نقوس المهدي - الثنائيات الضدية في رواية "عنبر سعيد"* للروائي عبدالكريم العامري

يعد الروائي العراقي عبدالكريم العامري من أهم المبدعين في العراق والعالم العربي بتجربة ابداعية غنية ووازنة، راكم خلالها العديد من الأعمال الإبداعية توزعت على الشعر، والرواية، والكتابة المسرحية، والاخراج المسرحي والتمثبل، والكتابة للطفل، والصحافة التلفزيونية والورقية، توجها بادارة مجلة بصرياثا الثقافية والأدبية، وقد أصدر

- لا احد قبل الأوان – ديوان شعر عن مطبعة جامعة البصرة عام 1998م

- مخابئ – ديوان شعر عام 2000 مطبعة الأريج- البصرة

- الطريق الى الملح – رواية- دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 2001م – الدار العربية للموسوعات بيروت 2002م – مودعة نسخة منها في مكتبة الملك فهد الوطنية بالمملكة العربية السعودية 2002م

- عنبر سعيد – من إصدارات مجلة بصرياثا- البصرة 2012م الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

وقد دشن مسيرته في الكتابة الروائية برواية "الطريق إلى الملح" التي تتمحور حول الضياع والتشظي الذي تخلفه الحروب بكل ويلاتها وما تزرعه من ترويع ومن استلاب، على جميع الأصعدة، فبينما تتحدث رواية "عنبر سعيد" عن ثنائية الموت والوجود والخير والشر في الطباع الانسانية والمقدس والمدنس، والصراع الطبقي، تطمح رواية (الطريق الى الملح)، لــ "التأريخ بهذه المعطيات لثالوث الانسان والمكان والزمان عبر أوبة الراوي بعد زمن طويل من الغياب القسري الى كنف مدينته المحررة العابقة بجمال مدبنة (الفــــــاو). والتي عمدتها دماء 52848 شهيد عدا العديد من الاسرى والمفقودين والمعطوبين .. وهذه احصاءات رسمية تختفي وراءه اكمتها الوجه الحقيقي والسافر للانظمة السنبدة.. والصورة البشعة للحروب"2



"عنبر سعيد".. العنوان والغلاف (لمحة حول العتبات)

قديما وقبل اكتشاف المدارس النقدية، ويطورها ويتفنن فيها، ويطوع النصوص لسلطته قال
أرسطو: " ما من شيء يحدثُ فيما بعد في النّصّ إلّا وله نواة في الاستهلال"3، عنبر سعيد" هو عنوان العمل السردي الثاني للروائي والكاتب عبدالكريم العامري، ويقع في حوالي 87 صفحة من القطع المتوسط، صدرت عام 2012، في طيعتها الأولى، وصدرت في طبعة ثانية عام 2019 عن دار الفنون والآداب، ببيروت، وتعتمد تقنية الاسترجاع "الفلاش باك"، والشكل الدائري للحكي، وتتطرق لعدة ثنائيات ضدية، تكون مصدر توازن للكون

الوجود والموت

الخير والشر

المدنس والمقدس

والعنوان في "عنبر سعيد" إسم علم مذكر مركب، ويقع "عنبر" خبر لمبتدا محذوف، بينما يأتي "سعيد" بدل، ويحيل في معناه على العنبر والمسك والرائحة الزكية، فيما يدل الاسم الاخير على السعادة والطمأنينة الروحية

تعتمد رواية "عنبر سعيد" شكل الصياغة المدورة أو البناء الدائرية للحكي، يحيث تكون البداية من حيث انتهت، ففي ختام الرواية نتوقف على خبر اختفاء البطل "عنبر سعيد" بعد إحراقه للشيخ مقطوف، واشتعال النيران في بيته من خلال الجملة النهائية:

"... عرفت المرأة لعبة الشيخ مثلما عرفت أسرار النسوة اللاتي كنَّ يترددنَ عليه . . لكنّها لم تعرف ما حلَّ بعنبر سعيد. ص87)4

وتبتدئ بإعلان خبر موت "عنبر سعيد" من خلال الفعل الماضي

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث: عنبر سعيد. ص2)5

وتتعرض أحداث الحكاية لسيرة بطل إشكالي، غريب الأطوار بنفس الإسم واللقب، "عنبر سعيد"، زين الغلاف بترسيمة لشبح جالس في فضاء واسع باهت وفارغ، يعكس حالة الضياع والتيه والتشظي والاستلاب الذي يلف عالم الرواية، وتناقش أحداثها بعض المشاكل الوجودية التي تشغل بال المجتمع، معتمدا فيها على تعريته وفضح المستور فيه

" سعيد" البطل الرئيسي بالرواية تكتسي شخصيته بعض السمات العبثية، فهو غريب ليس له أهل ولا معارف، مطارد وهارب، يحل بتلك البلدة وبشتغل حمالا على عربة بحمار، الصديق الوحيد الوفي الذي يعينه على تدبير شؤون حياته، وتوفير ثمن كأس من الشراب، معتزلا الناس، مؤمنا على قولة أرسطو: "ياأصدقائي ليس هناك أصدقاء"، قصديقه الوحيد كما يقول مشيراً إلى الحمار: "هذا أخوي"

"كان عنبر سعيد يقول

– قد تسمع من هذا , أو ذاك كلاماً يؤذيك ويجرحك لكنّك لن تسمع من الأخو ما لم يسرّك .. ليت الجميع مثله ! ص51)6 ، مؤكدا لقولة جان بول سارتر: "الآخرون هم الجحيم"، والآن، بعد أن نفق الحمار، الأخو، لم يبق لعنبر سعيد صديق، ليضعنا إزاء بطل غامض ووحيد، حر في تصرفاته، صادق في معاملاته، أدمن الهروب والتخفي، والاستئمان على الأسرار، "هناك أمور كثيرة مخبوءة في الصدور ، وفي صدر عنبر الكثير منها ، لكنّهُ تمسّكَ بها ولم يعلن . آهٍ لو كان يعرفُ ما يقلقني ، وما أثار دهشتي . عنبر هذا صندوقٌ غريب . يعرف المدينة كلّها ، يعرفُ ما يدورُ في النهارِ وفي جنح الظلام أيضاً . وقد يعرف أسرار البيوت" ص24)7

وعن هذه الاسرار تفتح المرأة قلبها، وتشرع في إفشاء أسرارها وأسرار الغرفات المغلقة، من الصفحة 24 إلى الصفحة 50

ونستشف من أسرار الرواية غموض حياة عنبر سعيد الملى بالأسرار، والمغامرات، بأنه اختفى من القرية حينما هوجم من رجالها، واحراق بيته وقتل حبيبته، ثم يختفي بعد نفوق دابته، وينزوي في الفندق معتزلا الناس، ثم يختفي بعد احراق الشيخ مقطوف، رجل الدين المنافق الكاذب الذي يستغل سلطته الدينية الوهمية لاستغلال النساء ماديا وجنسيا والتي تتهامس عنها النسوة بصوت خفيض تحت أبخرة الحمام الساخنة

يستهل الروائي عمله السردي يمقولة للكاتب والمسرحي الفرنسي جان كوكتو تقول:

"ما يلومك الناس عليه اعمل على تنميته فذلك هو أنت" ص1)8

والقولة على ما تحمله من دلالات ورموز ضمنية تختزل ما يود الروائي قوله، وتمنحنا مفاتيح شيفرة سيرة البطل عنبر سعيد، وما يتناوش المجتمع من معضلات، وما تختزنه من معاني اجتماعبة ونفسية تلخص سلوك الفرد الذي يختار حياة منطلقة متحررة من كافة القيود الاخلاقية والاجتماعية، ويصبو إلى نشدان الحرية المطلقة، والانعتاق من أسر التقاليد التي يفرضها المجتمع للحد من حرية الفرد، هذه القيود التي تمنع البعض، وتبيح للآخرين اقتراف الجرائم، لأن الحرية لم تكن يوما هبة من هبات الحضارة البشرية، لتضعنا إزاء بطل اشكالي نصف حكيم، ونصف متهور، نصف ملاك، ونصف شيطان، بمقابل ثلاثة شخوص آخرين يطبعهم الجشع، والنفاق الاجتماعي (سلمان رب الحانة)، والانتهازية والمكر والاستغلال الجنسي والإتجار بالدين (الشيخ مقطوف)، والشهوانية والسذاجة (المرأة)، في مجتمع قاس متناقض، لا رأفة ولا رحمة فيه، مجتمع متقلب مليء بالعنف والظلم. حيث يرسم للبطل ملامح متقلبة سيكوباثية أحيانا طيبة وديعة مرحة أحيانا اخرى، شخص غامض ومتناقض، فقير لكن عفيف، شرس لكن طيب المزاج، ذو روح يسيطة، لكن قوية جدا، جراء ما عاشه من تجارب قاسية، وما خبره من نكسات وكبوات، سببها له المجتمع المليء بالرياء والانتهازيين، والمطبات، لهذا فلا غرابة في أن نجده على هذا الوصف، وهذه الهيئة من قزو الشخصية وصلابتها لمواجهة المجتمع، فسيغموند فرويد يقول: “إذا أردتَ أن تُحافِظ على السِّلم فَعُدّ نفسكَ للحرب"، و"عنبر سعيد" كان دوما متهيئا للحرب، ولكل خطب، ولم يعرف الجبن طريقا الى قلبه، حتى أنه لم يبك في حياته أبدا، فــ" فيما مضى ما كانَ يبكي ولم يعرفْ طريقاً للبكاء فمن دلّهُ على طريقٍ ليس له فيها مسلك. ص3)9، إذ كان يقول في سريرته:

"على الرجلِ أن يضع في صدرهِ حجراً وينسى قلبه!" ص3)10

والمرة الوحيدة التي بكي فيها هي حينما بلغه نبأ موت صديقه ظلما أو خطأ، والثانية دمعت فيها عيناه لمرأى صور الماضي، وهو يتأمل ألبوم صور الماضي البعيد، لتقفز الى ذاكرته ذكريات الأهل والأصدقاء من بين سجوف الدموع. "كانَ ألبوم الصور في الليالي الماضيات أشبه بتيارٍ يسحبهُ إلى هوّةِ الماضي . يقلّبُ أوراقهُ ويحدّقُ بالصورِ المتشبثة بالأوراق ، يستلُّ واحدةً هي الأقرب إليه . يحدّق ثانيةً ، يطيل التحديق فتغور الملامح في لجّةِ دموعه" ص3)11

والمرة الأخيرة لاستشهاد صديقه الذي يشاركه الغرفة بالفندق، صديقه الطيب الذي لا يعرف الفرق بين الشيوعية والشيعية، وراح ضحية قضية غامضة، فيبكيه بحرقة، "في الليلة تلك؛ ليلة سماعه خبر موت صديقه بكى. بكى كثيراً في خلوته في أحدى غرف فندقٍ عتيق. بكى وكأنه يزيح غطاء ثقيلاً هدّ أنفاسه طيلة السنوات التي خلت. بكى. لم يره أحدٌ يبكي، تاركاً نشيجاً حاداً في الغرفة المظلمة. مَنْ أخبره بموتِ صديقه قال عنه (كان بطلاً)" ص5-6)12



"عنبر سعيد".. الوجود والموت

تتخذ الرواية في سماتها وتوجه أحداثها منحى وجوديا، بوصفه فلسفة تعتمد على الحرية الفردية، ووجود إنسان طليق، وحر بكامل انسانيته وحقوقه دون معيقات خارجية تتحكم فيه رغباته، وتبتدئ بإعلان خبر موت بطل الرواية "عنبر سعيد" من خلال الفعل الماضي

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث: عنبر سعيد. ص2)13

ويتكرر ذكر خبر الموت بكل ألفاظه ومترادفاته وصيغه حوالي 63 مرة، ليضعنا امام جلال الموت وجبروته، وبين هذا وذاك يرصد لنا الرواي خمس حالات للموت، من خلال

- موت البطل عنبر سعيد،

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث" ص:2.)14

هو الذي لم يكترث بالموت أبدا، ولا بالمشاكل، فعاش الحياة بكل تفاصيلها، والامها، وبؤسها، "كل من في المستشفى كان يعرفُ أنَّ الرجلَ ما هو إلا زائر سوفَ يطوي سنواته ويرحل إلى حيث لا رجعة أبداً " ص:2)15

- وموت أبويه غرقا في مياء الخليج وهما في طريقهما الى الكويت، "بعد موتهما تكوّنت في رأس عنبر سعيد فكرة أنّ الموت لصيق بنا، وإن رحنا أو أتينا فنحن ميتون لا محالة . بل أننا مخلوقون كي نموت!، لم تكن تشغله تفاصيل الموت ، فالموت وإن تعددت أسبابه واحد . مفردة واحدة: الموت، وهي تعني الخلاص واللاعودة . في هذه المرة تغيّرت تركيبة عنبر سعيد" ص4)16

- ونفوق حماره الأنيس، "لم يكتفِ بالنظر إليه إنما راح يوقظه ، مرة وأخرى ، لا حركة في كومة اللحم التي أمامه . رفع رأسه عن الأرض فبدا ثقيلاً ، وفي تلك اللحظة شعر أنه يفقد العالم ؛ العالم كلّه ، والى الأبد. ص16)17

ثم قتل حبيبته من طرف رجال القبيلة، بتأليب من الشيخ مقطوف. "...وقتل الحب الكبير الذي زرعته في حديقةِ عمرك . الآن عليك أن تأخذ بثأر من لفظت أنفاسها في حفرة الرجم" ص80)18،

- وموت الشيخ مقطوف حرقا على يد عنبر سعيد، ونهاية مآسيه وجرائمه على تلك الطريقة المهيئة والمزرية والفظيعة، انتقاما لحبيبته وللمرأة وللمجتمع ككل.

سلسلة من مشاهد الموت القاسي، ثم استعراضها بطريقة مشهدية مفصلة، تنبعث من بين تفاصيلها شرارة الحكاية سلسة، متتبعة سيرة عنبر سعيد الاشكالية، المفعمة بالمطبات والمفاجآت المشوقة، حبث عاش حياة حفلت بأنواع المغامرات، انتهت بالموت، (الموت مرحلة انتقال إلى الأبدية ص4)19، إنه ذلك السؤال المعضلة الذي حير الفلاسفة، إنه الموت هازم اللذات، وهو الذي عاش قويا في خربة مع حماره، لم تشغله ملذات الدنيا، وهو يشاهد من يقتني مقبرة لعائلته، لم تكن تشغله تفاصيل الموت، "فالموت وإن تعددت أسبابه واحد . مفردة واحدة : الموت" ص 3 )20، ذلك أن الموت بمختلف مسبباته هو خاتمة الرحلة، فـ "الحياة حلم يوقظنا منه الموت. مثل فارسى "، وهو النهاية الحتمية أو الخلاص من العذابات، ثم يلف بالنسيان، انها لحظات تحرر الروح من الجسد، وتحرير البطل عنبر سعيد من الالام المبرحة التي طالما هزت كيانه، واراحته من العذاب القاسي لمضاعفات داء السل في حالاته المتفاقمة، والمتقدمة المتقطعة بالسعال الحاد والصديد الذي تكاد تخرج معها الروح، والسخرية من الموت، "لم تكن ليلته الأخيرة هادئةً كما كان يظن، كانت ليلةً من السعال والدم. ولأنهُ ما كانَ يفكرُ بموتٍ قريبٍ كان يتركُ لضحكاتِهِ فسحةً للسخريةِ من الرقائقِ الشعاعيةِ التي كثرما تأملها أطباؤه وهم يرمقونهُ بنظراتِ عطفٍ . رغمَ الدم الذي ينثهُ سعالُهُ المتواصل إلا أن ذلك لم يشكل مصدرَ إزعاج له ولا خوف ؛ ص 2)21



"عنبر سعيد".. ثنائية الخير والشر

شيد الروائي عبدالكريم العامري عمله على عدة ثنائيات ضدية، تتوزع أحداث الرواية، وسلوك شخوصها ما بين الشر والخير، والظلم والصفح، فـ "عنبر سعيد" البطل هو المعادل الموضوعي للإيثار، والوفاء، والبساطة، والصبر، ورقة القلب، ومساعدة الناس، لكن وبرغم شراسته، وعنفه، وفظاظة طباعه، لم يتوان يوما عن تقديم يد العون والمساعدة للناس، وحمل الشيخ المنافق مقطوف، برغم الاساءة اليه وما بينهما من ثأر كظيم.

كما تتجلى العديد من مظاهر الثائيات الضدية وسماتها في جميع أطوار الحكي وتمفصلاته، بداية على اقتسامه لغرفة الفندق مع صديق لا نكاد نعرف عنه شيئا عن ماضيه، سوى أنه كان تواقا للحياة، لم يتكلم في السياسة، ولا يتبرم من تصرفاته، ولا يفرق بين الشيعية والشيوعية، فيعدم يتهمة سياسية لا يد له فيها. ولم يتذمّر من الشراب الذي يأتي بهِ عنبر إلى الغرفةِ . قال مرةً إلى عنبر

"أنتَ تشربُ كثيراً

ردّ عليه عنبر ضاحكاً


" ص5)24 وأنتَ تصلّي كثيرا

"تذكّر تلك اللحظة التي غادره تاركاً ورقةً صغيرة تحت كأسٍ احتوى على بقايا من عرق البارحة : ( قدرنا أن نبحث عن الجديد ، ونتصدى للباطل ، لم أقل أنك باطلٌ ولكن .. أتمنى أن تتغيّر ) . قد تكون هذه الكلمات هي الوحيدة القاسية التي قالها الصديق بحق عنبر ، ابتسم مع كل حرف قرأه ، طواها ونقّعها في عرق الكأس." ص6)22

عالمانِ مختلفانِ تضمهما غرفةٌ ضيّقةٌ في فندقٍ بعيدٍ عن الأهلِ) ص8)23

أما المرأة فقد اكتفت بالتشبّث في خشب العربة خشية أن تنزلق . عالمان مختلفان كلاهما تهزه العربة ويغسله المطر" صص20 -21)24"

أيعقل أن أكون أمام شخصيّتين متضادتين ، طاهرة ونجسة ؟ واحدة تسلب إرادةَ الأخرى وتقودها عمياء حيث الهاوية ، أيعقل أن يحدث ذلك ؟" ص78)25

كل هذا للاشارة والتدليل على التباين والتناقض الظاهر على خصال وسلوك الشخوص، والصراع الحاصل في المجتمع



عنبر سعيد".. المقدس والمدنس

المقدس والمدنس شيئان متلازمان في تناقضهما، ولا يمكن الفصل بين تداعياتهما السلبية والايجابية، وقد قسم الانسان التقاليد والعادات والمعتقدات الى مقدس ومدنس، وأنشأ المعتقدات، والعبادات، والعادات، وفرض شروطا فرقت ما بين الناس، وضبط سلوكهم، والحد من تصرفاتهم، فربطوا المقدس بالله والأديان والشعائر والطهارة (الديني)، والمدنس بالشيطان والدنس والذنوب، والخطيئة والذنب (الدنيوي)، منذ [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ] الأعراف: 24)26

ولعل الكتب السماوية والأساطير الدينية، والملاحم والقوانين الوضعية هي الأكثر حمولة لهذه المتناقضات، والأكثر ردعا للبشر، وهي من رسخت هذا الاعتقاد بالخير والشر، والإيمان والالحاد، والحلال والحرام، وربطت المدنس بكل السلوكات المنافية للأديان والتقاليد، وربطت المقدس بالطهارة والعبادات، وبالأديان كما يراهن إميل دوركايم عليها كحل لهذه المعضلات الوجودية.

ولعلنا نجد في رواية "عنبر سعيد" بأن الثيمة الاساسية التي يشتغل عليها الروائي عبدالكريم العامري هي ثنائية المقدس والمدنس، بل الأساس الذي بنى عليه الرواية من خلال العديد من الأمثلة والاحداث والسياقات، انطلاقا من مقولة الكاتب الفرنسي جان كوكتو التي اختارها بعناية فائقة وصدر بها روايته، والتي تعتبر بمتابة إعلان ضمني للتمرد والثورة ضد الأعراف والقوانين والعيش بحرية مطلقة.

وقد خصص الروائي ثلث الرواية التي تقع في 87 صفحة للمرأة (ص24 الى ص50)، لتسرد لنا ما كانت تفعل في بيت الشيخ مقطوف، وما كان الشيخ مقطوف يفعله بها،

عالمان مختلفان كلاهما تهزه العربة ويغسله المطر" ص22)27

يتفنن الروائي في سرد بعض المشاهد الايروسية يعكسها تصرفات المراة، وبوحها، واحساسها الدائم بالحرمان، بداية من حركة إبهام "عنبر سعيد" تحت إبطها، والذي خلف لديها شعورا باللذة والدغدغة المحببة: واحساسها بالتنمل يسري بجسدها الظمآن. وحدبث النسوة عن الجنس واستعراض تجاربهن، واحساسهن بالنشوة وهن يثرثرن تحت دفء البخار السميك للحمام

"كنَّ يثرثرنَ بأحاديث لا حجاب عليها ، يفشينَ أسرارهنَّ وأحلامهنَّ بكلِّ ما تحتويه من أفعالٍ ومداعبات الفراش . إحداهنَّ اشتكت لي وحدتها ووحشة ليلها ، وأخرى أقسمت أنها في ليلةِ زفافها باتت تحت السرير ، وثالثة تحدّثت بخدرٍ عن متعةٍ لم تشبعها بعد . أما أنا فقد كنت أنصت لأحاديثهنَّ وكأنهنَّ يتحدثنَ عن عالمٍ بعيد ، ليس هذا الذي أعيش فيه ، عالم لا وجود له . وحين يستشعرنَ بصمتي تنبُّ واحدةٌ منهنَّ قائلةً:

خطيّة … ما شايفة دنيا ص27)"28

ثم تتطرق الرواية لعرض الابتزاز الجنسي الذي تتعرض له المرأة بطوعها أو برضا من والدها المريض الذي يبارك تصرفات الشيخ،

مزبج من الأحداث شيد على اساسهما الروائي عبدالكريم العامري عمله الروائي ، أولها اختراق الطابوهات كثالث أقنوم ضمن بنية الثالوث المحرم، عبر التطرق لشريعة الجسد الأنثوي، متحديا الحظر والنفور والاحساس بالخجل الذي يفرضه المجتمع العربي

"لم تقف العوائق الدينية ولا الاجتماعية امام العامري لذلك نراه يبرز معالم جمال الجسد من خلال تحركاته داخل غرف الاثارة ، فقد وصف جسد المرأة بكل وعي وحرية وتحرك في مكنونات الجسد وجوعه وتنقل في منعطفاته وتضاريسه مارا بكل الانحناءات وتكويرات النهود والارداف ورشاقة الايادي والوان الخدود واصطحبنا الى عوالم فردوسية تفور بالاشتهاء والهيام بدون حظر،"29

وعبر هذا يروم تبيان خداع السلطة الدينية المتمثلة في العهر المجتمعي المتواري خلف قناع الدين، والعادات والتقاليد التي تسوق الناس للإيمان الأعمى بها،، فتتقوى نبرة العهر تلك، وتتنوع وتتخذ لنفسها اشكالاً مقدسة (الجنس المقدس)، بدءا من المرأة التي تتبرك جنسيا من الشيخ، ومن الاب الذي يبارك تصرفات الشيخ، ويدفع ابنته قربانا لجحيم الاستغلال الجسدي

وصولا الى شخصية الشيخ مقطوف، الرجل الدجال الذي يستغل النساء لنزواته الحقيرة والدنئية، موهما إياهن بازالة السحر، والتشافي من الأمراض

قال عنه ابي

شيخ جليل، الجلوس معه يقربك من الله والاساءة اليه يدنيك من النار! لكنني لم أجد في الجلوس معه، في تلك الغرفة المظلمة ما يقربني الى الله أكثر ما يقربني اليه، بل يجعله ملتصقاً بي، يهصرني" ص 37)30

"وبهذه المشاهد الدرامية الدالة على تعري المجتمع وتكشف عهره وقهره عبر المؤسسات السلطوية التي تغطي ممارستها الجنسية بخطابها العلني وكأن بسطاء العقول يصدقون تلك الخطابات والمسميات الزائفة التي تجلت فيها الرواية اذ يقدم الكاتب مونتاجا عبر الحوارات والتفاعلات الدرامية الواعية الجريئة كاشفاً الوجوه القذرة لما قبل وبعد التهام الجسد الانثوي عبر الافصاح عن المتناقضات الذهنية الدينية واظهار العهر المجتمعي المتخفي تحت رداء الدين في مجتمع الروايةّ"31

رواية عنبر سعيد رواية شائقة بعالمها ورسالتها التي تتوخى فضح وتعرية المجتمع الديني، بكل تناقضاته التي تجمع بين العبادات والتقوى والاستغلال الجنسي، وخرق ستار الطابوهات، التي تقض مضجع المجتمع العربي، وتقرن الدين بالجنس (الجنس المقدس)، وقد استلهم الروائي عبدالكريم العامري تقنياته وامكانياته في كتابة الشعر والمسرح ليضفي على النص السردي تلك المتعة الأدبية والمسحة الجمالية.











.


نقوس المهدي

الثنائيات الضدية في رواية "عنبر سعيد"1 للروائي عبدالكريم العامري



يعد الروائي العراقي عبدالكريم العامري من أهم المبدعين في العراق والعالم العربي بتجربة ابداعية غنية ووازنة، راكم خلالها العديد من الأعمال الإبداعية توزعت على الشعر، والرواية، والكتابة المسرحية، والاخراج المسرحي والتمثبل، والكتابة للطفل، والصحافة التلفزيونية والورقية، توجها بادارة مجلة بصرياثا الثقافية والأدبية، وقد أصدر

- لا احد قبل الأوان – ديوان شعر عن مطبعة جامعة البصرة عام 1998م

- مخابئ – ديوان شعر عام 2000 مطبعة الأريج- البصرة

- الطريق الى الملح – رواية- دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 2001م – الدار العربية للموسوعات بيروت 2002م – مودعة نسخة منها في مكتبة الملك فهد الوطنية بالمملكة العربية السعودية 2002م

- عنبر سعيد – من إصدارات مجلة بصرياثا- البصرة 2012م الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

وقد دشن مسيرته في الكتابة الروائية برواية "الطريق إلى الملح" التي تتمحور حول الضياع والتشظي الذي تخلفه الحروب بكل ويلاتها وما تزرعه من ترويع ومن استلاب، على جميع الأصعدة، فبينما تتحدث رواية "عنبر سعيد" عن ثنائية الموت والوجود والخير والشر في الطباع الانسانية والمقدس والمدنس، والصراع الطبقي، تطمح رواية (الطريق الى الملح)، لــ "التأريخ بهذه المعطيات لثالوث الانسان والمكان والزمان عبر أوبة الراوي بعد زمن طويل من الغياب القسري الى كنف مدينته المحررة العابقة بجمال مدبنة (الفــــــاو). والتي عمدتها دماء 52848 شهيد عدا العديد من الاسرى والمفقودين والمعطوبين .. وهذه احصاءات رسمية تختفي وراءه اكمتها الوجه الحقيقي والسافر للانظمة السنبدة.. والصورة البشعة للحروب"2



"عنبر سعيد".. العنوان والغلاف (لمحة حول العتبات)

قديما وقبل اكتشاف المدارس النقدية، ويطورها ويتفنن فيها، ويطوع النصوص لسلطته قال
أرسطو: " ما من شيء يحدثُ فيما بعد في النّصّ إلّا وله نواة في الاستهلال"3، عنبر سعيد" هو عنوان العمل السردي الثاني للروائي والكاتب عبدالكريم العامري، ويقع في حوالي 87 صفحة من القطع المتوسط، صدرت عام 2012، في طيعتها الأولى، وصدرت في طبعة ثانية عام 2019 عن دار الفنون والآداب، ببيروت، وتعتمد تقنية الاسترجاع "الفلاش باك"، والشكل الدائري للحكي، وتتطرق لعدة ثنائيات ضدية، تكون مصدر توازن للكون

الوجود والموت

الخير والشر

المدنس والمقدس

والعنوان في "عنبر سعيد" إسم علم مذكر مركب، ويقع "عنبر" خبر لمبتدا محذوف، بينما يأتي "سعيد" بدل، ويحيل في معناه على العنبر والمسك والرائحة الزكية، فيما يدل الاسم الاخير على السعادة والطمأنينة الروحية

تعتمد رواية "عنبر سعيد" شكل الصياغة المدورة أو البناء الدائرية للحكي، يحيث تكون البداية من حيث انتهت، ففي ختام الرواية نتوقف على خبر اختفاء البطل "عنبر سعيد" بعد إحراقه للشيخ مقطوف، واشتعال النيران في بيته من خلال الجملة النهائية:

"... عرفت المرأة لعبة الشيخ مثلما عرفت أسرار النسوة اللاتي كنَّ يترددنَ عليه . . لكنّها لم تعرف ما حلَّ بعنبر سعيد. ص87)4

وتبتدئ بإعلان خبر موت "عنبر سعيد" من خلال الفعل الماضي

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث: عنبر سعيد. ص2)5

وتتعرض أحداث الحكاية لسيرة بطل إشكالي، غريب الأطوار بنفس الإسم واللقب، "عنبر سعيد"، زين الغلاف بترسيمة لشبح جالس في فضاء واسع باهت وفارغ، يعكس حالة الضياع والتيه والتشظي والاستلاب الذي يلف عالم الرواية، وتناقش أحداثها بعض المشاكل الوجودية التي تشغل بال المجتمع، معتمدا فيها على تعريته وفضح المستور فيه

" سعيد" البطل الرئيسي بالرواية تكتسي شخصيته بعض السمات العبثية، فهو غريب ليس له أهل ولا معارف، مطارد وهارب، يحل بتلك البلدة وبشتغل حمالا على عربة بحمار، الصديق الوحيد الوفي الذي يعينه على تدبير شؤون حياته، وتوفير ثمن كأس من الشراب، معتزلا الناس، مؤمنا على قولة أرسطو: "ياأصدقائي ليس هناك أصدقاء"، قصديقه الوحيد كما يقول مشيراً إلى الحمار: "هذا أخوي"

"كان عنبر سعيد يقول

– قد تسمع من هذا , أو ذاك كلاماً يؤذيك ويجرحك لكنّك لن تسمع من الأخو ما لم يسرّك .. ليت الجميع مثله ! ص51)6 ، مؤكدا لقولة جان بول سارتر: "الآخرون هم الجحيم"، والآن، بعد أن نفق الحمار، الأخو، لم يبق لعنبر سعيد صديق، ليضعنا إزاء بطل غامض ووحيد، حر في تصرفاته، صادق في معاملاته، أدمن الهروب والتخفي، والاستئمان على الأسرار، "هناك أمور كثيرة مخبوءة في الصدور ، وفي صدر عنبر الكثير منها ، لكنّهُ تمسّكَ بها ولم يعلن . آهٍ لو كان يعرفُ ما يقلقني ، وما أثار دهشتي . عنبر هذا صندوقٌ غريب . يعرف المدينة كلّها ، يعرفُ ما يدورُ في النهارِ وفي جنح الظلام أيضاً . وقد يعرف أسرار البيوت" ص24)7

وعن هذه الاسرار تفتح المرأة قلبها، وتشرع في إفشاء أسرارها وأسرار الغرفات المغلقة، من الصفحة 24 إلى الصفحة 50

ونستشف من أسرار الرواية غموض حياة عنبر سعيد الملى بالأسرار، والمغامرات، بأنه اختفى من القرية حينما هوجم من رجالها، واحراق بيته وقتل حبيبته، ثم يختفي بعد نفوق دابته، وينزوي في الفندق معتزلا الناس، ثم يختفي بعد احراق الشيخ مقطوف، رجل الدين المنافق الكاذب الذي يستغل سلطته الدينية الوهمية لاستغلال النساء ماديا وجنسيا والتي تتهامس عنها النسوة بصوت خفيض تحت أبخرة الحمام الساخنة

يستهل الروائي عمله السردي يمقولة للكاتب والمسرحي الفرنسي جان كوكتو تقول:

"ما يلومك الناس عليه اعمل على تنميته فذلك هو أنت" ص1)8

والقولة على ما تحمله من دلالات ورموز ضمنية تختزل ما يود الروائي قوله، وتمنحنا مفاتيح شيفرة سيرة البطل عنبر سعيد، وما يتناوش المجتمع من معضلات، وما تختزنه من معاني اجتماعبة ونفسية تلخص سلوك الفرد الذي يختار حياة منطلقة متحررة من كافة القيود الاخلاقية والاجتماعية، ويصبو إلى نشدان الحرية المطلقة، والانعتاق من أسر التقاليد التي يفرضها المجتمع للحد من حرية الفرد، هذه القيود التي تمنع البعض، وتبيح للآخرين اقتراف الجرائم، لأن الحرية لم تكن يوما هبة من هبات الحضارة البشرية، لتضعنا إزاء بطل اشكالي نصف حكيم، ونصف متهور، نصف ملاك، ونصف شيطان، بمقابل ثلاثة شخوص آخرين يطبعهم الجشع، والنفاق الاجتماعي (سلمان رب الحانة)، والانتهازية والمكر والاستغلال الجنسي والإتجار بالدين (الشيخ مقطوف)، والشهوانية والسذاجة (المرأة)، في مجتمع قاس متناقض، لا رأفة ولا رحمة فيه، مجتمع متقلب مليء بالعنف والظلم. حيث يرسم للبطل ملامح متقلبة سيكوباثية أحيانا طيبة وديعة مرحة أحيانا اخرى، شخص غامض ومتناقض، فقير لكن عفيف، شرس لكن طيب المزاج، ذو روح يسيطة، لكن قوية جدا، جراء ما عاشه من تجارب قاسية، وما خبره من نكسات وكبوات، سببها له المجتمع المليء بالرياء والانتهازيين، والمطبات، لهذا فلا غرابة في أن نجده على هذا الوصف، وهذه الهيئة من قزو الشخصية وصلابتها لمواجهة المجتمع، فسيغموند فرويد يقول: “إذا أردتَ أن تُحافِظ على السِّلم فَعُدّ نفسكَ للحرب"، و"عنبر سعيد" كان دوما متهيئا للحرب، ولكل خطب، ولم يعرف الجبن طريقا الى قلبه، حتى أنه لم يبك في حياته أبدا، فــ" فيما مضى ما كانَ يبكي ولم يعرفْ طريقاً للبكاء فمن دلّهُ على طريقٍ ليس له فيها مسلك. ص3)9، إذ كان يقول في سريرته:

"على الرجلِ أن يضع في صدرهِ حجراً وينسى قلبه!" ص3)10

والمرة الوحيدة التي بكي فيها هي حينما بلغه نبأ موت صديقه ظلما أو خطأ، والثانية دمعت فيها عيناه لمرأى صور الماضي، وهو يتأمل ألبوم صور الماضي البعيد، لتقفز الى ذاكرته ذكريات الأهل والأصدقاء من بين سجوف الدموع. "كانَ ألبوم الصور في الليالي الماضيات أشبه بتيارٍ يسحبهُ إلى هوّةِ الماضي . يقلّبُ أوراقهُ ويحدّقُ بالصورِ المتشبثة بالأوراق ، يستلُّ واحدةً هي الأقرب إليه . يحدّق ثانيةً ، يطيل التحديق فتغور الملامح في لجّةِ دموعه" ص3)11

والمرة الأخيرة لاستشهاد صديقه الذي يشاركه الغرفة بالفندق، صديقه الطيب الذي لا يعرف الفرق بين الشيوعية والشيعية، وراح ضحية قضية غامضة، فيبكيه بحرقة، "في الليلة تلك؛ ليلة سماعه خبر موت صديقه بكى. بكى كثيراً في خلوته في أحدى غرف فندقٍ عتيق. بكى وكأنه يزيح غطاء ثقيلاً هدّ أنفاسه طيلة السنوات التي خلت. بكى. لم يره أحدٌ يبكي، تاركاً نشيجاً حاداً في الغرفة المظلمة. مَنْ أخبره بموتِ صديقه قال عنه (كان بطلاً)" ص5-6)12



"عنبر سعيد".. الوجود والموت

تتخذ الرواية في سماتها وتوجه أحداثها منحى وجوديا، بوصفه فلسفة تعتمد على الحرية الفردية، ووجود إنسان طليق، وحر بكامل انسانيته وحقوقه دون معيقات خارجية تتحكم فيه رغباته، وتبتدئ بإعلان خبر موت بطل الرواية "عنبر سعيد" من خلال الفعل الماضي

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث: عنبر سعيد. ص2)13

ويتكرر ذكر خبر الموت بكل ألفاظه ومترادفاته وصيغه حوالي 63 مرة، ليضعنا امام جلال الموت وجبروته، وبين هذا وذاك يرصد لنا الرواي خمس حالات للموت، من خلال

- موت البطل عنبر سعيد،

"مات، وانطفأت بموته العين التي طالما شهدت الكثير من الأحداث" ص:2.)14

هو الذي لم يكترث بالموت أبدا، ولا بالمشاكل، فعاش الحياة بكل تفاصيلها، والامها، وبؤسها، "كل من في المستشفى كان يعرفُ أنَّ الرجلَ ما هو إلا زائر سوفَ يطوي سنواته ويرحل إلى حيث لا رجعة أبداً " ص:2)15

- وموت أبويه غرقا في مياء الخليج وهما في طريقهما الى الكويت، "بعد موتهما تكوّنت في رأس عنبر سعيد فكرة أنّ الموت لصيق بنا، وإن رحنا أو أتينا فنحن ميتون لا محالة . بل أننا مخلوقون كي نموت!، لم تكن تشغله تفاصيل الموت ، فالموت وإن تعددت أسبابه واحد . مفردة واحدة: الموت، وهي تعني الخلاص واللاعودة . في هذه المرة تغيّرت تركيبة عنبر سعيد" ص4)16

- ونفوق حماره الأنيس، "لم يكتفِ بالنظر إليه إنما راح يوقظه ، مرة وأخرى ، لا حركة في كومة اللحم التي أمامه . رفع رأسه عن الأرض فبدا ثقيلاً ، وفي تلك اللحظة شعر أنه يفقد العالم ؛ العالم كلّه ، والى الأبد. ص16)17

ثم قتل حبيبته من طرف رجال القبيلة، بتأليب من الشيخ مقطوف. "...وقتل الحب الكبير الذي زرعته في حديقةِ عمرك . الآن عليك أن تأخذ بثأر من لفظت أنفاسها في حفرة الرجم" ص80)18،

- وموت الشيخ مقطوف حرقا على يد عنبر سعيد، ونهاية مآسيه وجرائمه على تلك الطريقة المهيئة والمزرية والفظيعة، انتقاما لحبيبته وللمرأة وللمجتمع ككل.

سلسلة من مشاهد الموت القاسي، ثم استعراضها بطريقة مشهدية مفصلة، تنبعث من بين تفاصيلها شرارة الحكاية سلسة، متتبعة سيرة عنبر سعيد الاشكالية، المفعمة بالمطبات والمفاجآت المشوقة، حبث عاش حياة حفلت بأنواع المغامرات، انتهت بالموت، (الموت مرحلة انتقال إلى الأبدية ص4)19، إنه ذلك السؤال المعضلة الذي حير الفلاسفة، إنه الموت هازم اللذات، وهو الذي عاش قويا في خربة مع حماره، لم تشغله ملذات الدنيا، وهو يشاهد من يقتني مقبرة لعائلته، لم تكن تشغله تفاصيل الموت، "فالموت وإن تعددت أسبابه واحد . مفردة واحدة : الموت" ص 3 )20، ذلك أن الموت بمختلف مسبباته هو خاتمة الرحلة، فـ "الحياة حلم يوقظنا منه الموت. مثل فارسى "، وهو النهاية الحتمية أو الخلاص من العذابات، ثم يلف بالنسيان، انها لحظات تحرر الروح من الجسد، وتحرير البطل عنبر سعيد من الالام المبرحة التي طالما هزت كيانه، واراحته من العذاب القاسي لمضاعفات داء السل في حالاته المتفاقمة، والمتقدمة المتقطعة بالسعال الحاد والصديد الذي تكاد تخرج معها الروح، والسخرية من الموت، "لم تكن ليلته الأخيرة هادئةً كما كان يظن، كانت ليلةً من السعال والدم. ولأنهُ ما كانَ يفكرُ بموتٍ قريبٍ كان يتركُ لضحكاتِهِ فسحةً للسخريةِ من الرقائقِ الشعاعيةِ التي كثرما تأملها أطباؤه وهم يرمقونهُ بنظراتِ عطفٍ . رغمَ الدم الذي ينثهُ سعالُهُ المتواصل إلا أن ذلك لم يشكل مصدرَ إزعاج له ولا خوف ؛ ص 2)21



"عنبر سعيد".. ثنائية الخير والشر

شيد الروائي عبدالكريم العامري عمله على عدة ثنائيات ضدية، تتوزع أحداث الرواية، وسلوك شخوصها ما بين الشر والخير، والظلم والصفح، فـ "عنبر سعيد" البطل هو المعادل الموضوعي للإيثار، والوفاء، والبساطة، والصبر، ورقة القلب، ومساعدة الناس، لكن وبرغم شراسته، وعنفه، وفظاظة طباعه، لم يتوان يوما عن تقديم يد العون والمساعدة للناس، وحمل الشيخ المنافق مقطوف، برغم الاساءة اليه وما بينهما من ثأر كظيم.

كما تتجلى العديد من مظاهر الثائيات الضدية وسماتها في جميع أطوار الحكي وتمفصلاته، بداية على اقتسامه لغرفة الفندق مع صديق لا نكاد نعرف عنه شيئا عن ماضيه، سوى أنه كان تواقا للحياة، لم يتكلم في السياسة، ولا يتبرم من تصرفاته، ولا يفرق بين الشيعية والشيوعية، فيعدم يتهمة سياسية لا يد له فيها. ولم يتذمّر من الشراب الذي يأتي بهِ عنبر إلى الغرفةِ . قال مرةً إلى عنبر

"أنتَ تشربُ كثيراً

ردّ عليه عنبر ضاحكاً


" ص5)24 وأنتَ تصلّي كثيرا

"تذكّر تلك اللحظة التي غادره تاركاً ورقةً صغيرة تحت كأسٍ احتوى على بقايا من عرق البارحة : ( قدرنا أن نبحث عن الجديد ، ونتصدى للباطل ، لم أقل أنك باطلٌ ولكن .. أتمنى أن تتغيّر ) . قد تكون هذه الكلمات هي الوحيدة القاسية التي قالها الصديق بحق عنبر ، ابتسم مع كل حرف قرأه ، طواها ونقّعها في عرق الكأس." ص6)22

عالمانِ مختلفانِ تضمهما غرفةٌ ضيّقةٌ في فندقٍ بعيدٍ عن الأهلِ) ص8)23

أما المرأة فقد اكتفت بالتشبّث في خشب العربة خشية أن تنزلق . عالمان مختلفان كلاهما تهزه العربة ويغسله المطر" صص20 -21)24"

أيعقل أن أكون أمام شخصيّتين متضادتين ، طاهرة ونجسة ؟ واحدة تسلب إرادةَ الأخرى وتقودها عمياء حيث الهاوية ، أيعقل أن يحدث ذلك ؟" ص78)25

كل هذا للاشارة والتدليل على التباين والتناقض الظاهر على خصال وسلوك الشخوص، والصراع الحاصل في المجتمع



عنبر سعيد".. المقدس والمدنس

المقدس والمدنس شيئان متلازمان في تناقضهما، ولا يمكن الفصل بين تداعياتهما السلبية والايجابية، وقد قسم الانسان التقاليد والعادات والمعتقدات الى مقدس ومدنس، وأنشأ المعتقدات، والعبادات، والعادات، وفرض شروطا فرقت ما بين الناس، وضبط سلوكهم، والحد من تصرفاتهم، فربطوا المقدس بالله والأديان والشعائر والطهارة (الديني)، والمدنس بالشيطان والدنس والذنوب، والخطيئة والذنب (الدنيوي)، منذ [قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ] الأعراف: 24)26

ولعل الكتب السماوية والأساطير الدينية، والملاحم والقوانين الوضعية هي الأكثر حمولة لهذه المتناقضات، والأكثر ردعا للبشر، وهي من رسخت هذا الاعتقاد بالخير والشر، والإيمان والالحاد، والحلال والحرام، وربطت المدنس بكل السلوكات المنافية للأديان والتقاليد، وربطت المقدس بالطهارة والعبادات، وبالأديان كما يراهن إميل دوركايم عليها كحل لهذه المعضلات الوجودية.

ولعلنا نجد في رواية "عنبر سعيد" بأن الثيمة الاساسية التي يشتغل عليها الروائي عبدالكريم العامري هي ثنائية المقدس والمدنس، بل الأساس الذي بنى عليه الرواية من خلال العديد من الأمثلة والاحداث والسياقات، انطلاقا من مقولة الكاتب الفرنسي جان كوكتو التي اختارها بعناية فائقة وصدر بها روايته، والتي تعتبر بمتابة إعلان ضمني للتمرد والثورة ضد الأعراف والقوانين والعيش بحرية مطلقة.

وقد خصص الروائي ثلث الرواية التي تقع في 87 صفحة للمرأة (ص24 الى ص50)، لتسرد لنا ما كانت تفعل في بيت الشيخ مقطوف، وما كان الشيخ مقطوف يفعله بها،

عالمان مختلفان كلاهما تهزه العربة ويغسله المطر" ص22)27

يتفنن الروائي في سرد بعض المشاهد الايروسية يعكسها تصرفات المراة، وبوحها، واحساسها الدائم بالحرمان، بداية من حركة إبهام "عنبر سعيد" تحت إبطها، والذي خلف لديها شعورا باللذة والدغدغة المحببة: واحساسها بالتنمل يسري بجسدها الظمآن. وحدبث النسوة عن الجنس واستعراض تجاربهن، واحساسهن بالنشوة وهن يثرثرن تحت دفء البخار السميك للحمام

"كنَّ يثرثرنَ بأحاديث لا حجاب عليها ، يفشينَ أسرارهنَّ وأحلامهنَّ بكلِّ ما تحتويه من أفعالٍ ومداعبات الفراش . إحداهنَّ اشتكت لي وحدتها ووحشة ليلها ، وأخرى أقسمت أنها في ليلةِ زفافها باتت تحت السرير ، وثالثة تحدّثت بخدرٍ عن متعةٍ لم تشبعها بعد . أما أنا فقد كنت أنصت لأحاديثهنَّ وكأنهنَّ يتحدثنَ عن عالمٍ بعيد ، ليس هذا الذي أعيش فيه ، عالم لا وجود له . وحين يستشعرنَ بصمتي تنبُّ واحدةٌ منهنَّ قائلةً:

خطيّة … ما شايفة دنيا ص27)"28

ثم تتطرق الرواية لعرض الابتزاز الجنسي الذي تتعرض له المرأة بطوعها أو برضا من والدها المريض الذي يبارك تصرفات الشيخ،

مزبج من الأحداث شيد على اساسهما الروائي عبدالكريم العامري عمله الروائي ، أولها اختراق الطابوهات كثالث أقنوم ضمن بنية الثالوث المحرم، عبر التطرق لشريعة الجسد الأنثوي، متحديا الحظر والنفور والاحساس بالخجل الذي يفرضه المجتمع العربي

"لم تقف العوائق الدينية ولا الاجتماعية امام العامري لذلك نراه يبرز معالم جمال الجسد من خلال تحركاته داخل غرف الاثارة ، فقد وصف جسد المرأة بكل وعي وحرية وتحرك في مكنونات الجسد وجوعه وتنقل في منعطفاته وتضاريسه مارا بكل الانحناءات وتكويرات النهود والارداف ورشاقة الايادي والوان الخدود واصطحبنا الى عوالم فردوسية تفور بالاشتهاء والهيام بدون حظر،"29

وعبر هذا يروم تبيان خداع السلطة الدينية المتمثلة في العهر المجتمعي المتواري خلف قناع الدين، والعادات والتقاليد التي تسوق الناس للإيمان الأعمى بها،، فتتقوى نبرة العهر تلك، وتتنوع وتتخذ لنفسها اشكالاً مقدسة (الجنس المقدس)، بدءا من المرأة التي تتبرك جنسيا من الشيخ، ومن الاب الذي يبارك تصرفات الشيخ، ويدفع ابنته قربانا لجحيم الاستغلال الجسدي

وصولا الى شخصية الشيخ مقطوف، الرجل الدجال الذي يستغل النساء لنزواته الحقيرة والدنئية، موهما إياهن بازالة السحر، والتشافي من الأمراض

قال عنه ابي

شيخ جليل، الجلوس معه يقربك من الله والاساءة اليه يدنيك من النار! لكنني لم أجد في الجلوس معه، في تلك الغرفة المظلمة ما يقربني الى الله أكثر ما يقربني اليه، بل يجعله ملتصقاً بي، يهصرني" ص 37)30

"وبهذه المشاهد الدرامية الدالة على تعري المجتمع وتكشف عهره وقهره عبر المؤسسات السلطوية التي تغطي ممارستها الجنسية بخطابها العلني وكأن بسطاء العقول يصدقون تلك الخطابات والمسميات الزائفة التي تجلت فيها الرواية اذ يقدم الكاتب مونتاجا عبر الحوارات والتفاعلات الدرامية الواعية الجريئة كاشفاً الوجوه القذرة لما قبل وبعد التهام الجسد الانثوي عبر الافصاح عن المتناقضات الذهنية الدينية واظهار العهر المجتمعي المتخفي تحت رداء الدين في مجتمع الروايةّ"31

رواية عنبر سعيد رواية شائقة بعالمها ورسالتها التي تتوخى فضح وتعرية المجتمع الديني، بكل تناقضاته التي تجمع بين العبادات والتقوى والاستغلال الجنسي، وخرق ستار الطابوهات، التي تقض مضجع المجتمع العربي، وتقرن الدين بالجنس (الجنس المقدس)، وقد استلهم الروائي عبدالكريم العامري تقنياته وامكانياته في كتابة الشعر والمسرح ليضفي على النص السردي تلك المتعة الأدبية والمسحة الجمالية.



نقوس المهدي – المغرب





الإحالات:

1- العامري عبدالكريم: عنبر سعيد – رواية، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

2- المهدي نقوس: قراءة في رواية الطريق الى الملح للمبدع عبد الكريم العامري


3- سوسن إسماعيل : بهجة السّرد ومتعة التّأويل


4- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص87، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

5- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص2، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

6- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص51، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

7- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص24، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

8- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص1، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

9- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 3، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

10- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 3، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

11- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، صص 5-6، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

12- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 2 ، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

13- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 2، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

14- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص2، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

15- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 4، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

16- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، روابة، ص 16، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

17- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 80، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

18- كريم العامري: عنبر سعيد ، رواية ، ص 4، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

19- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية3، ص، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

20- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص2، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

21- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص6، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

22- سورة الاعراف 24

23- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 8، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

24- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، صص 20-21، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

25- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 78، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

26- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، روااية، ص 24، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

27- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 22، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

28- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص27، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

29- عزيز الشعباني - عبد الكريم العامري يخترق تابو الحياء المفتعل


30- عبدالكريم العامري: عنبر سعيد ، رواية، ص 37، الطبعة الثانية دار الفنون والآداب بيروت 2019

31- زينب لعيوس - نمذجة السلطة والجنس في رواية الكاتب (عبد الكريم العامري) عنبر سعيد








-------------------































تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى