أبووردة السعدني - السلطان أحمد الأول: لمحات من سيرته

... وكأني بالسلطان أحمد الأول ، الذي لم يتجاوز الأربعة عشر عاما ، أثناء تجهيزه جثمان والده السلطان محمد الثالث ليواريه الثرى ، يوم الأحد ، الثامن عشر من شهر رجب سنة 1012 /1603 ، تسترجع ذاكرته مشهدا انخلع له قلبه ، وهو في الخامسة من عمره ، حين استدعي والده من مدينة الأمراء مانيسا - القريبة من إستانبول في غرب الأناضول ، يوم الجمعة السادس عشر من جمادى الآخرة سنة 1003 /1594 ، ليعتلي عرش الدولة العثمانية ، إثر وفاة السلطان مراد الثالث ، الذي ما أن دفن في قبره ، ورجع السلطان محمد الثالث إلى قصره ، حتي أمر بقتل إخوته خنقا ودفنهم بجوار والدهم ، وكانوا تسعة عشرا ذكرا ، في مشهد تنفطر من هوله القلوب ، وتقشعر لفظاعته الأبدان !!

... تذكر السلطان أحمد - أيضا - أن والده محمد الثالث ، طوعت له نفسه قتل ولده الأكبر ، الأمير محمود ، بدم بارد ، لوشاية كاذبة ، فحواها : أنه يسعى للجلوس على العرش العثماني !!
.... تلفت السلطان أحمد حوله ، فلم يجد على قيد الحياة - من آل عثمان - إلا هو ، وشقيقه الأصغر الأمير مصطفى ( السلطان مصطفى الأول فيما بعد ) ، رآه منتحيا جانبا ، منتحبا ،ترتعد فرائصه ، منتظرا مصير أعمامه التسعة عشر ، وأنه سيلحق بوالده بين لحظة أو أخرى ، فكر السلطان الشاب الذي أخذته الرحمة والشفقة بأخيه ، وبدولته التي أمست دولة بلا أمراء ، ماذا لو أقدم على قتل أخيه دون إثم اقترفه أو جرم ارتكبه ، إلا الخوف من منافسته له على العرش ، ثم ما مصير الدولة العثمانية لو حان حينه ، وهو لم يتزوج بعد ، بل لم تجر له جراحة الختان حتى الآن ؟!! ...
... لم يطل التفكير بالسلطان ، فأصدر فرمانه بعدم قتل أخيه ، والعرش للأرشد من آل عثمان ، فتوقفت جرائم قتل الاخوة ، وأنقذت الدولة العثمانية من الزوال ...
... ما أن جلس السلطان أحمد الأول على عرش الدولة العثمانية حتى برهن أنه - رغم صغر سنه - يتمتع برؤى صائبة وقدرات عقلية متميزة ، فلقد أدرك أن السلطانين السابقين : مرادا الثالث و محمداً الثالث قد فرطا في شؤون الدولة العثمانية ، وكانا سببا في تراجعها وتقهقرها ، وسمحا للنساء بالتدخل في أمور الحكم ، فاتخذ عدة إجراءات صارمة ، كان أهمها :
... أبعد جدته " صافية سلطان " عن قصر الحكم ، حتى لا تتدخل في السياسة ، ولم يقبل أن يكون ألعوبة في أيدي النساء ...
...استخدم رجالا أكفاء اعتمد عليهم في إدارة شؤون الدولة ، وكان لا يتردد في قتل المرتشين و المفسدين ، حتى لو كان الصدر الأعظم ( رئيس الوزراء ) ...
.... قرر الاسترشاد برأي شيخ الإسلام في اختيار الأصلح لتولي منصب الصدارة العظمى ومناصب الوزراء والولاة ...
... قام بترتيب وتدوين قوانين الدولة ، مستعيناً في ذلك بأهل العلم والخبرة...
... أمر بمنع بيع الخمور في كل أرجاء الدولة ، وعدم تحصيل ضرائب على تلك الموبقات ، وإراقة الموجود منها ...
... اعتاد القيام بجولات تفقدية في عدد من الولايات ، للوقوف على أحوال الرعية ....
.... أما الجوانب الحضارية فقد كان لها نصيب كبير من اهتمام السلطان أحمد الأول - رغم صغر سنه - ، نشير إلى طرف منها :
... أنشأ مكتبتين عامتين كبيرتين في إستانبول ، إضافة إلى المكتبات القائمة ...
... أصدر أوامره بعدم بيع الكتب أو تهريبها خارج الدولة العثمانية ، خوفاً من اندراس العلم فيها ...
... أولى الحرمين الشريفين عناية فائقة ، وكان له الأثر الطيب فيهما ، فلقد أرسل إلى الروضة الشريفة ما عرف باسم " الكوكب الدري " ، وهو قطعة من الألماس ، كان والده السلطان محمد الثالث ، قد اشتراها بخمسين ألف دينار ذهباً ، علقت على جدار الروضة المطهرة ، عرفت تلك الألماسة باسم " شب جراغ Ceb Cerag " ، لأنها كانت تنشر الضياء حولها ليلا ، وقد أرسلت الماسة المذكورة بعد أن وضعت على لوحة زينت أطرافها بمائتين وعشرين ألماسة ثمينة غيرها ...
... أما الكعبة المشرفة : فحين رفع شريف مكة تقريراً يفيد " باندراس جدران البيت وسقفه بحيث قربت من الانهدام " ، أمر - على الفور - بتجهيز المهمات واللوازم لعمارته ، وكان السلطان - من شدة تعظيمه للكعبة المشرفة - اعتزم أن يعيد بناءها ، فيضع لبنة من ذهب وأخرى من فضة ، لولا أن أثناه شيخ الإسلام عن ذلك ، قائلاً : لو أراد الله سبحانه وتعالى لخلقها من الزبرجد والعقيق ...
... أمر - أيضاً - بإرسال كسوة الكعبة - لأول مرة - من العاصمة العثمانية ، فكان يشرف بنفسه على نسجها وتطريزها وتزيينها ، كما صنع " ميزابا ذهبياً " للكعبة وعتبة لبابها ، وأمر بتغليف نطاقها بطبقتين ، الأولى من الذهب الخالص ، والأخرى من الفضة الخالصة ....
... جدير بالذكر : أنه أنشأ جامعه الشهير في مدينة إستانبول والذي عرف باسمه " جامع السلطان أحمد " ، بلغت مساحته ٤٦٠٨ متراً ، قطر قبته ٢٣,٥ متراً وارتفاعها ٤٣ متراً ، به ستة مٱذن ، يطلق عليه - أيضاً - " الجامع الأزرق " لأن جدره مغطاة بالخزف اللازوردي الأزرق الضارب إلى حمرة ، وقد جلبوه من جبال أرمينيا ...
... نشير - أخيراً - إلى أن السلطان المملوكي " الأشرف قايتباي" - ت ١٤٩٦ م - كان قد ابتاع " أثرا للقدم النبوي الشريف " بعشرين ألف دينار ذهباً من أحد الأشراف ، فأمر السلطان أحمد الأول بإحضاره من القاهرة ليتعطر بوجوده جامعه ، لكنه رأى ، فيما يرى النائم ، أن الأنبياء - عليهم السلام - عقدوا مجلساً قضائياً ، يرأسه خاتم النبيين والمرسلين - صلى الله عليه وسلم- ، للفصل في الدعوى التي أقامها السلطان قايتباي ضد السلطان أحمد الأول ، فقضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بإعادة الأثر الشريف إلى جامع السلطان قايتباي بالقاهرة ، امتثل السلطان أحمد الأول ، وأعاده ، بعد أن أمر بصنع ريشة على شكل أثر القدم الشريف من الذهب الخالص ، مرصعة بالأحجار الكريمة ، ليزين بها عمامته أيام الجمع والأعياد ...
... هذا ، وقد لحق السلطان الشاب أحمد الأول بالرفيق الأعلى سنة ١٠٢٦ /١٦١٧ ، عن عمر يناهز الثمانية والعشرين عاما ، بعد أن حكم الدولة العثمانية أربع عشرة سنة ، نعت بأنه " كان ملكاً ملكي الخصلة ، يحب العلماء والصلحاء ، لا سيما الأشراف ، ويحسن إليهم إحسانا بالغا "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى