أ. د. عادل الأسطة - صباحات حيفا: في شارع "أبو نواس"

الخميس ٨ أيلول ٢٠٢٢ زرت حيفا، بدعوة من نادي حيفا الثقافي، لأشهر كتابي «الفلسطيني في الرواية العربية».
أنفقت ليلة الجمعة في نزل حداد في شارع «أبو نواس» الذي غدا اسمه بعد قيام الدولة العبرية «جادة بن جوريون».
عندما صحوت فجراً في السادسة فضلت أن أغادر الغرفة وأجلس على شرفة النزل التي هي مدخل رئيس له وأخذت أتأمل شارع «أبو نواس» المؤدي إلى حديقة البهائيين فجبل الكرمل.
كان الشارع في السادسة صباحاً هادئاً، فحركة السير ضعيفة جداً والشارع الذي كان في الحادية عشرة ليلاً صاخباً ضاجاً بأصوات الموسيقى وحركة الشباب والشابات في المقاهي والمطاعم والحانات، صار في الصباح خلواً إلا من بعض مارة يعدون على أصابع كف يد وبعض حافلات.
نظرت إلى الكرمل وتذكرت سؤال محمود درويش في كتابه «في حضرة الغياب»(٢٠٠٧):
- لماذا نزلت عن الكرمل؟
ونسيت معاناة السفر عبر معبر طولكرم حيث المعاطات تمعطنا، والجلوس في انتظار فؤاد نقارة ليقلني إلى حيفا.
وأنا جالس كنت أشاهد عشرات العمال يعبرون في الاتجاهين؛ مغادرين الضفة الغربية وعائدين إليها في رحلة عذاب يومي لها بداية ولا أحد يعرف متى ستنتهي، ومنذ فترة وأنا أفكر في الكتابة عن عذابات الشباب الفلسطيني في الحصول على فرص عمل في مدنهم وقراهم ليجدوا أنفسهم عمالاً في سوق العمل الإسرائيلي يصحون في الرابعة فجراً ويعودون إلى مساكنهم في السادسة مساء.
معاناة العمال في عبور الصراط المستقيم شعرت بها ومررت بها مروراً عابراً، وسرعان ما نسيتها وأنا أجلس على شط حيفا وشرفة نزل حداد وأتجول في حيفا القديمة وحيفا العتيقة - وحيفا القديمة غير حيفا العتيقة - وفي وادي الصليب وأفطر الفول في مطعم «أبو مارون» وأقف ليلتقط لي الأستاذ فؤاد الصور أمام عمود فيصل وعلى درج جامع الشيخ عز الدين القسام الذي صار يعرف منذ ١٩٤٨ بجامع الاستقلال.
زرت حيفا من قبل مرات عديدة ولكني لم أتجول في أحيائها وشوارعها تجولي فيها في هذه الزيارة يصطحبني الأستاذ فؤاد ابن شقيق حنا نقارة محامي الأرض والشعب منذ ١٩٤٨ إلى وفاته.
في حيفا لا يمكن ألا تتذكر أبرز أدبائها: إميل حبيبي وحنا أبو حنا وسميح القاسم ومحمود درويش وتوفيق فياض وسلمان ناطور، ولا يمكن أن تنسى راشد حسين وأحمد دحبور.
قبل أن أدخل إلى وسط المدينة زرت قبري حبيبي وأبو حنا اللذين كانا رفيقي حزب ثم اختلفا وذهب كل في مسار وصارا رفيقين عدوين لا يجتمعان معاً. في المقبرة عقّب الأستاذ فؤاد قائلاً:
- وها أنت ترى قبريهما. صارا جارين.
عندما بدأت مداخلتي عن كتابي قرأت سطري راشد:
«أتيت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى
فقالوا: أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا ولست ترى سوى حيفا»
فصفق الجمهور تصفيقاً حاراً مرحباً بي ومترحماً على راشد ومكرراً قوله، فأهل حيفا فخورون بمدينتهم وبرموزها الأدبية التي حققت للمدينة شهرة واسعة في العالم العربي.
بعد الانتهاء من المحاضرة ذهبت وفؤاد والكاتبة فوز فرنسيس إلى مطعم فتوش نتناول السلطة ونحتسي العصير والبيرة كل حسب رغبته، ولاحظت خليطاً من الزبائن؛ عرباً ويهوداً يجلسون جنباً إلى جنب وتسير الحياة كما لو أنك في مدينة أوروبية لا أحد يلتفت إلى أحد أو يسأل عن الهوية الدينية لهذا المواطن أو ذاك، وهذه ميزة حيفا كما عرفت من فؤاد؛ ميزة خاصة بها في الشمال الفلسطيني.
عندما ذهبت إلى النزل قبعت في غرفتي مستلقياً على السرير، فلم أجازف في الحادية عشرة ليلاً في الجلوس وحيداً في أحد المقاهي القريبة أرصد الحياة في الشارع. ثمة خوف يلازمني لم أتمكن من التغلب عليه، فماذا لو حدثت مشكلة ما؟
وأنا جالس صباحاً على شرفة النزل أستمتع بأشعة الشمس وهدوء شارع «أبو نواس» تساءلت:
- لعله الضجر من الروتين اليومي هو ما دفع محمود درويش إلى مغادرة هذا الجمال الذي عبر لاحقاً عن ندمه للمغادرة فصرخ صرخة ناظم حكمت:
«- أدخلوني إلى الجنة الضائعة
سأصرخ صرخة ناظم حكمت:
- يا وطني».
وقلت:
- لا بد من إعادة قراءة أشعاره قبل الخروج لملاحظة مدى شعوره بالسأم والضجر، فالجمال أيضاً قد يصبح مألوفاً ويشعر المرء بالضجر فيبحث عن مكان آخر وحياة أخرى.
ونحن نتجول في حيفا اقترح علي فؤاد أن نزور الكاتب فتحي فوراني صاحب كتابي «بين مدينتين، وحكاية عشق»، وفتحي صديق لدرويش وتوفيق فياض والشاعر عصام العباسي، وقد سمى فتحي الدرج المؤدي إلى بيته، يوم كان في بلدية حيفا، باسم عصام. إنه يقع في شارع المتنبي.
ونحن في الشرفة لفت فتحي نظري إلى نافذة مغلقة وقال لي:
- هنا كان يقيم محمود درويش قبل هجرته وهنا كتب قصيدته الشهيرة «جندي يحلم بالزنابق البيضاء».
لفتحي مع درويش وزملائه حكايات كثيرة وهو الأجدر بتوثيقها ووثق قسماً منها في «حكاية عشق»، وحكايات حيفا كثيرة وكثيرة جداً وثمة ملاحظة أخيرة أود إيرادها وهي أن حيفا القديمة اليوم هي مدينة يقطنها مواطنون عرب بنسبة مرتفعة جداً.
لقد عادت مدينة عربية وستجد نفسك وأنت تصغي إلى هذا وتلاحظه تردد مع أحمد دحبور:
«يا طيورا طائرة
يا وحوشا سائرة
بلغي دمعة أمي
أن حيفا لم تزل حيفا
وأني اسأل العابر عنها في ربوع الناصرة».

أ. د. عادل الأسطة
2022-09-18

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى