قبل مئة عام وبالتحديد في عام 1922 اجتاحت الفاشية إيطاليا، وأقصت اليسار الإيطالي بشقيه الماركسي والاشتراكي الديمقراطي من الساحة. استخدمت الفاشية العنف المفرط ضد الحركة العمالية بالذات؛ لأنها كانت العقبة الأخيرة أمامها في الاستيلاء التام على الدولة والسلطة بالتحالف مع أرباب الصناعة المتذمرين أساسا من النشاط النقابي للحركة العمالية والعناصر اليمنية في الجيش والشرطة. استغلت الفاشية أوضاع المجتمع الإيطالي خاصة في الجنوب والمشاكل الاقتصادية المتفاقمة بعد الحرب العالمية الأولى.
في هذه الفترة التاريخية الكبرى في التاريخ الإيطالي ولاحقا في التاريخ العالمي عاصر أنطونيو غرامشي، منظر الثقافة الماركسي الأشهر تقدم الفاشية من موقعه في مدينة تورينو الصناعية الشمالية، والتي نشط فيها غرامشي في تكوين وتنظيم المجالس العمالية.
ومجالس العمال هذه، والتي كان غرامشي يعدها ويجهزها كأنوية للثورة الاشتراكية في إيطاليا أسوة بنظيرتها من مجالس السوفيتات في روسيا. وكانت هذه المجالس ذات قوة وتأثير كبيرين، ففي شركة فيات الشهيرة على سبيل المثال كان مجلس للعمال يتكون من حوالي 15 الف عامل، استطاعوا في فترات متكررة شل القدرة الإنتاجية للشركة والشركات المماثلة. كانت الإضرابات العمالية تجبر أرباب الصناعة على تقديم تنازلات في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
في مقالاته المتواترة في مجلة "اورديني نوفو" كتب غرامشي مقالات أرتكب فيها "غلطة الشاطر". ففي مقال له تحت عنوان "ازمة الفاشية" أكد غرامشي على أن الحركة الفاشية لا تقوى على الحياة والاستمرار لأنها تعاني من تناقضات جوهرية، وأنها تعتمد على تفسخ المجتمع الإيطالي وظرفية الأوضاع الناتجة عن الحرب. جاء هذا المقال في ظل تمدد واسع للحركة الفاشية واستخدام للعنف بشكل واسع وتراجع واضح للحركة العمالية، ولكن واعتمادا على تفكير "رغبوي" إن جازت تسميته كذلك قال غرامشي بأن العمال يمكن أن يشكلوا حركة جماهيرية مقاومة ضد المد الفاشي. بنى غرامشي افتراضه الأخير هذا على أوضاع مدينة تورينو والتي كانت تمثل "قلعة عمالية" صعبة المراس؛ بينما في الخارج، أي في الجنوب والغرب الإيطالي كانت الفاشية تتمدد وبقوة. وخلافا لقراءته سقطت تورينو في يد الفاشيين في الثامن والعشرين من ابريل من نفس العام.
أخطاء غرامشي في التقدير كانت بسبب الجغرافية، حيث كان في انقطاع عن اخبار وحجم التمدد الفاشي خارج مدينته. ثانيا سوء التقدير المزدوج من ناحية لقوة الحركة العمالية ولقوة الفاشيين في استخدام العنف المفرط. استيلاء الفاشية على السلطة بعد المسيرة الشهيرة لموسوليني نحو روما وإجبار الملك على تشكيل حكومة برئاسته كان ضحاياه لاحقا المفكر أنطونيو غرامشي ذاته والذي قضى نحبه في سجون الفاشية.
هذه الفاشية كانت وبالا على إيطاليا وأوروبا وارتريا. ففي ارتريا حولت إيطاليا الفاشية البلاد إلى خلية نحل من خلال اقتصاد العسكرة الرامي إلى تحويل ارتريا إلى منصة انطلاق لغزو الحبشة وهذا الذي تم لها في عام 1936. وهذه الفترة التي يظن البعض فيها أن ارتريا حققت "نهضة صناعية" عند المقارنة بأثيوبيا، ولكن نفس الفترة من ناحية أخرى شهدت تكون بدايات الحركة العمالية في البلاد.
تتعاظم أخطاء المنظرين بقدر ما لديهم من المام ومعرفة " كان غرامشي ملما بشكل غير قياسي باللغة والأدب اليوناني واللغة اللاتينية والفرنسية والانجليزية، وكان قارئ نهما بسبب الإعاقة منذ فترة الطفولة"، وليس الخطأ في الاجتهاد جريمة، ولكن عواقبه ترقى أحيانا إلى الجرم. والاجتهادات تخطئ وتصيب ومنها افتراض أن الثورة الاشتراكية سوف تتحقق في بريطانيا الصناعية مثلا.
ما يلي الاجتهاد برمته، هو ما يهمنا في هذه السانحة، فبعض كتاب اليسار والذين أرخوا لتطور غرامشي الفكري والحياتي، برروا له أخطاءه في العجز من فهم صيرورة الفاشية، وقالوا وبما أنه كان نشطا في الحركة العمالية وتنظيمها كان "واجبا" عليه كتابة مثل هذه المقالات التي ترفع من الروح المعنوية للمقاومة ومواجهة المد الفاشي. ولكن عندما حدث الاجتياح لم تنفع مقالات غرامشي؛ بل أضرت من حيث كان يجب أن تنفع.
يرتكب السياسيون الأخطاء القاتلة، وظننا أن غرامشي وتحت ضغط السياسي التكتيكي، وليس غرامشي المنظر العميق الفكر، هو الذي وقع في خطاء التقدير، وبذلك يرتكب نفس أخطاء السياسيين الذين تضيع الأوطان والشعوب نتيجة سوء تقديراتهم وأفعالهم.
وأسوأ وأكثر قبحا من أخطاء السياسيين وسوء تدبيرهم هو تبرير الآخرين لأخطائهم، مثل التبرير للطغيان في ارتريا بالمطالبة بإلغاء وفرملة المقاومة وعدم المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين لأن "الفترة الحرجة" التي تمر بها البلاد لا تسمح بذلك. وهم لا يعملون بأن الفترة الأحرج والأكثر سوادا في تاريخ الأوطان هي فترات تبرير الفساد والطغيان
فتحي عثمان
في هذه الفترة التاريخية الكبرى في التاريخ الإيطالي ولاحقا في التاريخ العالمي عاصر أنطونيو غرامشي، منظر الثقافة الماركسي الأشهر تقدم الفاشية من موقعه في مدينة تورينو الصناعية الشمالية، والتي نشط فيها غرامشي في تكوين وتنظيم المجالس العمالية.
ومجالس العمال هذه، والتي كان غرامشي يعدها ويجهزها كأنوية للثورة الاشتراكية في إيطاليا أسوة بنظيرتها من مجالس السوفيتات في روسيا. وكانت هذه المجالس ذات قوة وتأثير كبيرين، ففي شركة فيات الشهيرة على سبيل المثال كان مجلس للعمال يتكون من حوالي 15 الف عامل، استطاعوا في فترات متكررة شل القدرة الإنتاجية للشركة والشركات المماثلة. كانت الإضرابات العمالية تجبر أرباب الصناعة على تقديم تنازلات في ظل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى.
في مقالاته المتواترة في مجلة "اورديني نوفو" كتب غرامشي مقالات أرتكب فيها "غلطة الشاطر". ففي مقال له تحت عنوان "ازمة الفاشية" أكد غرامشي على أن الحركة الفاشية لا تقوى على الحياة والاستمرار لأنها تعاني من تناقضات جوهرية، وأنها تعتمد على تفسخ المجتمع الإيطالي وظرفية الأوضاع الناتجة عن الحرب. جاء هذا المقال في ظل تمدد واسع للحركة الفاشية واستخدام للعنف بشكل واسع وتراجع واضح للحركة العمالية، ولكن واعتمادا على تفكير "رغبوي" إن جازت تسميته كذلك قال غرامشي بأن العمال يمكن أن يشكلوا حركة جماهيرية مقاومة ضد المد الفاشي. بنى غرامشي افتراضه الأخير هذا على أوضاع مدينة تورينو والتي كانت تمثل "قلعة عمالية" صعبة المراس؛ بينما في الخارج، أي في الجنوب والغرب الإيطالي كانت الفاشية تتمدد وبقوة. وخلافا لقراءته سقطت تورينو في يد الفاشيين في الثامن والعشرين من ابريل من نفس العام.
أخطاء غرامشي في التقدير كانت بسبب الجغرافية، حيث كان في انقطاع عن اخبار وحجم التمدد الفاشي خارج مدينته. ثانيا سوء التقدير المزدوج من ناحية لقوة الحركة العمالية ولقوة الفاشيين في استخدام العنف المفرط. استيلاء الفاشية على السلطة بعد المسيرة الشهيرة لموسوليني نحو روما وإجبار الملك على تشكيل حكومة برئاسته كان ضحاياه لاحقا المفكر أنطونيو غرامشي ذاته والذي قضى نحبه في سجون الفاشية.
هذه الفاشية كانت وبالا على إيطاليا وأوروبا وارتريا. ففي ارتريا حولت إيطاليا الفاشية البلاد إلى خلية نحل من خلال اقتصاد العسكرة الرامي إلى تحويل ارتريا إلى منصة انطلاق لغزو الحبشة وهذا الذي تم لها في عام 1936. وهذه الفترة التي يظن البعض فيها أن ارتريا حققت "نهضة صناعية" عند المقارنة بأثيوبيا، ولكن نفس الفترة من ناحية أخرى شهدت تكون بدايات الحركة العمالية في البلاد.
تتعاظم أخطاء المنظرين بقدر ما لديهم من المام ومعرفة " كان غرامشي ملما بشكل غير قياسي باللغة والأدب اليوناني واللغة اللاتينية والفرنسية والانجليزية، وكان قارئ نهما بسبب الإعاقة منذ فترة الطفولة"، وليس الخطأ في الاجتهاد جريمة، ولكن عواقبه ترقى أحيانا إلى الجرم. والاجتهادات تخطئ وتصيب ومنها افتراض أن الثورة الاشتراكية سوف تتحقق في بريطانيا الصناعية مثلا.
ما يلي الاجتهاد برمته، هو ما يهمنا في هذه السانحة، فبعض كتاب اليسار والذين أرخوا لتطور غرامشي الفكري والحياتي، برروا له أخطاءه في العجز من فهم صيرورة الفاشية، وقالوا وبما أنه كان نشطا في الحركة العمالية وتنظيمها كان "واجبا" عليه كتابة مثل هذه المقالات التي ترفع من الروح المعنوية للمقاومة ومواجهة المد الفاشي. ولكن عندما حدث الاجتياح لم تنفع مقالات غرامشي؛ بل أضرت من حيث كان يجب أن تنفع.
يرتكب السياسيون الأخطاء القاتلة، وظننا أن غرامشي وتحت ضغط السياسي التكتيكي، وليس غرامشي المنظر العميق الفكر، هو الذي وقع في خطاء التقدير، وبذلك يرتكب نفس أخطاء السياسيين الذين تضيع الأوطان والشعوب نتيجة سوء تقديراتهم وأفعالهم.
وأسوأ وأكثر قبحا من أخطاء السياسيين وسوء تدبيرهم هو تبرير الآخرين لأخطائهم، مثل التبرير للطغيان في ارتريا بالمطالبة بإلغاء وفرملة المقاومة وعدم المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين لأن "الفترة الحرجة" التي تمر بها البلاد لا تسمح بذلك. وهم لا يعملون بأن الفترة الأحرج والأكثر سوادا في تاريخ الأوطان هي فترات تبرير الفساد والطغيان
فتحي عثمان