د. خالد محمد عبدالغني - "الوتد" لـخيري شلبي.. قراءة نفسية

مدخل "من الذاتية إلى الموضوعية"
إن تاريخ الإنسان والنفس يموج بالذاتية...يبتعد.. يقترب من الموضوعية، لكنه أبداً يستحيل أن يتخطى شطآنها – ذاك إن بلغها – إلى الإبحار في خضمها..الأمر الذي يذكرنا بعبارة ريلكه "الشجرة التي تسيطر على الذات تمنح نفسها الشكل الذي يزيل مخاطر الريح". فلو أضفنا إلى ذلك أن ما يصدر عن الشعور ليس غير علم بنتائج الجهل.. فربما كان هذا وعياً بذاتية تحاول أن تتخطى المألوف(1). لذا...ذاتيٌ أنا فيما سأقوم به من شروع في القراءة إلى أقصى درجات الذاتية..لأنني حينئذ سأكون في أقصى درجات الموضوعية تلك التي ينظر إليها كثير من الباحثين نظرة افتتان وتقديس، وينظرون إلى الذاتية نظرة منكرة ونافرة. فيقيناً أن الذاتية في أكمل صورها.. وأصدق هيئتها..وأتم معانيها هي التي تجعلنا نرى "الموضوع" في أنصع موضوعيته.. وأدقّ استقلاليته.. وأتم وحدته..لأن أصدق من يبصر الزهرة من حيث هي "موضوع" هو عاشقها، وهو في الآن نفسه أبعد مدركيها عن الموضوعية..وأقرب مقربيها إلى الذاتية بما هي ذاتية ناضجة تتكون عند الباحث العلمي عندما يعرف لكل شيء في منهج العلم أسلوبه؛ وقدره وقدرته، ومداه وحدوده، ونقصه وقوته، سواء أكان في جانب الموضوعية أم في جانب الذاتية، عندئذ يتلاقى ما هو ذاتي مع ما هو موضوعي فتكون الذاتية الناضجة، أو البصيرة العلمية فقد جمعني حب كبير مع الأديب الكبير وشيخ الحكاءين خيري شلبي وقد التقينا عدة مرات من أجل انجاز حوار حول تجربته الإبداعية الطويلة ولكن يد القدر كانت أسبق إليه فلم أتلقى إجاباته على أسئلة الحوار(2).
اللغة في التحليل النفسي
كان ميلاد التحليل النفسي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين معلماً من معالم تطور علوم الإنسان في سعيها نحو فهم أعمق وأشمل وأصدق لظاهرات الوجود الإنساني، وقد أتاح ذلك أن ينفذ التحليل النفسي الى جوهر الوجود الانساني بما هو كذلك ويتمثل في بعدين متعامدين هما بعد المعنى وبعد العلاقة فأما العلاقة فتظهر في كون الانسان أنس ومؤانسة، وجود في حضرة الاخرين، إنه وجود مع آخر، أو كما يذهب هيدجر وجود "في" العالم، عالم البشر في المقام الأول ثم عالم الأشياء وقد أضفى عليها الوجود البشري عمقا ومعنى بشريا ومن هنا يقال: الأنا هو الآخر، إذ لا وجود للأنا إلا بآخر يتعرف على نفسه من خلاله ويتحقق من الوجود بقدر ما ينال من اعتراف الآخر بهذا الوجود، وهذه العلاقة تتحقق من خلال التواصل والحوار وهكذا يأتي دور اللغة أياً كانت أشكالها وأياً كانت مستوياتها، أداة لهذا التواصل والحوار، بدءاً من الإيماءة أو الإشارة بالجسم أو بعضو منه وصولا إلى أرقى أشكال التعبير اللغوي والشعري(3). فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فهو يتعلم عن طريق التنشئة الاجتماعية الأنساق التعبيرية وتكوين الإرادة، لذلك فهو وجود في حضرة الآخرين سواءٌ أعرض عنهم أو أقبل عليهم، فهم أبداً مرآة وجوده، وهذا الوجود يكون غفلاً لا يتحقق إلا باعترافهم(4)، ولعل هذا ما دفع جاك لاكان إلى لقول بأن الميلاد الحقيقي للإنسان إنما يكون في الآخرين، ومنهم يستمد الشعور واللاشعور معاً(5). ويؤكد ذلك المعنى جون ماكموري بقوله:" إن وجود الآخرين ضروري لكي يدرك الإنسان وجوده الحقيقي"(6) .
التحليل النفسي البنيوي للأدب
مع جاك لاكان لم يعد التحليل النفسي للأدب مجرد كشف عن الصراعات النفسية أو العقد التقليدية في عمل أدبي ما بقدر ما عليه أن يوضح وأن يصف لغة العقل الباطن الرمزية وما لها من خصائص أصيلة، وأن الظاهرة النفسية والدال قد انعتقا من البيولوجيا لتدخل إلى عالم السيميولوجيا–علم المعاني– فالعمل الأدبي أصبح يمثل الخطاب الشرعي للظاهرة النفسية، وإن التحليل اللاكاني- نسبة الى جاك لاكان– للأدب قد تأسس وفقا لبنية ذلك الخطاب من خلال التفسير البنيوي للإستعارة والكناية، تلك التي تمثل اللعب البشري من خلال الرمز أو العلامة حيث تستعيد الذات بنيتها عبر بنية اللغة بدءاً وعودة، وعودة وبدءاً في علاقة توسطية بين وجهي الظاهرة النفسية وهما الشعور و اللاشعور، وعلاقة توسطية بين وجهي اللغة وهما الدال والمدلول ليصل إلى نتيجة مؤداها أن المرسل يتلقى من المستقبل الرسالة التي أرسلها إليه في شكل معكوس وأن الرسالة دائما تصل إلى مقصدها(7).
بيننا
في أحد أيام الصيف القائظ من عام 2010 وبعد ندوة أدبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب كان اللقاء الأول حيث وقف الأستاذ خيري شلبي في ساحة الهيئة وأمام الباب الرئيسي من الداخل فاقتربت منه - متجاوزاً كل الحدود الممكنة والخوف المترسب في أعماقي فأنا أعرفه صورة مرئية وكلمة مكتوبة ومسموعة عبر وسائل الإعلام المختلفة - وسلمت عليه ولم أستطع القول إلا الجملة التالية " لقد قرأت لكم كثيراً وتابعتكم في وسائل الإعلام وأحب أن أكتب عنكم ولكن ينقصني مكان النشر". وانصرف وعدت سعيداً لأكمل قراءة الدساس وفرعان من الصبار والخراز وغيرها ، دون البدء في كتابة شيئ محدد، وعلى الفور وبلا تردد قررت أن رواية الوتد هي ما أحب أن أكتب عنها، ولعل ترحيبي بها بعد التأمل في الذات يعود لأنني شاهدت وعشت تفاصيل الكثير من أحداث وشخصيات هذه الرواية بحكم نشأتي وحياتي في الريف منذ ميلادى وحتى الآن فكنت يوماً الراوي وأياماً أخرى كنت الشيخ طلبه، ورأيت في بيوت القرية َمنْ تقاطع في شخصيته تماماً مع شخصيات الرواية سواء من الرجال أو النساء.
وفي الملتقى الدولي الخامس للرواية بدار الأوبرا في 11 ديسمبر 2010 كان اللقاء الثاني وسألته عن روايته الوتد "هل فكرتم في أن تكون رواية الوتد رواية أجيال تُنَظِرُ فيها للأمومة (الماتريركية) Matriarchy وقانونها القديم كما فعل نجيب محفوظ في الثلاثية فرأينا تَنْظِيرَه للأبوة (البطريركية) Patriarchy وعلاقتها بأسس العائلة الناجحة المترابطة كما يراها علم النفس الحديث وهل في خيالكم شيء عن فنيات العلاج النفسي وبخاصة التحليل النفسي مثلما فعلت شهرزاد في ليالي ألف ليلة وليلة ؟ فأجاب لا. ولكن كل ما قصدته هو أن أعبر عن نموذج المرأة المصرية في الريف وصحيح أن الرواية فيها بعض الواقع والخبرة الذاتية.
وفي مقهى المجلس الاعلى للثقافة في منتصف يناير 2011 إلتقيته ظهراً لاجراء حوار حول تجربته الابداعية فقال " إني متعب... أعطني الاسئلة وسأرد عليها عندما تتحسن حالتي " . وفي ليلة 25 يناير 2011 وخلال حفل تأبين الناقد الراحل فاروق عبد القادر بالمجلس الأعلى للثقافة قلت له : " لا تنس سيادتكم الحوار " فرد "لا تخف". وكان السلام والتحية والابتسامة آخر ما بيننا.
وفي الدراسة الحالية محاولة للإجابة عن التساؤلات السابقة وبيان ما يتعلق منها بالجوانب النفسية. وقبل ذلك سنعرض لبعض الجوانب الأدبية في سيرة حياة خيري شلبي لما تمثله من ثراء فهو الروائي والمسرحي والناقد والباحث الفني والكاتب الإذاعي والسيناريست والصحفي.
خيري شلبي روائياً
من مواليد 31 يناير 1938. بقرية شباس عمير، مركز قلين، محافظة كفر الشيخ. حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1980- 1981 وحاصل على وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1980 – 1981. حاصل على جائزة أفضل رواية عربية عن رواية "وكالة عطية" 1993 . حاصل على الجائزة الأولى لإتحاد الكتاب للتفوق عام 2002. حاصل على جائزة ميدالية نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن رواية "وكالة عطية" 2003. حاصل على جائزة أفضل كتاب عربى من معرض القاهرة للكتاب عن رواية "صهاريج اللؤلؤ" 2002.حاصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب ‏2005‏ . رشحته مؤسسة "إمباسادورز" الكندية للحصول على جائزة نوبل للآداب. من أشهر رواياته : السنيورة، الأوباش، الشطار، الوتد، العراوى، فرعان من الصبار، وكالة عطية، موال البيات والنوم، ثلاثية الأمالى (أولنا ولد - وثانينا الكومى - وثالثنا الورق)، بغلة العرش، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، صالح هيصة، موت عباءة، بطن البقرة، صهاريج اللؤلؤ، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة ، صحراء المماليك وإسطاسية ، ومن مجموعاته القصصية : صاحب السعادة اللص، المنحنى الخطر، سارق الفرح، أسباب للكى بالنار، الدساس، أشياء تخصنا، وغيرها. من مسرحياته : صياد اللولي، غنائية سوناتا الأول. لقد ترجمت معظم رواياته إلى الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والأوردية والإيطالية، وخصوصاً روايات: الأوباش، الوتد، فرعان من الصبار، بطن البقرة، وكالة عطية، صالح هيصة. كما قدم عنه عدة رسائل للماجستير والدكتوراه في جامعات القاهرة وطنطا والرياض وأكسفورد وإحدى الجامعات الألمانية. وتم أيضاً تمثيل بعضها في الإذاعة والتليفزيون والسينما.
خيري شلبي واقعياً سحرياً
كان من أوائل من كتبوا ما يسمى بالواقعية السحرية، ففى أدبه الروائى تتشخص المادة وتتحول إلى كائنات حية تعيش وتخضع لتغيرات وتؤثر وتتأثر، وتتحدث الأطيار والأشجار والحيوانات والحشرات وكل ما يدب على الأرض، حيث يصل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وتنزل الأسطورة إلى مستوى الواقع، ولكن القارئ يصدق ما يقرأ ويتفاعل معه. على سبيل المثال روايته (السنيورة) وروايته (بغلة العرش) حيث يصل الواقع إلى تخوم الأسطورة، وتصل الأسطورة في الثانية إلى التحقق الواقعى الصرف، أما روايته (الشطار) فإنها غير مسبوقة لأن الرواية من أولها إلى آخرها يرويها كلب، كلب يتعرف القارئ على شخصيته ويعايشه ويتابع رحلته الدرامية بشغف.
خيري شلبي باحثاً مسرحياً
في فترة السبعينيات من القرن الماضى كان خيرى شلبى باحثاً مسرحياً، إكتشف من خلال البحث الدؤوب أكثر من مائتى مسرحية مطبوعة في القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين، بعضها تم تمثيله على المسرح بفرق شهيرة وقد نشرت أسماء الفرق والممثلين، وبعضها الآخر يدخل في أدب المسرح العصىّ على التنفيذ، وقد أدهشه أن هذه المسرحيات المكتشفة لم يرد لها ذكر في جميع الدراسات التاريخية والنقدية التي عنيت بالتاريخ للمسرح المصري، ومعظمها غير مدرج في (ريبروتوار) الفرقة التي مثلتها، وبعضها الآخر إنقرضت الجوقات التي مثلتها. وقام بتحقيق هذه المسرحيات في حديث بإذاعة البرنامج الثانى (البرنامج الثقافى حالياً) تحت عنوان (مسرحيات ساقطة القيد) ضمن برنامج كبير كان يقدمه الروائى بهاء طاهر. الجدير بالذكر كذلك أنه اكتشف ضمن هذه المجموعة من النصوص نصاً مسرحياً من تأليف الزعيم الوطنى مصطفى كامل بعنوان: (فتح الأندلس) وقام بتحقيقه ونشره في كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب في سبعينيات القرن الماضى. اكتشف أيضاً مسرحية من تأليف الشيخ أمين الخولى بعنوان: (الراهب) كتبها أمين الخولى لجوقة عكاشة، وكان يحضر جلسات التدريبات كل يوم وهو أحد قضاة مصر آنذاك ولكنه كان يحجب اسمه ووضع بدلاً منه بقلم كاتب متنكر، إلا أن حيلته كانت مكشوفة لأن الخبر قد نشر أيامها. واستطاع تحقيق النص ونسبته إلى أمين الخولى، كما اكتشف صلة الشيخ بفن المسرح، ومحاولاته المتكررة في التأليف. وقد نشرت المسرحية في مجلة الأدب التي كان يصدرها الشيخ أمين الخولي.
خيرى شلبى ناقداً
يعد خيرى شلبى من رواد النقد الإذاعى، ففى فترة من حياته أثناء عمله كاتبا بمجلة الإذاعة والتليفزيون تخصص في النقد الإذاعى بوجهيه المسموع والمرئى. وكان إسهامه مهما لأنه التزم الأسلوب العلمى في التحليل والنقد بعيدا عن القفشات الصحفية والدردشة، فكان يكتب عن البرنامج الإذاعى كما يكتب عن الكتاب والفيلم السينمائى والديوان الشعرى. إبتدع في الصحافة المصرية لوناً من الكتابة الأدبية كان موجوداً من قبل في الصحافة العالمية ولكنه أحياه وقدم فيه إسهاماً كبيراً اشتهر به بين القراء، وهو فن البورتريه، حيث يرسم القلم صورة دقيقة لوجه من الوجوه تترسم ملامحه الخارجية والداخلية، إضافة إلى التكريس الفنى للنموذج المراد إبرازه، وقدم في فن البورتريه مائتين وخمسين شخصية من نجوم مصر في جميع المجالات الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والرياضية، على امتداد ثلاثة أجيال، من جيل طه حسين إلى جيل الخمسينيات إلى جيل الستينيات.
خيري شلبي في ميزان النقد الأدبي
تذهب ثتاء أنس الوجود في دراستها التي حملت عنوان ملامح تراثية وسمات شعبية "قراءة نقدية في ثلاثية خيري شلبي" إلى أن معظم كتاباته الإبداعية تمثل تصويراً حياً متدفقاً للحياة المصرية في شعبيتها وتدفقها واندفاعها وصخبها في الريف والمدن في حقولها الشاسعة وجبالها الصخرية الوعرة ، وفي هذه الرواية تحديداً تاتي النهاية بمجموعة من الخسائر في الأنفس والأموال وذلك حين تنتهي الرواية بالهروب خارج البلاد بعد تهريب الأموال وبيع ما أمكن تحقيقه من مشروعات وشركات وأراضٍ بأبخس الأثمان(
😎
.
كما تضمن عدد شهر ديسمبر 2010 من مجلة "الهلال" ملفاً خاصاً عن خيري شلبي حمل عنوان "وتد الرواية المصرية" وفيه يشير حامد أبو أحمد إلى أن "شلبي" من أكثر كتابنا احتفاء واهتماماً بالواقعية السحرية، وأن هذا شيء طبيعي لكاتب تعددت وتنوعت أساليبه القصصية. ويؤكد أن الواقعية السحرية وردت في أربع روايات لخيري شلبي هي: "الشطار" و"نسف الأدمغة" و"بغلة العرش" و"السنيورة"، وأنها إذا كانت قد ارتبطت في أمريكا اللاتينية بموضوع الديكتاتور، فإنها ارتبطت عند "شلبي"، في الغالب، بموضوع الفساد. وتتناول أماني فؤاد "البورتريه عند خيري شلبي" وتوضح أن اهتمامه بفن البورتريه يدل على عشقه للبشر. وتؤكد أن المبدع حين يعشق جانباً من الوجود يضعه تحت مجهره ليرصد ما يلتقطه من مفرداته في الصفحة المواجهة، ولن يتحقق للشخصيات المرسومة بالكلمات ذلك إلا إذا توافر لتشكيلهم العديد من البناءات والطوابق الفنية المتكاملة. ويتعرض حسام عقل للعمل الأخير لخيري شلبي "إسطاسية" موضحاً أنه تناول فيه بيئة المهمشين بشكل كبير. وعن مجموعته "تقليب المواجع" تقول عزة بدر: "إنها قصص من لحم ودم كتبها خيري شلبي بلغة البسطاء والغرباء والفقراء والمهزومين. وإنه لكتاب الألم نشعر معه بحرارة الشكايات التي تشف عن مكامن النفوس ومواطن أوجاعها فنتطهر بالألم ونتوحد في مغالبة المواجع". ويصف الناقد حاتم حافظ "خيري شلبي" بأنه أدب قائم بذاته، ويشير إلى أن ذلك قد يعود إلى أنه أكثر أبناء جيله إنتاجاً، وربما لأن أدبه يتنوع في أشكاله وطروحاته بصورة كبيرة، فغالباً لا يتكرر شكل أو موضوع في روايتين. ويؤكد أن الذي يقرأ "فرعان من الصبار" و"منامات عم أحمد السماك" و"وكالة عطية" و"صالح هيصة" قد لا يصدق أنها نتاج قريحة الأديب ذاته. ويشير خالد منصور إلى أن القرية من الفضاءات الأثيرة عند خيري شلبي، خاصة في رواياته الأولى "السنيورة، الأوباش، الوتد، العراوي، فرعان من الصبار". ويوضح أن هذه الروايات صورت القهر والتهميش الذي تعاني منه الطبقات الفقيرة والمعدمة في الريف، خاصة عمال التراحيل، والفلاحون المعدمون، وصراعها مع الطبقة الغنية، ورموز الحكم فيها من العمد ومشايخ الخفر، والاستغلال والقهر الذي تعرضت له هذه الطبقات على يد شخصيات السلطة والطبقات الثرية. ويؤكد أن صورة القرية عند خيري شلبي هي صورة القرية الواقعية بكل ما يموج فيها من صراعات وعلاقات اجتماعية وتحولات حضارية وثقافية ومنظومة القيم التي تتحكم في سلوكيات أفرادها. ويصف محمد الشافعي "خيري شلبي" بالراهب الذي يسكن شرنقة البوح، ويشير إلى أن لديه العديد من المفاتيح، ومنها "عزلة عالم وزهد صوفي وتشرنق فراشة وعصامية مجاهد وإرادة مصارع"(9).
الوتد
الرواية عبارة عن رباعية بأربعة عناوين (الوتد، المنخل الحرير، العتقي، أيام الخزنة)، جاءت هذه النصوص محملة برائحة ونكهة الريف المصري، حيث يرصد من خلالها الحياةَ الاجتماعية في المجتمع الريفي بكل جزيئاته وتفاصيله، ولعل المتلقي يدرك تماماً أن الاهتمام كان منصباً على الحياة الاجتماعية في ظل نظام لم يصرح به، لكنه ملحوظ بشكل واضح، فالاستحضار غالباً ما يصدر عن دوافع وإسقاطات معروفة، الرمز هنا كناية عن تأويل وليس مقصوداً بحد ذاته، ما يلفت في هذه الرباعية أنها توحدت في عكس الصورة المجتزأة في الحياة الريفية. وجاء ذلك ضمن إطار مغرق في التراثية، إذ نرى الكاتب يتعمد ذكر ألفاظ لمسميات تراثية محلية ذات دلالات غرائبية، وجاء هذا الدفق عبر متوالية متدرجة في عرضها، فكان أبجديات ومسميات التراث هي المقصودة لذاتها، وما النص بأجزائه الأربعة إلا وعاءً لها، من الملاحظ أن للمرأة وجودها الطاغي، ويمكن القول إن عالم الأمومة يغطي المساحة الكبرى من الرواية، لكنه ليس حضوراً أنثوياً محضاً، لذلك نرى أن الحاجة فاطمة "تعلبة" تمثل كيانية البيت فكأنها الوتد الذي يرتكز علية البيت، إن العلاقة بين الوتد والمركزية وما تمثله من رسوخ تفضي إلى دلالات منفتحة، إنها التجذر الذي يمثل الرسوخ في الأرض. هذه هي الحاجة فاطمة تعلبة الأم، بعد أن تنتهي حركة الرواية الأولى تبدأ الحركة الثانية في"منخل الحرير" الذي لم يتغير فيه السارد ولا المرأة كدلالة، كذلك الحركة الثالثة التي تبدأ "بالعتقي" حيث يغطي السرد الفوتوغرافي المغرق بالتفاصيل كل مساحة هذه الحركة. وينتهي النص بالحركة الرابعة التي تبدأ "بأيام الخزنة" حيث يفتح السارد ملفاً كان غائباً في الأجزاء الثلاثة الفائتة، وهو البعد السياسي الذي هو أساس ما آلت إليه الأمور من بدايتها في الوتد حتى منتهاها في أيام الخزنة، تلك رباعية الوتد لخيري شلبي حيث لاتخرج أدوات السرد عن فوتوغرافية لا تنسى كبيرة ولا صغيرة، حيث يتم التقاط كل شيء(10).
الماتريركية
عرف الماضي السحيق قانوناً هو قانون الأم، أي سلطة المرأة الأم وتحفظ لنا الوثتنيات والأساطير وعصر الكاهنات العرفات آثاراً دالة على قانون وشريعة كانت السلطة فيها سلطة المرأة الأم – هذا عصر النسب للأم وما قولنا في اللغة العربية "صلة رحم" تعبيراً عن قرابة الدم إلا أثر باقٍ يؤكد ذلك ويقيم البرهان عليه، فالرحم للمرأة دون الرجل. وما نسب المرء رجلاً كان أو امرأة إلى الأم دون الأب في أعمال السحر وطقوس الخرافة إلا دليل باقٍ لهذا القانون القديم وهذه الشريعة البائدة. لكن هذه الشريعة وإن بادت واندثرت في واقع الحياة اليومية في صورها المشروعة بقيت في لا شعور الفرد ولاشعور الجماعة، في الأسطورة والحكاية الشعبية وفي صور حية نراها في كل بقاع العالم تمرداً وخرقاً للقانون وخروجاً عليه(11).
والمرأة / الأم عند كثيرين ومنهم باخ أوفن وايريك فروم رمز لسلطة الأمومة 'الماتريركية' Matriarchy الممثلة للحب والخصب والأرض والمساواة بين الأبناء، والأخوة، ونبذ الشقاق، وفي المقابل يكون 'الأب' رمزا للسلطة الأبوية 'البطريركية' Patriarchy المكرسة للمراتب المتفاوتة بين الناس، والمتسلطة بالقوانين أو بدونها، ومن ثم الباذرة للشقاق والمشعلة للحروب(12).
ومن الأفكار الشائعة عند العوام - كدليل على وجود بقايا لهذا النظام- من ضرورة نسبة الشخص إلى أمه عند الدعاء له، كما أن الدجالين يهتمون بنسبة طالب مساعدتهم إلى أمه فيما يقومون به من كتابات أو تلاوات(13). وهذا النظام الأسري تعتمد فيه القرابة على الأم وحدها، فالولد يلتحق بأمه وأسرة أمه، أما أبوه وأفراد أسرة أبيه فيعتبرون أجانب عنه لا تربطهم به أية رابطة من راوبط القرابة ولا يشعر نحوهم كما لا يشعرون نحوه بأية عاطفة عائلية (14).
وتتفق معالم الماتريركية مع معالم العائلة المترابطة كما يراها علم النفس الحديث ففي العائلة المترابطة يكون لكل فرد من أفرادها دور وله هدف، فيجب أن يشعر كل فرد أن له إسهامات في العائلة حتى أن عدم وجوده سيكون مرعبًا بالنسبة للعائلة كلها.. وعادة فإن الأم في هذه العائلة هى الرباط (الوتد) الذي يربط الأسرة بالرغم من أن الأدوار مرنة وقابلة للتغيير فإن هناك حدودًا فاصلة في الأدوار بين الآباء والأبناء ، وبين الأبناء أنفسهم وهذا يتطلب:
أن تكون هناك صورة للسلطة في الأسرة: فالآباء والأمهات ليسوا أصحاب للأبناء.. يمكن أن يعاملوهم بصورة لطيفة لكن دون إلغاء للحدود، فالطفل يحتاج أن تكون هناك صورة للسلطة التي تعرفهم أين تقع حدود السلوك المقبول.
اتخاذ القرارات من أجل العائلة ويكون القرار النهائي للوالدين بعد كافة المشاورات وسماع آراء أفراد العائلة.
وضع نظام مميز للعائلة فمثلاً يجب تحديد أوقات معينة لتناول الوجبات، النوم، أوقات معينة للواجبات المدرسية، وهكذا.. هذا من شأنه أن يخلق ترابطًا في حياة أفراد العائلة.
هناك قناعات تتمسك بها العائلة، قناعات تعيش بها في كل وقت، العيش بهذه القيم يخلق إيقاعاً في حياة الأسرة.
ضرورة التعبير عن القيم والأخلاق أثناء الكلام مع الأولاد..فمثلاً قل "إن أفراد العائلة لا يكذبون، لايسرقون، لا يخدعون، لا يعلقون تعليقات عنصرية ضد الآخرين، لا يسخرون من المعاقين، لا يتحدثون بسوء أدب للجيران أو كبار السن.. يجب أن تشرح لهم لم لا تقوم بهذه الأفعال؟. لم هى غير مقبولة؟.
خلق شعور بالهوية العائلية بحيث يعرف الأبناء شجرة العائلة ومعرفة تاريخ أجدادهم وقصصهم عبر الأجيال السابقة..هذا من شأنه توطيد الروابط الأسرية(15).
وفي رواية الوتد نلاحظ أن قانون المرأة الأم هو المسيطر والحاكم في العائلة فهي الآمر الناهي والمسيطر فكل شيء يتم وفق إرادتها من رعاية الأبناء وتربيتهم حتى اختيار زوجاتهم وادخار المال وشراء الأرض في غياب تام لشخصية الأب الذي توفي، وفي أغلب الأحيان يوجد ولكن بدون دور محدد سوى أن يكون رمز لحماية العائلة أمام الآخرين ...الخ، فعندما أراد ابنها عبد الباقي الزواج قامت بالسفر إلى بلد آخر بعيد جداً لتسأل عن أهل العروس وهي ستمارس نوعاً من العلاج الطبي الشعبي لتدخل بيوت الناس وتعرف أخبار أسرة الباشتومرجي والد الفتاة التي يرغب في الزواج منها.
وعندما رأت ابنها عبد العزيز يتلصص على أخوه عبد الباقي بعد أن تزوج عزيزة بنت الباشتومرجي أدركت أنه يراقبهما وبسرعة نادت على درويش: "فمالت عليه هامسة في أذنيه بلهجة خطيرة.
أخوك رجع صبياً من جديد. هز رأسه في استفسار فغمزته في ذراعه مرة:
نسي أمر بناته العرائس وأبنائه العرسان..وبدأ يمرض بداء الحب..ويخيل إلى أنه هاجر فراش زوجته منذ وقت طويل بلا سبب..لقد نظرت في وجهه فعرفت وفي عينيها فتأكدت . قال عمي درويش بعد برهة في تريقه خفية:
والعمل..تراك تزوجينه من جديد؟ رفعت رأسها وزأرت فيه بقوة واستنكار:
منذ متى يتزوج أولادي على زوجاتهم..لم يعد ينقصني إلا أن أجيئ لكل بغل منكم بعدد من الجواري يرضين مزاجه..الزواج عندي مرة واحدة..قال عمي درويش في حيرة:
إذن فما الذي نفعله في عبد العزيز؟
قالت تعلبه في حسم:
أعرف شغلك معه الأول في موضوع أهم .. راقبه قبل أن يتسبب لنا في كارثة وفضيحة على آخر الزمن.. بعدها لا نرفع رؤوسنا في البلد أبداً..ثم مالت على أذنه وهمست طويلاً فهز عمي درويش رأسه وقال:
يسويها ربنا.
ومرت أيام وإذا بنا في عمق الليل نسمع تناطحاً يهز الأركان ويهبد في الأرض .. وفي الصباح علمنا أن عمي درويش تربص بعمي عبد العزيز بليل وفاجاه في الظلام واضعاً أذنه على باب عمي عبد الباقي يتصنت ، فما كان من عمي درويش إلا أن جذبه من خناقه بعنف وصار يدفعه إلى الوراء زغداً وتلكيماً ومن فرط خجله وشعوره بالعار يكتم صياحه وتعهد عمي عبد العزيز بعدم العودة لهذا الأمر (الرواية ص 40- 41).
وهكذا تضع تعلبه القانون وما على الكل إلا اتباعه بدقة، وتحدد المشكلة وتضع لها الحل أيضاً حين همست في أذن درويش وتصرفت كما يليق بالأم حاملة القانون.
وعندما أراد عبد العزيز أن يستقل عن العائلة في معيشة وحده :"هبطت الحاجة تعلبه عن سريرها مقبلة نحوهما ( درويش وعبد العزيز) فأمسكت عمي عبد العزيز من خناقه وهو الكهل المتصابي، وهزته بعنف وهي التي تجاوزت من العمر حداً لا نستطيع حسابه بالسنوات ثم قالت له كأنه لا يزال ذلك الطفل الصغير الغرير:
اسمع يا ولد..من لا تعجبه العيشة..من لا يعجبه العيش مع الحاجة فاطمة تعلبه فليرحل هو ... فيخرج من الباب بطوله.وحده..حتى بدون ثيابه..حتى بدون أولاده..فأنا الذي ربيت وأنا الذي زوجت وأنا الذي أكسو وأطعم..والأولاد أولاد الدار قبل أن يكونوا أولاد أحد منكم..ولا أفرط في ظفر واحد منهم..ولا حتى في ظفرك أنت أيها الشايب العايب..لكن من أراد أن يفرط في الدار فخير للدار أن تفرط فيه..الدار هي دار العكايشة ولقد تعبت في الإبقاء عليها مفتوحة متكاملة ذات قوة وهيبة ولست مستعدة للتخلي عنها على آخر الزمن ولست أطيق أن أسمع مثل هذا الكلام العبيط إن قتلك أهون عندي من سماع هذا اللغو. واختطفت العصا من عمي درويش تريد أن تشج بها رأس عمي عبد العزيز وظلت شهوراً لا تكلمه ولا يكلمها(الرواية ص 42-43).
ثم قامت تعلبه بعدة أيام وأثناء فترة مرضها الأخير تفسر سر قيامها بالقانون والسلطة ودورها في تكوين العائلة ورعايتها :"فتربعت على المصطبة بينهم، واندفعت تردد:
لقد دخلت هذه الدار وهي مجرد جدران ..ولم يكن أبوكم يملك أكثر من ثلاثة أفدنة.. العكايشة طول عمرهم هبل..كانوا لا يوافقون على زواج أبيكم مني ..وكان شرفاً كبيراً لعائلتي المتواضعة أن تصاهر العكايشة هذا صحيح..ولكن كان شرفاً لأبيكم أن تزوج من فاطمة تعلبه. وأنتم..كنتم تلومنني وتنحلون وبري بينكم وبين أنفسكم..وتتهمونني بادخار عرقكم في دولابي وإنني لا أصرف عليكم إلا بحساب شديد..ولكنكم تملكون عشرين فداناً كلها من حسن تدبيري وشطارتي وفوق هذا تملكون ما هو أهم، تملكون جماعتكم، تملكون كنزاً كبيراً هو كونكم جماعة يغلق عليكم باب واحد ويرعاكم قلب واحد مثلما الرب واحد، ولكنكم لا تفهمون هذا لأن هبل العكايشة متأصل فيكم ومن الصعب إقناعكم وخير من فيكم هو درويش لأنه ابني بحق لكأنه أنا مضاف إليه جدكم (الرواية ص 43-44).
كما نجد بوضوح كل خصائص العائلة المترابطة فهذا هو القانون المميز للأسرة تضعه فاطمة تعلبة من حيث أدوار كل امرأة وكل رجل في الأسرة من حيث موعد النوم والإستيقاظ والعمل المكلف به فتقوم تعلبه من النوم وتخرج في وسط الدار :"تسب بنت أم صفيحة وتلعن بنت أبي جوال والبنت التي لا تسمى ، فقاعتها حتى الآن لم تفتح إنها بنت عاهرة لا تريد أن تبرح حضن الولد وسوف تقضي عليه في جمعة وتفقد الدار ولداً ، هو أيضاً يجب أن يختشي على دمه ويضع في عينيه حصوة ملح ويجب أن يكون رجلاً بحق وحقيق فيدفعها بعيداً عنه ويصحو، وهذه البنت التي التي لم تنم إلا بعد الفجر أليست تعرف أن اليوم يومها في كنس الدار، وهذا الولد الشملول أليس الدور عليه ليسرح بالبهائم ؟ وهذا الطويل الهايف أبو نبوت ولاسة هل نسي أنه المكلف بانتظار المياه في الترعة الشرقانة ؟ وهذا العيان بكيفه أليس وراءه ساقية سوف تدور في الحوض الجديد؟ فليدر عليكم الزمن جميعاً ويدوخكم طول حياتكم يا أبناء بطني لتكن هذه نومتكم الأخيرة باذن الله..هل هذا عدل؟ هل هذه رجولة؟ هل من طبعنا أن تركبنا نسوان الدار؟ هل خلفت رجل لينام في حضن امرأة إن هي إلا قحباء ابتليت بها الدار في الزمن الأعمى(الرواية ص
😎
.
وبهذا القانون فقد تَحَدَد لكل فرد في العائلة دوره وعمله المطلوب منه، وما تقوم به فاطمة تعلبة أنها تمارس دور المرشد النفسي الذي يقوم بإعطاء التعليمات وأحياناً الواجبات ليقوم العميل ( المسترشد أو المريض النفسي) بعمله بعد الجلسة العلاجية فهي تقوم في الصباح لإعطاء الواجبات بشكل جماعي لتوفير الوقت والجهد والطاقة. ثم يأتي الدور التفصيلي لعمل كل امرأة ورجل في الأسرة على لسان الراوي:
زوجة عمي درويش الذي من فرط قوته وكبر مقامه يبدو أكبر سناً من أمه تعلبه.
زوجة عمي عبد العزيز هو يلي عمي درويش في الأهمية إذ يدخل في اختاصه كل ما يتعلق بشئون الزرع والحصاد والتذرية والتخزين.
زوجة عمي عيسى يلي عمي عبد العزيز في الأهمية لهبوط طبعه وميله إلى الأكل والسخرية وعمل نوع من الفصولات المضحكة في خلق الله وقد اختص بأمر الجمل يؤكله وينيمه ويقص شعره وينقل به الأحمال للدار ولدور الآخرين.
زوجة عمي طاهر القصير الذي يبدو أصفر بعلة وكرش لكنه ناشف كعود الحديد هو المسئول عن الطحين، وخدمة عمي درويش وضيوفه.
زوجة عمي صادق المسكينة منذ تزوجهالم يقدر لها أن تهنأ في حضنه شهراً كاملاً فشغلته طلوع الأسواق ينتقل إليها من بلد إلى بلد يبيع ويشتري.
زوجة عمي عبد الباقي الغنام يحب عادتين التوغل بأغنامه في حقول بعيدة وشوارع وعرة والذهاب إلى مولد سيدي إبراهيم الدسوقي كل عام.
زوجة عمي طلبه أصغر الأعمام الذي لبس الجبة والقفطان وقد درس في المعهد الديني. يؤم الناس للصلاة في مسجد العصاروة ويخطب من على منبره خطبة الجمعة، يقول الصدق دائماً ويزن بالحق، يصلي ركعتين كلما مر بالمسجد (الرواية ص 9 – 11).
ومن القانون العام للعائلة ما وضعه الأب من تعاليم تقضي بألا يسهر الواحد منهم خارج الدار بعد صلاة العشاء وإن تأخر أحدهم – بمن فيهم عمي طلبه – فسوف لن يبيت في الدار فضل عن أنه سيأكلها بالنبوت وربما بالبلغة كل حسب قدره ( الرواية ص 14).
ومن القيم التي تحرص عليها العائلة الصدق فتقول الحاجة تعلبه عندما كذبت عليها بهانة في أمر طاجن لبن قد وقع منها على الأرض :"لماذا تكذب عليها بهانة ؟ هل الكذب من شيمة أهل هذه الدار؟ وكيف بالله لمن زار النبي وملس على شباكه مثلها أن يكذب ؟ إنها ملعونة وسوف يقصم الله ظهرها بإذن الله(الرواية ص 25).
تعلبة / شهرزاد
قامت تعلبه بدور شهرزاد حين أدت دوراً شبيهاً بدور المحلل النفسي وكان شهريار يشبه المريض النفسي بيد أن الطريف أن في جلسات التحليل النفسي يتحدث المريض وينساب كلامه وينصت المحلل متخذاً دور المستمع أما في ليالي ألف ليلة وليلة فنجد الأمر على العكس تتحدث شهرزاد وينصت شهريار ومع ذلك يتحقق لشهريار الشفاء عندما أنصت إنصاتاً صادقاً حقيقياً فكان التحول وبلغة التحليل النفسي الاستبصار Insight الذي يشير إلى فهم النفس ومعرفة الذات والانفعالات ودوافع السلوك والعوامل المؤثرة فيه ومصادر الاضطراب وامكانات حلها ويتضمن الاستبصار تقبل الذات وإعادة تنظيمها وفهم الواقع وتقبله والتوافق معه والاستفادة من الماضي والحاضر في التخطيط المستنير للمستقبل وتحويل نقاط الضعف إلى قوة (9).
وفي رواية الوتد تقوم فاطمة تعلبه بدور شهرزاد (المحلل النفسي) حين تختار هانم زوجة ابنها صادق الذي يعمل بالتجارة وتقوم بإرشادها نفسياً حتى لا تقع فريسة للخيانة الزوجية في حالة غياب صادق عن المنزل لفترات طويلة في سفرياته الدائمة فنرى المشهد يوحي وكأنه جلسة للإيحاء النفسي حيث تقول هانم:
طبعاً يا ست الحاجة طبعاً.
فتعاجلها حماتها طابت وانهرت ، ثم تشوح بيدها مستأنفة التسبيح بالمسبحة ، ثم تهدأ قليلاً وتكور المسبحة في حجرها كأنما تنتبه إلى وجود هانم لأول مرة ، تربت على كتفها :
إزيك يا بنتي عامله إيه؟ فترد هانم :
بخير يا ست الحاجة الحمد لله . فتنبري الحاجة دون مناسبة تحكي لها عن نساء عشن بعيداً عن أزواجهن سنوات طوالاً فلم يفرطن في عفتهن ، حكايات سمعتها بعد ذلك في ألف ليلة وليلة وغيرها من المصادر الشفاهية ، عن نساء حمين أنفسهن فكافأتهن السماء أعظم مكافأة بطلوع الحجاز والسعة في الرزق والبركة في الأولاد فيقشعر بدن هانم وتردد:
أوعدنا يارب، ثم تندمج في قراءة بعض الآيات(الرواية ص 25).
ثم تقول في موضع آخر:
-خدتي بالك بقى يا بنتي
هكذا تستأنف تعلبه حكاياتها كأن شيئاً لم يكن. فتقول هانم:
أيوه يا ست الحاجة.
فتحكي لها عن رجال تجار مثل ابنها صادق يجوبون الأسواق ويتحملون الشقاء، وكيف انتهزت زوجاتهم فرصة غيابهم فسرن على حل شعورهن فكانت فضائحهن مضرب الأمثال، وكيف عوض الله الرجال الشقيانين نساء أطهاراً وأبكاراً في حين منيت السابقات بسوء العاقبة. تؤمن هانم على صدق كلام حماتها مبدية دهشتها من مثل هاتيك النساء نجسات الذيل ناقصات الدين(الرواية ص 27).
وهكذا يتضح وعي تعلبه بأثر غياب الزوج عن زوجته ولذلك فهي تهدف من خلال الحكايات أن تجعل هانم مستبصرة بذاتها وحياتها والمآل الذي يمكن أن تؤول إليه في حالة عدم الاستفادة من الحكايات فيكون الشقاء أو النجاة مثلما فعلت شهرزاد مع شهريار وكان استبصاره وشفاؤه.
خاتمة حول الماتريركية والبطريركية
بعد عرض جوانب الأمومة في رواية الوتد ممثلة في ديناميات العائلة المترابطة والناجحة وشخصية الحاجة فاطمة تعلبه التي مثلت الوتد للأسرة المصرية في الريف المصري قديماً وحديثاً يتبين أن هذا العمل كان من الممكن أن يكون رواية أجيال بحيث تكون شخصية كل ابن وزوجته وأبنائه محوراً للتصاعد الدرامي فيما قبل وبعد وفاة فاطمة تعلبة لنرى هل استطاعت العائلة المترابطة من الاستمرار كذلك بعد وفاة الوتد الذي كان يربطهم في مكان واحد وبهدف واحد أم لا ؟ .
كما يتضح أن وجود تلك الماتريركية في الريف المصري لهو وجود مستمد من تلك المرحلة الزمنية السحيقة حيث كان نسق القرابة والسيطرة يرجع للأم، وأنها كانت ماتريركية حكيمة جمعت ولم تفرق، وأقامت كياناً ولم تهدم، وساعدت على نجاح العائلة.
أما إبداع خيري شلبي في هذه الرواية فهو تنظيره فيما يرى الباحث لتلك الماتريركية الحكيمة في مقابل البطريركية الغاشمة التي طالما نظر لها الأستاذ الأكبر نجيب محفوظ في العديد من أعماله حيث يرى جمهرة من النقاد أن رسالة رواية قلب الليل لنجيب محفوظ هي أن الإعتماد المطلق على العقل وحده قد يورد الفرد موارد التهلكة، لذا لابد لنا من المزاوجة الدائمة بين العقل والإيمان، وإلا صار الإنسان رهناً لشيطانه، وأفكار الآخرين، مما يجعله ريشة في مهب الريح. وكذلك الحال بالنسبة للثلاثية التي أضاع فيها الأب أبناءه.
ولكننا نرى بالإضافة إلى ذلك كله أن الروايتين (الثلاثية وقلب الليل) بهما انتقاد لاذع لفكرة البطريركية الغاشمة التي دمرت الإبن والحفيد معاً.



1662838264086.png 1662838312914.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى