يبات علي فايد - دهشة الشعراء بالنساء

أكثر ما يكون في ساعة السكر بالنساء، والتعبير عن الدهشة دون مواربة، لعدم احتمال كتم التأثر بمغناطيسيتها، هو العفو عن السكارى أولئك، والاندهاش ممن هم في معية المرأة تلك، وما ذلك إلا تقديرا لعاطفة الإنسان الصادقة، وإعجابا بانفراج الروح تعبيرا حرا في لحظة من لحظات الغياب الكبير، إلا من هذا الجمال الماثل أمام المتأثر.

بقلم/ يبات علي فايد


هناك الكثير من المواقف في الحياة التي تكون فيها الأنثى هي صاحبة القرارات، وإن جاءت على شفتي الرجل كثيرا كثيرا. لكن ثمة مواقف خاصة تكون فيها المرأة هي متخذة القرار دفعا، ودون أن تنبس ببنت شفة، إنه قرار جمال المرأة، وذهابها بالأفئدة كل مذهب، لحظة لا يكون فيها تأثير إلا تأثيرها، فيفرغ الفؤاد من كل شيء إلا حضورها الطاغي، وحينها، لا يلتفت الإنسان إلى أية مخاطر، ويصرخ بالدهشة رغما عنه؛ وهل كان بفؤاد أم موسى غير موسى؟!
ولعل من أعظم الدهشات، وأكثرها خطرا، دهشة الشاعر العباسي، أبي العتاهية، ذلك أنه لم يتمالك نفسه في أن يقول الشعر في جارية الخليفة المهدي، وأمام مرأى من الناس ومسمع، بل وقبالته. بنا نصطحب إلى ذلك المشهد:
حكى أشجع الشاعر المشهور قال: أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا، فأُمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد، وسكت المهدي فسكت الناسُ، فسمع بشار حساً فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟
فقلت: أحسبه سيفعل. فقال: فأمره المهدي أن ينشد، فأنشد:
أَلا ما لِسَيِّدَتي ما لَها
أَدَلّا فَأَحمِلَ إِدلالَها
وَإِلّا فَفيمَ تَجَنَّت وَما
جَنيتُ سَقى اللَهُ أَطلالَها
أَلا إِنَّ جارِيَةً لِلإِما
مِ قَد أُسكِنَ الحُبُّ سِربالَها
مَشَت بَينَ حورٍ قِصارِ الخُطا
تُجاذِبُ في المَشيِ أَكفالَها
وَقَد أَتعَبَ اللَهُ نَفسي بِها
وَأَتعَبَ بِاللَومِ عُذّالَها
فَقَالَ بشار وَيحك يَا أَخا سليم مَا أَدْرِي من أَي أمريه أعجب أَمن ضعف شعره أم تشبيبه بِجَارِيَة الْخَلِيفَة ويسمعه ذَلِك بِإِذْنِهِ؟ حَتَّى أَتَى على قَوْله من المتقارب:
أَتَتْهُ الْخلَافَة منقادة
إِلَيْهِ تُجرِّر أذيالها
فَلم تَكُ تصلح إلاّ لَهُ
وَلم يَك يصلح إلاّ لَهَا
وَلَو رامها أحدٌ غيرهُ
لزُلزِلت الأَرْض زلزالَها
وَلَو لم تُطِعْه بناتُ الْقُلُوب
لما قَبِل الله أَعمالهَا
وَإِن الخليفةَ من بُغضِ لَا
إِلَيْهِ لَيُبْغِضُ مَن قَالَهَا
فَقَالَ بشار وَيحك يَا أَشْجَع، هَل طَار الْخَلِيفَة عَن فرشه؟ قَالَ أَشْجَع فو الله مَا انْصَرف أحد عَن ذَلِك الْمجْلس بجائزة غير أبي الْعَتَاهِيَة
النص في غاية الجمال مع بساطته، فالشاعر يتساءل مستعجبا: ما بال هذه الجميلة؟!، وإنه يهبها صفة السيادة عليه، فيقول ما لسيدتي، ما الذي دهاها، أترى أن ما تأتيه من تأبٍّ، وإعراض وإهمال هو من قبيل الدلال؟ لأني إن علمت أنها إنما تفعل ذلك دلالا، فسأتحمل هذا الدلال، وإن لم يكن الأمر كذلك فما كانت جنايتي لتعرض عني، وتهجرني؟ ثم إنه لا يدعو عليها، وإنما يدعو لها، بأن يسقي الله حتى الأرض التي بارحتها (أطلالها)، فكيف بدعوته بالأرض التي تقيم بها الساعة؟
ثم يحدد الشاعر من عناها، بأنها جارية الإمام، وأن الحب ساكن في ملابسها، والسربال هو كل ما يتزيا به المرْء، فهو يقول بأن الحب في سربالها، ثم إنها طويلة فارعة، بينما تبدو النساء حولها حورا قصار الخطا، وهي كناية عن قصر القامة، ثم يلتفت إلى صاحبته، ويصفها بأنها تجاذب كفليها أي ردفيها إن مشت، يصعب عليها حمل ردفيها امتلاء، فتجاذبهما مجاذبة، وتحاولهما محاولة لثقلهما.
هذه الجارية بهذا الوصف، أتعب الله بها قلب الشاعر احتياجا، وأتعب قلوب عذالها، ولائميها بأن تترفق به، وترحم حاله الذي صار إليه، في محاولة الاهتمام به. ثم إنها بعينه حيثما يمم في الأرض وسلك، لا تبارح صورتها مخيلته، ولا مقلته.
أقول: أكثر ما يكون في ساعة السكر بالنساء، والتعبير عن الدهشة دون مواربة، لعدم احتمال كتم التأثر بمغناطيسيتها، هو العفو عن السكارى أولئك، والاندهاش ممن هم في معية المرأة تلك، وما ذلك إلا تقديرا لعاطفة الإنسان الصادقة، وإعجابا بانفراج الروح تعبيرا حرا في لحظة من لحظات الغياب الكبير، إلا من هذا الجمال الماثل أمام المتأثر.
ولعل ما غفر لأبي العتاهية هو إضافة إلى تقدير لحظة الدهشة هو بقية أبياته المذهلة أيضا إذ يقول فيها:
أَتَتهُ الخِلافَةُ مُنقادَةً
إِلَيهِ تُجَرِّرُ أَذيالَها
وَلَم تَكُ تَصلُحُ إِلّا لَهُ
وَلَم يَكُ يَصلُحُ إِلّا لَها
وَلَو لَم تُطِعهُ بَناتُ القُلوبِ
لَما قَبِلَ اللَهُ أَعمالَها
وَإِنَّ الخَليفَةَ مِن بَغضِ لا
إِلَيهِ لَيُبغِضُ مَن قالَها
الشاعر يقول: أتته الخلافة، خلافة المسلمين طائعة، منقادة إليه، كالعروس بهاء وجمالا (إليه تجرجر أذيالها) أي فستان زفافها ذي الأذيال الكثيرة الطويلة.
ثم يقول: إن الخلافة لا تصلح إلا للممدوح، وهو لا يصلح إلا أن يكون خليفة، وأميرا للمؤمنين.
ثم يقول: إذا لم تطعه ثمرات الأفئدة ما تقبل الله من تلكم الأفئدة عملا، اتكاء على وجوب طاعة ولي الأمر.
ثم يصفه بصفة عظيمة، وهي الكرم، وما أجملها امن زينة يتحلى بها الرجال من دون النساء، فيقول: إن الكلمة "لا" بمعنى أبيتُ، وأرفض وأمنع عند سؤالي، هذه الكلمة مبغوضة عند الخليفة، حتى إنه ليبغض من يقولها.
وها هو بشار الذي مضى يعيب شعر أبي العتاهية ضعفا يقول لصاحبه وقد اهتز طربًا:
ويحك يا أخا سليم! أترى الخليفة لم يطر عن فرشه طربًا لما يأتي به هذا الكوفي؟!
وفي دهشة مخلوطة بخوف الهلاك من عينيها يقول الشاعر السوداني، إسماعيل حسن، بالعامية السودانية:
"أمسكى عليـك عيونـك ديـل،
أمسكيهـن،
خلينـى اللاروح انفـكَّ مــن
شبـكـة عيـونـك ديــل
ده شيتن أصلو ما شفنـا
لا فـي النـاس ولا فـي الريـل
ده مـا قـدر الله جــانا عــديل.
ويا لدهشة الشاعر كامل الشناوي، حيث قال لها: عينيك بتوجعني .
أما دهشة الشاعر عبدالله محمد خير فكانت صورة بديعة، وهي أيضا من العامية السودانية.
قيل إن الشاعر كان نزيل مستشفى عربي، وبعد أن كشفت عليه الطبيبة العربية المنقبة، ثم ذهبت إلى حوض الصنبور بالغرفة خالعة نقابها، ليرى الشاعر وجهها في المرآة، فحدق دهشا كطفل، لا يقصد إلا التطلع البريء في هذا الجمال الرباني، فرمقته الطبيبة الجميلة وصرخت به: إيش فيك بتطَّالع؟
فأجابها: بطالع في بدر طالع، ثم ألف قصيدة يقول فيها:
تسأل، في ايش فيك ياخي بتطالع
بطالع في بدر فتق الخمار طالع
واطالع في برق بهر خطف شالع
بطالع في القوام الأملد الفارع
وبطالع في جمر بيك وبلاك والع
وبطالع في النفس لا يبقى مو طالع.
ويقول الشاعر عبد الله إدريس جماع، وقد أخذته فتنة امرأة، وغار عليه من هو بصحبتها:
أعلى الجمال تغار منْ
نَا ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تنسي الوقا
ر وتسعد القلب المعنّى
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد إذا تمنّى
أنت السماء بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنّا
لعلَّ من كان بصحبة تلكم الأنثى، عاتب الشاعر، أو استغرب نظرته تلك، فرد عليه، بأنه لا يأتي شيئا غير النظر بعينيه، تلكم النظرة التي لا يمكن أن تكون مريبة بحال من الأحوال، إذ إنه لم يتحين فرصة انشغال من معها، وإنما هام في نظرته سابحا في ملكوت الجمال، هائما لا يعي بمن حوله، ومن معها.
إنها نظرة كما قال الشاعر: تنسي الوقار. نظرة لا تعرف حدود اللياقة، نظرة تتفلت تفلت الضوء في الظلام.
إنها دهشة الشاعر الأحوص الشاعر:
وَما هُوَ إِلّا أَن أَراها فُجاءَةً
فَأَبهَتُ حَتّى ما أَكادُ أُجيبُ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى