رغم تعدد المقالات السابقة في نفس الموضوع إلا أن المرء يجد نفسا منقادا للحديث مرارا عن أزمة القيادة السياسية في مجتمعنا على أمل كشف جوانب الأزمة وأغوارها.
نعطي في حياتنا "تفويضا" مؤكد للطبيب لعلاجنا، وللطيار لأخذنا على طائرته من بلاد إلى أخرى، وللشرطي لحمايتنا، وللمعلم لتعليم فلذات اكبادنا، ولكن نمتنع عن إعطاء تفويض مماثل للسياسي لقيادتنا. فما أسباب ذلك الامتناع؟
تبدو السياسة عندنا كشأن عام "يخوض" فيه الكل دون تردد او تهيب؛ وفي كل تفرعات شئونها من اقتصاد إلى علاقات دولية حتى شئون البروتكول والمراسيم بحيث نحدد أي قدم يجب أن يقدم رئيس الوزراء اليسرى أم اليمنى عند دخول القصر الرئاسي. بهذا الفهم والممارسة يبدو الجميع "عارفين وملمين بكل شيء في السياسة". وهذا يعطيهم، حسب هذه المعرفة المتوهمة تساوي بحيث لا يتقدم عليهم "قائد" في أمر يعرفونه ولا يحتاجون فيه إلى قيادة؛ من هنا يأتي تمنعهم عن تفويض شخص ما أمر "قيادتهم". فالسياسة في هذه الحالة ممارسة وتنظير لا ضوابط لها عند المقارنة بمهن: النجارة أو الحدادة، مثلا، أو المهن التي تحتاج إلى تأهيل ومران.
في مجتمع "العارفين لكل شيء" هذا يبدو السياسي مجردا من كل مسوغات القيادة، كما يبدو مستلبا بكل شكل كلي إلا عندما يقرر هؤلاء "العارفون" منحه تفويض بناء على ولاء عشائري او مناطقي أو مذهبي، وهنا يحصل السياسي على "الاشباع" المفقود بموجب مبدأ "التناصر" المؤسس على الولاء الأعمى والذي يناصر السياسي ظالما أو مظلوما دون تردد.
على سبيل المثال: لو نظرت حولك في الفضاء الأزرق للفيسبوك، ودون حاجة لذكاء خارق، فإنك سوف تستطيع معرفة أو تخمين عشيرة أو منطقة أو حتى مذهب صاحب صفحة من خلال النظر في صورة "البروفايل" التي يضعها للقائد أو الشهيد أو الأسير.
يعكس ذلك جانب المرئي من الولاء للسياسي.
لكن في حقيقة الأمر وفي مجتمع "العارفين" هذا يجد السياسي نفسه مقودا أكثر منه قائدا بناء على شروط واقعه الذي يؤيده بناء على العناصر الثلاثة أعلاه، فتراه يستند على هذا التأييد لينفي عن نفسه صفة من صفات القيادة المهمة وهي صفة "الكلية" أي أنه يكون قائدا في نظر "جزء" وليس كل، وذلك يحدد حجمه مقابل متطلبات القيادة الكلية.
وبعد انتفاء صفة الكلية عن القائد تنتفي كذلك الصفة "الجوهرية" للقيادة وهي صفة القيادة الكلية نحو هدف كلي أو وطني. وهذا هو المحك الذي تتباين فيه قدرات السياسي عن قدرات رجل الدولة، وهو صنف نادر كطائر العنقاء الخرافي. ثم بعد ذلك تتناسل الاسئلة: لماذا لا ننجب القادة؟ ولماذا لا نصنع القادة؟
والإجابة تكمن في أن "مجتمع العارفين" هذا لا يسمح بظهور القائد لأنه غير مستعد "للانقياد"؛ ولأن السياسة هي عمل الجميع "العارف بكل شيء".
وتتساوق مع معضلة المعرفة الكلية هذه مسألة الدوافع النفسية الغائرة المتمثلة في عناصر: الكراهية، الحسد، الغرور والتنافس المرضي. ولكن هذه خارج المجتمعات التقليدية يمكن كبحها بالقوانين والضوابط الصارمة من التقاليد السياسية الراسخة.
في عام 1979 وفي انتخابات الرئاسة الامريكية اعتمد المرشح الجمهوري رونالد ريغان سياسة "كسر عظم" ضد خصمه الديموقراطي جيمي كارتر، باتهامه بالضعف وعدم القدرة على حماية المواطنين الأمريكيين أثناء أزمة الرهائن في السفارة الامريكية في طهران. لم تخل المعركة من غلواء وتطرف، ولكنها كانت محكومة بضوابط قانونية بحيث لا تصل إلى التشهير والقدح، وليس معنى هذا أن الجمهوريين ومرشحهم كانوا "نبلاء" في الاخلاق، ولكن الضوابط القانونية والتقاليد منعتهم من إطلاق العنان لدوافعهم النفسية العميقة.
بالمقابل وفي ساحل العاج وبعد فوز مرشح الرئاسة الساني واتارا بالانتخابات قام حزب المعارضة بالطعن في النتيجة بحجة أن أجنبي وينحدر من دولة مجاورة "بوركينا فاسو" والمضحك الأمر أن واتارا خدم كوزير ورئيس وزراء قبل الترشح للرئاسة. وهذا بيان لإطلاق العنان للمشاعر وتأجيجها أثناء الممارسة السياسية في المجتمعات التقليدية.
في الأخير تبدو هذه المعضلة من التشوهات المجتمعية أكثر منها من مشكلة الأفراد من السياسيين؛ والذين يتحملون جزء كبيرا منها بالتماهي معها والانصياع التام لشروطها بدل من العمل والمكابدة من أجل تغييرها.
ولا تترك هذه الحالة الاجتماعية سوى المسير في طريقين ثالثهما معجزة من السماء.
الأول هو: حالة البلبلة "ومعرفة كل شيء" السائدة اليوم والتي لا تقود إلى اتجاه سوى اتجاه الكارثة.
والمسار الآخر هو مسار الحكم بالقوة القهرية، وانتزاع السلطة، وفرض الإذعان، والقبول.
فخلق كل قيصر يموت، قيصر جديد بعصا غليظة.
نعطي في حياتنا "تفويضا" مؤكد للطبيب لعلاجنا، وللطيار لأخذنا على طائرته من بلاد إلى أخرى، وللشرطي لحمايتنا، وللمعلم لتعليم فلذات اكبادنا، ولكن نمتنع عن إعطاء تفويض مماثل للسياسي لقيادتنا. فما أسباب ذلك الامتناع؟
تبدو السياسة عندنا كشأن عام "يخوض" فيه الكل دون تردد او تهيب؛ وفي كل تفرعات شئونها من اقتصاد إلى علاقات دولية حتى شئون البروتكول والمراسيم بحيث نحدد أي قدم يجب أن يقدم رئيس الوزراء اليسرى أم اليمنى عند دخول القصر الرئاسي. بهذا الفهم والممارسة يبدو الجميع "عارفين وملمين بكل شيء في السياسة". وهذا يعطيهم، حسب هذه المعرفة المتوهمة تساوي بحيث لا يتقدم عليهم "قائد" في أمر يعرفونه ولا يحتاجون فيه إلى قيادة؛ من هنا يأتي تمنعهم عن تفويض شخص ما أمر "قيادتهم". فالسياسة في هذه الحالة ممارسة وتنظير لا ضوابط لها عند المقارنة بمهن: النجارة أو الحدادة، مثلا، أو المهن التي تحتاج إلى تأهيل ومران.
في مجتمع "العارفين لكل شيء" هذا يبدو السياسي مجردا من كل مسوغات القيادة، كما يبدو مستلبا بكل شكل كلي إلا عندما يقرر هؤلاء "العارفون" منحه تفويض بناء على ولاء عشائري او مناطقي أو مذهبي، وهنا يحصل السياسي على "الاشباع" المفقود بموجب مبدأ "التناصر" المؤسس على الولاء الأعمى والذي يناصر السياسي ظالما أو مظلوما دون تردد.
على سبيل المثال: لو نظرت حولك في الفضاء الأزرق للفيسبوك، ودون حاجة لذكاء خارق، فإنك سوف تستطيع معرفة أو تخمين عشيرة أو منطقة أو حتى مذهب صاحب صفحة من خلال النظر في صورة "البروفايل" التي يضعها للقائد أو الشهيد أو الأسير.
يعكس ذلك جانب المرئي من الولاء للسياسي.
لكن في حقيقة الأمر وفي مجتمع "العارفين" هذا يجد السياسي نفسه مقودا أكثر منه قائدا بناء على شروط واقعه الذي يؤيده بناء على العناصر الثلاثة أعلاه، فتراه يستند على هذا التأييد لينفي عن نفسه صفة من صفات القيادة المهمة وهي صفة "الكلية" أي أنه يكون قائدا في نظر "جزء" وليس كل، وذلك يحدد حجمه مقابل متطلبات القيادة الكلية.
وبعد انتفاء صفة الكلية عن القائد تنتفي كذلك الصفة "الجوهرية" للقيادة وهي صفة القيادة الكلية نحو هدف كلي أو وطني. وهذا هو المحك الذي تتباين فيه قدرات السياسي عن قدرات رجل الدولة، وهو صنف نادر كطائر العنقاء الخرافي. ثم بعد ذلك تتناسل الاسئلة: لماذا لا ننجب القادة؟ ولماذا لا نصنع القادة؟
والإجابة تكمن في أن "مجتمع العارفين" هذا لا يسمح بظهور القائد لأنه غير مستعد "للانقياد"؛ ولأن السياسة هي عمل الجميع "العارف بكل شيء".
وتتساوق مع معضلة المعرفة الكلية هذه مسألة الدوافع النفسية الغائرة المتمثلة في عناصر: الكراهية، الحسد، الغرور والتنافس المرضي. ولكن هذه خارج المجتمعات التقليدية يمكن كبحها بالقوانين والضوابط الصارمة من التقاليد السياسية الراسخة.
في عام 1979 وفي انتخابات الرئاسة الامريكية اعتمد المرشح الجمهوري رونالد ريغان سياسة "كسر عظم" ضد خصمه الديموقراطي جيمي كارتر، باتهامه بالضعف وعدم القدرة على حماية المواطنين الأمريكيين أثناء أزمة الرهائن في السفارة الامريكية في طهران. لم تخل المعركة من غلواء وتطرف، ولكنها كانت محكومة بضوابط قانونية بحيث لا تصل إلى التشهير والقدح، وليس معنى هذا أن الجمهوريين ومرشحهم كانوا "نبلاء" في الاخلاق، ولكن الضوابط القانونية والتقاليد منعتهم من إطلاق العنان لدوافعهم النفسية العميقة.
بالمقابل وفي ساحل العاج وبعد فوز مرشح الرئاسة الساني واتارا بالانتخابات قام حزب المعارضة بالطعن في النتيجة بحجة أن أجنبي وينحدر من دولة مجاورة "بوركينا فاسو" والمضحك الأمر أن واتارا خدم كوزير ورئيس وزراء قبل الترشح للرئاسة. وهذا بيان لإطلاق العنان للمشاعر وتأجيجها أثناء الممارسة السياسية في المجتمعات التقليدية.
في الأخير تبدو هذه المعضلة من التشوهات المجتمعية أكثر منها من مشكلة الأفراد من السياسيين؛ والذين يتحملون جزء كبيرا منها بالتماهي معها والانصياع التام لشروطها بدل من العمل والمكابدة من أجل تغييرها.
ولا تترك هذه الحالة الاجتماعية سوى المسير في طريقين ثالثهما معجزة من السماء.
الأول هو: حالة البلبلة "ومعرفة كل شيء" السائدة اليوم والتي لا تقود إلى اتجاه سوى اتجاه الكارثة.
والمسار الآخر هو مسار الحكم بالقوة القهرية، وانتزاع السلطة، وفرض الإذعان، والقبول.
فخلق كل قيصر يموت، قيصر جديد بعصا غليظة.