د. محمد الهادي الطاهري - نحو قراءة جديدة للقرآن؟

ما الجدوى من الاستمرار في طرح أسئلة حول تاريخ القرآن شغلت بال مستشرقين كبار منذ أكثر من قرنين وانتهوا فيها إلى أجوبة متباينة لا يكاد يكون بينها جامع رغم أن جميع أصحابها يصدرون في طرحها عن فرضية واحدة وهي أن القرآن نص وليد سياقه التاريخي والثقافي، ويشككون في الرواية العربية الإسلامية القديمة و يستعملون أدوات التحليل نفسها؟ سؤال قفز إلى ذهني وأنا أتابع جلسة من جلسات منتدى إنسانيات بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة يوم الجمعة 23 سبتمبر 2022. كان حديث الأستاذ يوسف الصديق في مجمله تذكيرا ببعض ما انتهت إليه المقاربة التاريخية النقدية من نتائج وتنبيها إلى ضرورة الربط بين النص وسياقه لضمان فهم أفضل لألفاظ القرآن ومعانيها. ولم يكن حديث مهدي عزيز بعيدا عن هذا المعنى وإن كان فيه بيان لمناهج البحث وأدواته ومنطلقاته في ما بات يعرف بقرآن المؤرخين (Le Coran des historiens) والفرق بينه وبين الدراسات القرآنية ( Qur’anic Studies). أما صلاح الدين العامري فقد أبان عن مقالة الشيعة الإمامية الاثني عشرية في القرآن مشيرا بالخصوص إلى ما كان فيها من عدم اعتراف بالنسخة المتداولة عند أهل السنة لما رأوه فيها من تحريف لبعض الآيات والألفاظ منبّها إلى اختفاء هذه المقالة تدريجيا واعتراف أصحابها بنصّ القرآن المضبوط في المصحف العثماني. طرحت السؤال على جماعة المحاضرين وكنت أنتظر منهم ومن جملة المتابعين أن يلتفتوا إلى ما بعد تلك الأسئلة من نتائج وما تحتها من مواقف. ولكنّ الردود كانت في الغالب توسعة لما استمعنا إليه وإعادة صياغة لأفكار متداولة في أسلوب يجمع بين الترغيب في البحث العلمي بما يعنيه من نظر وتحقيق من جهة، والترهيب من عاقبة الانزلاق في مهاوي الدوغمائية والوثوقية من جهة أخرى. وانتهت الجلسة كما بدأت تقريبا: علماء يتصدرون مجلس العلم ويلقون بما في صدورهم على جمهور متابع لا يحقّ له أن يناقش إلا قليلا والأفضل أن يكتفي بالسؤال لضيق الوقت طبعا لا لضيق الصدور.

لم أنو في البدء طرح السؤال فقد نويت مناقشة المحاضرين في بعض ما قالوا ولكنّي لمست في توصيات محمد الحداد مدير الجلسة دعوة إلى الاختزال فاكتفيت بطرح ذلك السؤال عن الجدوى من الاستمرار في طرح أسئلة المقاربة التاريخية النقدية والتذكير بأجوبتها المعروفة رغم كل ما فيها من تناقضات وما تحتها من دواه معرفية وشطحات. ولو كان المقام مقام درس وتدريس ما كنت أحسبني أطرح هذا السؤال، فالمدرّس في الجامعة مدعوّ أبدا إلى ذلك وربّما أكثر، وعليه أن يساعد طلاّبه على الإحاطة بأصول المقاربة التاريخية النقدية للقرآن وفصولها أيضا. أمّا ونحن في مقام منتدى علميّ يتابعه الطلاّب والأستاذة الباحثون والمثقّفون من كل مشرب فالمطلوب أن يجتمع الناس للنقاش وتبادل الأفكار.

لقد مضى على فكرة (قرآن المؤرخين) أزيد من قرن ونصف القرن تقريبا واقتنع الباحثون المنشغلون بهذه المسألة بضرورة الربط بين النص وسياقه أو النص ومحيطه التاريخي كما جاء في عنوان كتاب ظهر سنة 2008 ونُقل إلى العربية سنة 2012 يضمّ جملة الأعمال التي قُدّمت في مؤتمر علميّ انعقد بجامعة نوتردام سنة 2005تحت عنوان (نحو قراءة جديدة للقرآن). وأبرز ما في ذلك الكتاب كلمة التصدير التي حرّرها أستاذ الجامعة الغريغوريّة بروما دانيال أ. ماديغان، وفيها بالخصوص تنبيه إلى ضرورة التعامل مع النصّ القرآني لا باعتباره عملا فنّيا تاريخيّا بل باعتباره كتابا مقدّسا.

فماذا يعني أن يتعامل الباحث، سواء في مجال الدراسات القرآنية أو في مجال "قرآن المؤرّخين"، مع القرآن بصفته كتابا مقدّسا يهمّ جماعة بشريّة معاصرة؟ هل يعني ذلك أن يعرض الباحث ما تقوله هذه الجماعة عن كتابها المقدّس، وأن يجتهد في تحليل رؤاها لنفسها وللآخرين وللعالم؟ لا أعتقد أنّ دانيال أ. ماديغان يدعونا إلى ذلك وإن كان هذا هو مدار الدراسات الدينيّة / الحضاريّة في الجامعات التونسيّة على الأقلّ، لأنّ خطابه موجّه بالأساس إلى الباحثين في حقل الدراسات القرآنية على اختلاف مقارباتهم لا إلى الباحثين في الدراسات الإسلامية. والظاهر أنّه يدعونا إلى أن تكون قراءاتنا للقرآن غير نزّاعة إلى "امتلاك "هذا النصّ المقدّس، وأن لا يكون تفكيرنا في القرآن مسكونا بالرغبة في تجريد المؤمنين به من "أعظم كنز" يمتلكونه. وهذا يقتضي طبعا أن يتعالى الباحث في نصّ القرآن وتاريخه عن كلّ ما من شأنه أن يقود إلى اعتبار هذا الكتاب المقدّس كتابا بلا رؤية يختصّ بها وإن كانت نصوصه قد أعادت صياغة أفكار دينية قديمة في لغة جديدة وبأسلوب مختلف.

وحين ينأى الباحث بنفسه عن ذلك، ويفكّر في القرآن بصفته كتابا مقدّسا تؤمن به جماعة بشريّة دينيّة وسياسيّة وثقافيّة يكون قد وضع نفسه في موضع من يساعد تلك الجماعة على أن تتحرّر من قيودها وعُقدها، وعلى أن تتجاوز أزماتها وتُجدّد رؤيتها للكون ولنفسها ولغيرها من الجماعات الأخرى التي تتقاسم معها الوجود في هذا الكون. قد يعتقد البعض أنّ البحث في القرآن على هذا النحو يجعله رافدا من روافد الحركات الدينيّة والسياسية والثقافيةّ الساعية إلى بناء تأويل جديد للقرآن، ولكنّ دانيال أ. ماديغان لا يذهب هذا المذهب لأنّه يدعو الباحث في الدراسات القرآنية باختصار إلى أن يقدّم للمؤمنين بالقرآن عينا بها يبصر ما في كتابه المقدّس من عناصر نصّية متراكبة وبها يدرك تاريخ تشكّله وتاريخ تلقّيه لعلّ ذلك يمهّد السبيل أمامه ليعيد ترتيب وجوده.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى