كاهنة عباس - علاقة المحب بالمحبوب في الاغنية العربية: خفاياها ومعانيها .

علينا أن نفترض أن "الأنا المحبة " نشأت وتكونت ثم تطورت فأصبحت مدركة بذاتها تشعر وتحب وتقرر بعد بلوغها مرحلة الاكتمال، لها وجدان مستقل ورؤية للعالم ، أما عن سبب الانطلاق من هذه الفرضية، فمرده أننا في حاجة إلى أن نتبيّن علاقتها بالآخر المحبوب .
إذا، فنحن إزاء معادلة الأنا المنفتحة وجدانيا وشعوريا باعتبارها ذاتا مدركة بنفسها في مقابل الآخر الذي بات يسترعي اهتمامها ويستحوذ على مساحة هامة من وجدانها.
لذلك اخترنا الرجوع إلى الأغاني العاطفية لنستشف منها طبيعة العلاقة الوجدانية التي تربط الطرفين وتعقيداتها.
فقد رسمت المدونة الشعرية للأغنية العربية صورة سائدة للحب، فاعتبرته التفاني المطلق في سبيل إرضاء الآخر، التضحية من أجله دون قيد أو شرط، تقبل عيوبه من هجر وقلة اهتمام وخيانة وغدر وتكبر وجفاء واللامبالاة وتسلط وأنانية.
ومرد ذلك، أن هذا الآخر هو مصدر سعادة المحب، القادر على أن يمنح لحياته معنى، المسيطر على جميع مشاعره واهتماماته، الغائب / الحاضر، بل والمتحكم في ماضيه وحاضره ومستقبله، الذي لا يمكن هجره ولا عصيانه ولا نسيانه.
وقد عبرت كوكب الشرق المطربة القديرة أم كلثوم، أحسن تعبير في العديد من أغانيها عن مثل هذه العلاقة بين الأنا المحبة والآخر المحبوب، لتغلغل تلك الأغاني في وجدان الناس وانتشارها واستمرارها عبر الأجيال، ولعل أغنيتها "أغدا ألقاك؟" التي كتبها الشاعر السوداني الهادي آدم ،أحسن مثال على ذلك من خلال هذه الأبيات :

أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني
أنت يا قبلة روحي وانطلاقي وشجوني
أغدا تشرق أضواؤك في ليل عيوني ؟
آه ، من فرحة أحلامي ومن خوف ظنوني
كم أناديك وفي لحني حنين ودعاء
يا رجائي أنا،كم عذبني طول الرجاء
أنا لولا أنت،لم أحفل بمن راح وجاء
أنا أحيا في غدي الآن بأحلام اللقاء
فأت أو لا تأت أو فأفعل بقلبي ما تشاء.
هذه الدنيا كتاب أنت فيها الفقر
هذه الدنيا ليال أنت فيها العمر
هذه الدنيا عيون أنت فيها البصر
هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر
فارحم القلب الذي يصبو إليك
فغدا تملكه بين بديك
وغدا تأتلف الجنة أنهارا وظلا
وغدا ننسى فلا نأسى على ماض تولى
وغدا نسهو فلا نعرف للغيب محلا
وغدا للحاضر الزاهي نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر أحلى​

تجدر الإشارة، أن قراءتنا لهذه الأبيات ليست فنية ولا جمالية أو شعرية، بل هي نفسية سيكولوجية في المقام الأول، لتتوسع في مرحلة ثانية فتتناول البعد الثقافي، حتى تصبح الصورة التي يرسمها المحب لمحبوبه أكثر وضوحا، باعتباره محور كتاب الدنيا، إذ يشبهه الشاعر بليالي العمر وبصر العيون والقمر الذي يتوسط سماء الدنيا ، أي كل ما ينير ويحرك ويرسم ملامح العالم الخارجي.
من ثمة، يضحى إدراك الأنا المحبة لذاتها وللعالم مرتبطا ارتباطا وثيقا بحضور الآخر،ومعنى ذلك أنه يشكل بالنسبة إليها سبب الوجود ومعناه ومصدر جميع مشاعرها وانفعالاتها لاكتسابه السلطة الكاملة عليها، إما بتأكيد وجودها وإسعادها أو بنفيهما وتدميرها.
نحن إذا، لسنا إزاء علاقة بين شخصين يملكان نفس القدرات والإمكانيات من حيث تأثير كل منهما على الآخر، بل إزاء علاقة مختلة يمتلك فيها طرف السلطة المعنوية والنفسية الكاملة على الطرف الثاني بأن يجعله خاضعا له.
فالأنا المحبة هي "أنا" عاجزة على تحقيق استقلاليتها ، لأنها تشكو من الهشاشة والتبعية وتحتاج إلى أن تنشئ مع غيرها علاقة تجعلها تشعر بوجودها أي بكيانها بمشاعرها وتطلعاتها ،وهي إذا خلافا للافتراض الذي انطلقنا منه لتعريفها في هذا المقال ،ذات لم تكتمل،أي لم تحقق بعد اكتفائها بذاتها ،حتى كأن الآخر المحبوب لا ينتمي إلى جنسها البشري، لامتلاكه القدرة المطلقة على التحكم في مشاعرها، إذ يبدو لنا الآخر المحبوب مستقلا عنها، يكاد يكون مغيبا ، فلا يحتل أي موقع إلا من خلال انتظار الأنا المحبة لملاقاته.
وصفوة القول ،أن العلاقة ليست متكافئة بين الأنا المحبة الهشة التابعة التي وهبت كل طاقتها للأخر الذي يمتلك القدرة المطلقة على إسعادها والتحكم في مشاعرها دون الاستجابة التامة لأحاسيسها ،مادام مخيرا بين الغياب أو الحضور في الموعد الذي سيجمعهما .
هي علاقة لا يمكن أن تكون إلا مصدرا للتيه والعذاب لاختلالها كما بينا، أما عن أسباب ذلك الاختلال ،فتبقى مجهولة ولا يمكن تأويلها بالرجوع إلى علاقة الرجل بالمرأة ،بتعريف كل طرف كأن نفترض مثلا : أن المرأة هي التي تمثل الأنا المحبة والرجل الآخر المحبوب ، بعد أن اكتفت الأبيات بوصف الجانب العاطفي دون أدنى تأنيث أو تذكير لهذا الطرف أو ذلك ، لذلك تبقى الفرضية العكسية قائمة أيضا، بأن يكون الرجل هو الأنا المحبة والمرأة هي الآخر المحبوب .
والرأي عندنا، هو تجاوز القراءة العاطفية النفسية، لأنها قد لا تبين لنا أسباب الاختلال، إلا من منطلق ذاتي خاص أي بعد تعريف كل طرف والاستناد إلى شخصية كل منهما وتفاصيل حياته ، والحال أننا في حاجة إلى فهم أسسها ومرجعياتها الثقافية.
ومادام الأمر كذلك، فلا بد من أن نعتبر الأنا المحبة /الآخر المحبوب بمثابة المفهومين، أي أن نخرجهما من الدائرة الذاتية الوجدانية العاطفية، بحيث تصبح الأنا هي الذات في معناها المجرد والآخر هو كل كيان خارج عنها ،يمتلك ماهية مختلفة، حتى يتسنى لنا اكتشاف مصدر سلطة الآخر على الأنا، وهي قراءة تبين لنا ولو نسبيا حاجة الأنا المحبة إلى الانصهار في الآخر المحبوب بالرجوع إلى مرجعيات ثقافية سياسية ودينية واجتماعية ، مفادها أن هذه الأنا هي أنا تابعة للعائلة لم تحقق استقلاليتها العاطفية وهي تابعة تبعية مطلقة للسلطة السياسية أي للحاكم الذي اعتاد إجبارها على الخضوع والطاعة ،مطالبة بأن لا تخالف التعاليم الدينية .
من هذه الزاوية، يمكن أن يكون الآخر هو الأب ، الحاكم ، الله ، لامتلاكهم السلطة تارة المعنوية وطورا الرمزية على الأنا، إذ يمثلون الركائز التي ترى من خلالها ذاتها والعالم من حولها ، وهي علاقة تقوم بالأساس على التبعية ، فالأنا عاجزة عن تحقيق أي وجود ذاتي، خارج سلطة الآخر كما عرّفناه ، وهو ما جعلنا نفترض أنها ستحافظ عن تبعيتها عند انخراطها في علاقة عاطفية ،لأنها العلاقة الوحيدة الممكنة.
والرأي عندنا، أن وعي الأنا بذاتها لا ينشأ بقدرتها على التفكير الحر والتساؤل فحسب، بل بخوضها عدة تجارب تجعلها تدرك اختلافها وانفصالها عن الآخر، ومن بينها تجربة الحب .

كاهنة عباس .

* سبق نشر هذا المقال بجريدة الشارع المغاربي التونسية بتاريخ 2022/06/07 .
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

تحية استاذة كاهنة عباس
موضوع شائق يبحث في الموروث الشعبي، لما يسمى في القطر التونسي الشقيق الشعر الأخضر الذي يتمحور حول العشق والحب، في ألاشعار العامية والملحونيات والزجل.. وهو معرف بهذه المسميات عبر الأقطار المغاربية.. والعامية التونسية محببة جدا، واشعارها شائقة ومعبرة، بل إباحية الى حد بعيد في بعض نماذجها،
كل التقدير استاذة
 
الى الكاتب المرموق نقوس المهدي :
أسعدني مروركم الكريم ، واستفدت من ملحوظاتكم القيمة حول المقال وهو موضوع يستحق البحث والتحليل باعتبار ان الشعر العامي والادب الشعبي عموما رغم ثرائه وعمقه ،لم يوثق بالقدر الكافي وبقي هامشيا .
مع خالص تقديري
الاستاذة كاهنة عباس
 
أعلى