تثير الحرب الأهلية الاثيوبية، في توقفها وتجددها أسئلة حادة وممزقة للسائد، وتأتي الإجابات من الناحية الأخرى عقيمة خالية من الثمر. لنبدأ من تسمية الحرب ذاتها؛ فالبعض لا يطلق عليها اسم الحرب الأهلية رغم أنها كذلك: فأطرافها مواطنو بلد واحد وإن اختلفت لغاتهم واثنياتهم، ويتصارعون ضمن بلد واحد وإن اختلفت الاقاليم والرقعة الجغرافية للصراع وأخيرا يحددون بمخرجات الحرب مصير بلادهم وشكلها مستقبلا، مع تأثير ذلك على مساحات خارج بلادهم بالطبع. هذه الحقيقة تجعل الطرف الارتري المشارك فيها إما أنه ينظر إلى نفسه كطرف اثيوبي أصيل يهمه، كما قال الرئيس اسياس ذاته، أمر اثيوبيا ومستقبلها، أو تجعله طرفا دخيلا في تناقض مع كل العالم الذي يطالبه بالكف عن التدخل في شأن داخلي لدولة أخرى.
تعتبر الحرب من وجهة نظر عالم الاستراتيجية الالماني فون كلاوسفيتز امتدادا للسياسة، فعندما تتوقف عجلات عربة السياسة، تبدأ جنازير الدبابات بالتحرك. إذن لكل حرب غاية سياسية عجز السلم عن تحقيقها، وهي حسب هذا القول، أي الحرب، هي القاعدة وإن الاستثناء هو السلام، باعتبار أن كل سلام هو هدنة من أجل استئناف الحرب.
فما الأهداف السياسية التي يخوض بموجبها الطرف الارتري في هذه الحرب الأهلية؟
صمت ارتريا على لسان حكامها من تبرير أسباب الحرب يفتح باب التكهنات وضرب الرمل في التحليل السياسي. حتى قامت مجموعة (السيادة الوطنية وهي مجموعة تعيش في المنفي، إذ لم نر أي مدافع عن السيادة الوطنية في الداخل) بمحاولة التبرير نيابة عن الحاكم الأوحد لأسباب دخوله الحرب، وهو سعي حتى الآن لا محمود ولا مشكور من قبل افورقي وحكومته. فلو افترضنا أن هذه الحرب خاضها الجيش الارتري من اجل استعادة الاراضي الارترية المحتلة والتي تعيق الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أعادتها لارتريا، فإن هذا المبرر سقط بحلول نهاية شهر نوفمبر 2020 عندما استعادت ارتريا كل الأراضي المحتلة، ولكنها واصلت طريقها حتى احتلال عاصمة الاقليم الاثيوبي الشمالي. ولو افترضنا أن التدخل الارتري هو فعلا لحماية السيادة الوطنية فيطرأ هنا سؤال (نازف) يتجدد مع كل كشة تقوم بها الحكومة في أوساط الشباب (الكشة الأخيرة اسمتها وكالة رويترز وكندا وبريطانيا بإعلان التعبئة العامة في أوساط الجيش الارتري، وهم يظنونها مثل إعادة التعبئة الروسية التي اعلنها بوتين: فبينما بوتين يستدعي جيش الاحتياط، تقوم الشرطة والجيش الارتري بمطاردة الشباب في المنازل والحواري) ونعود للسؤال النازف المطروح أمام أصحاب طرح السيادة الوطنية والدفاع عنها: لماذا يحتاج الشعب الارتري للعنف والجرجرة حتى يدافع عن "سيادة بلاده المهددة"؟ هل لأنه شعب لا يتملك الشجاعة والحمية للدفاع عن أرضه، أو لأنه شعب "جاهل" لا يستطيع إدراك "مهددات" سيادته الوطنية، أو لأنه لا يريد المشاركة في الحرب. وهذه هي الإجابة الراجحةـ بسبب أن نفس هذا الشعب وقف وقفة واحدة في عام 1998 في مواجهة حرب الوياني.
ولو قبلنا بمسلمة كلاوسفيتز حول كون الحرب امتدادا للسياسة فإننا سنظل مطاردين بالأسئلة اللاهثة، من شاكلة: ما هي السياسة التي كان يمارسها افورقي وتوقفت عجلاتها، لتبدأ الدبابات بالحركة لتحقيق ما عجزت سياساته عن تحقيقه؟ لننقل الإجابة إلى الطرف الثاني وهو حليفه أبي أحمد. في حالة الحكومة الفيدرالية الاثيوبية تبدو الحرب امتدادا للسياسة، لماذا؟
لأنها تتضمن قضايا سياسية واضحة المعالم مثل إدارة اثيوبيا وشكلها: هل تدار فيدراليا أم مركزيا، ومن له الحق في إدارتها؟ فشكل الحكم وأدواته وأشخاصه وأهدافه في قلب الحرب بين الخصوم الاثيوبيين، وليس في هذا لبس أو غموض. وضمن هذه المشكلة إدارة اقليم تيغراي ذاته: حيث حاول أبي أحمد إدارة الاقليم بتعيين حكومة موالية لأديس ابابا في مقلي بإدارة الدكتور ملو نقا، ولم تستمر، حيث استقال الدكتور وبرر استقالته بأن سكان الاقليم يرفضون التعاون مع حكومته، وعين لها لاحقا ابراهام بلاي (وزير الدفاع الحالي) وانهارت بعودة قوات تيغراي إلى عاصمتها. إذن المحتوي السياسي المحمول والمشحون بالأبعاد الأخرى (القومية والتاريخية) هو السائد في الحرب الاهلية الجارية وهو الذي يعطيها البعد السياسي، ولا يتجسد هذا المحمول في التورط الارتري في نفس الحرب.
من هنا تأتي محاولة تسيس هذا التورط بتصويره كدفاع عن السياسة الوطنية الارتري، ويبدو هذا التبرير كغطاء قصير إذا غطيت به الرأس انكشفت الأرجل، وإذا شدته الأرجل أنكشف الرأس. أيضا لماذا أخرى؟
لأن اسياس افورقي وفي حكمه لارتريا خلال الثلاثين عاما الماضية لم يستعمل السياسة بل أدارها (داخليا وفي علاقاتها الاقليمية) بعقلية الحرب. وعقلية الحرب عنده تمثلها مقولة أن "الحرب خدعة" وأهم مكونات الخدعة هو عنصر المباغتة، ولكي ينجح عنصر المباغتة يجب أن "لا يعرف" العدو ما تخطط له، والصمت واحد من أدوات تعمية العدو. إذن نوايا افورقي وصمته ومبرراته (على قلتها) تبدو كالغطاء القصير، ولكن عن تدبير وقصد لأن إدارة ارتريا وإدارة الحرب سواء ضد تيغراي أو غيرها من دول الجوار، تتم بالأساس عنده وفقا لمفهوم أن الحرب خدعة والذي انتقل في أفق الرئيس المريض ليصبح "السياسة خدعة". وهو بإدارة البلاد بهذا الأسلوب الحربي لا يعرف الشعب حتى الآن أهدافه ومراميه من صراعاته التي لا تنتهي والتي يبررها فقط: الحرب للبقاء في السلطة ليس إلا.
وضمن اسئلة السياسة الملحة، عند المقارنة بأهداف ابي احمد السياسية: هل يستطيع اسياس افورقي بعد "هزيمة" قيادة تيغراي تعيين حكومة موالية له في الاقليم؟ بحيث يدار الاقليم من اسمرا؟ فكيف تنجح اسمرا فيما فشلت فيه اديس ابابا، هذه هي اسئلة السياسة التي تترافق مع الحرب الدائرة اليوم، والتي لا يملك لا اسياس ولا مناصريه الأجوبة الشافية لها، خاصة وأن هذه الأجوبة حق مشروع للشعب الارتري في الداخل والمهجر.
ونحاول التوقف قبل أن تسحبنا هذه الأسئلة إلى جانب شائك آخر وهو: الاقتصاد السياسي للحرب الراهنة. وذلك مقام تتطاير فيه الاسئلة كتطاير الأنجم الشهب.
فتحي عثمان
تعتبر الحرب من وجهة نظر عالم الاستراتيجية الالماني فون كلاوسفيتز امتدادا للسياسة، فعندما تتوقف عجلات عربة السياسة، تبدأ جنازير الدبابات بالتحرك. إذن لكل حرب غاية سياسية عجز السلم عن تحقيقها، وهي حسب هذا القول، أي الحرب، هي القاعدة وإن الاستثناء هو السلام، باعتبار أن كل سلام هو هدنة من أجل استئناف الحرب.
فما الأهداف السياسية التي يخوض بموجبها الطرف الارتري في هذه الحرب الأهلية؟
صمت ارتريا على لسان حكامها من تبرير أسباب الحرب يفتح باب التكهنات وضرب الرمل في التحليل السياسي. حتى قامت مجموعة (السيادة الوطنية وهي مجموعة تعيش في المنفي، إذ لم نر أي مدافع عن السيادة الوطنية في الداخل) بمحاولة التبرير نيابة عن الحاكم الأوحد لأسباب دخوله الحرب، وهو سعي حتى الآن لا محمود ولا مشكور من قبل افورقي وحكومته. فلو افترضنا أن هذه الحرب خاضها الجيش الارتري من اجل استعادة الاراضي الارترية المحتلة والتي تعيق الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أعادتها لارتريا، فإن هذا المبرر سقط بحلول نهاية شهر نوفمبر 2020 عندما استعادت ارتريا كل الأراضي المحتلة، ولكنها واصلت طريقها حتى احتلال عاصمة الاقليم الاثيوبي الشمالي. ولو افترضنا أن التدخل الارتري هو فعلا لحماية السيادة الوطنية فيطرأ هنا سؤال (نازف) يتجدد مع كل كشة تقوم بها الحكومة في أوساط الشباب (الكشة الأخيرة اسمتها وكالة رويترز وكندا وبريطانيا بإعلان التعبئة العامة في أوساط الجيش الارتري، وهم يظنونها مثل إعادة التعبئة الروسية التي اعلنها بوتين: فبينما بوتين يستدعي جيش الاحتياط، تقوم الشرطة والجيش الارتري بمطاردة الشباب في المنازل والحواري) ونعود للسؤال النازف المطروح أمام أصحاب طرح السيادة الوطنية والدفاع عنها: لماذا يحتاج الشعب الارتري للعنف والجرجرة حتى يدافع عن "سيادة بلاده المهددة"؟ هل لأنه شعب لا يتملك الشجاعة والحمية للدفاع عن أرضه، أو لأنه شعب "جاهل" لا يستطيع إدراك "مهددات" سيادته الوطنية، أو لأنه لا يريد المشاركة في الحرب. وهذه هي الإجابة الراجحةـ بسبب أن نفس هذا الشعب وقف وقفة واحدة في عام 1998 في مواجهة حرب الوياني.
ولو قبلنا بمسلمة كلاوسفيتز حول كون الحرب امتدادا للسياسة فإننا سنظل مطاردين بالأسئلة اللاهثة، من شاكلة: ما هي السياسة التي كان يمارسها افورقي وتوقفت عجلاتها، لتبدأ الدبابات بالحركة لتحقيق ما عجزت سياساته عن تحقيقه؟ لننقل الإجابة إلى الطرف الثاني وهو حليفه أبي أحمد. في حالة الحكومة الفيدرالية الاثيوبية تبدو الحرب امتدادا للسياسة، لماذا؟
لأنها تتضمن قضايا سياسية واضحة المعالم مثل إدارة اثيوبيا وشكلها: هل تدار فيدراليا أم مركزيا، ومن له الحق في إدارتها؟ فشكل الحكم وأدواته وأشخاصه وأهدافه في قلب الحرب بين الخصوم الاثيوبيين، وليس في هذا لبس أو غموض. وضمن هذه المشكلة إدارة اقليم تيغراي ذاته: حيث حاول أبي أحمد إدارة الاقليم بتعيين حكومة موالية لأديس ابابا في مقلي بإدارة الدكتور ملو نقا، ولم تستمر، حيث استقال الدكتور وبرر استقالته بأن سكان الاقليم يرفضون التعاون مع حكومته، وعين لها لاحقا ابراهام بلاي (وزير الدفاع الحالي) وانهارت بعودة قوات تيغراي إلى عاصمتها. إذن المحتوي السياسي المحمول والمشحون بالأبعاد الأخرى (القومية والتاريخية) هو السائد في الحرب الاهلية الجارية وهو الذي يعطيها البعد السياسي، ولا يتجسد هذا المحمول في التورط الارتري في نفس الحرب.
من هنا تأتي محاولة تسيس هذا التورط بتصويره كدفاع عن السياسة الوطنية الارتري، ويبدو هذا التبرير كغطاء قصير إذا غطيت به الرأس انكشفت الأرجل، وإذا شدته الأرجل أنكشف الرأس. أيضا لماذا أخرى؟
لأن اسياس افورقي وفي حكمه لارتريا خلال الثلاثين عاما الماضية لم يستعمل السياسة بل أدارها (داخليا وفي علاقاتها الاقليمية) بعقلية الحرب. وعقلية الحرب عنده تمثلها مقولة أن "الحرب خدعة" وأهم مكونات الخدعة هو عنصر المباغتة، ولكي ينجح عنصر المباغتة يجب أن "لا يعرف" العدو ما تخطط له، والصمت واحد من أدوات تعمية العدو. إذن نوايا افورقي وصمته ومبرراته (على قلتها) تبدو كالغطاء القصير، ولكن عن تدبير وقصد لأن إدارة ارتريا وإدارة الحرب سواء ضد تيغراي أو غيرها من دول الجوار، تتم بالأساس عنده وفقا لمفهوم أن الحرب خدعة والذي انتقل في أفق الرئيس المريض ليصبح "السياسة خدعة". وهو بإدارة البلاد بهذا الأسلوب الحربي لا يعرف الشعب حتى الآن أهدافه ومراميه من صراعاته التي لا تنتهي والتي يبررها فقط: الحرب للبقاء في السلطة ليس إلا.
وضمن اسئلة السياسة الملحة، عند المقارنة بأهداف ابي احمد السياسية: هل يستطيع اسياس افورقي بعد "هزيمة" قيادة تيغراي تعيين حكومة موالية له في الاقليم؟ بحيث يدار الاقليم من اسمرا؟ فكيف تنجح اسمرا فيما فشلت فيه اديس ابابا، هذه هي اسئلة السياسة التي تترافق مع الحرب الدائرة اليوم، والتي لا يملك لا اسياس ولا مناصريه الأجوبة الشافية لها، خاصة وأن هذه الأجوبة حق مشروع للشعب الارتري في الداخل والمهجر.
ونحاول التوقف قبل أن تسحبنا هذه الأسئلة إلى جانب شائك آخر وهو: الاقتصاد السياسي للحرب الراهنة. وذلك مقام تتطاير فيه الاسئلة كتطاير الأنجم الشهب.
فتحي عثمان