه بعد أن انفض المشيعون من حولي وعدت إلى بنها لممارسة مهام عملي مساء يوم الأحد - اليوم التالي لوفاة أبي - بكيته بكاء حارا لم ابكه في حياتي وظللت أدعو له ومازلت بالمغفرة وحسن المآب.
****
(٧)
عدت إلى المدرسة بنفس يملؤها الحزن على فراق والدي ، الذي كان لي خير معين وخير نصير بعد الله سبحانه وتعالى ، وكان لقائي بزملائي المدرسين وتلاميذي عاملا مساعدا على تجاوز هذه المحنة.
ولكم عانيت في هذه المدرسة من سلوكيات الطلاب غير السوية ، وتدليل الإدارة للطلاب بطريقة مستفزة ، ونصرتهم ولو على حساب المدرس، ولقد شاهدت بعيني رأسي الكثير والكثير من الحوادث التي أسفت لها، فالتلميذ دائما على حق بحجة أنه ابن فلان بك أو فلان باشا ، وإنه بمصروفاته المدرسية العالية قد تحكم في مصائر العاملين في تلك المدرسة ، وما على المدرس - على حد قول ناظر المدرسة - ( أن يربط الحمار مكان ما يقول صاحبه ) حتى صارت تلك الكلمات مثلا أتندر به عليهم ، وأسأل أين الحمار كي أربطه ؟!
وظللت في هذه المدرسة محافظا ولست متحفظا ، أعمل بجد حتى صرت مضرب المثل بين زملائي والمشرفين والموجهين في الالتزام والقوة ، وقد حدث مع مرور الوقت ألفة بيني وبين تلاميذي بفضل اجتهادي معهم وتشجيعي إياهم بالجوائز والحوافز ، ولعلهم لمسوا ذلك الجهد مني فأحبوني ... ومرت الأيام ، وانقضى الفصل الدراسي الأول ، وأعدت المدرسة عدتها لعقد الامتحان ، وكان ذلك إيذانا بتسريح المدرسين الجدد تسريحا جميلا على أن يعودوا قبل بداية الفصل الدراسي الثاني بيومين لأخذ جداولهم ، وكنت بالفعل في حاجة لهذه الإجازة لأرتاح من الإجهاد الفظيع الذي عانيته ، ولكنه كان إجهادا مقرونا بلذة الثمرة الحسية التي كنت أجنيها في نتيجة تلاميذي وقوة استيعابهم وتفوقهم ، أما الثمرة المادية فهي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولكن حسبي الله ونعم الوكيل.
****
(٨)
اكتب عن ذلك كله في وقت مبكر من حياتي ، وقد يظنه البعض ضربا من الفراغ وإضاعة الوقت ، أقول لمَ ، وللتجارب الإنسانية وقع طيب على نفوس قارئيها ولاسيما إن كانت لأقرب الناس إليهم ، أكتب هذه الشذرات وأنا في بداية العقد الثالث من عمري - عند كتابتها - أقف عند مفارق الطريق المحيرة، التمس طريقا خاليا من التعاريج والالتواءات والصعوبات التي لا محالة واردها، ولكني أمد بصري نحو تلك الطرق غير عابئ بسراب أراه هنا أو هناك ، وإن كان السراب في بعض الأحيان يبعث الأمل في نفوس الحيارى ، فيساعدهم على مواصلةالحياة، والصبر على تبعاتها ، اكتب تلك الذكريات والتجارب ولا أدري كم من عمري بقي ، ولازلت وحيدا أفكر في أمر مستقبل غير ظاهر المعالم ، أحاول رسم بعض خطوطه التي ما إن رسمت بعضها وحددت طولها وعرضها ماتلبث أن تندرس بفعل عوامل القضاء والقدر ، وما قدمته بانوراما سريعة لتلك السنوات القليلة الماضية ، لكن متى وأين وكيف كانت البداية؟
****