منذ شهرين كنتُ قد عزمتُ على قراءة رواية (كاتيوشا) للروائي المصري (وحيد الطويلة) ، الحقيقة أنني كنتُ قرأتُ ثلثها الاول لمرتين ثم هجرتُ الرواية في المرتين، رغم أنها كانت تجذب القارئ بطريقة دوار البحر حين يجذب البحرُ الواقفين على حافّته، لكنني كنتُ أحاول التمهّل في تلقّي الدفعة الاولى من مشاعر المرأة المغدورة (بطلة الرواية) على هَوني، رويدا رويدا ، طعنةً طعنةً ، كي أمتلئ بها. حتى قررتُ أخيرا تلقّي وجع الخذلان ذلك دفعة واحدة، بغتةً على نفسي.
ما من امرأة تقرأ هذه الرواية -حسب ظنّي- إلّا وتشعر أن شيئا قد اُخذ منها على حين غرّة، وما من رجل يقرأها حتى يشعر بحدّة سكينه التي يحملها في جيب سترته مستعداً لتجربة الجريمة.
إنها رواية من ذلك النوع الذي يترك فجوة في صدرك حين تنتهي منها، حزن لا تفسّره الّا بمعرفته، ولو كان صدرك ورقة بيضاء فسوف تعرف أنه لا يمكن ازالة الحبر المندلق عليها أبدا.
لقد رأيتُ في هذه الرواية قصيدة طويلة عن امرأة منحتِ الامان لجسر متآكل ؛ فأصابتها اُرضة الخشب وساقتها نحو خيالات لم تكن لتفكّر فيها فتأرجحتْ معه أمامنا، ودعتنْا لتلك الارجوحة ايضا، امرأة احترق قلبُها وهي في طريقها الى شاطئ من البلّور الازرق، امرأة كانت تسمّي رَجُلَها (وَلِيف) لأنه مرادف للحياة باكملها وليس تعريفا للحبّ فحسب، ولشدّة ما كان أنانيا وغير آبه بغير نفسه فقد عرفتْ متأخرة أنه كما أخبرتْه: (كنتَ فارغاً مهما اكتملتُ، وكنتُ غنيةً مهما استغنيتَ).
وأنت تقرأ هذه الرواية ستشعر أنك جميع الشخصيات فيها، لك ردود أفعال الجميع، لكنك لن تعرف ردود الافعال تلك حتى يشير (الطويلة) اليها، وحين تمضي أبعد قليلا نحو عمق غابة المشاعر هذه ستقول: كيف لم أفكّر في ذلك؟ كان الامر بديهيا!
لقد اشتغل (الطويلة) على منطقة حساسة جدا من حال تلك المرأة، وأجاد في الحديث بلسانها على الرغم من أنّه ذكر في الرواية أن ليس هناك من رجل يعرف ما تشعر به المرأة في خيبة كهذه ، لكن روايته كانت قصيدة مجسّدة لصورة القلب المكسور والأمل الذي دفنهُ أوّل خيطٍ للّيل بمباغتة سريعة تسللتْ عبر الكسر هذا واستقرّت بظلمتها فيه.
بطلتنا كانت حكيمة جدا، تعرف كيف تمرّر الرموز والشفرات عبر جمل تكاد تكون بسيطة، إلّا أن ما يظهر على السطح هو رأس الجبل الجليدي فقط، ولكَ ان تختار الغوص لاستكشاف عمقه -إن أحببتَ أو لا-، كانت فيلسوفة مجروحة تنطق بلسانِ مَن مسّه خبَل شِعري من فرط الخيبة، تفكّر بأكثر من رأس وتشعر بأكثر من قلب وتموت بأكثر من تابوت، ما تراه منها لا تلومها عليه، وما تريد لومَها عليه لا تنتظرْ رؤيته منها.
لقد كانت ظلّا لرجُلها الكاتب الذي غرس في أعمق مَقاتِلها سكينا كانت تشحذها لتحضّر له السلَطة على العشاء.
كانت تحدّق فيه وهو في غيبوبته التي عاشتها في سنين لا في ساعات وأيام وشهور حين قالت : "كان يجب أن أحدّق جيدا لأراها، كان يجب أن أحدّق بعينَي الذئب لأرى الخراف". لقد قالت كل الحقائق دفعةً واحدة -كما قرأتُ حقائقها دفعةً واحدةً- فهي التي تلوم وهي التي تبرّر ، وهي التي تحُاكِم والتي تُحاكَمُ، وهي الضحية التي تحمل وريدها المذبوح باحثةً عن اللحظة التي استُغفلتْ فيها، اللحظة التي حزّ فيها الراقدُ هذا عنقَها وهي بين يديه، تلك اللحظة تماما التي استجوبتْ ذاكرتَها فيها عشرات المرات ، بل وحتى كانت تتركُ وريدها ينزفُ على صدرها أحيانا لترى هول فاجعتها.
أذكرُ مما قرأتُه أنّ أحدا من القبيلة جاء لـ (الزير سالم) فأخبرهُ أنهم يريدون أخذ ثأر (كُلَيب) ، فما أجابهم إلّا بحجم مصيبته أنه يخشى لو أنه أخذ بثأره من الجميع؛ أنْ لا يبقى لديه شيء يثأر به لـ(كُليب)، كان يريد أن يذوق المرارة كاملة، أن يتحسّس الفجيعة بكل اصابعه، أن يفتحَ جرحه على مصراعيه ويقبَلَ حزّ الهواء، أن يعيش وجعه بكل حسرة الارض على فجيعة لن تعود بعدها الحياة كما كانت قبل أن يأخذ بثأره في (حرب البسوس) الشهيرة. هكذا كانت (مشيرة) أحيانا. تخضّ جرحها إن أصابتْه علّةُ السكون، فلم تربطهُ للحظةٍ ولم تطلب الشفاء منه، كانت تعيشه كاملا بما يليق بحجم فجيعتها.
بطلتُنا تصكّ باسنان احساسها دائما حين تعود للرصاصة الاولى التي لم تقتلها ولم تستطع أن تتفاداها ، الرصاصة التي أجبرتها أنْ تقول :"يحسبُ المرء نفسه مستقرّا ؛ حتى تدهسهُ جملة"! . مثل تلك الجملة لم تدمّر (مشيرة) وحدها ، لقد كانت لنا "جُملنا" أيضا ولهذا فنحن لا نفلتُ منها.
لقد مرّر (الطويلة) شعوري الدائم تجاه الكتابة ، ومن خلال (مشيرة) قال كيف تنقذنا الكتابة حين نجلس على الكرسيّ ، وكيف ننقذُ مشاعرنا بالكتابة حين نكون على السرير في غيبوبة أو متيقّظين، محاطين بالملائكة أو بالشياطين، إنّها امرأة من غرام؛ تهشّمتْ وما تهشَّمَ، حرّرتْهُ فما تحرَّرَ، كان ينفلتُ كلما تمسّكتْ به، ويتمسّك بها كلّما انفلتتْ منه ، كلّ ما نريد معرفته عن المرأة الـ(كاتيوشا): إنّه كان غراماً ، أعني ذلك النوع الذي ينهشُ من الداخل ويقتل صاحبَه. هل هنالك نوع آخر من الغرام؟ لا أدري، لكنني لا أظنّ.
ما من امرأة تقرأ هذه الرواية -حسب ظنّي- إلّا وتشعر أن شيئا قد اُخذ منها على حين غرّة، وما من رجل يقرأها حتى يشعر بحدّة سكينه التي يحملها في جيب سترته مستعداً لتجربة الجريمة.
إنها رواية من ذلك النوع الذي يترك فجوة في صدرك حين تنتهي منها، حزن لا تفسّره الّا بمعرفته، ولو كان صدرك ورقة بيضاء فسوف تعرف أنه لا يمكن ازالة الحبر المندلق عليها أبدا.
لقد رأيتُ في هذه الرواية قصيدة طويلة عن امرأة منحتِ الامان لجسر متآكل ؛ فأصابتها اُرضة الخشب وساقتها نحو خيالات لم تكن لتفكّر فيها فتأرجحتْ معه أمامنا، ودعتنْا لتلك الارجوحة ايضا، امرأة احترق قلبُها وهي في طريقها الى شاطئ من البلّور الازرق، امرأة كانت تسمّي رَجُلَها (وَلِيف) لأنه مرادف للحياة باكملها وليس تعريفا للحبّ فحسب، ولشدّة ما كان أنانيا وغير آبه بغير نفسه فقد عرفتْ متأخرة أنه كما أخبرتْه: (كنتَ فارغاً مهما اكتملتُ، وكنتُ غنيةً مهما استغنيتَ).
وأنت تقرأ هذه الرواية ستشعر أنك جميع الشخصيات فيها، لك ردود أفعال الجميع، لكنك لن تعرف ردود الافعال تلك حتى يشير (الطويلة) اليها، وحين تمضي أبعد قليلا نحو عمق غابة المشاعر هذه ستقول: كيف لم أفكّر في ذلك؟ كان الامر بديهيا!
لقد اشتغل (الطويلة) على منطقة حساسة جدا من حال تلك المرأة، وأجاد في الحديث بلسانها على الرغم من أنّه ذكر في الرواية أن ليس هناك من رجل يعرف ما تشعر به المرأة في خيبة كهذه ، لكن روايته كانت قصيدة مجسّدة لصورة القلب المكسور والأمل الذي دفنهُ أوّل خيطٍ للّيل بمباغتة سريعة تسللتْ عبر الكسر هذا واستقرّت بظلمتها فيه.
بطلتنا كانت حكيمة جدا، تعرف كيف تمرّر الرموز والشفرات عبر جمل تكاد تكون بسيطة، إلّا أن ما يظهر على السطح هو رأس الجبل الجليدي فقط، ولكَ ان تختار الغوص لاستكشاف عمقه -إن أحببتَ أو لا-، كانت فيلسوفة مجروحة تنطق بلسانِ مَن مسّه خبَل شِعري من فرط الخيبة، تفكّر بأكثر من رأس وتشعر بأكثر من قلب وتموت بأكثر من تابوت، ما تراه منها لا تلومها عليه، وما تريد لومَها عليه لا تنتظرْ رؤيته منها.
لقد كانت ظلّا لرجُلها الكاتب الذي غرس في أعمق مَقاتِلها سكينا كانت تشحذها لتحضّر له السلَطة على العشاء.
كانت تحدّق فيه وهو في غيبوبته التي عاشتها في سنين لا في ساعات وأيام وشهور حين قالت : "كان يجب أن أحدّق جيدا لأراها، كان يجب أن أحدّق بعينَي الذئب لأرى الخراف". لقد قالت كل الحقائق دفعةً واحدة -كما قرأتُ حقائقها دفعةً واحدةً- فهي التي تلوم وهي التي تبرّر ، وهي التي تحُاكِم والتي تُحاكَمُ، وهي الضحية التي تحمل وريدها المذبوح باحثةً عن اللحظة التي استُغفلتْ فيها، اللحظة التي حزّ فيها الراقدُ هذا عنقَها وهي بين يديه، تلك اللحظة تماما التي استجوبتْ ذاكرتَها فيها عشرات المرات ، بل وحتى كانت تتركُ وريدها ينزفُ على صدرها أحيانا لترى هول فاجعتها.
أذكرُ مما قرأتُه أنّ أحدا من القبيلة جاء لـ (الزير سالم) فأخبرهُ أنهم يريدون أخذ ثأر (كُلَيب) ، فما أجابهم إلّا بحجم مصيبته أنه يخشى لو أنه أخذ بثأره من الجميع؛ أنْ لا يبقى لديه شيء يثأر به لـ(كُليب)، كان يريد أن يذوق المرارة كاملة، أن يتحسّس الفجيعة بكل اصابعه، أن يفتحَ جرحه على مصراعيه ويقبَلَ حزّ الهواء، أن يعيش وجعه بكل حسرة الارض على فجيعة لن تعود بعدها الحياة كما كانت قبل أن يأخذ بثأره في (حرب البسوس) الشهيرة. هكذا كانت (مشيرة) أحيانا. تخضّ جرحها إن أصابتْه علّةُ السكون، فلم تربطهُ للحظةٍ ولم تطلب الشفاء منه، كانت تعيشه كاملا بما يليق بحجم فجيعتها.
بطلتُنا تصكّ باسنان احساسها دائما حين تعود للرصاصة الاولى التي لم تقتلها ولم تستطع أن تتفاداها ، الرصاصة التي أجبرتها أنْ تقول :"يحسبُ المرء نفسه مستقرّا ؛ حتى تدهسهُ جملة"! . مثل تلك الجملة لم تدمّر (مشيرة) وحدها ، لقد كانت لنا "جُملنا" أيضا ولهذا فنحن لا نفلتُ منها.
لقد مرّر (الطويلة) شعوري الدائم تجاه الكتابة ، ومن خلال (مشيرة) قال كيف تنقذنا الكتابة حين نجلس على الكرسيّ ، وكيف ننقذُ مشاعرنا بالكتابة حين نكون على السرير في غيبوبة أو متيقّظين، محاطين بالملائكة أو بالشياطين، إنّها امرأة من غرام؛ تهشّمتْ وما تهشَّمَ، حرّرتْهُ فما تحرَّرَ، كان ينفلتُ كلما تمسّكتْ به، ويتمسّك بها كلّما انفلتتْ منه ، كلّ ما نريد معرفته عن المرأة الـ(كاتيوشا): إنّه كان غراماً ، أعني ذلك النوع الذي ينهشُ من الداخل ويقتل صاحبَه. هل هنالك نوع آخر من الغرام؟ لا أدري، لكنني لا أظنّ.