أ. د. عادل الأسطة - في ذكرى رحيل إدوارد سعيد ال ١٩

ربما هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها في ذكرى رحيل الناقد والدارس الفلسطيني إدوارد سعيد الذي ملأ نتاجه المكتبات وشغل المفكرين وأساتذة الجامعات وقسما من السياسيين في الشرق والغرب ، فترجمت بعض كتبه ومقالاته إلى العديد من اللغات الحية .
عندما كان يطلب مني وأنا أحاضر في الجامعة أن أشارك في ندوة عنه كنت أحيل المشرفين عليها إلى طالبي وليد الشرفا الذي أعد أطروحة الدكتوراه الخاصة عنه ، ومع أنني قرأت لسعيد " الاستشراق " و" الثقافة والإمبريالية " و " صور المثقف " و " خارج المكان " ومقالاته في اتفاق غزة وأريحا إلا أنني لم أدرسه دراسة متعمقة تمكنني من الحديث عنه بطلاقة . كما لو أنني اكتفيت بقراءته وقراءة ما يكتبه مريدوه ، مثل الصديق فخري صالح ، عنه .
في الشهر الماضي اقتنيت كتاب " إدوارد سعيد : أماكن الفكر " الصادر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت ( آذار ٢٠٢٢ عدد ٤٩٢ ) ل ( تمثي برنن ) من ترجمة محمد عصفور ، وأخذت أقرأ فصولا منه وسرعان ما عدت ثانية إلى " خارج المكان " سيرة إدوارد الذاتية ، لأرى الاختلاف بينها وبين كتاب ( برنن ) الذي اعتمد عليها في أماكن كثيرة ، وفي الوقت نفسه اعتمد على عشرات الكتب والدراسات والمقالات والمفابلات في تأليف كتابه الذي يبدو أقرب إلى سيرة غيرية لسعيد .
الأمور والأفكار والموضوعات التي لفتت نظري فيما قرأته من فصول الكتاب عديدة وأولها الجهد المبذول في التأليف الذي غالبا ما لا نجد شبيها له في معظم كتب الدراسات المكتوبة بالعربية ، وهو جهد جعلني أتمنى أن يكتب دارس عربي سيرة غيرية لمحمود درويش يحيط كاتبها بكل ما كتبه درويش وأنجز عنه ، وكنت في العام ١٩٩٢ ترجمت كتيبا عن حياة غسان كنفاني لدارس ألماني ( استيفان فيلد ) ( ١٩٧٥ ) أعده كمحاضرة لتقديم نفسه في جامعة هولندية ، محاضرة عنوانها " غسان كنفاني : حياة فلسطيني " وبذل صاحب الكتيب فيه جهدا كبيرا في الإحاطة بكل ما كتب عن كنفاني .
مما لفت نظري في الكتاب مثلا قصة إدوارد سعيد مع الجامعة الأميركية في بيروت في ٧٠ القرن ٢٠ حين أبدى استعداده للعمل فيها ولكن أعضاء قسم اللغة العربية فيها حالوا دون توظيفه وتجاهلوا عرضه لتدريس إحدى المواد من دون أجر ، بل ووضعوا " العراقيل التي لا معنى لها أمام حصوله على شيء يبلغ من البساطة ما يبلغه الحصول على بطاقة تخوله استعارة الكتب من المكتبة " ، وسبب استياء أعضاء القسم منه " جاء نتيجة شهرته المتنامية وصلاته بالآيفي ليغ (؟) " ( ص ١٨٥) ، ورأى سعيد في الجامعة مكانا " شديد الأذى " ولذلك فإنه حفاظا على سلامة عقله قرر أن لا تكون له صلة به " ليس هنالك من أحد ، لا أحد حرفيا ، يفعل شيئا يثير الاهتمام ... كل من فيه خير - على رغم أن حليم [بركات] المسكين [ كاتب الرواية السوري ] رجل وديع بالمقارنة مع صادق العظم - يوضع على الرف ، يخصى أو يرمى بعيدا ، يفعلون به كل ما يمكن فعله بمنتهى الرخص " والكلام لسعيد في رسالة إلى صديق بالقاهرة عبر فيها عن شعوره بالإحباط .( ص ١٧٦) .
مما لفت نظري في الكتاب أيضا أن سعيد كتب الشعر ، والقصة القصيرة ونشرها ، وشرع يكتب الرواية . كان سعيد قارئا للروايات ودارسا لها ، فقد أعد أطروحة الدكتور عن الروائي ( جوزيف كونراد ) ، وغالبا ما كان يطعم بعض مقالاته بروايات عالمية مشهورة مؤولا ومفسرا ومجتهدا في ضوء دراسته الاستشراق الإنجليزي والفرنسي .
لقد شرع سعيد بالفعل بكتابة الرواية ولكنه انصرف عن إتمام رواية ليكتب سيرته المعروفة " خارج المكان " التي تحفل بتفاصيل مذهلة تصف طفولته ، ما يدل على قدرته الفائقة في الوصف ، وهذا عنصر أساسي من عناصر الرواية ومكوناتها .
ما لفت نظري أيضا هو حضور سعيد كشخصية روائية ، وكنت وأنا أدرس رواية إلياس خوري " أولاد الغيتو : اسمي آدم " قد توقفت أمام حضوره فيها وفي روايات أخرى لخوري ، ومن الروايات رواية العراقي علي بدر " مصابيح أورشليم ؛ رواية عن ادوارد سعيد " ، وعدت إلى الموضوع نفسه وأنا أكتب عن صورة الفلسطيني في الرواية العربية ، فتوقفت مجددا أمام شخصيات فلسطينية حقيقية منها كنفاني ودرويش وسعيد وبسيسو وكمال ناصر وعرفات وآخرين . في كتاب ( تمثي برنن ) المذكور يكتب عن حضور إدوارد سعيد في الرواية العالمية فيعدد أسماء روائيين ويذكر رواياتهم : أهداف سويف في " خارطة للحب " ، حيث يظهر سعيد تحت اسم عمر الغمراوي ، و ( دومنيك إده ) في " الطائرة الورقية " حيث يظهر تحت اسم فريد مالك المهاجر السوري إلى الإسكندرية " وهو ناشط لامع يسعى إلى تغيير العالم " ، وفي رواية ( ر . ف . جورجي ) " قصة حب فلسطينية إسرائيلية " حيث يظهر باسمه الحقيقي " بوصفه البوصلة الأخلاقية الكامنة خلف " آفي " رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي تعلم من سعيد عندما كان يدرس في جامعة كولومبيا أن يعترف بآلام الفلسطينيين ." .
ما لم أتوقف أمامه من قبل هو صورة سعيد في الشعر العربي والسينما العربية وقد توقف ( برنن ) أمام هذا في الشعر العالمي والسينما العالمية .
في ذكرى إدوارد سعيد ال ١٩ يرحل الناقد والروائي وكاتب المقالة المميزة فاروق وادي ولعلني أكتب عنه في الأسبوع القادم .
المساحة محدودة والكتابة تطول .
الاثنين ١٩ / ٩ / ٢٠٢٢


عادل الأسطة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى