يمتح القاص نصوصه من الواقع المغربي في مختلف تجلياته، دون أن يعني ذلك نقله بشكل مباشر، بل من خلال تقليب تربته بحثا عن المخفي والمستتر وراء ركام من الأوهام التي تصنعها الفئة المتنفذة قصد إبعاد لحظة الوعي التي تهدد وجودها.
نصوص ترصد مظاهر البؤس والتخلف التي تسهر القوى المتحكمة في زمام الأمور على تعميمها، لإدامة هيمنتها وسيطرتها على العباد. ومن هذا المنطلق تحديدا، اكتسبت نصوص القاص جمكار طابعها الأيديولوجي بصورة جد تلقائية، انعكس بشكل مباشر على مضامينها المنتصرة للإنسان، والمتمردة على كل التجاوزات القمعية والاستغلالية.1_ رشيد المومني: شعريات مصابة بعدوى التماهي. جريدة القدس.
من خلال قصص مجموعة "غيوم الصباح" يمكن القول: إن القاص قد تميز بالوفاء والإخلاص لضمير شعبه، المتطلع إلى قيم الحرية والعدالة والتغيير.
وقد طبع العمل بالطابع النقدي المشبع بالنزعة الإنسانية إلى تصور أسس المجتمع الإنساني الجديد، الذي ينتفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالقضاء على جميع مظاهر الاستغلال، وتستند فكرة المجتمع الجديد على فكرة إيديولوجية تقوم بالأساس على تصور شكل مثالي للجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع ما للمجتمع المغربي بخاصة، والعربي بعامة. 2_ سوسيولوجيا المجتمع الجديد ( رؤية نقدية )
حسام الدين فياض . الحوار المتمدن.
إن القاص وهو يكتب قصصه المنددة بالظلم والمبشرة بعالم عادل كان مدركا أن اللحظة الراهنة تتميز بغياب الوعي القادر على تحريك الهمم، لذا نجده يراهن على المستقبل لتحقيق الهدف المنشود. هكذا، نجده يركز على عنصرين لتحقيق هذه القفزة؛ وهما، المرأة والأطفال. بالرغم من أنهما طرفان مهمشان في المجتمع، لا يعتد بهما، وينظر إليهما نظرة تنقيصية إن لم تكن تحقيرية. كما هو جلي في أول قصة للمجموعة والتي تحمل عنوان المجموعة ككل "غيوم الصباح" ص9. فرغم دور عائشة الواضح في دحر المحتل الغاشم، إلا أن نظرة الرجال لها كانت تحقيرية تدعو إلى محاربتها باعتماد دليل تافه لتحقيق هذه البغية، وجدوه حين اتخذت المرأة جروا أنيسا. وهو سلوك رفضه أغلبية سكان المنطقة معتبرينه سلوك نحس ينذر بخطر داهم للمكان والسكان.
وقد توزعت المجموعة ثلاثة أزمنة: الماضي الذي حضر بصورة جميلة تعبر عن تصور القاص له حيث تميز بالعدل والمساواة؛ ولعل استدعاء رمزين من رموزه كفيل للتدليل على هذا التصور. فعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز قد تم توظيفهما للتعبير عن انحطاط اللحظة الراهنة.
الحاضر الموشوم بالظلم والطغيان وسلب الحقوق.
المستقبل المحلوم به والذي سيمكن من تحقيق المجتمع العادل.
ولعل هذه النظرة التفاؤلية هي التي حذت بالقاص الكبير أحمد بوزفور في تقديمه إلى وسم العمل بميسم الواقعية الرومانسية. ولنقل الواقعية الحالمة. فما زاد الظلم إلا استفحالا رغم مرور ثلاثة عقود على كتابة المجموعة.
صحيح أن نهاية بعض القصص تحمل طابع التفاؤل في انتصار المستقبل الجميل على الحاضر القبيح، لكن القاص في نهاية أخرى بين أن تحقيق ذلك مازال بعيد المنال، يحتاج إلى إنضاج شروط التغيير بتحرير الوعي المغيب حتى اللحظة الراهنة. وستكون المرأة هي فاعل هذا الإنضاج، كما ورد في قصة "فاطمة" ص67 التي كانت تكتب بالفحم انتقاداتها وترسم معالم الخروج. لذا، تمت مطاردتها حتى تتأبد اللحظة الراهنة لصالح الطبقة الحاكمة.
ولم تطارد لوحدها بل تمت مطاردة كل من يحمل هم الوطن من أمثال الرسام والشاعر والمعلم الحاملين لهموم الشعب وطبقته المسحوقة، ويسعون إلى تخليصه من براثن الظلم والفساد كما في قصة "وليغتب بعضكم بعضا إلى حين" ص 53 حيث وردت الفقرة الأخيرة مكثفة تعبر عن رؤية القاص للواقع الحالي، يقول السارد:
وكالعادة، استمرت الأعناق تتدلى في أرض الحصى والحجارة وراء الحلزون، ووراء الرسام الهارب خطوات "المقدمين" تلاحقه، والشاعر يبكي قصيدته الممزقة، وأدمغة الرجال ترفسها أقدام "الشيخات" المأجورات، والرجال يستزيدون الكثير من الرفس حتى الاستمناء والعيون الشاخصة على الجدار تبحث عن محاجر بجماجم جديدة، وإلى ذلك الحين فليغتب بعضكم بعضا. ص 58.
فالفقرة تظهر صراعا بين وعيين؛ وعي مزيف تؤبده شيخات مأجورات، هدفهن جعل وعي الناس يبقى منحصرا في الجنس، ووعي نقدي يروم تعرية الظلم وقبله توعية الناس بفداحة الجري وراء شهوات الجنس المتجدد جوعه، ونسيان القهر المسلط على الرقاب، والاستغلال الهادف إلى تنميط الناس وتزييف
وعيهم ومن ثم استغلالهم وجعلهم يتقبلون برضا وضعهم المنحط، ويقفون بالتالي ضد مصالحهم.
على مستوى الكتابة:
لقد كان القاص، كما قال أحمد بوزفور في تقديمه للأعمال القصصية الكاملة للمبدع جمكار:
حريصا خلال مساره الفني_ القصير للأسف_ على الإخلاص لفن الكتابة وهو يعبر عن الناس، وعن الإخلاص للناس وهو يبحث في الفن ويجرب. ص5.
ومن تجليات هذا البحث الفني، استثماره للفن المسرحي حوارا وإرشادات مسرحية كما نجد ذلك واضحا في قصة "الالتقاء" ص25 حيث نجد الحوار مرفقا بتعابير إرشادية تشي بمشاعر الشخصيات أو فعلها، أو حركتها، كما في هذا المثال:
وقالت الثانية بتأفف:
_ كان اسمها جملا، {وتنهدت، ومشت عيناها إلى وجوه الرجال الحزينة}.
توظيف الحجاج كآلية لإقناع المتحاورين، ومن بعدهم القراء، كما في قصة "غيوم الصباح" فبعد رد الرجل على الجماعة التي تبغي شرا بعائشة، الذي قال:
لستم في مستوى ما أعطته عائشة للقرية، وها أنتم الآن تتهمونها بالجنون.
تأتي قصة عائشة وهي تصارع العدو المحتل، بمثابة حجة دامغة تبطل حجج الجماعة، وتزري بها، وتضعها في موقف محرج.
فضلا عن توظيف شخصيات من الماضي بكل حمولتها الرمزية لخلق تضاد بين زمانها وزماننا راسمة مفارقة صارخة تدين الظلم والفساد.
وقد كتبت قصص المجموعة بلغة سليمة ذات حمولة رمزية في بعض الجوانب التي تستدعي الرمز والإيحاء بدل التقرير.
لقد كان جمكار قاصا واقعيا، كتابته، كما أشار لذلك أحمد بوزفور في تقديمه، واقعية بالبؤس الذي تصوره، بالفقر والتخلف..بالأحياء الشعبية والناس البسطاء وحياتهم..معتمدا في ذلك لغة بسيطة وواضحة، ولكن الفصيحة والسليمة..
وكان في كتابته يسعى للبحث عن كتابة مختلفة وعن أسلوب آخر لم يستعمل، ولم تكن بينه وبين ذلك المسعى إلا ليال قلائل، وكانت مجموعته الأخيرة "سرير الأحزان" تحمل بعض مؤشراته.
**
*_ الأعمال القصصية الكاملة، البشير جمكار، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ضمن سلسلة الوفاء رقم 3 .ط الأولى، سنة 2015.
نصوص ترصد مظاهر البؤس والتخلف التي تسهر القوى المتحكمة في زمام الأمور على تعميمها، لإدامة هيمنتها وسيطرتها على العباد. ومن هذا المنطلق تحديدا، اكتسبت نصوص القاص جمكار طابعها الأيديولوجي بصورة جد تلقائية، انعكس بشكل مباشر على مضامينها المنتصرة للإنسان، والمتمردة على كل التجاوزات القمعية والاستغلالية.1_ رشيد المومني: شعريات مصابة بعدوى التماهي. جريدة القدس.
من خلال قصص مجموعة "غيوم الصباح" يمكن القول: إن القاص قد تميز بالوفاء والإخلاص لضمير شعبه، المتطلع إلى قيم الحرية والعدالة والتغيير.
وقد طبع العمل بالطابع النقدي المشبع بالنزعة الإنسانية إلى تصور أسس المجتمع الإنساني الجديد، الذي ينتفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالقضاء على جميع مظاهر الاستغلال، وتستند فكرة المجتمع الجديد على فكرة إيديولوجية تقوم بالأساس على تصور شكل مثالي للجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمجتمع ما للمجتمع المغربي بخاصة، والعربي بعامة. 2_ سوسيولوجيا المجتمع الجديد ( رؤية نقدية )
حسام الدين فياض . الحوار المتمدن.
إن القاص وهو يكتب قصصه المنددة بالظلم والمبشرة بعالم عادل كان مدركا أن اللحظة الراهنة تتميز بغياب الوعي القادر على تحريك الهمم، لذا نجده يراهن على المستقبل لتحقيق الهدف المنشود. هكذا، نجده يركز على عنصرين لتحقيق هذه القفزة؛ وهما، المرأة والأطفال. بالرغم من أنهما طرفان مهمشان في المجتمع، لا يعتد بهما، وينظر إليهما نظرة تنقيصية إن لم تكن تحقيرية. كما هو جلي في أول قصة للمجموعة والتي تحمل عنوان المجموعة ككل "غيوم الصباح" ص9. فرغم دور عائشة الواضح في دحر المحتل الغاشم، إلا أن نظرة الرجال لها كانت تحقيرية تدعو إلى محاربتها باعتماد دليل تافه لتحقيق هذه البغية، وجدوه حين اتخذت المرأة جروا أنيسا. وهو سلوك رفضه أغلبية سكان المنطقة معتبرينه سلوك نحس ينذر بخطر داهم للمكان والسكان.
وقد توزعت المجموعة ثلاثة أزمنة: الماضي الذي حضر بصورة جميلة تعبر عن تصور القاص له حيث تميز بالعدل والمساواة؛ ولعل استدعاء رمزين من رموزه كفيل للتدليل على هذا التصور. فعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز قد تم توظيفهما للتعبير عن انحطاط اللحظة الراهنة.
الحاضر الموشوم بالظلم والطغيان وسلب الحقوق.
المستقبل المحلوم به والذي سيمكن من تحقيق المجتمع العادل.
ولعل هذه النظرة التفاؤلية هي التي حذت بالقاص الكبير أحمد بوزفور في تقديمه إلى وسم العمل بميسم الواقعية الرومانسية. ولنقل الواقعية الحالمة. فما زاد الظلم إلا استفحالا رغم مرور ثلاثة عقود على كتابة المجموعة.
صحيح أن نهاية بعض القصص تحمل طابع التفاؤل في انتصار المستقبل الجميل على الحاضر القبيح، لكن القاص في نهاية أخرى بين أن تحقيق ذلك مازال بعيد المنال، يحتاج إلى إنضاج شروط التغيير بتحرير الوعي المغيب حتى اللحظة الراهنة. وستكون المرأة هي فاعل هذا الإنضاج، كما ورد في قصة "فاطمة" ص67 التي كانت تكتب بالفحم انتقاداتها وترسم معالم الخروج. لذا، تمت مطاردتها حتى تتأبد اللحظة الراهنة لصالح الطبقة الحاكمة.
ولم تطارد لوحدها بل تمت مطاردة كل من يحمل هم الوطن من أمثال الرسام والشاعر والمعلم الحاملين لهموم الشعب وطبقته المسحوقة، ويسعون إلى تخليصه من براثن الظلم والفساد كما في قصة "وليغتب بعضكم بعضا إلى حين" ص 53 حيث وردت الفقرة الأخيرة مكثفة تعبر عن رؤية القاص للواقع الحالي، يقول السارد:
وكالعادة، استمرت الأعناق تتدلى في أرض الحصى والحجارة وراء الحلزون، ووراء الرسام الهارب خطوات "المقدمين" تلاحقه، والشاعر يبكي قصيدته الممزقة، وأدمغة الرجال ترفسها أقدام "الشيخات" المأجورات، والرجال يستزيدون الكثير من الرفس حتى الاستمناء والعيون الشاخصة على الجدار تبحث عن محاجر بجماجم جديدة، وإلى ذلك الحين فليغتب بعضكم بعضا. ص 58.
فالفقرة تظهر صراعا بين وعيين؛ وعي مزيف تؤبده شيخات مأجورات، هدفهن جعل وعي الناس يبقى منحصرا في الجنس، ووعي نقدي يروم تعرية الظلم وقبله توعية الناس بفداحة الجري وراء شهوات الجنس المتجدد جوعه، ونسيان القهر المسلط على الرقاب، والاستغلال الهادف إلى تنميط الناس وتزييف
وعيهم ومن ثم استغلالهم وجعلهم يتقبلون برضا وضعهم المنحط، ويقفون بالتالي ضد مصالحهم.
على مستوى الكتابة:
لقد كان القاص، كما قال أحمد بوزفور في تقديمه للأعمال القصصية الكاملة للمبدع جمكار:
حريصا خلال مساره الفني_ القصير للأسف_ على الإخلاص لفن الكتابة وهو يعبر عن الناس، وعن الإخلاص للناس وهو يبحث في الفن ويجرب. ص5.
ومن تجليات هذا البحث الفني، استثماره للفن المسرحي حوارا وإرشادات مسرحية كما نجد ذلك واضحا في قصة "الالتقاء" ص25 حيث نجد الحوار مرفقا بتعابير إرشادية تشي بمشاعر الشخصيات أو فعلها، أو حركتها، كما في هذا المثال:
وقالت الثانية بتأفف:
_ كان اسمها جملا، {وتنهدت، ومشت عيناها إلى وجوه الرجال الحزينة}.
توظيف الحجاج كآلية لإقناع المتحاورين، ومن بعدهم القراء، كما في قصة "غيوم الصباح" فبعد رد الرجل على الجماعة التي تبغي شرا بعائشة، الذي قال:
لستم في مستوى ما أعطته عائشة للقرية، وها أنتم الآن تتهمونها بالجنون.
تأتي قصة عائشة وهي تصارع العدو المحتل، بمثابة حجة دامغة تبطل حجج الجماعة، وتزري بها، وتضعها في موقف محرج.
فضلا عن توظيف شخصيات من الماضي بكل حمولتها الرمزية لخلق تضاد بين زمانها وزماننا راسمة مفارقة صارخة تدين الظلم والفساد.
وقد كتبت قصص المجموعة بلغة سليمة ذات حمولة رمزية في بعض الجوانب التي تستدعي الرمز والإيحاء بدل التقرير.
لقد كان جمكار قاصا واقعيا، كتابته، كما أشار لذلك أحمد بوزفور في تقديمه، واقعية بالبؤس الذي تصوره، بالفقر والتخلف..بالأحياء الشعبية والناس البسطاء وحياتهم..معتمدا في ذلك لغة بسيطة وواضحة، ولكن الفصيحة والسليمة..
وكان في كتابته يسعى للبحث عن كتابة مختلفة وعن أسلوب آخر لم يستعمل، ولم تكن بينه وبين ذلك المسعى إلا ليال قلائل، وكانت مجموعته الأخيرة "سرير الأحزان" تحمل بعض مؤشراته.
**
*_ الأعمال القصصية الكاملة، البشير جمكار، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ضمن سلسلة الوفاء رقم 3 .ط الأولى، سنة 2015.
