عزيز ازغاي - حلقات عن الكاتب المغربي الكبير ادريس الخوري (1 -6)

1
كانت أختي تكحل عينيّ خوفا من الحاسدين


عشية تحرك آلة جيوش الحلفاء الحربية باتجاه معاقل النازية والفاشية ومن كان يدور في فلكهما السياسي، جاء إدريس الخوري إلى الحياة، وبالضبط، حسب الذين نقلوا إليه بعض تفاصيل تلك الولادة البعيدة، في شهر اب (اغسطس) من سنة 1939، وكان ذلك بحي درب غلف بمدينة الدار البيضاء، وتحديدا بزنقة كانت تسمى آنذاك بزنقة "واطو"، هذا الإسم

الذي بقي الكاتب يجهل معناه أو إحالته الحقيقية، حتى بعدما صار خبيرا بأسرار وخبايا مدينة أخطبوطية وعارمة مثل مدينة الدار البيضاء الكبرى.

وبالعودة إلى الأصول الأسرية للكاتب، فإن هذا الأخير لم يصله منها إلا كون والده نزح في تاريخ باكر من القرن الماضي من منطقة " العَوْنات " التابعة لإقليم الجديدة إلى منطقة الشاوية، وبالضبط إلى منطقة تسمى "كيسر" أو "قيصر" ، حسب ما هو مثبت على العلامات الكيلوميترية الطرقية، التي تقود إلى المنطقة، هذه المنطقة التي لا يستبعد الكاتب، بغير قليل من السخرية المشككة، كونها عرفت نزوحا مبكرا لفلول الجيوش الرومانية، حين كان المغرب عرضة للتدخلات الأجنبية، التي شهدها مع مطلع القرنين الأول والثاني الميلاديين.

وبوصول "العَوْني "، كما يفضل الخوري ذكر إسم والده سَّي علال، إلى دوار أولاد السي بنداود، تعرف إلى عائشة الداودية التي ستصبح زوجته فيما بعد، ووالدة أبنائه الخمسة سي محمد وفاطنة وعبد القادر وصالح وصاحبنا إدريس، آخر السلالة.

ورغم أن الكاتب لا يعرف، حتى اليوم، الظروف والملابسات التي قادت والده سي علال لدوار أولاد السي بنداود وبعدها إلى حي درب غلف بمدينة الدار البيضاء، إلا أنه ما زال يتذكر - حسب ما روته له زوجة عمه، التي كان ينادي عليها في صغره ب" نانا "- هو أن والده كان " زهوانيا " ، رجل يعشق الطرب، وقد كان يجوب القرى والمداشر والأسواق، متأبطا آلته الموسيقية " الكمبري "، ويحط الرحال أينما دعاه الفرح وأجواء الطرب إلى ذلك. ولعله من المرجح أن طبيعته التجوالية هاته، هي التي قادته في بداية&& القرن الماضي، وهو الشاب اليافع آنذاك، إلى الاستقرار بمنطقة " كيسر " بجهة الشاوية.

لم يكتب له أن يرى والديه أحياء وليست لديه أية صورة تقريبية عنهما
كان الفضاء الذي فتح عليه الطفل إدريس عينيه بزنقة " واطُّو " بحي درب غلف الأربعينات، عبارة عن خلاء مفتوح، عارٍ وشاسع، هذا الخلاء الذي كانت تقام به، وقتها، مجموعة من " الحْلاقي " الشعبية، وفي الجهة المقابلة له كان يتواجد مرأب ( ديبو ) كبير خاص بعمال البلدية المكلفين بالتنظيف في كل من حي درب غلف والمعاريف. لكن المأساة الكبرى، التي ربما قد تكون طبعت حياة الكاتب كلها وأثرت بشكل كبير على كتاباته، هي كونه لم يكتب له أن يرى والديه أحياء، حيث توفيا، على التوالي، وهو لم يزل بعد في شهره الثالث. فوالدته كانت مصابة بداء الصرع، وهو الداء الذي أودى بحياتها، كما تحكي ذلك السيدة " نانا " زوجة عم الكاتب.

ولعل هذا الغياب العارم والقاسي لتلك الرعاية والحدب الأبويين، هو ما جعل إدريس لا يأتي كثيرا على ذكر سيرة والديه، بل حتى حينما يحدث أن يذكرهما في سياق ما، يتم ذلك بغير قليل من " البرود " العاطفي الصادق، مادام لم يرهما قط، وليست لديه أية صورة تقريبية عنهما، إلا ما كان من ملامح متخيلة ونائية، شكلها عن والدته انطلاقا مما حكته له إحدى الجارات التي كانت تقطن بجوارهم بدرب غلف، والتي كانت، فيما يبدو، صديقة لوالدته.

لذلك، لا يتذكر إدريس إلا كونه تربى بين إخوته الأربعة، وأساسا تحت الرعاية الدائمة لأخيه الأكبر سي محمد، الذي حل محل والده المتوفى، باعتباره أكبر أبناء سي علال، حيث حرص على تربيته وتعليمه إلى أن اشتد بعض عوده، هذا على الرغم من أن هذا الأخ الأكبر لم يكن سوى مجرد عامل بسيط بميناء الدار البيضاء، الذي كان ملجأ كذلك للعديد من أفراد أسرته طلبا للقمة العيش الشاقة والقاسية.

في هذه الفترة، كان إخوة الكاتب قد انتقلوا من الإقامة بالبيت الأول الواقع بزنقة "واطو" إلى آخر لا يبعد عنه كثيرا، والذي كان عبارة عن غرفة واحدة مكتراة مع الجيران. ذلك أن ما كان سائدا بمدينة الدار البيضاء الأربعينات، هو أن كل المهاجرين الذين كانوا يلجأون إلى الاستقرار بها، قادمين إليها من الشاوية والنواحي، كانوا مضطرين إما لكراء غرفة مع الجيران أو اختيار دور الصفيح مكانا لاستقرارهم الرث البائس. لذلك، وحسب ما قيل للكاتب، فإن زوجة عمه "نانا"، هي التي كانت قد توسطت لأخوته من أجل كراء تلك الغرفة غير البعيدة عن زنقة "واطو "، التي سيتعلم فيها أولى طفولته.
القراءة والكتابة عند الكتّاب

وكغيره من أقرانه، سيلتحق الطفل إدريس بالكتّاب القرآني (الجامع)، مدفوعا إلى ذلك بتلك الرغبة الكبيرة، التي كانت تحذو شقيقه الأكبر سي محمد، الذي كان يطمح، إضافة إلى اضطلاعه بدور الأب المتوفى، في إن يكون حظ شقيقه الأصغر في التعلم أفضل من باقي أشقائه الآخرين، على الأقل، حتى لا يكون جميع أفراد الأسرة غير متعلمين.
لذلك، يحكي إدريس بعض تفاصيل هذا الأمر موضحا ذلك بقوله، " ليس غريبا أن أكون، آنذاك، الوحيد داخل الأسرة الذي كان يتقن القراءة والكتابة. فبالإضافة إلى أخي سي محمد، الذي توسط له عمي قدور كي يشتغل حمالا بمرسى الدار البيضاء، كانت أختي فاطنة تشتغل منظفة " Femme de ménage " عند الفرنسيين، أما المرحوم صالح، فقد كان قد تعلم مهنة النجارة الفنية على أيدي الطاليانيين بحي المعاريف. لقد كان نجارا فنانا وبارعا. أما عبد القادر، فقد كان هو الآخر يشتغل بالمرسى. بمعنى أنني كنت الوحيد المتعلم من بين إخوتي جميعهم، حيث أتذكر أنهم كانوا يشترون لي جريدة "العلم" لكي أقرأ لهم ما تحمله من أخبار متنوعة ".

عندما انهال عليه الفقيه ضربا بالعصا
وبجامع المرحوم الفقيه سي عبد القادر، ذلك " الحريزي " (نسبة إلى منطقة أولاد حريز التابعة لإقليم برشيد ) القصير، القموع، الذي كانت له ملامح شبيهة بملامح الألمانيين، سيواظب إدريس على التعلم والتحصيل حتى سن الثانية عشرة، ليغادر الكتَّاب هذا بإعاقة عضوية قاسٍية طبعت حياته حتى اليوم. ذلك أن الطفل إدريس، وعلى غرار كل أقرانه في تلك السن المبكرة، لم يفلت هو الآخر من مس الشغب والشيطنة والتخلف عن دروس الجامع، كلما رقصت رغبة الغياب والتسكع في رأسه الصغير.
ادريس الخوري او با ادريس كما يناديه اصحابه (تصوير صموئيل شمعون)
لذلك، حدث مرة، بعد إحدى غياباته، أن قرر الفقيه السي عبد القادر معاقبته، حيث انهال عليه ضربا بعصاه، وما أدراك ما عصا الفقيه!، أصيبت على إثره ساقه اليسرى بإحدى الضربات الزائغة والقوية. وعلى غرار باقي الأسر الشعبية المغربية المعدمة، التي غالبا ما يكون ذووها منشغلين بقوت عيشهم اليومي أكثر من تعقب أخبار أطفالهم لمعرفة تفاصيل أيامهم العادية والدقيقة، سواء تعلق الأمر بالمدرسة أو بالشارع، فإنه لم يتم الانتباه، في حينه، إلى خطورة إصابة الطفل إدريس إلا بعدما أخذت ساقه المصابة في الانتفاخ. ليحمله، بعدها شقيقه الأكبر سي محمد إلى مستشفى الصوفي القريب من بناية المعرض الدولي، وتجرى له عملية جراحية بدون أدنى مخدر بل وعلى مرآه، تم على إثرها إزالة بقعة من الدم الذي كان قد تخثر، من جراء ضربة سي عبد القادر الفقيه، في ساق الطفل. ومباشرة بعد مغادرة مستشفى الصوفي، أصبح إدريس يمشي على مقدمة قدمه المعطوبة، خوفا من أي تمزق قد يصيب الجرح الذي تسببت فيه تلك العملية الجراحية التي جرت أطوارها "على الهواء ".

درءا للعين الحاسدة، تضع لي أختي الكحل في عيني
وربما، بسبب ذلك الخوف المبكر، أصيب صاحبنا بتلك الإعاقة التي بقيت ملازمة له حتى اليوم. وفي هذا السياق، يرى إدريس أن ما أصابه كان نتيجة لعين خبيثة،حيث يقول بهذا الصدد: "على ذكر العطب، هناك أمر يجب أن تعرفه، هو أنني حينما ولدت كنت أشقر الشعر، أبيض البشرة "بوكوس"، مثل إبني الأصغر "مروان "& تماما. إنه صورة طبق الأصل من إدريس الذي تعرفه الآن. لذلك، كانت أختي فاطنة، درءا للعين الحاسدة، تضع لي الكحل في عيني. وقد قيل لي فيما بعد، إن الإعاقة التي أصبت بها كانت نتيجة للعين الخبيثة، فقط لا غير ".

ورغم الآثار النفسية البليغة والسيئة التي ترتبت عن هذا الحادث المبكر القاسي، فإن إدريس لم يكن منغلقا على نفسه، بل، على العكس من ذلك، كان مقبلا بشكل كبير على المحيط الذي ولد فيه وترعرع في أزقته، حيث مازال يتذكر، حتى الآن، من خلال مشاهداته وتسكعاته اليومية، تلك العينة من السكان الذين هاجروا في بداية القرن الماضي إلى درب غلف، والذين كان أغلبهم يشتغل إما في بعض الحرف الصغيرة أو فقط مجرد حمالين في مرسى المدينة أو عمال صغار في المعامل والشركات أو في مياومين أوراش البناء وما إلى غير ذلك. وإلى جانب هؤلاء، كانت هناك فئة أخرى من قاطني درب غلف ممن كانوا يُعْتَبرون من طرف جيرانهم من البسطاء، لسوء فهم أو تقدير، من الأعيان، على الأقل بالنسبة للحي الذي يقطنونه، وذلك بالنظر إلى طبيعة وظائفهم، التي لم تكن في حقيقة الأمر والواقع لترقى بأصحابها من طبقة كسيحة أو معوزة إلى أخرى مرقعة نسبيا. ومن تلك الوظائف الحكومية مثلا مهنة الأعوان (أو الشواش) في البلديات، أو سائقي الحافلات العمومية والجباة وما شابه ذلك. هذا إضافة إلى أصحاب الدكاكين والمحلات التجارية الصغيرة المختلفة، خاصة من ذوي الأصول السوسية (أمازيغ جنوب المغرب ). فدرب غلف، كما يشرح ذلك الكاتب:" حي شعبي بامتياز. حي امتاز برجالاته من الوطنيين. وأتذكر أنه كانت به مدرسة حرة مهمة هي مدرسة " الأطلس "، التي تحولت اليوم إلى محل لبيع السمك " الميرنة ". وهذا أمر مؤسف جدا ".
كان لتلك الصداقات الأولى التي عقدها الطفل إدريس مع أبناء الحي أثرها الواضح في اكتشاف هوامش وأحياء أخرى، غير حي درب غلف، الذي فتح عينيه على أناسه البسطاء الطيبين وعاداتهم الخاصة.


******

(2)
لست أدري بالضبط ماذا تعني كلمة "جاهلية"!

على الرغم من أن أغلب أصدقاء تلك الطفولة الباكرة قد تفرقت بهم السبل، فيما بعد، لأن أغلبهم هاجر سواء إلى هولندا أو بلجيكا،& فإن إدريس بقي محتفظا بصورة بوجمعة ذلك الطفل ذي الأصول الصحراوية، الذي كان يقطن مع والدته وشقيقه الأصغر فَاتِح في دكان قريب من جامع يسميه أهل الحي بـ "جامع الحجر"، وبالضبط بالزقاق الخلفي لزنقة "واطو". بوجمعة هذا، الذي كان أطفال الحي يفضلون المناداة عليه ب ": العُرّْ "، وهو اللقب الذي كان يعني بلغة إدريس " الخْرِيزْمان أي المغفل. هذا اللقب الذي كان يطلق، في العادة، على البدوي المهاجر حديثا إلى المدينة.
وعلى الرغم من أن حي درب غلف كان يغلب عليه طابع البدونة، المهيمن على ساكنته، إلا أنه كان، في المقابل، أقرب إلى الحداثة، وذلك بحكم مجاورته لحي المعاريف قلب المدينة الأوربي. فحي المعاريف مثلا، كان في نظر إدريس الطفل، وأبناء الحومة من جيله، حيا أوربيا بامتياز، وذلك بالنظر إلى تلك الأعداد الهائلة من الجاليات الأوربية التي كانت مقيمة به. وعن هذا الحي، كتب، فيما بعد، بنبرة لا تخلو من إعجاب واضح وحسرة لم تخطئها لغته الصافية الطفولية، يقول : " لم يكن حي المعاريف أبدا حيا مغلقا ولا محروسا برجال شرطة مسلحين حتى نخاف، بل لم يكن مسورا أو يتطلب الحصول على ترخيص للعبور إليه ، كان حيا مفتوحا للجميع وبدون استثناء، لسكان الدرب أولا وسكان بعض الأحياء المجاورة لفضائه: بوسيجور، الوازيس، المدينة القديمة، أنفا والسييل. وكون المعاريف حيا أوروبيا مائة بالمائة، بعماراته وفيلاته الصغيرة ومتاجره ومقاهيه وكنيسته وسوقه ومدارسه، فقد كان هذا الإحساس النفسي يعطينا انطباعا بأننا لا "نصلح" له، ربما لأن شكلنا وملابسنا الرثة هما الحاجز النفسي الذي يشلنا، غير أن الأمر في الحقيقة ليس كذلك.
متسترين تحت جنح الظلام

لا دافع كان يدفعنا إلى "السفر" إلى المعاريف إلا روح المغامرة وحب الاستطلاع، فالكبار في دربنا يترددون عليه بكل حرية، لأنه مصدر رزقهم اليومي، فهم يشتغلون في مهن مختلفة مثل النجارة والحدادة والميكانيك وشراء الأثاث المستعمل وشحذ الأمواس القديمة وحراسة السيارات، بل منهم من يحترف بيع الجرائد الفرنسية مثل "لوبوتي ماروكان " و " لافيجي ماروكان ". وهناك من يتردد كل صباح على السوق المركزي ليحمل أقفاف الفرنسيات إلى سياراتهن أو إلى بيوتهن القريبة. لكن المعاريف هو أيضا متعة روحية بالنسبة إليهم لكثرة الحانات المتجاورة فوق رصيف واحد، على طول شارع "جان كورتان " العريض، هكذا يعودون إلى بيوتهم الضيقة في آخر الليل مثقلين بنشوة لا حدَّ لها ورؤوسهم مطنطنة توشك أن تنفجر، متسترين تحت جنح الظلام خشية أن يكتشفهم أحد الفقهة ".

إلا أن هذه الخصوصية، على الرغم من ذلك، لم تكن لتقنع أولئك الأطفال بأن المعاريف هو "المْدينة" الحقيقية بمعنى المركز الأوربي المتحضر. ذلك أن إشارة "المدينة " بهذا المعنى كانت تطلق على شارعي محمد الخامس والجيش الملكي وما جاورهما من أحياء بقلب مدينة الدار البيضاء الاستثنائي والنابض.

الذهاب الى السوليما وليس السينما
لذلك، يحكي إدريس عن تلك المرحلة متذكرا: " حين كنا نقرر أن نذهب إلى سينما "فيردان" مثلا، ويسألنا أحدهم إلى أين أنتم ذاهبون؟ كنا نجيبه بكل عفوية: نحن ذاهبون إلى السوليما (باللام) فْالمْدينة ". وقد كانت العادة أن يذهب صاحبنا، لوحده أو رفقة أبناء الحومة، كلما راقته رفقتهم، إلى إحدى السينيمات الشهيرة آنذاك، إما "فوكس" أو " أمبريال" أو " أمبير " أو "الرِّيُّو "، التي كانت تقع بساحة فيردان. وقد كانت المدينة الأوربية، آنذاك، هي المحور الأساسي لوجهة أطفال درب غلف والحي الحسني والحي المحمدي وكاريان سانطرال أو باشكو، وكذا باقي الأحياء الهامشية الأخرى، هروبا من نمطية وبؤس الحياة التي كانوا يحيونها.

إن فكرة الذهاب إلى إحدى السينمات المذكورة، كانت تشكل طقسا خاصا في حد ذاته بالنسبة لإدريس وأترابه، ذلك أن هذا الطقس كان يبدأ بركوب الحافلة رقم 7 الكهربائية آنذاك أو ما كان يسمى لدى العامة ب (طوبيس السلك)، هذه الحافلة التي كانت تربط بين حي المعاريف وساحة ماريشال، وتحديدا بنفس المكان الذي يوجد به اليوم فندق حياة ريجنسي ذي النجوم الخمسة، حيث كانت تلك الساحة، وقتها، عبارة عن سوق صفيحي شعبي جامِّيل (وهي طريقة إدريس الشهيرة التي يستعملها كلما أراد أن يعبر عن إعجابه الشديد بأي شيء ) يسمى " البْحَيْرة "، تباع فيه الملابس الأمريكية والأوربية المستعملة، كما كان هذا السوق يشتهر، إلى جانب ذلك، ب "حْلاقيه " الشعبية المتنوعة. فـ" النزول " إلى المدينة لمشاهدة فيلم سينمائي والانتقال بعد ذلك إلى جوطية البحيرة للاستمتاع بِحْلاقيها، التي كانت تأسر بتنوعها فضول المتحلقين، كل ذلك كان بالنسبة لأطفال تلك المرحلة، يعتبر بمثابة "ملحمة " بصرية نادرة قلما تتكرر أكثر من مرة في الشهر الواحد، إن لم نقل في أكثر من شهر.

بورديلات للجنود الاميركيين والاوروبيين
في هذا المعبر التاريخي المشوب بقلق اكتشاف الوجوه والأمكنة والعادات والفضاءات الجديدة المختلفة، ستتزوج فاطمة الأخت الكبرى لإدريس، لتنتقل للاستقرار بحي بالمدينة القديمة كان يسمى " بوسبير القديم "، والإسم في الأصل هو " بروس بيير "، والذي كان يضم بيوتا للدعارة أو " بورديلات " بلغة الأجانب، يقصده الجنود الأوربيون والأمريكيون، ممن كانوا يحلون بمدينة الدار البيضاء آنذاك، كمقاتلين عابرين في لحظة استراحة مؤقتة. والحقيقة أنه كان هناك مبغيان شهيران بمدينة الدار البيضاء، كما يتذكر ذلك صاحبنا: بورديل القديم بوسط المدينة القديمة وبورديل الجديد الذي كان تواجده بحي درب السلطان قرب درب البلدية، والذي قد يكون حكرا على زبنائه من المغاربة من ذوي الكبت المركب والعارم.

التعليم واستقلالية القرار
لذلك، فبانتقال فاطمة للاستقرار بحي بوسبير، استقدمت معها إدريس للإقامة عندها. هذا الحدث الطارئ جعل صاحبنا قريبا جدا من عوالم مركز المدينة، كما سمح له الابتعاد المؤقت عن حي درب غلف، وعن تلك الصداقات الأولى، من معرفة أشياء جديدة كان إدريس بحاجة إلى اكتشافها مباشرة ودون وسيط شفوي قد لا يفي وصفه بالمطلوب.
وبالعودة إلى الدراسة، سنجد أن صاحبنا، وبعد استنفاذه لكافة المراحل الدراسية ب"الجامع"، سيبدأ، على غرار باقي أترابه، بالتفكير جديا في إتمام تعليمه بإحدى المدارس الحكومية. ذلك أنه، وهو في سن التاسعة عشرة، بدأ يستقل باتخاذ قراراته الخاصة بمصيره ومستقبله، دونما أي تدخل من الآخرين. لذلك، وبعد استشارة مع سي محمد الأخ الأكبر، مادام هذا الأخير هو الذي سيتكفل بدفع مصاريف متابعة دراسته، سيتوجه في إحدى صباحات سنة 1958 إلى إدارة مدرسة مولاي الحسن، وهي المدرسة التي أسسها في أوائل الأربعينات السيد عبد الهادي الشرايبي وحملت إسمه، قبل أن يتحول إسمها بعد ذلك إلى مدرسة العلمي، هذه المدرسة التي كانت توجد قرب شركة التبغ بدرب مارتيني، والذي يعرف لدى عموم سكان الدار البيضاء، إلى اليوم، بدرب السلطان.

المدارس البورجوازية ترفض تسجيل هذا الغريب!
وكانت مدرسة مولاي الحسن آنذاك مدرسة للأعيان، من البورجوازية الفاسية (نسبة إلى مدينة فاس) التي استقرت بالمدينة، والتي كانت قد استوطنت بحي الأحباس، وخاصة بشارع فيكتور هيغو وما جاوره، حيث أصبحت الفيلات الفاخرة، التي كان يسكنها الفرنسيون، علامة على بورجوازيتنا المغربية الفتية التي تتشكل في عمومها من أهل فاس، ممن دعتهم ضروراتهم التجارية إلى الاستقرار بمدينة الدار البيضاء. الأمر الذي كان يعني أن أبناء هؤلاء التجار ورجال الأعمال، فقط، هم الذين كانوا يدرسون، أو بالأحرى، يقبلون بمدرسة مولاي الحسن. لذلك، حين قادت الأقدار الظالمة الشاب إدريس لتسجيل إسمه ضمن قائمة التلاميذ الجدد، تم رفض طلبه. وحين أراد معرفة سبب هذا الرفض الغامض، استفسرته إدارة المؤسسة عن إسمه العائلي وأصله وفصله، ولما تبين لها أن الماثل أمام لجنتها الآمرة الناهية مجرد " بروليتاري " معدم بالوراثة، قيل له إن المؤسسة لا تتوفر على أية مقاعد شاغرة، هذا، رغم أن إدريس كان متأكدا من أن مقعده كان مازال شاغرا وأقرب إلى اليد من حبل الوريد. هذا الأمر الذي يعلق عليه صاحبنا قائلا:"رفضت لمجرد أنني "عْروبي" من درب غلف فقط لا غير!".

ورغم وقوع هذا الحادث المحبط، لم يفقد إدريس الأمل في التسجيل بإحدى المدارس الحرة. وهكذا، توجه لحجز مقعده بمدرسة "الرشاد " الحرة، وكان صاحبها جزائريا، هذه المؤسسة التي كانت توجد، آنذاك، بحي درب السلطان، وبالضبط بإحدى الأزقة الفرعية لساحة السراغنة الشهيرة، حيث توجد سينما " الكواكب " وسيارات الأجرة الكبيرة وكذا مقهى "دمشق ".

ورغم أن إدريس كان يبلغ من السن ما يجعله، في نظر نظام سلك التعليم الحكومي، قد تجاوز المستوى الدراسي، الذي كان يود الالتحاق به، مقارنة مع زملائه في قسم المستوى الخامس، إلا أن نظام المدارس الحرة كانت له وجهة نظر مختلفة، ذلك أنه كان يفسح المجال أمام تلك الحالات التي تشبه حالة إدريس المادية والأسرية المعدمة، ممن قامت المدارس الحكومية برفضهم من الالتحاق بها أو تم طردهم من فصولها، أو كل أولئك الفاشلين والمشاغبين وما شابه، حيث كانت تلك العينة من المدارس تجمع خليطا من التلاميذ المتفاوتي السن في نفس الفصل وفي نفس المستوى الدراسي الواحد، دون أن يشكل ذلك الأمر أي حرج لأحد.

بعد ذلك، سيشتري صاحب "الرشاد" فيلا بحي لارميطاج، والتي قام بتحويلها إلى المقر الجديد لمؤسسته "الرشاد ". وكان حي لارميطاج، كما يتذكر ذلك ادريس، عبارة عن حديقة جمِّيلة وغناء، بها بحيرة يسبح فيها الإوز، وكانت كراسيها مصبوغة بطلاء أخضر، يقصدها المواطنون للترفيه والتسلية والنزهة.

والد الكاتب احمد المديني أعفاه من عشرة دراهم
كان الواجب الشهري، الذي تكلف الأخ الأكبر سي محمد بتأديته لإدارة مؤسسة الرشاد الحرة، هو عشرة دراهم. وقد صادف مرة أن أحد المسؤولين بإدارة المؤسسة وهو المرحوم مولاي علي، الذي ليس سوى والد الكاتب المغربي أحمد المديني، أن علم بالوضع المعدم لإدريس، فأعفاه من تأدية تلك الدراهم العشرة التي كان يدفعها للإدارة. ومن تم صار صاحبنا يصرف ذلك المبلغ في شراء الأدوات واللوازم المدرسية الملحة، وكذا مجلة "الآداب" البيروتية، التي كانت من بين المجلات الأساسية التي كان يداوم على اقتنائها الأدباء المغاربة. ومن تم بدأت علاقة إدريس بعالم الكتابة الأدبية والإبداع.

الحذاء الرياضي الممزق
وسيكون للسنوات الدراسية القليلة، التي قضاها إدريس تلميذا بمدرسة "الرشاد"، على الرغم من بعد المسافة الفاصلة بين حي درب غلف ودرب السلطان، وفيما بعد حي لارميطاج، والتي كان يقطعها، في الغالب، مشيا على الأقدام، سواء أكان الجو مشمسا أو ماطرا، بل كان أحيانا يمشي حافي القدمين، أي بنصف حذاء رياضي ممزق من جراء الأمطار، رغم كل ذلك، سيكون لتلك السنوات دور كبير ومؤثر في توجهه، سواء تعلق الأمر بمجال الكتابة والإبداع أو بخلق علاقات نوعية راسخة وموجهة، كان لها الأثر البين في رسم معالم الممشى الطويل، الذي كان ينتظر هذا القادم من ضراوة العيش وقساوة اليتم والاستقرار الأسري المشتت.

التأثر بجبران خليل جبران
وفي هذا السياق، يتذكر صاحبنا تلك العينة من المدرسين، الذين لم يكونوا يدخرون جهدا في إعطاء وتلقين كل ما لديهم من أفكار ومعلومات لتلامذتهم، حتى لو اقتضى الأمر تكريس ساعات إضافية مجانية للوصول إلى هذه الغاية النبيلة، حيث يتذكر صاحبنا هذا الأمر قائلا: "مع الأسف، لا أتذكر الإسم الكامل لمعلم كان لا يبخل علينا بالساعات الإضافية المجانية،& أذكر فقط أن إسمه الخاص كان هو خالد. هذا المعلم الذي كان أنيقا ووسيما بشكل لافت، ومن خلال دروسه الإضافية هذه، أصبحت متأثرا بشكل كبير بجبران خليل جبران.

أتذكر كذلك معلما يسمى المسعودي، وقد كان يعطف علي كثيرا، لأنني كنت أحمل له محفظته حتى البيت (مسكين)، وكان يقطن بدرب مارتيني قرب شركة التبغ، و كان يعيش مع والدته وشقيقه الذي يشتغل جمركيا وكذا زوج أمه. هذا المعلم الأنيق جدا، والذي يحرص كثيرا على اختيار ربطات عنقه الجميلة، كان يبدل معي مجهودا خاصا واستثنائيا ليعلمني مزيدا من الأشياء، كما كان لا يبخل علي ببعض النقود كلما أحس بضائقتي المادية وعوزي الكبير.

كنت تلميذا منعزلا بعض الشيء
ويجب أن تعلم بأنني كنت تلميذا منعزلا بعض الشيء عن باقي تلاميذ القسم، لم أكن مشاغبا أو "باسل "، بل على العكس من ذلك، كنت ميالا إلى الهدنة والقراءة. ولعل هذا الجانب هو ما جعل السي المسعودي يكلفني بأشياء كثيرة داخل القسم، مثل مراقبة التلاميذ في غيابه ونسخ بعض الدروس إلى غير ذلك من المهام. أتذكر كذلك أستاذا كان يدرسنا " الماتي ماتيك " عروبي فْطَحْ أُوخاطير فالحساب. وكذلك أستاذ آخر مراكشي إسمه مولاي علي، كان يدرسنا الشعر واللغة العربية، وهو خريج جامعة بن يوسف بمراكش. وكان حاصلا آنذاك على شهادة العالِمِية. وكان مولاي علي هذا بوهيميا يدخن سجائر " كازا سبور " السوداء الرديئة، ويحرص دائما على ارتداء ربطة العنق رغم أن قميصه كان دائم الاتساخ ( الكول كحل ). لقد كان بوهيميا بامتياز. غير أنه كان لا يبخل علينا، هو الآخر، بالدروس الإضافية، خاصة في الشعر العربي. وكانت أغلب القصائد التي يدرسها لنا ذات طابع جنسي. وكانت معنا تلميذات في نفس القسم. ولك أن تتصور هذا الجو!.
يجب حذف كلمة جاهلية من المناهج الدراسية
لذلك، أعتقد أن تمكني من اللغة العربية كان على يد مولاي علي، حيث تعرفنا خلال حصصه على طرفة ابن العبد وامرئ القيس وأبي نواس والشنفرى.. وعلى شعراء آخرين كبار، خاصة شعراء ما قبل الإسلام، الذين يسمونهم عادة ب " شعراء الجاهلية "، ولست أدري بالضبط معنى كلمة "جاهلية" في هذا السياق!، هل لمجرد أنهم كانوا غير مسلمين أم لأنهم فقط وجدوا قبل مجيء الإسلام اعتبروا جهلاء! شخصيا، لا يمكنني أن أصدق أو أفهم كيف بإمكان شخص جاهل أن يكون شاعرا!. في اعتقادي، يجب أن يحذف مثل هذا الكلام القيمي الفارغ من المقررات الدراسية ومن التلاوات وما إلى ذلك ".


***********

(3)
بدأت شاعراً... وجبران أستاذي الأول


سيكون حظ الشاب إدريس مرة أخرى عاثرا، حين لم يسمح له باجتياز امتحانات الشهادة الثانوية أو ما يعادل اليوم شهادة البكالوريا، لكونه، كما يؤكد ذلك، لم يستطع أن يجتاز السنة المؤهلة للمرور لهذا الاختبار، هذا إضافة إلى كونه كان يعاني من ضعف واضح في المواد العلمية، وذلك على عكس المواد الأدبية التي كان متفوقا فيها. ليجد نفسه، هذه المرة، متسكعا ومشتتا خارج أسوار الفصول المدرسية.

ضوء الشموع والكتابات الاولى
وقد صادف هذا "التخرج" الاضطراري أن تزوج الأخ الأكبر سي محمد، ثم صار له أبناء، مما كان يعني أن الشاب إدريس أصبح، أمام هذا الوضع المستجد، خارج دائرة الاهتمام والرعاية والجدب، التي كان مشمولا بها في وقت مضى. ولم يكن أمامه من حل سوى الانتقال للاستقرار ببيت عمه سي قدور، زوج " نانا "، والذي كان يقطن ببيت يتواجد بحي "قطع ولد عيشة"، القريب من حي "فرانس فيل"، ومن المكان الذي شيد فوقه المركب الثقافي"أنوال" التابع للجماعة الحضرية للمعاريف. وقد زاد من حماس العم وزوجته "نانا" لاستضافة إدريس عندهما، كونهما كانا محرومين من نعمة الإنجاب، الأمر الذي جعل ادريس يحظى بعناية خاصة وبجو عائلي حقيقي وحميمي طالما افتقده فيما مضى من السنوات، حيث خصته "نانا" بغرفة مستقلة، شهدت أولى محاولاته في الكتابة الأدبية والصحافية، والتي كتبت كلها على ضوء الشموع.
ادريس علال الخوري والافتتان بجبران
وكأي "كاتب" مبتدئ وحالم بشهرة نائية ومتخيلة، وجد الشاب إدريس نفسه منغمسا في تلك العوالم المخملية العذبة التي رسخ أطيافها جبران خليل جبران، في وجدانات جيل بأكمله،جيل كان يعاني من ذلك الحيف الأخلاقي الفائض عن حاجته، وذلك من خلال تلك& اللغة الراقصة والمشربة بعاطفة منبعثة عن عمق إنساني سحيق، ملائكي وحالم. لذلك، فلا غرابة في أن نجد إدريس علال الخوري (وهذا هو أول إسم اختاره صاحبنا في تلك البدايات الباكرة كتوقيع خاص لكتاباته) يتحدث عن جبران وعن كتاب ومبدعين آخرين بكثير من التأثر والتقدير، حيث يقول: "كنت أقرأ جبران، الذي أعتبره أستاذي الأول في الكتابة، نظرا لأسلوبه الشاعري العذب، ونظرا كذلك لجرأته الكبيرة وتحديه لمجموعة من القيم والمواضعات الاجتماعية التي كانت سائدة في زمنه بلبنان. كما يجب الاعتراف كذلك بأنني، أيام كنت تلميذا بالمدرسة، كان لدي ميول نحو قراءة الأدب، لكن الذي حبب لي الإبداع هي إحدى التلاوات، وكانت تسمى "القراءة المصورة "، وهي من إنتاج لبناني جمِيل (أو جاميل بحسب با ادريس)، تتضمن نصوصا عربية مختارة من التراث، كما تحتوي كذلك على كتابات حديثة لكتاب ومبدعين من لبنان ومصر، مثل أحمد شوقي ومارون عبود ومصطفى صادق الرافعي وخليل تقي الدين والبستاني إلخ...
أحمد الله انني لم التحق بسلك التعليم
وإضافة إلى جبران خليل جبران، كما أسلفت، كنت أقرأ لنجيب محفوظ، محمود تيمور، محمود البدوي - وهو قاص وروائي لا أحد يعرفه للأسف - ثم هناك أيضا يحيى حقي وأحمد شوقي والبارودي... وأسماء أخرى كثيرة. المهم لقد كنت أقرأ لكل الجيل السابق عنا، عن طريق إمكانياتي الذاتية الصعبة. لقد كانت قدراتي الأدبية قد بدأت تبرز، لا سيما في حصة الإنشاء التي قادتني مباشرة إلى الكتابة. لقد كانت دائما تحدوني الرغبة في أن أصبح معلما، لكن هذه الأمنية لم تتحقق. وأحمد الله أنني لم ألتحق بسلك التعليم، وإلا لكنت اليوم موزعا بين لعب الرهان و الآجور.
كانت هذه الأسماء، وأخرى غيرها كثيرة، محفزا حقيقيا لكاتبنا نحو طرق الأبواب المجهولة والغامضة لعالم الكتابة والإبداع، ذلك أنه كان يذهب بعيدا في استيهام وتمثل العديد من الشخوص القصصية والروائية التي كان يقرأها، بل أكثر من ذلك فإنه كان يتمنى، في أحيان كثيرة، أن يكون بطل أو أبطال تلك الروايات والقصص، التي كان شغوفا بمصاحبتها. وتلك كانت بمثابة فترة مراهقة الكاتب الأدبية.
في هذه المرحلة كذلك، سوف لن يسلم إدريس، على غرار باقي زملائه ورفاقه من أبناء جيله من الكتاب المبتدئين، من قرض الشعر، حتى إنه يذهب في ذلك بعيدا، حين يعتبر نفسه أنه بدأ شاعرا، لكن سرعان ما سرقه إغراء السرد وأخذ باهتمامه سحر الحكاية.
نهاد التكرلي انتبه الى الوجودية قبل سهيل ادريس
وعن هذه التجربة المبكرة يقول: "أولا أنني بدأت شاعرا، ولدي ديوان شعر مخطوط مازلت أحتفظ به حتى هذه اللحظة، وقد أنهيت ترتيب نصوصه وتنقيحها وتشذيبها من الزوائد في سنة 1964 بالضبط. وهذا الديوان هو عبارة عن مجموعة من القصائد التي كنت أحاكي من خلالها قصائد حرة أو نثرية لشعراء آخرين، أذكر من بين هؤلاء الشعراء، على سبيل المثال لا الحصر، الشاعر اللبناني نقولا قربان (هكذا كان يكتب إسمه)، وكان ينشر آنذاك بمجلة "الأديب" اللبنانية، لصاحبها المرحوم ألبير أديب. وقد كانت، بالمناسبة، مجلة رائدة وسباقة إلى الدعوة إلى تبني قصيدة النثر كشكل شعري حديث، حاول رواده الخروج عن كل ما هو سائد ومتداول ونمطي، وهذا شيء غير معروف للأسف لدى العديد من شعراء الجيل الجديد. وقد كانت مجلة " الأديب " وجهة للعديد من الأقلام الأدبية البارزة من العراق وسوريا،& إلى جانب اللبنانيين بطبيعة الحال. وأذكر من أولئك مثلا الأخوين فؤاد ونهاد التكرلي، هذا الأخير الذي يعتبر من الأوائل الذين اهتموا بالوجودية في العالم العربي، وذلك انطلاقا من الترجمات التي كان ينجزها من الفرنسية إلى العربية، قبل سهيل إدريس وغيره من الذين انتبهوا بعده إلى جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار وغيرهما.
نشر قصائده في مجلة "الأديب" لألبير الخوري
من هذه النافذة، نافذة مجلة " الأديب " اللبنانية، أصيب صاحبنا بلوثة الشعر، وهي اللوثة التي يعتبر أنها كانت عبارة عن استيهامات وتمثلات لنصوص وتجارب أخرى سابقة، تدور موضوعاتها غالبا في الحب والغزل وما إلى ذلك. وقد نشر بعضا من هذه المحاولات الشعرية الأولى بمجلة " الأديب " نفسها، في تلك الفترة.
&بعد هذه التجربة، سيتجه، وبشكل حاسم هذا المرة، نحو كتابة الخاطرة الأدبية، وهي الصيغة التي اعتبرها، على حد قوله، مناسبة وملائمة لتفريغ العديد من المكبوتات الذهنية كالطبيعة والحب والبحر و المرأة والعاشقة المتوهمة... وبما أنه كان يعتقد أنه لا يملك في نفسه بعضا من ذلك الحس الحكائي الذي تتطلبه الكتابة الروائية، فقد صوب كل اهتمامه، لما لمسه في نفسه من قدرات على اقتناص صغريات التفاصيل اليومية وأشكال الوقائع العابرة واللامتوقعة، نحو كتابة القصة القصيرة، وكذلك صار إلى يومنا هذا.
معرفتي بالشعر افادتني في السرد
ولعل& ذلك العبور الباكر، الذي قاده إلى تجريب الكتابة الشعرية وتمثل بعض تقنياتها، سواء تعلق الأمر بالتصوير الشعري أو الإيقاع أو الاقتضاب والاختزال، هو ما ساعده، في العديد من تجاربه القصصية والصحافية، على استعمال هذه التقنيات، بما ينتج نصا مغريا بالقراءة والإنصات. وهو الأمر الذي يؤكده بقوله: "قد تلاحظ في كثير من نصوصي القصصية مسحة وتعابير وصور شعرية واضحة، وهو ما يرجع، في اعتقادي دائما، إلى تلك المعرفة اللابأس بها للشعر وإنتاجاته المتنوعة .
وبالعودة دائما إلى تلك البدايات، التي لم تخل من تجريب وتمرس وتمثل ذكي لما قد تتيحه العين المجردة والتجربة الحياتية الشخصية، سنجد أن ادريس الخوري كان محظوظا في جانب أساسي من مساره الإبداعي الخالص. ذلك أن تواجده بمدينة كالدار البيضاء، وفر له كثيرا من إمكانيات التحصيل والمعرفة واكتشافات الآخر، بتنوعه واختلافه وغناه. ذلك أن الدار البيضاء، في هذا المعبر التاريخي المشتعل حيوية ونضالا وفاعلية، كانت تشهد حركة ثقافية متميزة، حيث تعدد الأنشطة الثقافية النوعية بالنادي الثقافي مثلا، والذي كان متواجدا، آنذاك، بشارع علال بنعبد الله، هذا النادي الذي كان إدريس من زبنائه الخلص المتابعين لتلك القراءات الشعرية التي كان يحييها على شرف شعراء مغاربة كان لهم حضور إبداعي- شعري لافت، في تلك الفترة، مثل الشاعر المرحوم مصطفى المعداوي، الشقيق الأصغر للشاعر المرحوم بدوره أحمد المجاطي.
كما كانت تعقد بنفس النادي العديد من المحاضرات في الأدب وتاريخه على الخصوص، والتي كان يستدعى لتأطيرها كتاب ومبدعون وشعراء من أمثال محمد الكتاني ومصطفى التومي وعلي الهواري ومحمد العراقي، إلى جانب أسماء أخرى كانت تعيش بدايات إرهاصاتها الشعرية والأدبية مع مطلع الستينات.
اطفولة سينمائية أثرت في الكتابة الادبية
وعلى إيقاع نفس الديناميكية الملفتة، لعب الجو التأسيسي للعمل الجمعوي دوره الكبير والمؤثر في التنشيط الثقافي، الذي كانت تعيشه مدينة كالدار البيضاء آنذاك. حيث جمعية الوعي، التي كان يديرها أحمد صبري، والتي لعبت دورا كبيرا في تحسيس جمهور الدار البيضاء بأهمية البعد الثقافي والأدبي في الحياة اليومية، (كانت هذه الجمعية تنظم أنشطتها الثقافية بإحدى قاعات "لاكازا بلانكيز" المتواجدة بحديقة الجامعة العربية، والتي تسمى اليوم قاعة عبد الصمد الكنفاوي)، ناهيك عن الندوات والمحاضرات التي كانت تنظمها المنظمة الطلابية: الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM ) أيام عنفوانها بقاعة سينما الكواكب، حيث كانت تحضر مجموعة من الأسماء للإسهام في جو النقاش الحاد الذي كان دائرا في تلك الأثناء، مثل الأستاذ محمد عابد الجابري، الذي كان قد بدأ يبرز كإسم مفكر لافت إلى جانب إسهامه السياسي، وكذا طبيعة أفكاره ذات البعد القومي العربي- البعثي على وجه الخصوص).
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن حضور جانب من الثقافة السمعية البصرية، سواء في بعدها السينمائي أو التشكيلي أو المسرحي، شكل انعطافة أساسية في إثراء ثقافة الكاتب ومعرفته الأساسية، بل إن مجرد الانتباه إلى أهمية جانب كهذا في تلك الفترة، ليعتبر التفاتة ذكية إلى رافد آخر من روافد إغناء التجربة الإبداعية الشخصية.
من هنا نجد أن تأثير الصورة في مسيرة إدريس كان أمرا واضحا في كتاباته. وبالحديث عن السينما، فإننا نجد صاحبنا يعتبر نفسه ممنونا لأخيه صالح، الذي قاده في طفولته الأولى إلى متع تلك القاعات السحرية المظلمة، حيث يقول: "في هذا السياق، فأن أخي المرحوم صالح، الذي كان يمتهن النجارة الفنية، هو الذي بلاني بـ "السوليما"، حيث كان يأخذني معه، في طفولتي، إلى سينما "ريكس" الكائنة بنفس زقاق"جورا"، الذي يوجد به اليوم المركب الثقافي للمعاريف (مركب محمد زفزاف حاليا)، وكان آنذاك عبارة عن كنيسة تسمى "سان ماري. وبالقرب من سينما "ريكس" هذه، كانت توجد كذلك سينما "فاميليا" و"سينما مونديال" . وقد كان ثمن التذكرة آنذاك هو 30 فرنكا. فقط لا غير.
بازوليني وفيلليني وفيسكونتي...
من هنا، كان قد بدأ عشقي للسينما الأمريكية منها والفرنسية Noir et Blanc (الاسود والابيض) وكذا الإيطالية.. إلى غير ذلك من السينمات العالمية آنذاك ينمو بشكل مضطرد. لذلك، فحينما كبرت، وأصبح لي بيت مستقل بحي المعاريف وصرت ممسوسا بجمرة الكتابة، بقيت أتردد كثيرا على دور السينما بهذا الحي، حيث إن هذه القاعات كانت تبرمج حصة خاصة، أو ما يسمى بـ: Séance Spéciale وهي عبارة عن عرض خاص تباع تذكرته بدرهم واحد، ويبث من الساعة السادسة إلى الثامنة أو الثامنة والنصف مساء، وبعده مباشرة يتم بث العرض الرسمي أو العادي. وفي هذا العرض الخاص، كانت تعرض أفلام نوعية لا تعرض عادة ضمن سلسلة الأفلام التجارية، من ذلك مثلا: أفلام بازوليني، فيليني، فيسكونتي... إلخ. بمعنى أنها كانت أفلاما ثقافية أو"مثقفة" إذا صحت هذه التسمية .
أما بالنسبة للمسرح، فإن اهتمام ادريس الخوري بعروضه ورواده والباحثين في مجالاته، قد جاء فيما يسميه مع مرحلة النضج، وذلك من خلال تلك العلاقة الحميمية التي خلقها مع فضاء مقهى "لاكوميدي"، التي كانت تقابل بناية المسرح البلدي المأسوف على هدمه. هذا المقهى الذي كان يرتاده العديد من الفنانين المسرحيين الكبار، آنذاك، من أمثال: الطيب الصديقي ومصطفى التومي وآخرين.


*******

(4):
لقب الخوري جر عليّ الكثير من المتاعب


وجاء اهتمام إدريس الخوري بمجال الفنون التشكيلية من خلال عمله مراسلا لجريدة "العلم" من مدينة الدار البيضاء، اذ تولد لديه اهتمام بهذا الحقل الإبداعي الثري، وكان ذلك من خلال قيامه بالتغطية والكتابة عن المعارض الفنية، التي كانت تقام آنذاك بقاعات العروض بالدار البيضاء. ومن تم، بدأ يخلق بعض العلاقات مع مجموعة من الرسامين المغاربة، الذين كانوا قد أصبحوا مكرسين في هذا المجال، من أمثال شبعة والمليحي ومحمد حميدي وغيرهم، هذا إضافة إلى تلك الصداقات الغنية التي كان يربطها مع بعض طلبة مدرسة الفنون الجميلة بالمدينة مثل رحول والحريري والغطاس والحسين ميلودي ...

وكما تمت الإشارة إلى ذلك بسرعة، في سياق الحديث عن حياة إدريس الباكرة، فقد كان " للحلقة "، بتنويعاتها الفرجوية المختلفة، جانب كبير من التأثير في " صنع " بعض خصوصية وتجدر وتميز كتاباته ، لا سيما الأدبية منها، و هو الأمر الذي كان غير متاح لغيره من الكتاب من أبناء جيله ومن الذين سبقوه، ممن كانت تغريهم " فترينة " المثقف العالِم المنفصل عن بساطة وطبيعة تربته الأولى. حيث يتحدث عن هذا الأمر قائلا: "كنت دائما معجبا بالأدب الشعبي، وبالأخص في جانبه الموسيقي، وكل ما يتعلق بالأنواع الموسيقية التي تشتهر بها بعض المناطق من المغرب مثل: العيطة، كناوة، الحوزي، المرساوي ... إلخ. لقد كنت معجبا بكل هذا. لماذا؟ لأنني كنت مدمنا على الحلْقة بشكل كبير في درب غلف.

التأثر بالفكاهيين الشعبيين
فمن المعلوم أن الدار البيضاء كانت تتوفر على فضاءات كثيرة للحلقة، منها: فضاء درب غلف وفضاء القريعة، وفضاء الجْمِيعة ثم فضاء ابن امسيك. وجميع " الحلايقية " المشهورين، آنذاك، كانوا يأتون " ليلعبوا " في هذه الفضاءات المتربة بالدار البيضاء. أما منطقة درب غلف، التي كنت أقطن فيها، فهي منطقة كانت مشهورة بشساعة خلاءاتها. ولذلك، كان في مساء كل يوم، ابتداء من الساعة الرابعة بعد الزوال، تمتلئ بالفكاهيين الكوميديين الحقيقيين الشعبيين البسيطين، مثل المرحوم ولد قَرَّضْ، مثل خْلِيْفة، مثل بوغَطّاط... ومجموعة من الفنانين الشعبيين الموسيقيين، مثل ذلك الثنائي، الذي وظفه الصديقي في مسرحياته، فأحدهم توفي ولم يبق سوى الشرقاوي على قيد الحياة. إذ كانا يجلسان متقابلين، ثم يشرعان في تبادل حوار مشترك فيما بينهما.

وسط هذه الفضاءات الساحرة، عشت وتأثرت، وظل هذا التأثير راسخا في ذاكرتي إلى اليوم. هذا، طبعا، بالإضافة إلى دور الإذاعة في فترة الحماية وبداية الاستقلال، حيث لعبت فرقة البشير السكيرج، مع بوشعيب البيضاوي، دورا كبيرا وأساسيا في هذا السياق، إذ كنت أستمع إلى إنتاجهما عبر الإذاعة كل يوم أحد، في إطار برنامج خاص.

الرباط وثقافة مجلة دعوة الحق
هكذا، إذن، تجمعت حصيلة ثقافتي الشعبية، التي ظلت في شكل رواسب تلاحقني. ولكن، حينما انتقلت إلى الرباط في سنة 1968 ، وهي المدينة المورسكية، حيث سيادة الثقافة العالمة، ثقافة الجامعة، ثقافة مجلة دعوة الحق... مع هذا النوع من الثقافة، اكتشفت باستغراب كبير كيف يتم النظر إلى الثقافة الشعبية نظرة قدحية " .
هكذا، إذن، بدأ ظهور إسم الكاتب "إدريس علال الخوري" على صفحات الجرائد والمجلات الوطنية، وذلك من خلال تلك القصص التي أصبح يعتبرها، فيما بعد، مجرد خواطر أدبية، تعكس تلك المرهقة الأدبية الأولى، التي كانت تقوده إلى تمثل التجارب الإبداعية المكرسة. وهكذا، إذن، كانت البداية بمجلتي " المشاهد "، التي كان يصدرها، آنذاك، شخص إسمه عبد الرحيم اللبار، حسب ما يتذكره الكاتب، وكذا مجلة " الأطلس "، والتي كان يديرها السيد عبد اللطيف جبرو. حيث سينتقل صاحبنا، بعد ذلك، إلى النشر بجريدة العلم، التي كانت وقتها وجهة لكل الأسماء التي أثبتت حضورها الإبداعي والفكري والثقافي على الصعيد الوطني.
&وبخصوص هذه البدايات، يتذكر إدريس شخصا يسمى الغرملي، والذي كان مسؤولا على الصفحة الأدبية بإحدى المجلتين السابقتي الذكر، حيث بعث له بمحاولة أدبية ليتلقى منه جوابا " محفزا " جاء على الصيغة الجافة التالية: " سيرْ تَقْرا ".

ادريس علال الخوري
وكما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل، فقد كان أول إسم اختاره الكاتب ليوقع به كتاباته هو "إدريس علال الخوري" ، وهو الإسم الذي فيه نوع من الاحتفاء بالوالد المتوفى " سي علال " إلى جانب الإسم الشخصي " إدريس "، لكن ما كان جديدا في هذا الإسم هو لقب "الخوري " الذي لم يكن، فيما سيوضح الكاتب نفسه فيما بعد، لقبا مستساغا، و ذلك نظرا لحمولته أو دلالته غير الإسلامية، كما علق على ذلك بعض ممن لم يرقهم هذا اللقب. وفي ذلك يقول الكاتب: "إن إسمي الكامل هو " إدريس الكص"، وهذا الإسم مأخوذ من فيلم مصري قديم، كان من ضمن شخصياته شخصية تدعى "الكص". وبما أن أخي الحاج عبد القادر كان مولعا بالأفلام العربية الكلاسيكية، والفترة كانت هي فترة الحماية الفرنسية، حيث بداية تأسيس دفتر الحالة المدنية، فقد اختار للعائلة إسم " الكص "، محبة في شخصية الفيلم& المصري القديم.

رفضوا ان اكتب باسم الخوري لانه اسم مسيحي!
أما لقب " الخوري "، فقد اخترته انطلاقا من كتابات جبران خليل جبران، الذي كان ينتقد فيها كثيرا " الخوارنة " أو الرهبان المسيحيين. لكن، الأمر غير المعروف هو أنني كنت أوقع العديد من كتاباتي الأولى بإسم "إياد "، وهو إسم كان يعجبني هكذا. فقط لا غير. لكنني اخترت في الأخير إسم " الخوري "الذي جر علي الكثير من المتاعب، لاسيما من طرف المرحوم عبد المجيد بنجلون، صاحب " في الطفولة "، الذي قام بانتقادي علانية في جريدة العلم، ورفض أن أكتب بإسم "الخوري"، باعتباره إسما مسيحيا، في نفس الجريدة التي كان يكتب فيها هو، وأعني "العلم". وفي لحظة توتر، كنت سأتخلى عن هذا اللقب، إلا أن الصديق الكاتب عبد الجبار السحيمي كان له رأي آخر، حيث ألح علي للاحتفاظ به. لذلك، أعتبر أن للسحيمي الفضل في الإبقاء على لقب "الخوري"، الذي اشتهرت به كتاباتي، سواء الصحافية أو القصصية إلى يوم الناس هذا".

وبالنظر إلى كل بداية أدبية تسعى إلى إثبات وجودها، من خلال الاحتكاك بكل ما سبقها من تجارب إبداعية مكرسة ولافتة، فقد بدأ صاحبنا بنسج العديد من العلاقات الخاصة مع مجموعة من الأسماء السابقة عن جيله من الشعراء والقصاصين والروائيين، هذه العلاقات التي كان يكتفي منها بالتتبع والمواكبة والإنصات، دون التجرؤ على تجاوز تلك المسافة النفسية المتوهمة أحيانا، كلما تعلق الأمر بأسماء كانت واصلة آنذاك. بل إن صاحبنا كان يغبط بعض أصحاب تلك الأسماء، لما تنتجه من كتابة متميزة، ومن أولئك يذكر على سبيل المثال لا الحصر: الشقيقان المرحومان مصطفى المعداوي وأحمد المجاطي، علي الهواري، أحمد صبري، هذا الأخير الذي ما زال الخوري يتذكر جيدا كيف كان ينظر إلي نظرة دونية ، نظرا لكون والده كان ميسورا. لكنه لا يفتأ أن يضيف في حقه: " إلى جانب كون الشاعر أحمد صبري كان يتميز علينا، نحن أبناء جيله، بوضعه الاجتماعي والمادي أيضا، فقد كان متفتحا و ( سابَقْ وَقْتُو )، له حس وطني وثقافي كبيران، مزدوج اللسان (عربية - فرنسية).

السحيمي وكتابته الجريئة... &وذات طابع وجودي سجالي مضاد
إضافة إلى الأسماء السابقة، كان هناك أيضا محمد القطيب التناني، القصاص الأول في الدار البيضاء، حسب الكاتب، والذي كان متميزا في وقته. في تلك الفترة، يتذكر الخوري: "كانت جريدة "التحرير" تنشر بشكل يومي مقالات لكتاب مغاربة، من بينهم شخص يدعى عبد الوهاب مروان، الذي كان من خريجي الجامعة السورية، فقد كانت مقالاته تتميز بذلك الطابع القومي - البعثي. كما أتذكر جيدا، كذلك، العمود الأسبوعي الذي كان يداوم عليه الأستاذ عبد الجبار السحيمي بجريدة العلم، و الموسوم ب" الأيام والليالي "، حيث كانت كتابته جريئة وذات طابع وجودي سجالي مضاد لما كان عليه المجتمع المغربي آنذاك من أيام أخلاقية رديئة، وكان عبد الجبار يكاد أن يكون الصوت الوحيد، المنفلت من بين صحافيي جريدة العلم في تلك الفترة. وفي ذات السياق، دائما، أذكر صديقا لي إسمه إدريس بنجلون من فاس، وكانت له زاوية أسبوعية بنفس الجريدة هو الآخر، وكان كاتبا متميزا بالفعل ".

الكتاب الاثرياء والكتابة عة الفقراء
وفي المقابل، لقد كان ادريس الخوري يربأ بنفسه من تتبع ذلك النوع من الكتابات، التي كان يدبجها أولئك الكتاب "الأثرياء"، الذين كانوا يتمسحون بمعجم الكتابة المناضلة و" الشعبية " لاستجداء عطف " قاعدة القراء المسحوقين الآخذة في الاتساع.& حيث يوضح ذلك قائلا: "كنت دائما أبحث عن الكتابات المختلفة تماما عما هو سائد من كتابات متشابهة، أو مختلفة عن بعض تلك الكتابات "الشبعانة"، التي تتمسح بالعادي من اللغة المغرقة في النصيحة والأخلاق الفائضة عن الأخلاق! والحريصة على تماسك المفاهيم وحمايتها من الخلخلة ".
في هذه الفترة، كان الخوري، كما تمت الإشارة إلى ذلك من قبل، قد " تخرج " من مدرسة " الرشاد " الخاصة، على تلك الطريقة المعلومة. حيث بقي بعدها لمدة يحاول خلالها تدبير أمر حاجياته التي أصبحت، على ضوء " الوضع& الاعتباري " الذي أصبح يعيشه، متزايدة وبحاجة إلى مصدر مادي ثابت.

[HEADING=2]*************[/HEADING]

(5)
المبيت في حمّامات الجزائر

في سنة 1965 قرر الكاتب ادريس الخوري الهجرة إلى الجزائر، الخارجة حديثا آنذاك من سترة الاستعمار الفرنسي، للاشتغال بإحدى صحفها، بعدما كان قد راكم بعض الكتابات المتنوعة بالمغرب. وقبل التوجه إلى وجدة ومنها إلى الجزائر العاصمة، وكان ثمن التذكرة من الدار البيضاء إلى وجدة يساوي ثلاثين درهما، قصد مكتب عبد الجبار السحيمي بجريدة "العلم"، والواقع بشارع علال بنعبد الله بالرباط، الذي سلمه رسالة توصية لأحد معارفه بمدينة وجدة وإسمه محمد العَرَبي، الذي قام باستضافته ببيته لمدة أسبوع لدى وصوله إلى وجدة، كما قام بتعريفه، خلال هذه الفترة القصيرة، على المجتمع الوجدي الثقافي والتعليمي بالأساس، لاسيما في منطقي أحفير والسعيدية الشرقيتين.
وعن هذه الرحلة العجيبة، يحكي إدريس: " اشتريت تذكرة القطار الرابط بين مدينة الدار البيضاء و وجدة، وكانت تساوي ثلاثين درهما آنذاك. وقد حملت معي مبلغ مائة درهم. فقط لا غير! وقد كان هذا كل المبلغ الذي بحوزتي، والذي وضعته جانبا لمقتضيات المصاريف اليومية وتفاديا كذلك لأي طارئ!، هذا المبلغ الذي كان قد أعطاني إياه أخي& المرحوم سي محمد.

وصول الماريشال تيتو والنوم في حمامات الجزائر
المهم، بعد الأسبوع الذي قضيته بوجدة، قام السي محمد العرَبي، بعدما زودني ببعض المال، بإيصالي إلى النقطة الحدودية " زوج بغال "، التي تفصل بين المغرب والجزائر. وعند دخولي إلى التراب الجزائري، انتقلت مباشرة إلى مدينة " مغنية "، حيث دعاني أحد معارفي من الجزائريين وإسمه " الزبير " إلى العشاء ببيته، ذلك أن هذا المواطن سبق لي أن تعرفت عليه حين كان مقيما بالمغرب، وبالضبط بحي درب غلف. بعد وجبة العشاء، ذهبت للمبيت بأحد الحمامات الشعبية. ذلك أن الجزائر في هذا التاريخ كانت تنتشر بها ظاهر المبيت في الحمامات، هل تعلم ذلك؟! ( قهقهات )، حيث إنك كنت تؤدي ما قدره درهمان للاستحمام ثم زائد المبيت. وفي الصباح تغادر وأنت ( بخير وعلى خير ) ".
ومن مغنية سينتقل صاحبنا صباح اليوم الموالي إلى وهران، وكان ذلك أيام الرئيس أحمد بنبلة. حيث صادف وصوله إلى وهران زيارة الماريشال " تيتو " إلى الجزائر، و كانت الجزائر مازالت تحتفل بحرارة استقلالها الطري. وفي مدينة وهران، سيستقر إدريس، " بشكل سري " هذه المرة، أو مثل أي (حرّاك )، ( كما يعبر عن ذلك ساخرا ) عند أحد المغاربة من أبناء درب غلف، وهو من أصول جديدية ( من مدينة الجديدة )، كان يمتهن الحلاقة بالجزائر.
&ذلك أن المقصود ب" الإقامة السرية " في هذا السياق، هو أن السيدة الجزائرية العجوز، صاحبة البيت الذي كان يقطن به الشاب الجديدي الذي استضاف الكاتب لمدة يومين، كانت تمنع عليه منعا كليا استضافة أي كان من أصدقائه أو معارفه. لذلك، كان إدريس ينتظر نزول الظلام، ليفتح الباب ويخلع حذاءه، ثم يصعد بعدها الدرج على أطراف أصابعه، وذلك حتى لا يُكشف أمره وأمره مستضيفه، و تضطره صاحبة البيت لمضاعفة سومة الكرام. بعد اليومين اللذين قضاهما في تلك " الإقامة السرية "، انتقل عبر القطار، إلى الجزائر العاصمة. وفي العاصمة، توجه إلى جريدة " الشعب " الجزائرية، حيث كان يشتغل الصحافي المغربي المرموق الراحل محمد باهي، وبعدما علم برغبته في الاشتغال بإحدى الصحف المحلية، أخبره بأن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتصورها، على الأقل في ذلك الظرف التاريخي الدقيق من تاريخ الجزائر ( أي في سنة 1965 ). ليقوم بدعوته، بعد هذا اللقاء " السريع "، لتناول وجبة غذاء بإحدى المطاعم بقلب العاصمة، ثم قام بتوديعه عائدا إلى مقر الجريدة، حيث لم يجد صاحبنا من أمر يفعله، بعد خيبة الأمل غير المرتقبة تلك، سوى الذهاب إلى إحدى الحمامات الشعبية القريبة قصد الاستحمام ثم للمبيت ( طبعا ) تلك الليلة .
وعن طبيعة هاته الحمامات، يتذكر الخوري أنها: " كانت عبارة عن " بورديل - مبغى "، ذلك أن الجزائر، في تلك الفترة، كانت ما تزال تجر خلفها ذيول ومخلفات الاستعمار الفرنسي ".
وفي صبيحة اليوم الموالي، سيعود صاحبنا، عبر القطار مرة أخرى، إلى مدينة وجدة قاصدا السي محمد العَربي، الذي زوده، مرة ثانية ببعض النقود، ومنها سيقصد مدينة الدار البيضاء. لقد كانت المدة التي قضاها إدريس بالجزائر، والتي لم تتجاوز أسبوعا واحدا، بمثابة تجربة حقيقية، بالرغم من قصرها، ودرسا ما يزال يتذكر كثيرا من تفاصيله اليومية الدقيقة، وليس ذلك بغريب على كاتب مهووس بأدق التفاصيل اليومية، وأبعاد الأحداث الصغيرة والعابرة.

العودة الى البلد بلا حرفة سوى القلم
وبرجوعه إلى مدينة الدار البيضاء، بقي كاتبنا عاطلا عن العمل. فباستثناء دربته وتمكنه من التحرير الصحفي ومعرفته غير الهينة بمثبطات اللغة العربية، لم يكن يتقن أي عمل آخر أو أي حرفة، يستطيع بواسطتها تلبية بعض حاجياته الملحة. وعن هذا الأمر يقول: " لم يسبق لي أن مارست أي مهنة. فقط، أتذكر أنني لما كنت تلميذا ب " الجامع "، أي قبل التحاقي بمدرسة " الرشاد " الخاصة، كنت أقصد سوق الخضر المتواجد بالمعاريف، لأساعد الأوربيين على نقل مشترياتهم إلى سياراتهم أو إلى بيوتهم. وكنت أقوم بهذا العمل من أجل الحصول على بعض النقود، التي كنت أستعين بها على اقتناء الدفاتر والكتب والمعدات المدرسية، وما عدا ذلك، لم يسبق لي أن مارست أي حرفة من قبل ".
وحصل أن علم الأستاذ محمد برادة& بأن إدريس أصبح يعاني من تبعات كونه مازال عاطلا عن العمل، ولديه حاجيات معيشية ملحة، الأمر الذي دفعه إلى التوسط له لدى إدارة جريدة " التحرير "، التي تم قبوله بها بصفته مصححا مقابل أجرة شهرية تقدر ب: ثلاثمائة وخمسون درهما.
وعن هذا " التوظيف " بجريدة " التحرير " يقول الخوري:" ولعلمك، فإنني كنت، إلى جانب عملي كمصحح، أعمل محررا صحافيا في نفس الوقت، حيث لم يكن هناك، داخل هيأة التحرير، أي تصنيف أو تمييز صارم بين من كان يشتغل صحافيا وبين من كان مصححا ".
وقد كانت هيأة تحرير جريدة " التحرير " مؤلفة من طاقم صحافي يتكون من الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، الوزير الأول المغربي الحالي، الذي كان يشغل منصب رئيس التحرير، إضافة إلى مداومته، في تلك الفترة، على كتابة عمود متميز تحت عنوان: " لا دخان بدون نار "، إلى جانب اليوسفي كان هناك الصحافي حسن العلوي ( الملقب ب: فْرِيمُوس )، والذي يعتبره الخوري من ألمع الصحافيين المغاربة، ومن الأوائل الذين علموه خبايا وأسرار الكتابة الصحفية. كما كانت الهيأة تضم كذلك كلا من مصطفى القرشاوي عبد الله بومهدي والمهدي الورزازي، هذا الأخير الذي كان مسؤولا عن مالية الجريدة... هذا إضافة إلى صحافيين آخرين.
و بالموازاة مع جريدة " التحرير "، عرفت هذه المرحلة كذلك ظهور جريدة " الأهداف "، وهي جريدة أسبوعية سياسية وثقافية، كان يديرها الأستاذ أحمد حميمو إلى جانب محمد عابد الجابري وعبد الوهاب مروان، اللذين كانا من ضمن هيأة تحريرها. وقد كانت " الأهداف "، حسب الخوري، " جريدة مغربية بعثية ".

شبح البطالة ثانية
بعد أقل من سنة فقط، سيجد الخوري نفسه مجددا عرضة لألم البطالة والتسكع ثانية في مقاهي ومنتديات مدينة الدار البيضاء. ذلك أنه خلال نفس السنة، أي 1965، سيتم اغتيال الزعيم المغربي المهدي بنبركة، مما كان يعني مباشرة تعرض كل رفاقه إلى حملة قمع سياسية شرسة، قادتها السلطات المغربية، وتفنن في تطبيق مقتضيات بشاعتها كل من الجنرال أوفقير ومساعده الأول أحمد الدليمي. وقد أسفرت هذه الحملة الضارية، ضد اليسار المغربي آنذاك وضد رجال الحركة الوطنية، ضمن ما أسفرت عنه، عن توقيف، بل وإغلاق جريدة " التحرير " إلى يوم الصحافة هذا.
وبما أن صاحبنا كان قد راكم داخل أسرة تحرير جريدة " التحرير "، خلال تلك السنة، بعضا من الحضور الإعلامي، سواء من خلال كتاباته القصصية أو تغطياته الصحفية الثقافية، وبالنظر كذلك إلى العلاقة الحميمية التي كانت تربطه بالكاتب والصحافي عبد الجبار السحيمي، الذي كان لا يترك الفرص تمر دون أن يقدم له ما يكفي من الدعم والمآزرة، فقد عمل الأستاذ عبد الجبار على إلحاقه مراسلا، وصحافيا متعاونا بمكتب جريدة العلم الكائن بشارع محمد الخامس بمدينة الدار البيضاء.
&وعن هذه التجربة يقول إدريس: " في مكتب جريدة العلم بشارع محمد الخامس، كنت أشتغل إلى جانب شخص يدعى عبد اللطيف بنيس، الذي كان مراسلا لجريدة " L'opinion "، و قد كانت تسمى آنذاك " La nation& Africain& " ، التي كان مديرها هو السيد إدريس الفلاح، الذي صار بعد ذلك عاملا على إقليم طنجة ثم سفيرا بليبيا.
لم أكن أتقاضى أجرة شهرية كأي صحافي قار، بل كنت أشتغل ك " Pigiste& "، أي بالقطعة أو بالعمود، وهو ما كان يعني حسابيا أنني كنت أتقاضى أجرة تتراوح ما بين مائة و مائة وخمسين درهما، في نهاية كل شهر، مقابل ما كنت أكتبه. حيث بقيت على هذا الحال إلى حدود سنة 1968 ".
وللبحث عن مزيد من الاستقلال عن الأسرة والاستقرار النفسي والصفاء الذهني، سيقوم إدريس بكراء غرفة بسطح إحدى العمارات الكائنة بحي المعاريف، وبالضبط بزنقة " فوريز "، هذه العمارة التي كانت في ملك أحد أطباء الأسنان المشهورين بالمعاريف ويسمى الدكتور العلمي. وقد كان ذلك بمجرد التحاقه بمكتب جريدة العلم بالدار البيضاء.

بدايات الاستقرار
وفي نفس السنة، أي 1968 ، سيطلب عبد الجبار السحيمي، مرة أخرى، من إدريس الالتحاق للعمل& بالمقر الرئيسي لجريدة العلم بمدينة الرباط، حيث سيوظف مباشرة بقسم التصحيح. وقبل هذا الالتحاق النهائي بالعاصمة، قام إدريس بتسليم غرفة سطوح زنقة " فوريز " إلى الكاتب الراحل محمد زفزاف، الذي كان حديث العهد بمدينة الدار البيضاء، التي قدم إليها بعدما تم تعيينه بإحدى إعدادياتها بصفته أستاذا للغة العربية.
وعن هذا الأمر يقول الخوري: " لقد كنت السبب في تعيين سي محمد رحمه الله بحي المعاريف. ذلك أنه كان قد عين أول مرة بإحدى المؤسسات التعليمية بمدينة الدار البيضاء، وهو الأمر الذي لم يكن قد راقه كثيرا، مما دفعني، بعدما فاتحني في الأمر، إلى القيام بتدخل لفائدته لدى أحد أصدقائي، الذي كان موظفا بمندوبية التعليم الثانوي، وكانت آنذاك بليسي مولاي عبد الله، قرب حي لارميطاج. وكان هذا الصديق يسمى بوشعيب، و الذي أصبح فيما بعد يعرف بإسم الحاج " نودير "، بعدما صار له شأن بالجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى. بعد مفاتحة سي بوشعيب، إلى جانب صديق آخر كذلك، وهو أحد أبناء حي درب درب السلطان، والذي كان يشتغل هو الآخر بنفس المندوبية ويسمى " عدنان "، تم تعيين سي محمد بإحدى الثانويات بحي المعاريف، وأعتقد أنها كانت ثانوية ابن حبوس.
من هنا كان أول استقرار لزفزاف بالمعاريف وبالضبط في الغرفة التي كنت أكتريها بسطح عمارة الدكتور العلمي _ كما أسلفت _ حينما نادى علي عبد الحبار السحيمي للالتحاق بجريدة العلم بالرباط. وقد بقي المرحوم زفزاف بنفس الغرفة دون أن يؤدي اجرة كرائها، إلى أن تم استدعائي مرة من طرف المحكمة بـ " سيتي بْلاطُو "، من أجل الإفراغ، وذلك ما تم بالفعل وبشكل حبي، فيما بعد، حيث بقيت كتبي موزعة، بعد هذا الحادث، بين المرحومين محمد زفزاف والشاعر أحمد الجوماري".


*****


(حلقة 6 وأخيرة):
الكتابة الحقيقية يجب ان تكون ممزوجة بالحياة


بما أنه لم يكن يملك من المال ولا من المدخرات ما كان يسمح له بكراء شقة أو غرفة حتى، من أجل الاستقرار النهائي في مدينة الرباط، وجد ادريس الخوري نفسه مشتتا مرة أخرى، حيث اتخذ من مقهى " Jour et Nuit "، القريبة من نزهة حسان، مكانا للإقامة المؤقتة. وكما يدل على ذلك اسم المقهى الذي&كان لا يغلق أبوابه ليل نهار. ومن حين لآخر، كان الأستاذ سعد العلمي، البرلماني وعضو اللجنة التنفيذية بحزب الاستقلال حاليا، يقوم، بناء على توصية السحيمي، باستضافته ببيته. وذلم ما يتذكره الخوري بقوله: " كان السي سعد العلمي وشقيقه عبد القادر طالبين ساعتها بالجامعة، وكانا يقطنان بشقة اكتراها لهما والدهما المرحوم السي العياشي، وكان بالمناسبة رجلا شفشاونيا ( نسبة إلى مدينة شفشاون ) كريما. قلت، كانت تلك الشقة قريبة من مقهى العصافير ومكتب صغير للبريد قبالة محطة سيارات الأجرة الكبيرة، الرابطة بين مدينة الرباط وسلا. لقد كان سعد العلمي كان صديقا حميما للمرحوم زفزاف. وما بين مقهى Jour et Nuit " وبيت الأخوين العلمي، كنت أنزل ضيفا، من حين لآخر، عند الأخ عبد الجبار السحيمي، الذي كان يقطن وقتها قرب مقر شركة ( REDAL ) لتوزيع الماء والكهرباء، غير البعيدة عن مقهى " جور إيه نوي ".
وإلى جانب عمله الرسمي مصححا بجريدة العلم، كان يقوم، من حين لآخر، بتحرير مقالات وتغطيات صحفية في مجالات الثقافة والفن والإبداع، حيث كان يتقاضى أجرة شهرية، مقابل عمله مصححا، تقدر بـ: سبعمائة درهم، هذا دون احتساب التعويضات التي كان يتلقاها عن مساهماته كمحرر بالقطعة، بمعنى أن كل ما كان يكتبه، على غرار المتعاونين الآخرين من خارج هيأة تحرير الجريدة الرسمية، كان يقاس بالمتر، أي انطلاقا من حجمه لا أهميته!
&وعن ذكرياته عن هذه المرحلة يحكي إدريس: " وأتذكر، بالمناسبة، أنني حين قدمت إلى الرباط، استقدمت معي دراجة هوائية، وكانت من النوع الفرنسي الجامِّيل ودْيَالْ النَّفْسْ، وهي الوسيلة التي كنت أفضلها في تنقلاتي اليومية داخل العاصمة. لكن، حدث مرة أن تركتها مركونة قبالة إحدى المقاهي الرباطية التي كنت أرتادها باستمرار رفقة العديد من الأصدقاء. وعند انتقالي من ذلك المقهى إلى آخر غير بعيد، نسيت الدراجة مركونة في مكانها. وفي صباح اليوم الموالي، عدت إلى نفس المحل، فلم أعثر لها على أثر، لأسأل الحارس الوجود بعين المكان عن أمر الدراجة التي كانت، لكنه أكد لي أنه لم يسبق له أن رآها من قبل! بعد ضياع تلك الدراجة، اشتريت دراجة ثانية، و هذه المرة كانت دراجة نارية، ومن نوع خاص ومتداول بشكل كبير،& وأقصد بذلك " السوليكس "، وكان ثمنه آنذاك يساوي ستمائة درهم. لكن " السوليكس " هذا كان مصيره مثل مصير الدراجة الهوائية الفرنسية التي سبقته، حيث سرق هو الآخر في ظروف غامضة ! ".
ومراعاة لحالة إدريس النفسية، قام عبد الجبار، دائما، بالتوسط له عند أحد العاملين بجريدة " لوبينيون " بقسم التصحيح، و قد كان شابا من أصول ناظورية، فقد استضافه لمدة ببيته الكائن بزنقة " نابولي " بحي المحيط، لكن، سرعان ما تم استدعاء ذلك الشاب لأداء واجب الخدمة العسكرية، الأمر الذي جعله يتنازل لإدريس عن الشقة مقابل تأدية مبلغ& ثمانين درهما كسومة للكراء، بعدما كان ثمنها، قبل أن تتحول في إسمه، هو ستون درهما.
بقي الأمر على هذا النحو حتى سنة 1976، وبالضبط، إلى حدود انعقاد المؤتمر الخامس لاتحاد كتاب المغرب، وكان ساعتها الروائي عبد الكريم غلاب رئيسا للاتحاد، حيث قام إدريس، انطلاقا من قناعاته المبدئية، و باعتباره مثقفا منتميا إلى صفوف هذه المؤسسة الثقافية، بالتصويت لفائدة الروائي محمد برادة، وضدا على رغبة مديره في جريدة العلم، آنذاك، الأستاذ غلاب. الأمر الذي لم يتم قبوله من طرف العديد من مثقفي حزب الاستقلال، وبالتالي، تم وضع إسم الخوري ضمن قائمة المنشقين أو الخارجين عن منطق الولاء لأولي الأمر والخبز.
وقد كان على رأس هؤلاء الغاضبين عن إدريس، كما يتذكر ذلك جيدا، " العربي المساري، الذي لعب دورا سريا في الدفع بي إلى تقديم استقالتي، وهو ما تم قبوله بسرعة. فقد كان السيناريو مخدوما بعد يوم الأحد الذي انتهى فيه المؤتمر " .
وعن هذا الأمر يقول الخوري: " ، بعدما قمت بالتصويت عن سي محمد برادة، تآمر علي العربي المساري، ودفعني بخلفية انتقامية لأن أقدم استقالتي من جريدة العلم.
ورغم أنني أمضيت أزيد من ثماني سنوات في بيت جريدة العلم، إلا أنني غادرتها بدون تعويض عن الخدمات السابقة أو ما شابه. ذلك أن ما تسلمته من إدارة الجريدة، لدى مغادرتي لمقرها، كان عبارة عن أجرتي الشهرية فقط كمصحح إضافة إلى مبلغ يقابل المواد التي نشرتها خلال ذلك الشهر، وهو ما كان مجموعه ألف وثلاثمائة درهم ليس إلا! ".
بعد هذه التجربة مع جريدة العلم، التي استغرقت ثماني سنوات من عمر الرجل، منقسمة ما بين اشتغاله مراسلا للجريدة من مدينة الدار البيضاء، ثم التحاقه للعمل بالمقر المركزي بالرباط، سيجد إدريس نفسه عاطلا عن العمل مرة أخرى. هذا الوضع الذي كان يعني، بالنسبة لشخص كاتب مثل الخوري، لا يحسن سوى استعمال قلمه وأفكاره، مزيدا من التشتت والانكسار واللاطمأنينة. لذلك، فقد هذا استمر " الفراغ " ما يقارب ثلاثة أشهر كاملة، والذي سرعان ما سيأخذ انعطافة جديدة، وذلك حينما قام صحافيان إثنان من أسرة هيأة تحرير جريدة " المحرر "، التي كانت قد حلت محل جريدة " التحرير " الممنوعة، ويتعلق الأمر، حسب الخوري، بكل من عبد الله بوهلال ومصطفى القرشاوي، هذا الأخير الذي حضر أطوار مؤتمر اتحاد الكتاب، وكان على علم تام بكل ما جرى لصاحبنا، حين قاما باقتراح إسمه من أجل أن ينضم إلى طاقم تحرير الجريدة، هذا الأمر الذي قام بتزكيته الأستاذ محمد عابد الجابري، ليلتحق إدريس، محررا بالقسم الثقافي للمحرر.
استمر الوضع على هذا الحال حتى حدود شهر&حزيران (يونيو)&من سنة 1981 ، كما هو معروف في إحدى الأغاني الرثائية الشعبية الشهيرة. هذا التاريخ الذي يكاد يكون علامة فارقة وموشومة في تاريخ المغرب المعاصر، وذلك بالنظر إلى ما يختزله من أحداث ودلالات وصور قاسية ومؤلمة في جسد الشعب المغربي قاطبة، إلا من كانت نفسه غاصة ومكتظة بشتى أنواع " المَخْزَنة " والكذب والافتراء على أعطاب الواقع الثمانيني من القرن الماضي الكبرى.
هكذا، إذن، فقد كان من تبعات أحداث 1981 الشهيرة، أن أحالت طاقم تحرير جريدة المحرر إلى عطالة إجبارية، وذلك حينما قررت وزارة الداخلية، وعلى رأسها إدريس البصري، آنذاك، وهو في عز بطشه وجبروته، استصدار أمر بمنع صدور "المحرر" إلى اليوم.
وعلى الرغم من أن هذا الوضع الشاذ استمر على امتداد السنتين المواليتين لهذا التاريخ، إلا أن إدارة الجريدة قررت، مع ذلك، الإبقاء على جزء من رواتب صحافييها وكافة العاملين بها. وعن هذا الوضع الجديد يقول الخوري: "رغم توقف الجريدة، إلا أن إدارتها كانت تمنحنا، في البداية، " راتبا " شهريا قدره سبع مائة درهم، هذا المبلغ الداعم سرعان ما توقف بدوره عن البعض، للأسف، دون البعض الآخر، ممن لا أريد تسميتهم.
في هذه الفترة، أصدر الأخ سي محمد بنيحيى، المستشار حاليا بديوان الوزير الأول المغربي، جريدة البلاغ، فطلب مني الأخ الأشعري الالتحاق بهيأة تحريرها. وبما أن الوضع المادي للبلاغ كان هزيلا، فقد خصني الأخ بنيحيى براتب شهري يقدر ب سبع مائة درهم، كانت لا تكفي لسد حاجياتي اليومية الضرورية والملحة ".
وداخل جريدة " البلاغ "، اشتغل إدريس الخوري إلى جانب محمد الأشعري، وزير الثقافة والاتصال بحكومة عبد الرحمان اليوسفي الحالية، كعنصرين أساسيين داخل هيأة التحرير، إلى جانب متعاونين آخرين كالأستاذ محمد بوخزار ومحمد برادة على الخصوص. وقد كانت جريدة " البلاغ "، كما يتذكر ذلك صاحبنا، " تجربة إعلامية رائدة، سواء في المجال الثقافي أو السياسي، حيث تركت بصمات قوية في المجال الصحافي المغربي، هذا على الرغم من الإمكانيات المحدودة التي كان يوفرها لها الأخ محمد بنيحيى " .
بقي إدريس، إذن، يشتغل بالبلاغ، إلى حدود سنة 1983، وهي السنة التي عرفت تأسيس منبر إعلامي جديد من قبل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وهو المنبر الذي حمل، وإلى اليوم إسم " الاتحاد الاشتراكي "، التي التحق بها الخوري إلى أن تمت إحالته عن&& التقاعد.
لقد حاول صاحبنا، طوال هذه المسيرة الطويلة الحافلة بالعطاءات، أن يرسم لنفسه مسارا خاصا به، سواء تعلق الأمر بالكتابة الإبداعية و الصحافية أو بالحياة، وذلك ضدا عن كل تلك الإخفاقات والهزات التي كانت تتعقبه، كلما استنشق بعض الاستقرار والطمأنينة وراحة البال. حيث أنتج نصوصا، تعتبر، بشهادة مهندسي النقد السردي الحديث بالمغرب وبعض النقاد والمبدعين العرب، لبنة وجذرا أساسيين في قراءة المتن الإبداعي القصصي بالمغرب. وليس غريبا أن نجده، وهو يفصّل في أسباب ذلك قائلا: " أعتقد أن الكتابة إذا لم تكن ممزوجة بالحياة، لا يمكنها أن تتطور أو تعطي ما هو مطلوب منها. فبالنسبة لي، أحاول أن أمزج ما بين الكتابة وما بين الحياة. ذلك أنه حينما تنتهي الكتابة تبدأ الحياة، وحينما تبدأ الحياة تبدأ الكتابة. هذه، إذن، هي المعادلة التي أومن بها.
وأعتقد أن على الكاتب، الذي له قناعة بكونه لطيفا ومؤدبا و " ظْرَيّفْ "... والناس تقول عنه إنه كذلك... فهذا معطى أخلاقي. لكن، مع الأسف، فإن مجتمعنا ينظر إلى المتعة نظرة قدحية. فالكتاب في العالم، في أمريكا وفي فرنسا على الخصوص، هم أناس عاديون في النهاية، أما عندنا نحن، فنعطيهم صفات الألوهية. لذلك، أعتقد أن الحكم على الكاتب ينبغي أن بنصب على ما ينتجه من خلال حياته " .
وبالموازاة مع ذلك، وانسجاما مع طبيعته غير المحابية، التي طالما جرت عليه عداءات مجانية و حروب صغيرة، فإن صاحبنا لا يتردد، كلما دعته الضرورة إلى ذلك، في الحديث عما آل إليه الوضع الثقافي والإبداعي والفني في المغرب، في غياب ذلك النوع من " الجدل الفكري والثقافي الصاخبين والمؤسسين الذي كان سائدا في فترة السبعينات"، حيث يقول: " لقد كانت فترة السبعينات فترة غنية جدا بالنقاش. أما الآن، فالثقافة المغربية تسير في اتجاه نوع من التصالح. بمعنى أن كل مجموعة تسير متصالحة مع مجموعة أخرى. فلم يعد هناك مجال فكري كما كان من قبل أيام جريدة " المحرر ". وأذكر مثلا، في هذا السياق، النقاش الذي كان دائرا بين المرحوم أحمد المجاطي وحسن الطريبق، كما أذكر كذلك كتابات الأستاذ محمد برادة في مجلة " دعوة الحق " وحتى في جرائد " التحرير " و " المحرر " وفي " البلاغ " أيضا.
لقد كانت، بالفعل، فترة غنية جدا بالنقاش. أما الآن، فقد أصبح للمثقفين المغاربة " حساسيات "، يعني أن " تكتب " على فلان يقاطعك نهائيا! بمعنى، لم يعد هناك ذلك التقبل للسجال الثقافي الذي كان سائدا خلال حقبة السبعينات. وهذا الأمر، كما أعتقد، يدخل في إطار ما قد أسميه بـ " أخلاقيات الكلية أو الجامعة ". حتى في النقاشات الثقافية، التي تدور داخل الكليات أو خارجها، ثمة هناك نوع من المداهنة والرفاقية والمراهنة على أن يحافظ كل واحد على علاقته الطيبة والمتصالحة مع الآخر. فهذه، للأسف الشديد، هي الملامح التي كانت سائدة خلال فترة الثمانينات والتسعينات، مع بعض الاستثناءات، التي تبقي قليلة، والتي تحاول إثارة بعض الأسئلة والقضايا، انطلاقا من& القراءة والمشاهدة. وهذا يؤدي بنا إلى رسم صورة أخرى للمثقف الحديث في المغرب.
فالمثقف، اليوم، أصبح مركنتينيا. وتحسنت وضعيته الاجتماعية، وهنا أتحدث عن المثقف المؤسساتي، وليس المثقف الموجود خارج المؤسسة، إذ أصبح المثقف المؤسساتي يبحث عن توفير سكن في حي " الرياض " (أحد أرقى أحياء العاصمة)، ويكون له حساب بنكي، ويكتب بالمقابل هنا وهناك... ومن ثم، لم يعد في ذهنه أي صداع، أو أسئلة أو قلق!، فمسألة " تغيير المثقف " هي مسألة نسبية، بالنظر إلى نسبة الأمية من جهة، ثم خطاب المثقف والكاتب نفسه من جهة أخرى.
أما بعد، ونحن نأتي على إنهاء هذا " السفر " الاستعادي، في بعض مسار حياة وتجربة الكاتب& المغربي الكبير الأستاذ إدريس الخوري، نتمنى أن نكون قد أجبنا على بعض نواحي ذلك السؤال المباشرة، الذي طرحناه ضمن تقديم هذه المادة، والذي جاء على صيغة: " ما الذي يمكن أن نعرفه عن الكاتب المغربي الكبير إدريس الخوري؟ "، ذلك أن الكتابة عن مبدع متعدد الاهتمامات والمشاغل، يملك سيرة حياتية " انقلابية " كالتي جربها " بّا إدريس " جعلنا نكتشف، رغم معايشتنا اليومية للكاتب على مدار أزيد من ست سنوات من الإنصات والتعقب وتدوين كل ما كانت تجود به تذكراته الخصبة، أن مثل هذا الاقتراب أمر يكاد لا يخلو من مصاعب، كما أنه لم يخل من حرص شديد، من طرفنا، على تمثل شتى أنواع التدقيق في المعلومات التي جمعناها عن الرجل، وذلك حتى لا تفهم معطياتنا ، من طرف البعض، على أنها ضرب من التضخيم والغلو والإثارة المجانية.

(انتهت)




إيلاف

حلقات يكتبها: الشاعر عزيز ازغاي

أعلى