عبدالحميد جماهري - اضحك مع إدريس الخوري يوم رحيله!

يظل الموت غريبا دوما، في كل شيء يتعلق بـ»إدريس الخوري«.، ولهذا لا ينطلق التأبين، كما في الحزن العادي. فيبحث المُؤبِّن عن لقطة ليبدأ، ويسعفه إدريس الخوري من وراء غيب . يحدث أن كاتب النعي، لا بد له من قطعة من الحياة التي تركها » ابَّا ادريس« لكي يشرع في الحداد..،و هكذا…
لو تنبأنا معه، فكاهةً وداعبناه بالقول مستفزِّين
ـ :«سترحل يوم عيد الحب، عيد »السان فالنتان»…
لرد علينا بابتسامة تلتهم وجهه كله وراحة يده اليمنى ممتدة ومبسوطة :
ـ«السان فالانتان راه فيك وما حاسْشْ..».
تلك هي لغته التي احتفظ ببراعتها »الدارجة« في عز تحولات الحياة والكتابة، وفي وصف حالاتنا كلها. هو ذاك الذي يفاجئك بعبارة من السلم العميق للتخت اللغوي، لكي يجيبك عن حدث طارئ ومستجد..
كان مفعما بالحياة وتقلباتها، صارما في الفرح غير صارم في الفراغ الذي يعتاده كثيرون منا ويقدمونه لأنفسهم كتَعِلَّة ضرورية للإبداع! في إحدى خلواته النهارية معها، في «مارينيون» الشهير بالرباط، التقيته أول مرة.
ما زلت أذكر الداخل المنعش في المكان، وطاولاته الموزعة بانتظام يبدو موروثا عن الفترة الفرنسية. والنادل الأسمر يتجول، وقد وخط الشيب رأسه بيننا.
أردد على مسمعي، كما لو أتفاجأ بالعبارة أول مرة: لا يختلي إلا مع الحياة..
وأتابع استرجاع دهشتي من زمنها الأول.. وأذكر جيدا ذلك اليوم الذي التقيت فيه مع «با ادريس الخوري».
كنا ثلة من الشعراء الطارئين على محافل الانزياح الثمانيني ،عائدين من ملتقى شعري إلى الرباط؛
وبحسب ما ترتبه الذاكرة الآن، كان من بين الحاضرين إدريس علوش ، وجلال الحكماوي وربما محمود عبد الغني ..
في الـ»مارونيان» والسيد «مسوس» يوزع ماء لائقا بالشباب المغرور بكتابة لم يعرف بعد أين تنبت أول بلاغاتها.!.
قال لي وقتها بلا مواربة، وهي أول عبارة منه موجهة إليَّ في حياتي:» خاصَّكْ تْحرَّر لُغْتك مَنْ درويش وسليم بركات..«!
شعرت، كأنما فاجأني وأنا أتلصص على خيال الآخرين وأنقل الوصفات من كتاب محرم.
فعل ذلك، بلا مواربة وبلا قطيعة أيضا، تكون عادة نتيجة منطقية للأستاذيات الثَّمِلة، حيث تحدث عن جيلنا الذي يقصده في محرابه بلا إيدلوجيات معلبة.
وشعرت كأنما عرَّى خيالي وأنا خارج من حماَّم لُغويٍّ!
استمرت العلاقة بالجوار، على صفحات الجريدة أو بالقرب الانتشائي الليلي، أو في ما بين الحكايات التي يتناقلها الأصدقاء عنه، حيثما ما ألقى ستارا من ظلاله في أرض ما أو أهرق قليلا من العمر في مدينة ما..
كثيرون كان ينقذهم من غربتهم في لغات الآخرين
ويعيدهم إلى صواب العربية المغربية، تلك التي تدخل إلى النصوص بأشواكها وفواكهها النيئة واستعارتها المُترَبة والمغبرَّة، واللغة التي يأخذها طازجة من لسان العاملة أو شفاه العاطل أو حناجر المقصيين المعذبين في قارات »فرانز فانون«، ملاعين الأرض!
يريد له بعض الذين طردهم من رحابة إنسانيته أن تطغى صورة إدريس الخوري الملاكم الابدي، والهادر الذي يحارب الآخرين، والحال أنه، بالرغم من ذلك فهذه العدوانية المفترضة كان قاموسها محدودا جدا إذا قارناه بقاموس من يتهمونه،الغني جدا بالأحقاد والضغائن..كان غضبه مثل مياه متدفقة، لا مثل سيول القطران،. قاموسه محدود للغاية في الهجوم على من يزعجونه، لا من يحقد عليهم فهو لا يعرف لذلك لونا. كان قلبه فعلا سليما ككل كإنسان لا وقت له يضيعه في حروب «الدونكيشوط»، فتأتي الألقاب مع ضحكة مجلجلة، وتأتي الجمل اللاذعة مع موسيقى تصويرية إنسانية فارهة.. :إنها الحياة تنتظره بشغف، وهو في طريقه إليها يرمي بعض الأوصاف:.
ـ« باطن مان»، وهو تشريح سريع، يستشعر التاريخ السري للإسماعيلية في رسم بورتريه جزافي لمن يغامر بالتكتم أمامه!
-«باسل»: وهو الشخص الذي «يتْرطَّى..»،مشوب بالرغبة المستترة في نسف الجلسة الفرحانة بأهلها..
لطالما كررت ذلك معه :إذا نجحت في جعل البعض ممن لا ترتاح لهم، يكرهونك، فمعناه أنك قمت بعمل جيد..أو على الأقل بعمل بمنطقي … با ادريس فعل ذلك بمحض سليقة، بدون أدنى مجهود تقريبا!
إدريس الخوري، كان لوحده، جيلا لغويا مترامي الأطراف، مفعما، في لغته كما كان مفعما وهو يجسد الاسم الحركي الآخر للحياة، وللكتابة. جعل اللغة تخرج من الكتب الباردة إلى شوارع الدار البيضاء وإلى محافل الحياة وإلى المعامل وإلى المقابر وإلى المعارض. واستطاع أن يروض اللغة لكي تكون مغربية تشبهه وترافقه. لا يصنع قارئه، يروضه وينبهه بأن بداخله لغة كامنة، سريرية وعميقة، عليه أن يعيد »تدويرها« لأجل صقل خياله وميولاته وتكوين هويته في القراءة..
لقد استطاع أن يحل ببساطة بيضاوية عجيبة، ذلك التضاد أو السؤال المتعب حول العلاقة بين الحياة والكتابة، وبين الخيالي والواقعي في الأدب، لهذا كنا نسرع في الانتهاء من كتاباته ونسارع الى لقائه في الحياة. لأنه كان لا يضع مجالا واسعا بينهما:لا مسافة زمنية بين تفكيره وفعله. لو فكر ..فعل !
لا يترك بياضا لتملأه أسئلة النقد والفلسفة وجماليات التلقي..
وحده، كان يقدر أن يترك النقاد غرباء في نصه، ومن لم يتبع كتابه إلى مطعم أو حانة أو منتجع أو معمل ، ظلت معرفته بالسيرة الحقيقية الأدبية لإدريس الخوري ناقصة.. فهو عندما يخمش الواقع، لا يفعل ذلك بعبارات مصبوغة بترتيل البلاغة الهرمة، تلك التي طمثها أكثر من أديب قبله، بل كان يريد لعباراته أن تكون طرية قادرة على ترك الندوب الطويلة في الخيال.
ويبدو إدريس الخوري، كما لو أنه أودع الخيال في تربة الواقع وفي فرشاته الأكثر نتوءا… حتى يتخمر، ولهذا لم نكن معه في حاجة للبحث عن اللاشعور البلاغي، وعن اللغة العالية وعن الـ»هو« القصصي
كنا نجده بكامل واقعيته في خيالنا.. والعكس صحيح!
(لا بد من تبريد حرائق اللغة الناعية..)
رفض أن يكون كما يريد آخرون، يتمسحون بالإيديولوجيا أو بالطبقات المغلقة، ورفض الماسونية الأدبية ورفض الانضباط ورفض الامتثال لمسؤولية« تقلم روحه وتضعه في أقفاص للاستعراض الأخلاقي..
واختار أن يكون هو هو، حرا وعصيا..
جمع لغات في لغته:لغة الإعلام، الشارع والأمهات والأدباء والإعلاميين والتشكيليين والسينمائيين، لغة النهار ولغة الليل، لغة الهامش والمقصي والمزعج والشعبي والتراثي والشفهي..
خيمياء نفسه كانت تتلاطم فيها الطبقات والمكبوتات اللغوية، وكانت الحياة وحدها الضيف الثابت الذي يملك مقعدا في قلبه وفي كتبه!
عندما اكتشفنا شارل بوكوفسكي، في قمة الترنح النثري في القصيدة وفي القصة، شعرنا وكأن المفاجأة طعام البارحة، مذاق »طعام بايت«، وفيلم سبق أن شاهدناه.. فقد كان إدريس الخوري، يثبت بأن لدينا القامة نفسها والشره نفسه للحياة واللغة القاضية… نفسها.. وهوامش واسعة للروح المتمردة في هذه الحداثة التي كانت جنبنا ، وقطعنا شوطا كبيرا من القرن العشرين لنصل إليها… بعيدا عنه**** في لغة أخرى …
.. .أشعر بأنه كان يعرف نفسه مثل كُبَّة عواطف أو ساعة رملية هائلة، تم ملؤها في طفولته، كما تحدث في العديد من الحوارات، وكان عليه أن يفرغ هذه الشحنات وهذا الخليط العصي من التراكم الإنساني منذ الطفولة، في الكتابة ويُمْضيه في الحرية.
ونجح فعلا في ضمهما معا في مغامرة واحدة وفي كأس واحدة ..وظل كذلك، حتى انتهت ساعة الرمل أو ساعة الحبر…
عندما أفرغ كل ما جمعه منذ طفولته… رحل.
أحد ما قال ذات يوم أننا لا نرحل إلا إذا صرنا ناضجين تماما للموت..
اضحك يا صديقي
اضحك:يا زميلي
فهذا العصامي الذي قرأ بحرا من الكلمات
واستنفد غابة كاملة من الورق ولفافات التبغ،
يريدنا فعلا أن نذكره ونحن فرحين ..

عبد الحميد جماهري
18/02/2022
أعلى