أ. د. عادل الأسطة - فاروق وادي.. (ملف) 1 - 15

1- فاروق وادي وروايته الأخيرة " سوداد : هاوية الغزالة " :

لن تفهم عنوان رواية فاروق وادي الأخيرة إلا وأنت تستغرق في قراءتها ، ولسوف تجد فيها غير غزالة تهوي في المحيط ولسوف تجد غير صياد يطلق سهمه نحو غزالته التي يطاردها ليصطادها . تهرب منه أو تقترب منه لا اختلاف ، فالصياد صياد ؛ صياد الغزالة وصياد المرأة كلاهما يريد أن يوقعها في شباكه ولا يأبه لمصيرها .
منذ قرأت رواية ( جنكيز ايتماتوف ) " شجيرتي ذات منديل أحمر " في ٧٠ القرن ٢٠ لم يعلق بذهني نموذج نسوي مسحوق مظلوم إنساني . طبعا كنت قرأت رواية غسان كنفاني " أم سعد " من قبل .
جيزيلا في " سوداد : هاوية الغزالة " سوف تعلق في الذاكرة . أي امرأة جيزيلا هذه التي يتركها فاروق وادي تحكي حكايتها كما يترك ابنتها ياسمين تحكي حكايتها فتبكينا ؛ ياسمين التي ولدت في السجن ، ومرة أصغينا إلى معارض سوري مشهور ومعروف هو ميشيل كيلو يروي حكايته مع سجينة سورية ولدت طفلتها في السجن وحين قص عليها حكاية ذكر فيها الشمس استغرب أن الطفلة لا تعرف الشمس .
صباح الخير
خربشات
٢٦ أيلول ٢٠٢٢

****

2- العائدون إثر اتفاق أوسلو ١٩٩٣ :

إذا ناقشنا شخصية ياسين في رواية المرحوم فاروق وادي الأخيرة " سوداد : هاوية الغزالة " (٢٠٢٢) نموذجا للعائدين الفلسطينيين إثر اتفاق أوسلو فسوف نتورط معهم ، وهات حلها .
ياسين انتهازي لا مبدأ له يسخر كل شيء لحساباته الخاصة فهو " لم يخض حربا في يوم من الأيام من أجل الوطن ، ... لم يبذل قطرة من الدماء الزكية التي بذلها آخرون من أجل الوطن . لم يرفع علما في مظاهرة ، أو يافطة احتجاج عند باب سفارة معادية ، ولم يرجم حجرا نحو قنصلية من قنصلياتها المعرضة للرجم في القدس . لم يهتف من أجل حرب أو زعيم يغدق بوعوده النارية بالعودة الوشيكة إلى فلسطين .. لم يبذل من عمره ليلة واحدة في سجن من السجون المترامية على الأرض الممتدة بين محيط وخليج ... لم يهدر قطرة واحدة من مداد لأجل الوطن " . كل ما كتبه هو ديوان " عطر الياسمين " وهو " قصائد مفرطة في رومانسيتها الساذجة ... لم يكتب ياسين بيتا واحدا من الشعر للوطن ، رغم أنه قضى عمره يتوق للعيش في أرض الوطن " .
الذي مكنه من العودة أنه حصل على رقم مالي من تنظيم فلسطيني أراد أن يسرقه في حين أراد التنظيم أن يستخدمه غطاء أيضا . لقد سوي الأمر بين الانتهازي اللص والتنظيم باعطائه رقما ماليا يحصل بموجبه على راتب شهري .
ومات ياسين في الوطن " كل ما عرفه الناس عنه بعد رحيله أنه مات غريبا وحيدا ومتروكا ... فوق تراب الوطن " .
هكذا تنتهي الرواية التي أعتقد أنها ستحظى بنقاشات وكتابات كثيرة ، ليس بخصوص موقعها في مسيرة كاتبها الروائية وحسب ، وإنما في مسيرة الرواية الفلسطينية وأدب العائدين .
لماذا لم يقم فاروق وادي بعد عودته إثر اتفاق أوسلو في رام الله؟

****

3- ( سوداد ) " :

معنى كلمة " سوداد " التي عنون بها فاروق وادي روايته الأخيرة " سوداد : هاوية الغزالة ":
الكلمة برتغالية متفردة ليس لها وجود في أية لغة كونية أخرى وتكتب Saudade .
أية ترجمة لها لن تفيها حقها ربما لأنها نابعة من عمق المشاعر والسيكولوجيا الجمعية التاريخية والخصوصية الثقافية للشعب البرتغالي ..
معان قريبة :
- الحنين ، مع أن المفردة تتجاوز معنى الحنين باحاسيسه الشائعة والمتداولة .
- نوسطولوجيا ، لكن النوسطولوجيا لا تفي تماما بالمعنى الدقيق لكلمة " سوداد "
- الشوق الاشتياق وتشير إلى أصعب أشكال الشوق والاشتياق.
هل تنطوي سوداد على متعة؟
إن كانت كذلك فإنها تبقى المتعة التي تكمن لنا في الألم وتمتزج فيه / النعيم الذي يتضمن العذاب ....
( تراجع ص ٧و٨ من الرواية ) .
ولمن يرغب في الاستماع إلى الأغنية فقد أدرجها الصديق Abed Agbarih في التعليقات على هذا المنشور .

***

4- فاروق وادي وروايته الأخيرة ( سوداد ) : المؤلف في النص

هل يحضر فاروق وادي في روايته الأخيرة ؟
يمكن القول إن أعمال فاروق وادي لا تخلو من حضوره فيها . إنه يكتب عن أماكن يعرفها غالبا وتكاد الأعمال التي قرأتها له - ثمة ثلاثة أعمال لم أقرأها - تدور في أماكن عاش فيها وعرف مكانها جيدا : رام الله وبيروت ومصر والبرتغال .
في ( سوداد) ثمة شحصية تقترب جدا من شخصية فاروق هي شخصية الأخ الأصغر لياسين الشخصية المحورية .
ثلاثة إخوة كل أخ له عالمه المختلف كليا عن الآخر وتبدو رابطة الدم بينهم رابطة واهية ضعيفة إذ كل يسير في طريق ويعيش في عالم مختلف ، وقد أتى الأخ الأصغر على رابطة الدم وأبدى موقفه منها . إن موقفه هو موقف فاروق نفسه ، وإذا عددنا الأخ الأصغر هو المؤلف الضمني فإنه يتطابق والكاتب الحقيقي ، ولكن ثمة استدراك في الرواية يقول إنه مزج الواقع بالخيال ، ما يدفعنا إلى الحيطة والحذر في اعتبار ياسين الفلسطيني الانتهازي أخا لفاروق وادي .
" كل ما عرفته عنه بعد ذلك ، أرويه بتجرد ، من دون تعاطف ينحاز إليه من مبدأ صلة الدم ، أو عن رغبة في استنفار نزعاتي الأخلاقية التي تدينه وتدين سلوكه ونزواته وموقفه الأخير من ابنته ياسمين "(٢٦٩) .
صباح الخير
خربشات
٢٧ أيلول ٢٠٢٢ .

****

5- الصياد والغزالة :

يبدو كل ذكر صيادا لغزالة . هل تصطاد الغزالة أحيانا الصياد ؟
يبني فاروق وادي روايته الأخيرة " سوداد " ( ٢٠٢٢ ) على حكاية الصياد الذي يلاحق الغزالة ليصطادها فتهرب منه ومن رمحه " تتوجه إليها حزمة ضوء ثالثة لتضيء لحظة مآلها التراجيدي الرهيب ، غير أنها وهي تهوي وتهوي وتهوي نحو الأغوار العميقة للبحر المتماوج ، ظلت تحرص على أن ترسل نظرتها الأخيرة المشوشة ، المثخنة بمشاعر متضاربة ، إلى قاتلها ، فتشعله بلفتة قبل أن تشهد نهايتها ، وكأنها تطمئن هي الأخرى عليه ، رغم يقينها أنه هو الذي قادها إلى هذا المصير المحتوم .
يا لها من غزالة لا تخلو من بياض قلب وطيبة أو ربما من سذاجة تأبى إلا أن تطمئن على قاتلها قبل أن تشهد نهايتها وهي تسقط في الجرف لتستقر في أعماق البحر .
ألأنه الأمير .. الفارس .. الصياد .. وهي مجرد غزالة ؟!"
يسعى الأمير السعودي حين يصيف في رام الله وراء ياسمين الفلسطينية فيصطادها ثم تنتهي العلاقة بإعدامها فيقطع رقبتها إذ شك فيها .
غير أن التي ترى نفسها الغزالة في حكاية "الصياد والغزالة " هي البرتغالية جيزيلا التي أقام معها ياسين الفلسطيني علاقة ثم تخلى عنها وظلت تأبى إلا أن تطمئن عليه:
" حدق ياسين مندهشا وهو يصغي للحكاية ، فقال متسائلا :
- وما شأنك أنت بالغزالة ؟!
استهجنت سؤاله ، فأجبت وأنا ذابلة العينين :
- ما شأني ؟! قد أكون أنا الغزالة !
ثم أردفت :
- فإن لم أكن .. لا بد وأن تكون ثمة غزالة أراها في الأفق وهي تقع في هاوية الأمير ، غزالة غرقت في بحره ... "
هل الغزالة التي تراها جيزيلا في الأفق هي ابنتها ياسمين من ياسين نفسه حيث أخذت تسعى وراء أبيها صياد أمها .
اليوم الذكرى الثانية والعشرون لانطلاقة انتفاضة الأقصى في ٢٨ أيلول ٢٠٠٠ .
صباح الخير
خربشات
٢٨ أيلول ٢٠٢٢ .

***

6- فاروق وادي وغسان كنفاني :

كتب فاروق وادي عن روايات غسان كنفاني في كتابه النقدي " ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية ؛ غسان كنفاني واميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا "( ١٩٨١ ط أولى /١٩٨٥ ط ثانية مصورة ) ، كتب عنه كتابة دارس ، ومن المؤكد أن قراءات المرء تترك ، بوعي أو دون وعي ، أثرا في نتاجاته ، فهل حضرت روح غسان في أعمال فاروق ؟
في روايته الأخيرة يأتي فاروق على الفلسطينيين في الكويت في ٦٠ القرن ٢٠ إلى فترة متأخرة تتجاوز فترة اجتياح الجيش العراقي لها . هنا تتقاطع الرواية مع رواية غسان " رجال في الشمس " . لا تتطابق ولا تتماثل كليا ولكنها تتقاطع . هل يعد هذا ضربا من التناص ؟
ربما وجب أن ننظر إلى العنوان الفرعي الذي اختاره فاروق لأحد كتب روايته " كتاب الشمس " وهو الكتاب الخامس الذي يشغل الصفحات ١٠٩ إلى ١٥٤ ، والعنوان الفرعي الأول من مقاطعه الثلاثة عنوانه " في عين الشمس " . في هذا المقطع تقرأ عن قسوة الحياة في الكويت وقد أتى عليها غسان في روايته .
" رجال في الشمس " عنوان رواية غسان و " كتاب الشمس " هو عنوان الكتاب الخامس من رواية فاروق وعنوان القسم الأول منه هو " في عين الشمس " . وهذا ما يعده نقاد العتبات " المناص " .
صباح الخير
خربشات
٢٩ أيلول ٢٠٢٢ .

****

7- فاروق وادي ونجيب محفوظ ورحلة البحث عن الأب :

تذكرت وأنا أقرأ الصفحات التي ترويها ياسمين عن حياتها وعلاقتها بأمها وبحثها عن أبيها رواية " الطريق " لنجيب محفوظ وما كتبه عن بطلها الناقد السوري جورج طرابيشي في كتابه " الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية " .
هل تتذكرون صابر الرحيمي في " الطريق " ورحلة البحث عن الأب ؟
هل هناك أب فلسطيني يبحث عنه الفلسطينيون في رحلتهم الطويلة التي شعروا فيها أنهم يفتقدون الأب باعتباره مدافعا عنهم ؟
في " مديح الظل العالي " كتب محمود درويش :
" عبثا تحاول يا أبي ملكا ومملكة
فسر للجلجلة "
وكان في القصيدة نفسها كتب :
" ولدت قرب البحر من أم فلسطينية وأب
أرامي . من أم فلسطينية وأب مؤابي . ومن أم فلسطينية
وأب أشوري .ومن أم فلسطينية وأب عروبي . ومن أم ،
ومن أم .. "
وكان في بداياته الشعرية وهو في فلسطين كتب :
" يا أبي : هل أنت أبي؟
أم تراني صرت ابنا للصليب الأحمر " .
تبدأ ياسمين في رواية " سوداد: هاوية الغزالة " رحلة البحث عن أبيها الفلسطيني الذي تخلى عنها ، مثلها مثل صابر الرحيمي ، وفي النهاية مات أبوها وحيدا ومتروكا ووحيدا في مدينة رام الله .
الأب في بعض روايات محفوظ رمز لله ، وفي قصيدة درويش متعدد وهو غزاة الأرض الفلسطينية والأب الأخير كان الأب العروبي ولم يحم الفلسطينيين ، فقد تخلى العرب عن الفلسطينيين وعقد الشاعر أمله على الأب الفلسطيني ، والأب الفلسطيني في رواية وادي تخلى عن ابنته لانتهازيته .
تستحق فكرة الأب والبحث عنه في الأدب الفلسطيني الوقوف عندها .
صباح الخير
خربشات
٣٠ أيلول ٢٠٢٢ .

****

8- فاروق وادي : نهاية ياسين ونهاية ياسر عرفات : هل ثمة دلالات رمزية ؟

لا تخلو رواية " سوداد: هاوية الغزالة " من دلالات رمزية عديدة : الغزالة والشمس وعينها ، فهل ثمة دلالة رمزية للمقاطعة في رام الله المكان الذي كان سجن ياسين الأول ؟ وهل ثمة دلالة رمزية لذبح ياسمين على يد الأمير السعودي ؟ وهل توازي نهاية رحلة ياسين وموته في رام الله " غريبا وحيدا ومتروكا .. في تراب الوطن " نهاية ياسر عرفات ومحاصرته في المقاطعة ثم موته ؟
كانت المقاطعة سجن ياسين الأول وصارت أشبه بسجن لياسر عرفات في أشهره الأخيرة فيها حيث حاصره الإسرائيليون ، ما أدى إلى مرضه فموته .
الصفحات العشر الأخيرة تتخذ العنوانين الآتيين لها " نهاية الطريق " و" مجنون الياسمين " .
تحت العنوان الأول لخص لنا السارد رحلة ياسين الطويلة التي انتهت بعودته إلى الوطن فبدا له خواء " فضاء فظا لا يحتمل ... تجلى له قاسيا موصدا بلا معنى " .
بدأ ياسين رحلته في الكويت التي أغلقت بعد حرب ١٩٩٠ نفسها على نفسها ، وذهب إلى مالاغا / ملقة لشراء شقق لأخيه وتأجيرها ففقد أخوه ثقته به واختلفا ، ونسي جيزيلا التي عشقته وباعها لأجل مال حفصة الكويتية ، وخسر بيروت ؟! " كيف يعود إليها بعد أن خسر المطبعة ؟!" ولم يعد يجرؤ على العودة إلى طرابلس بعد انهيار دولة المطلوبين فيها وكان ذا صلة بالدولة إذ اعترف به كوزير إعلام مقترح لتلك الدولة اللعينة ، وأخفقت مشاريعه في جزر المالديف قبل أن يفتتحها فقد منع من دخولها ، وأما سورية التي غادرها بعد أن فشلت مشاريعه فيها فلم تعد طريق العودة إليها سالكة ، وكان هرب من ليبيا التي سافر إليها ، بعد أن ألف كتابا يمدح القذافي . في ليبيا وضع في فندق ليعيش فيه فعاش كما لو أنه في سجن .
أمام الإخفاقات السابقة كلها لم يكن أمامه إلا العودة إلى الوطن إثر اتفاق أوسلو .
الطريق الموحشة التي سار فيها منذ غادر رام الله في ٦٠ القرن ٢٠ انتهت به إلى العودة إلى رام الله يبحث عن ياسمين التي أحبها في شبابه وخطفها منه الأمير الثري ، ومنذ أعلمه أخوه الأصغر أن له ابنة اسمها ياسمين من البرتغالية جيزيلا صار يبحث عنها في رام الله :
"- هل رأيتن ياسمين ؟! صبية سمراء طويلة . بشرتها بلون بشرتي .. عيناها تشبهان عيني ، وملامحها تشبه ملامحي .
- هل رأيتن ياسمين ؟!
- صبية سمراء بتقاطيع عربية، لكنها لا تتقن لفظ كلمة عربية واحدة .
- هل رأيتن ياسمين ؟"
وينكفيء ياسين على نفسه وهو يردد بصوت خفيض :
"- نحن بحاجة إلى عمر آخر .. عمر نرمم فيه أخطاء عمرنا الأول ! .. بحاجة إلى عمر آخر !" .
نعم قد نكون بحاجة إلى عمر آخر ، لنرمم فيه كل حماقاتنا واخفاقاتنا . فكم من عمر تحتاج القيادة الفلسطينية لترمم ما ارتكبته من أخطاء في أثناء مسيرتها ؛ في المنافي وفي الوطن .
ربما أكون قد شططت .
ربما .
صباح الخير
خربشات
١ / ١٠ / ٢٠٢٢ .

****

9- الكاتب فاروق وادي في الذاكرة

في ١٩ أيلول رحل فاروق وادي المثقف الفلسطيني الذي كان له حضوره في الثقافة الفلسطينية منذ ٧٠ القرن ٢٠، فقد توالى صدور أعماله منذ ١٩٧٦، وقرأنا له «المنفى يا حبيبتي» و»طريق إلى البحر» و»ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية» الذي صار علامة في النقد الأدبي لا يستغني عنه دارس للرواية الفلسطينية، وهو من أكثر الكتب اقتباساً منه من دارسي الرواية الفلسطينية بالعربية والإنجليزية والألمانية.
وقد صار، بسبب عنوانه ومادته، عقبة أمام روائيين فلسطينيين كثر، إذ حجب عنهم إمكانية أن يكونوا علامة في الرواية الفلسطينية، وكنت أتمنى لو أن مؤلفه أعاد النظر في مقدمة الكتاب «مدخل تاريخي: من الخطابة إلى الكتابة» وأصدر طبعة جديدة تضم فصولاً تتناول روائيين جدداً، أو لو أنه أصدر كتاباً ثانياً يقدم فيه أصواتاً روائية جديدة.
مرة واحدة التقيت فيها بفاروق كانت على هامش مؤتمر جامعة البتراء في العام ٢٠٠٩ «جدل الأدبي والفكري»، إذ قدم وزوجته ليصغيا إلى يوسف زيدان وعزمي بشارة. يومها سألته:
- لماذا لا تواصل الكتابة النقدية فتصدر كتاباً جديداً تتناول فيه الأصوات الجديدة في الرواية الفلسطينية؟
وأذكر أنه أجابني بأنه يترك المهمة للجيل الجديد. كما لو أنه يرى أن على كل جيل أدبي أن يخلق نقاده منه.
ومع أنني قرأت أكثر أعماله إلا أنني لم أكتب عن أي منها، وظللت أعتمد على كتابه النقدي في كتاباتي عن الرواية الفلسطينية قبل العام ١٩٤٨ وعن الأعلام الثلاثة المدروسين فيه؛ كنفاني وحبيبي وجبرا، وأعتمد عليه أيضاً في تدريسي ظاهرة السخرية في رواية حبيبي «المتشائل»، إذ رأيت فيما كتبه قدراً من التميز والإقناع وحسن المعالجة.
إلى جانب قراءاتي العديدة لكتابه وملاحظاتي على مدخله التاريخي، تابعت مقالاته التي كان ينشرها في جريدة الأيام، يوم الجمعة، وهي مقالات جعلتني أقرأ الجريدة من صفحتها الأخيرة.
لقد كتب المقالة المتميزة التي تقترب أحياناً من الدراسة، فقسم منها كان ينشر على حلقات يتابع فيها الرواية العربية والعالمية، فيعرفنا بأسماء جديدة أو يقدم لنا أعمالاً جديدة لأسماء نعرفها، وظل يواصل الكتابة إلى أن توقف بسبب ضعف نظره. يومها خسرت وقراء الجريدة قراءة ما يكتبه كاتب متميز واسع الاطلاع.
جمع وادي بعض ما كتب في كتاب «سيرة الظل: نصوص عن آخر هو أنت» (٢٠٠٨) ضاماً فيه ٥٦ مقالاً رأى صورته فيها «نصوص عن آخر هو أنت».
وأظن أنه يخاطب نفسه في القسم الثاني من العنوان الذي عده سيرة لكل من كتب عنهم، ورأى أن ما كتبه عنهم هو سيرة الـ «أنت» المخاطبة، سواء أكانت فاروق نفسه أو من يشبهه.
كان قسم من المقالات محفزاً لي لأقرأ بعض أعمال أولئك الكتاب أو لأكتب مبدياً رأياً فيما كتب، كما فعلت عندما صححت خطأ معرفياً وقع فيه في كتابه النقدي يتعلق برواية «مرقص العميان» لعارف العارف، وهو لبناني ظنه فاروق المؤرخ الفلسطيني عارف العارف (أنظر جريدة الأيام مقاله في ٨ تموز ٢٠٠٨ ومقالي في ١٠ تموز ٢٠٠٨).
كان فاروق في بعض مقالاته يراجع بعض قناعاته التي آمن بها واعتنقها في شبابه، وهو ما يبدو في مقاله عن نقولا زيادة «نقولا زيادة: مئة خطوة ربما تسع وتسعون» (صفحة ٥٠ من كتاب «سيرة الظل»). في مقاله يأتي على الفارق بين جيله وجيل زيادة ويكتشف أنه كان مخطئاً حين لم يزر، وهو في بيروت، المؤرخ ويتعرف إليه، على الرغم من أن مكان سكنهما كان قريباً «مئة خطوة ربما تسع وتسعون»، وحين يتعرف إليه ويقرأ كتاباته تكون المفاجأة:
«مئة خطوة، وربما تسع وتسعون، كانت تفصل بيتي عن بيته في شارع مدام كوري، لكنني أعترف، بعد عمر طويل، أنني كنت أنتمي إلى جيل ظل يحلو له أن ينعته وأمثاله بـ «الأكاديمي».. جيل ألهاه التكاثر في قراءة تاريخ صراع الطبقات في أوروبا عن قراءة تاريخنا الغني.. الذي كتبه نقولا زيادة ومن هم على الطريق ذاته.
مئة خطوة، وربما تسع وتسعون، كانت تفصلني عن هذا البحر المعرفي الزاخر، وأنا غافل عن ذلك، جاهل بحقيقة وجوده القريب، جاراً كان جديراً بأن أكشف وجوده منذ وقت بعيد وأن أعلن عن اعتزازي بجيرة علمت بها بعد فوات الأوان».
مقال ثانٍ كتبه فاروق كان له تأثير في حياتي هو مقاله عن فرويد، فقد دفعني لشراء شقة وكتبت بدوري عن هذا مقالاً عنوانه «المقال شجعني لشراء شقة والرواية قد تجعل مني تاجر أرض» (الأيام الفلسطينية ٤/ ١/ ٢٠١٥). وقد خضت مع فاروق في الموضوع وأخبرني أنه فعل الشيء نفسه. كان مقاله تمحور عن عالم النفس الشهير (سيجموند فرويد) وما آلت إليه مدخراته في الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية عشرينيات ق٢٠.
وماذا عن فاروق قاصاً وروائياً؟
قرأت له «طريق إلى البحر» مبكراً ثم «رائحة الصيف» فـ «منازل القلب» و»عصفور الشمس» فالتفت أكثر ما التفت إليه منها «منازل القلب» وهو أشبه بكتاب سيري له في علاقته بمدينتي رام الله والبيرة اللتين نشأ فيهما ثم غادرهما ولم يعد إليهما إلا بعد اتفاقات أوسلو ١٩٩٣، ولكنه لم يستقر فيهما. استثارت زيارته مكان الولادة والنشأة ذكرياته القديمة فكتب كتاباً جميلاً يدرج تحت باب «سرديات رام الله» أو «رام الله في ذاكرة أبنائها المغتربين»، ويعد الكتاب مهماً لدراسة نتاج الكاتب الروائي والقصصي النثري إذ ثمة تقاطعات عديدة بين أكثر ما كتبه تدفع الدارس لأن يقرأ المؤلف ونصوصه معاً وفق المنهج الوضعي الذي لا يفصل روح المؤلف عن نتاجه.
كان دارسو (غوتة) و(بلزاك) يرون أن أعمالهما تعكس روحهما، وأعتقد أن هذا ينطبق على فاروق نفسه، فقد كانت روحه تحضر في كتابته، وقد اختفى وراء بعض شخصياته فكانت تنطق بما ينطق به، ولعلني أتوقف أمام هذا في روايته الأخيرة.

****

10- فاروق وادي واميل حبيبي و" سوداد " :

تساءلت إن كان فاروق تأثر في روايته بغسان كنفاني وقلت إن قراءته لغسان قراءة دارس تركت أثرها ، بوعي أو دون وعي ، في كتابته وربطت بين روايته ورواية غسان " رجال في الشمس " حين تساءلت عن الدوال الرمزية في " سوداد " .
سألني أحد القراء إن كان أيضا تأثر بإميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا فقد درسهما أيضا .
يعرف كل من قرأ " المتشائل " لحبيبي أنها حفلت بضروب من التناص حتى عد بعض الدارسين حبيبي ملك التناص في الرواية العربية ، وتناص حبيبي متعدد ، منه القريب ومنه البعيد ومنه الذاتي ، وفي الأخير يحيل إلى أعماله القديمة في أعماله الجديدة ، وقد أشرت إلى أن وادي أسلمنا مفاتيح قراءة أعماله حين تحدث عن حضور شخصيات روائية سابقة له في روايته الأخيرة .
عن التناص في " سوداد " حدث ولا حرج . إنها تحفل بالتناص مع الشعر البرتغالي عدا تناصها مع حكاية الصياد والغزالة . ما من كتاب من كتب الرواية الستة لم يتناص تناصا واعيا مع الشعر البرتغالي وكذلك ما من فصل من فصول كل كتاب ، وتحتاج دراسة التناص إلى دارس صبور يمعن فيه وهذا ما يثقل على قاريء الرواية العادية ، وأظن أن الأخير لو أسقط النصوص الشعرية المقتبسة كلها فلن يخسر شيئا ، إذ ستكون الرواية مكتملة قائمة دونه بذاتها .
ماذا عن تأثر فاروق بجبرا ؟
دعوني أفكر في الأمر وأشير إليه غدا .
صباح الخير
خربشات

****

11- فاروق وادي وجبرا إبراهيم جبرا :

إن كانت دراسة وادي كنفاني وحبيبي تركت أثرها في كتابته كما لاحظنا فإن من حق القاريء أن يتساءل :
- وماذا عن العلامة الثالثة التي درسها - أي جبرا إبراهيم جبرا ؟
إن لم تخني الذاكرة فإن إعجاب وادي بجبرا كان في ٨٠ القرن ٢٠ ، مثل إعجاب أكثر الكتاب الفلسطينيين به . كان أكثر هؤلاء لا يقدرون جبرا وكتابته تقديرهم لكتابات كنفاني وحبيبي ، وكانت الايديولوجيا وراء ذلك ، فكنفاني وحبيبي اليساريان كاتبان ملتزمان وملتحمان بقضايا شعبهما في حين كتب جبرا عن المثقف الفلسطيني المقيم في بغداد والمشغول بذاته المعبر عنها وعن حياة طبقته البعيدة عن حياة اللاجئين في مخيماتهم أو في مدنهم المحتلة .
مع ما سبق يستطيع المرء أن يكتب باطمئنان إن الشخصية الفلسطينية المحورية في " سوداد " ، وهي ياسين ، أقرب إلى روايات جبرا مع فارق أن الفلسطيني في بعض روايات جبرا ، حتى في بحثه عن ذاته ، إيجابي بشكل عام وغير انتهازي مثل ياسين .
جميل فران ووديع عساف ووليد مسعود يقبمون في بغداد والخليج وهم مثقفون وأصحاب أعمال ناجحون ، وياسين يقيم في الكويت يعمل في الصحافة ، ويبدو هؤلاء محبوبين من النساء . إن الذات والذات هي كل ما يفكرون فيه ، مع أن وليد مسعود في النهاية يقرر الانضمام إلى العمل الفدائي .
ياسين لدى وادي يبحث عن ذاته وذاته فقط ويكتب أشعارا ذاتية رومانسية ، وشخصيات جبرا الفلسطينية تحقق ذاتها من خلال جهودها الفردية أيضا ، ولذلك اختار وادي العبارة الآتية عنوانا للفصل الذي درس فيه جبرا روائيا " جبرا إبراهيم جبرا : الفلسطيني والرؤية البرجوازية " وأقر في نهاية الدراسة باختلافه مع رؤية جبرا :
" نؤكد ذلك .. من موقع الاختلاف في الرؤية ، فما أعمال جبرا في شكلها الايديولوجي إلا انعكاسا لعالمه الاجتماعي في وعيه كإنسان وفنان محكوم بشروط اجتماعية محددة ، وبانتماء اجتماعي محدد " ، وهذه الرؤية وهذا التصنيف لجبرا بأنه كاتب ذو رؤية برجوازية هو ما حدا بجبرا لأن يكتب سيرته عن طفولته وفقره المدقع " البئر الأولى "(١٩٨٦) .
صباح الخير
خربشات

****

12- فاروق وادي والتناص مع الشعر البرتغالي :

في " سوداد : هاوية الغزالة " يبدو التناص مع الشعر البرتغالي واضحا وضوحا تاما ، فما من كتاب من كتب الرواية الستة ، وما من جزء من أجزاء كل كتاب ، لم يصدر بأسطر شعرية لشاعر البرتغال الأكبر الذي كتب بأسماء عديدة( فرناندو بيسوا ) (١٨٨٨ - ١٩٣٥ ) .
تحتاج دراسة التناص في الرواية مع أشعار الشاعر إلى دراسة معمقة ربما ينجزها ناقد برتغالي على اطلاع كاف على حياة الشاعر وأشعاره معا .
يبدو الروائي مطلعا على أشعار ( بيسوا ) التي نقلت إلى اللغة العربية جيدا ، ولم يكتف بالترجمات ، فقد كان أحيانا يستعين بابنته شهد Shahd Wadi التي تتقن البرتغالية لفهم بعض الأسطر .
عندما أشرت إلى مدلول دال " سوداد " البرتغالي ذكرني الروائي جمال أبو غيدا بمقطع مغنى للشاعر محمود درويش " الحنين " - كان الحنين إلى أشياء غامضة " .
التناص مع الشعر العالمي كان في روايات وادي نادرا . ولا أذكر أنه بالغ في التناص مع الشعر العربي أصلا . من روايته " طريق إلى البحر " حفظت أسطر الشاعر العراقي سعدي يوسف :
للبحر أنت تعود مرتبكا
والعمر تنشره وتطويه
لو كنت تعرف كل ما فيه
لمشيت فوق مياهه ملكا .
ما بدا لي لافتا في هذه الرواية وفي رواية " عصفور الشمس " هو تأثر فاروق بالأسلوب القرآني ، وهذا ما كان نادرا في " طريق إلى البحر و" رائحة الصيف " ، وهذا قد يحتاج إلى تفسير قد نجد جزءا منه في مقالته عن نقولا زيادة .
والسؤال هو : لماذا لم يتناص الكاتب مع نماذج من الشعر الفلسطيني الذي قرأه أم أنه لم يعثر فيه على ما يناسب أحداث روايته التي تشكل بعض الشخصيات البرتغالية أحد مكوناتها ؟
الأمر يحتاج إلى تفكير ، علما بأنني كنت أقرأ الأسطر الشعرية البرتغالية المترجمة قراءة عادية ولم يؤثر عدم تركيزي عليها ، وعلى صلتها بما أدرج تحتها من متن ، لم يؤثر على فهمي الرواية ، لدرجة أنني كتبت أن القاريء لو أسقط الأشعار المقتبسة كلها لما أثر ذلك على فهمه القصد واستمتاعه بما يقرأ.
سوف أترك الكتابة عن التناص في الرواية للنقاد العميقين جدا الذين يكتبون كلاما لا أفهم أكثره ، فأقرأه كما لو أنني أقرأ نصا مترجما ترجمة رديئة .
صباح الخير
خربشات

****

13- عودة فاروق وادي وعودة شخصية روايته " سوداد " ياسين : خيبة العائد .

تحيل الرواية مرارا إلى كتاب " منازل القلب : كتاب رام الله "(١٩٩٧) الأقرب إلى سيرة جزئية له في المكان الذي ولد فيه فاروق ونشأ حتى هزيمة حزيران ١٩٦٧ ثم غادره بناء على طلب أبيه ليكمل دراسة التوجيهي في الأردن وليطمئن إخوته في الكويت على أوضاع أسرته في رام الله تحت الاحتلال ؛ رام الله التي عاد إليها فاروق إثر اتفاق أوسلو كما عاد إليها بطل روايته ياسين ، ولكن الكاتب خلافا للشخصية لم يستقر في المدينة ، فسرعان ما سوى أموره فيها مع السلطة الفلسطينية وغادرها ، ومع ذلك فإن رام الله ، كما تقول لنا نهاية كتاب " منازل القلب " تبقى مكانه الأول الذي لا يغادر القلب .
صدر فاروق " منازل القلب : كتاب رام الله " ببيت المتنبي :
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهل
وبقول ابن عربي :
كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه "
وأنهاه بالأسطر الآتية :
" وها هي رام الله كما هي ، وكما تراها عين القلب ، لفتى يرجع للمكان ، فلا يرجع إليه المكان ، فيبحث عما ضاع منه ، وكل ما كان..
فتى ،
ما زال هو العاشق..
وما زال المشتاق " .
ويعود ياسين إلى رام الله وكما لاحظنا في فقرات سابقة يموت فيها ، وعودته هذه وموته في رام الله تستحق كتابة خاصة ومساءلة وكنت أتمنى لو كتب الله لفاروق وادي طول العمر وأكون كتبت في حياته ما أكتبه الآن لنخوض جدلا حول ما قد تثيره كتابتي هذه وكتابتي غدا عن فكرة العودة التي خصصتها بكتابي " أدب العائدين : قراءات وتساؤلات "(٢٠١٨) .
الطريف أن ياسر عرفات أقام في المقاطعة التي أقام فيها فاروق مع والده عندما كان والده شرطيا في العهد الأردني ، وما يستحق الالتفات إليه حقا هو هذه الإقامة وإقامة ياسين بعد عودته في بيت المناضل الشيوعي سليمان النجاب .
هل خاب فاروق وادي عندما عاد ، فآثر العودة من حيث أتى ، مثله مثل خليل السواحري ورشاد أبو شاور وآخرين ؟
كتب محمود درويش عن عودته كتابا عنونه " حيرة العائد " وكان عنوان مقالاتي التي كتبتها عن العائدين وأدبهم " أدب السلم ... أدب الخيبة " وعندما أصدرتها في كتاب اخترت له عنوان " أدب المقاومة .. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات "( غزة ١٩٩٨ / دمشق ٢٠٠٨)
الكتابة تجر الكتابة فكيف إذا كانت أعمال الكاتب تمتح من تجربته الحياتية ومن الأماكن التي عاش فيها وانقطع عنها وعاد إليها ؟!
صباح الخير
خربشات
٥ / ١٠ / ٢٠٢٢ .

****

14- فاروق وادي وعودة شخصية روايته " سوداد " لا عودته هو :

إثر اتفاق أوسلو عاد آلاف الفلسطينيين ليستقروا في المناطق التي أصبحت تديرها السلطة الفلسطينية وكان عدد لا بأس به من هؤلاء العائدين من الكتاب والأدباء الذين أثروا المشهد الثقافي الفلسطيني . استقر العائدون في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة ، فراقت الحياة لقسم منهم ، إذ كانت العودة مطلبهم الذي كتبوا عنه في أدبياتهم الكثير ، ولم ترق لقسم آخر ومن الأخيرين الأسماء التي ذكرتها أمس وأسماء أخرى ، وهؤلاء فضلوا أن يقيموا حيث كانوا يقيمون من قبل ؛ في تونس وفي عمان وفي القاهرة وبعض العواصم الأوروبية ، واختار فاروق وادي العودة إلى عمان ليستقر فيها .
لا أريد أن أدخل في جدل مع الأدباء الذين نظروا للعودة وحين عادوا رجعوا من حيث أتوا ، علما بأن الجدل كثر في المجالس الخاصة لا على صفحات الجرائد والمجلات أو في وسائل التواصل الاجتماعي . سوى قسم من هؤلاء أوضاعهم الوظيفية ثم غادروا .
في كتابه " منازل القلب : كتاب رام الله " يكتب فاروق عن العودة في الصفحات الأخيرة كتابة تقول إن العودة كانت دائما في الذهن فالحنين كان كبيرا وطاغيا ولكنها لم ترق له فقد احتاجه إحساس ممض بأنه وحيد متروك في العراء وبأنه يعود ليطل إلى مكان الذاكرة من فندق صغير ، موحش وبارد " تطل من بين القضبان الحديدية على وطن أو ما يشبه الوطن " ويتعجب :
" فندق! وبعد كل هذا الرحيل . فندق! وبعد كل هذا الحنين ؟!"( ص ١٣٧ )
ويخاطب نفسه بأن الفتى فيه عاد إلى المكان ولكن لا يرجع إليه المكان ، فيبحث عما ضاع منه ، وكل ما كان ..
فتى،
مازال هو العاشق ..
ومازال المشتاق ! "
وغادر إلى المنفى ثانية ليموت في البرتغال .
يختلف ياسين في " سوداد " في أنه يموت في الوطن ، ولكني أعتقد أن ما شعر به لا يختلف عما شعر به فاروق نفسه .
لطالما ردد فاروق إن في شخوص بعض رواياته شيئا منه ، وهذا ما سأتوقف أمامه في مقالي الأحد القادم في جريدة الأيام الفلسطينية ٩ / ١٠ / ٢٠٢٢ .
أعتقد أن قراءة نهاية " منازل القلب " ونهاية " سوداد " معا مهمة جدا ، فعلى الرغم من أن ياسين ليس فاروق إلا أن فيه بعض ما شعر به فاروق نفسه ، والكتابة تطول .
في ٣٠ القرن ٢٠ كتب إبراهيم طوقان :
" فكر بموتك في أرض نشأت بها
واحفظ لقبرك أرضا طولها باع " .
دفن جبرا في بغداد وغسان كنفاني وكمال ناصر في بيروت ومعين بسيسو في القاهرة وناجي العلي في لندن وفاروق وادي في البرتغال ورحم الله إبراهيم أبو لغد الذي عاد من أميركا وعلم في بير زيت ودفن في مسقط رأسه في يافا .
صباح الخير
خربشات

****

15- «سوداد: هاوية الغزالة»: روح المؤلف ونصّه

"سوداد: هاوية الغزالة" هو عنوان الرواية الأخيرة لفاروق وادي، الذي فارقنا في٢٠ أيلول ٢٠٢٢، ويمكن عدّها أجمل ما كتب من روايات، وعندما تنتهي من قراءتها تكرر مقولة أصحاب المنهج الوضعي في النقد: "إن أعمال بلزاك تعكس روحه"، ولا يفصل هذا المنهج الكاتب عن نتاجه بخلاف المناهج النصية مثل التأثرية والبنيوية وبعض الأسلوبيات، فهذه حين تدرس عملاً أدبياً تعزله عن حياة صاحبه.
لا يعني ما سبق أن كل ما كتبه الروائي صادر عنه شخصياً، ولا يعني أنه جميع شخصياته، وإلا لكان متناقضاً في ذاته أشد التناقض مصاباً بحالة شيزوفرينية قاسية ومعقدة.
وأنا أقرأ الرواية وجدتني أقرأ فاروق وادي الذي قرأت قسماً من أعماله الأولى "طريق إلى البحر"، و"رائحة الصيف"، و"منازل القلب"، و"عصفور الشمس"، وحين فرغت من قراءة الصفحات الأخيرة قالت لي كلماته ما توصلت إليه، فهو لم يترك القارئ يستنتج ما سبق، إذ أحاله إلى رواياته السابقة وصلة بعض شخصيات روايته الجديدة بشخصيات كتب عنها في رواياته السابقة:
"بعض الشخصيات التي جاءت في الرواية، كان قد ورد ذكرها بشكل مختزل في رواية الكاتب التي نشرت بعنوان رائحة الصيف" (١٩٩٣). "أما شخصية مصطفى التي مرت في الرواية هنا، فقد سبق وأن وردت في رواية "سرير المشتاق" (٢٠١٩).. (ص ٣٠٢).
هكذا أسلم الكاتب مفتاحاً من مفاتيح روايته لمن يبحث عن التناص الذاتي فيها، وروح الكاتب في نصه ووحدة أعماله وذاته. وليست هذه هي المرة الأولى التي يسلمنا فيها فاروق مفاتيح قراءة أعماله وحضوره فيها واستلهام تجربته الشخصية وإسقاطها على شخصياته، ففي كتابه "منازل القلب" (ص ٦٠- ٦٩)، وفي مقاله "أرني لسانك لأرى قلبك" ("الأيام" ١٩/ ٧/ ٢٠١٣) كتبه ليكون شهادة شخصية حول علاقة المثقف الشخصية بالدين يضيء لنا روايته "رائحة الصيف" (١٩٩٣):
"لم أتردد بعد صدور الرواية من الاعتراف بأن طفلاً فلسطينياً هو أنا كان قد أدخل إلى المستشفى ذات يوم في منتصف الخمسينيات، وأجريت له عملية جراحية تحت اسم طفل آخر.. كان اسمه "يونس". إنني شيء من يونس الفادي، وشيء من ريان الطويل الذي يصنع الصليب من الحجر وينقش أجمل ثلثي". ويونس وريان هما شخصيتان من شخصيات "رائحة الصيف"، وفي مقال أسبق عنوانه "اعتذار متأخر لسادن البرقوق" نشره عن المؤرخ الفلسطيني عارف العارف ("الأيام" ٨/ ٨/ ٢٠٠٨)، كتب أن حارة الفردوس في "رائحة الصيف" (١٩٩٣) هو اسم أطلقه على رأس الطاحونة الحارة التي كانا يسكنان فيها "تعبيراً عن حجم الحنين الكامن إلى الزمان والمكان" - وكان أتى على الموضوع نفسه أيضاً في "منازل القلب" - الحنين الذي يلازم ياسين في "سوداد: هاوية الغزالة"، بل ويلازم فاروق وادي نفسه كما يبرز في المقال المشار إليه وفي كتابه "منازل القلب: كتاب رام الله" الذي صدره ببيت المتنبي:
"لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل"
وبقول ابن عربي:
"كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه".
ما سبق يقودنا إلى الكتابة عن صلة "سوداد" برواياته السابقة، وإلى تماثل ما نعرفه عنه فيها مع ما نعرفه عن فاروق نفسه.
ولكن قبل ذلك يجدر الالتفات إلى ما كتبه عن جبرا في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" (١٩٨١) نقلاً عن جبرا نفسه:
"أود أن أشير إلى نقطة واحدة، وهي أن من يدرسني يجب أن يدرس تياراتي كلها معاً، ويدرسها متواكبة زمنياً. حينئذ سيقترب من منهجي، أما أن يأخذ ناحية واحدة من تفكيري فإنه سيكتشف فيما بعد أن إهماله النواحي الأخرى قد تركت فجوة في دراسته".
ومع أن فاروق يرى رأي جبرا، لكنه اقتصر على دراسة عالمه الروائي "هذه الدراسة تظل أضيق من ذلك في طموحها المحدد.."، وقد ذهب بعض دارسي جبرا إلى أنه أيضاً كان يوزع شخصيته على شخصيات روايته - أعني هنا أن في كل شخصية من شخصيات جبرا شيئاً منه، ولأركز: أعني شيئاً منه لا الأشياء كلها، وما قيل عن جبرا قاله فاروق عن نفسه: "إنني شيء من يونس الفادي وشيء من ريان الطويل"، فهل في ياسين في "سوداد" وفي أخيه الأصغر شيء من فاروق أيضا؟
لننظر إلى عودة ياسين وعلاقته برام الله، وفي أخيه الأصغر وما تمتاز شخصيته به ونرى.
يشعر فاروق حين يزور رام الله بعد أوسلو بأنه رجع للمكان "فلا يرجع إليه المكان، فيبحث عما ضاع منه، وكل ما كان، فتى، ما زال هو العاشق.. وما زال المشتاق!"، وأما ياسين الذي ترك المنفى ميمماً شطر الوطن، فقد فعل ذلك "مستجيباً للنداء الملح الذي يأتيه بصوت يسكنه.. تعال.. تعال، فثمة حب هناك.. ثمة وطن مفتوحة آفاقه لكل من يمتلك الخيال: خيالاً خصباً مبدعاً وخلاقاً". و"كان الماضي يهجم عليه بكل صوره وروائحه وحميميته وبكل جيشان العواطف التي ترافقه..سوداد يعتريه للحظات مسروقة أمام فندق قصر الحمراء".
وكما كان لفاروق إخوة في الكويت طلب منه أبوه، بعد أن قرر تسفيره إلى الأردن بعد حزيران ١٩٦٧، أن "يطمئنهم في الكويت عن العائلة في رام الله" (منازل القلب، ص ١٣٢) يسافر ياسين إلى الكويت ليلتحق بأخيه الأكبر علاء ليشق له طريقاً في الدنيا.
وأما وجه الشبه بين فاروق وإحدى شخصيات سوداد فهو يتحقق في شخصية الأخ الأصغر لياسين، ومن صفات الأخ الأصغر الذي يقيم في الأردن أنه - كما يقول ياسين البراغماتي الانتهازي لأخيه - يؤلف الكتب الجادة التي تستنزف ذهنه وأعصابه وتفكيره ويضطرب عقله في تأليفها، وهي كتابات رومانسية محلقة في الفضاء، ونزعاته في كتابتها إنسانية تدمر كاتبها وتجعله في غاية السذاجة.
الكتابة تطول والمساحة محدودة.

عادل الأسطة
2022-10-09

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى