د. صبري محمد خليل خيري - فى ضرورة اصلاح الفكر السياسي الناصرى: مراجعات منهجية بين النقد الذاتى والتأصيل

مفهوما المراجعات والنقد الذاتي : المراجعة لغة الرَدُّ مرة أخرى إلى الأصل. أما اصطلاحا فهي عملية نقد ذاتي ، يقوم بها فرد أو جماعه ، لمفاهيمه " النظرية " ومواقفه " العملية " . فهي تتصل بالشكل الذاتي للنقد . ومضمون النقد - منهجيا - تجاوز موقفي الرفض والقبول المطلقين، إلى موقف " تقويمي" قائم على بيان ايجابيات وسلبيات مفهوم" نظري "، أو موقف "عملي " انسانى معين، بهدف قبول الايجابيات ورفض السلبيات.
التمييز بين النقد والنقض: ولكن يجب التمييز بينه النقد والنقض، لان هدف النقد ايجابي هو التقويم والتصحيح وبالتالي البناء ، أما هدف النقض فهو سلبي هو الهدم ، فهو ليس شكل من أشكال نقد ، ولكن شكل من أشكال الرفض المطلق.
الموقف النقدي من خصائص التفكير العقلاني: والموقف النقدي- بشكليه الذاتي"النقد الذاتي" و الموضوعي"النقد الموضوعي"- من خصائص التفكير العقلاني،خلافا لموقفي الرفض والقبول المطلقين، واللذان يعبران عن نمط التفكير الاسطورى،القائم على الانفعال "العاطفي" غير المقيد بالعقل،وقبول الأفكار بدون دليل عقلي- منطقي.
الموقف النقدي يتسق مع الموقف الاسلامى الصحيح من المفاهيم والتجارب الانسانيه: كما أن الموقف النقدي - بشكليه الذاتي"النقد الذاتي" و الموضوعي"النقد الموضوعي"- هو الموقف الذي يتسق مع الموقف الاسلامى الصحيح من المفاهيم والتجارب الانسانيه. وقد أشارت إليه الكثير من النصوص : قال تعالى(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ (الزمر:17-18) ، وقال تعالى( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)(النساء :114)، وعن حذيفة بن اليمان "رضي الله عنه "أن النبي "صلى الله عليه وسلم" قال : (لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً ، تَقُولُونَ : إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا ، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا) (رواه الترمذي "2007" بإسناد ضعيف / ضعفه الألباني ولكن صححه من قول عبد الله بن مسعود). وهو الموقف الحقيقي لعلماء الإسلام من كثير من المفاهيم والمجالات المعرفية ، كموقف الإمام ابن تيمية الذي يقول في تقييم التصوف على سبيل المثال (لأجل ما وقع في كثير من الاجتهاد والتنازع فيه، تنازع الناس في طريقهم ، فطائفة ذمت “الصوفية والتصوف” … وطائفة غلو فيهم ... وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. ..) .اتساقا مع ما سبق أشارت بعض النصوص إلى النقد الذاتي - الشكل الذاتي للموقف النقدي - على سبيل الحث عليه كقيمه ايجابيه ، كما في قوله تعالى(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي) (يوسف:53)، واتساقا مع هذا التزم السلف الصالح – مع أفضليتهم على سائر المسلمين المنصوص عليها – النقد الذاتي، قال أنس بن مالك " رضي الله عنه": (دخل عمر بن الخطاب “رضي الله عنه” حائطاً فسمعته يقول- وبيني وبينه جدار- ” عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ! والله لتتقينَّ الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنّك”).
أهم مراجعات الفكر السياسي الناصري:
أولا: النقد الذاتي عند الزعيم جمال عبد الناصر:
يمكن اعتبار الزعيم جمال عبد الناصر (رحمه الله تعالى)- الذي ينسب إليه الفكر السياسي الناصري- أول من قام بمراجعات للفكر السياسي الناصري، على المستويين النظري والعملي، من خلال ممارسته للنقد الذاتي للتجربة الناصرية ، والفكر السياسي المستقرأ منها. ذلك أن الفكر السياسي الناصري ذو طابع عملي - تجريبي (بعدى) ، اى تم استقراءه لاحقا – سواء في حياه عبد الناصر أو بعد وفاته - من تجربه سياسيه معينه، تمت في مكان وزمان معينين، وليس فكر سياسي ذو طابع نظري- تجريدي ( قبلي ) ، اى تم وضعه – أولا – بواسطة فلاسفة سياسيين معينين (كالفكر السياسي الليبرالي أو الماركسي…(…
ا/المستوى العملي : ذلك أن ثوره 23 يوليو 1952 ، استخدمت أسلوب التجربة "الذي يتضمن تصحيح الخطأ"، فقد بدأت ثورة 23 يوليو تجرب تحقق التحرر في إطار العزلة الإقليمية ، فلما اكتشفت الخطأ متجسداً في حلف بغداد ، بدت تدرك العلاقة الموضوعية بين تحرر الأمة " العربية " وتحرر جزء منها " مصر ".. وبدأت بإقامة التنمية على أسس رأسمالية، فلما اكتشفت الخطأ متجسداً في نكوص الرأسمالية عن المساهمة في خطة التنمية ، بدأت تدرك استحالة الرأسمالية بدون محركها الوحيد "الربح ".... وبعد هزيمه يونيو 1967 قام الزعيم الراحل بأشهر عمليه نقد ذاتي علنية ، يمارسها زعيم سياسي وهو في السلطة، في التاريخ الحديث والمعاصر، في خطاب التنحي،والذي أعلن فيه مسئوليته عن الهزيمة،وتنحيه عن اى منصب رسمي،وأعادته المظاهرات الرافضة لتنحيه ،التي اندلعت في كافه أرجاء الامه العربية، ، إلى موقعه في قياده حركه التحرر القومي العربي من الاستعمار.
ب/المستوى النظري: ونجد في خطابات ووثائق التجربة الناصرية أوجه متعددة للنقد الذاتي ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقر الزعيم جمال عبد الناصر في خطاب بتاريخ 26 يوليو 1961 انه لم يتم القضاء التام على الإقطاع ( قلنا نقضي على الإقطاع هل قضينا على الإقطاع ؟... وأنا أعرف مناطق فيها 300 فدان ملكية لعيلة واحدة ، ولا زالوا يعتبرون أنفسهم أسياد البلد كما كانوا قبل الثورة ، ولا زالوا ينظرون إلى الفلاحين كعبيد) . ويقر في خطاب بتاريخ يوم 3 ديسمبر 1961 انه لم يتم اقامه العدالة الاجتماعية بصوره تامة ،أو القضاء النهائي على الظلم الاجتماعي (هل استطعنا ان نقيم عدالة اجتماعية ؟.. هل استطعنا إن نقيم ما يمكننا من القضاء على الظلم الاجتماعي؟.. هل استطعنا أن نقضي على الاستغلال السياسي والاستغلال الاقتصادي والاستغلال الاجتماعي؟.. أبدا لم نستطع ).كما يقر في خطابه إلى الشعب بتاريخ 16 أكتوبر 1961 بعدم كفاية التنظيم الشعبي (لقد وقعنا في خطأ كبير لا يقل أثرا عن الوهم الخطير الذي نسينا أنفسنا فيه. هذا الخطأ هو عدم كفاية التنظيم الشعبي ).
ثانيا:مراجعات د. عصمت سيف الدولة"(من التجربة إلى المنهج( : كما قام المفكر العربي الدكتور عصمت سيف الدولة (رحمه الله تعالى) بإجراء مراجعات للفكر السياسي الناصري، في العديد من مؤلفاته ، واهم هذه المؤلفات كتابه "عن الناصريين واليهم"، وترتكز هذه المراجعات على ضرورة الانتقال من الأخذ بأسلوب التجربة والخطأ، إلى التزام بالمنهج" الذي يكشف عن القوانين الموضوعية التي تضبط حركه الإنسان"، وهو هنا يدعو إلى تجاوز كل من المنهج المثالي الجدلي عند هيجل، الذي ينسب الجدل إلى الفكر، والمنهج المادي الجدلي عند ماركس الذي ينسب الجدل إلى المادة،والأخذ بمنهج جدل الإنسان،الذي ينسب الجدل إلى الإنسان"بين المادة والفكر أو الماضي والمستقبل أو الواقع والغاية".وفى كتابه عن "العروبة والإسلام"يقدم د. عصمت مراجعات للفكر القومي عامه ،في تصوره للعلاقة بين العروبة والإسلام،، ويخلص إلى أن الإسلام هو الذي اوجد الامه العربية،وانه بالتالي يشكل هيكلها الحضاري،ويرتب على هذا رفضه القاطع للعلمانية-بمفهومها الليبرالي الشامل-لأنها تتناقض مع الإسلام .[/HEADING]
[HEADING=2]ثالثا: مرلجعات القراءه الإسلاميه المستنيره للتجربة الناصرية: أما هذه الدراسة فتتضمن مراجعات للفكر السياسي الناصري، في العديد من القضايا (كالديموقراطيه ونظام الحكم وأساليب التغيير والعلاقة بين الدين والدولة...)، و تنطلق من رفض القراءة العلمانية للتجربة الناصرية ،لأنها تتناقض مع الموقف الايجابي للتجربة الناصرية من الدين على المستويين النظري والعملي، والأخذ بقراءة إسلاميه المستنيره للتجربة الناصرية، ترى أولا أن الموقف الذي يتسق مع الموقف الاسلامى الصحيح من المفاهيم والتجارب الانسانيه ، هو الموقف الذي يتجاوز موقفي الرفض والقبول المطلقين للتجربة الناصرية، إلى موقف نقدي منها ، يقر بايجابياتها وسلبياتها ، بهدف أخذ الأولى ورد الاخيره. كما ترى ثانيا ، انه ينبغي عند استقراء الفكر السياسي الناصري من التجربة الناصرية، الالتزام- الاستدلالي- بسياق اسلامى- طبقا لموقف تجديدي متجاوز لموقفي التغريب والتقليد-، يجعل العلاقة بين الإسلام كدين صالح لكل زمان ومكان، والفكر السياسي الناصري كمذهب سياسي محدود بزمان ومكان معيين ، علاقة تحديد – وليست علاقه إلغاء - من خلال الالتزام بموقف نقدي/ تقويمي - وليس موقف الرفض المطلق – من الفكر السياسي الناصري ومفاهيمه.
تعدد قراءات التجربة الناصرية وأسبابه : تعددت قراءات التجربة الناصرية ، ومرجع هذا التعدد عده أسباب منها: أولا: أن اى تجربه أو فكره إنسانيه ، محدودة في الزمان والمكان، وبالتالي تقع في إطار الظني الدلالة " يحتمل التأويل "، لذا يمكن أن تتعدد تأويلاتها (قراءاتها)، وذلك خلافا للدين بما هو وضع الهي، مطلق عن قيود الزمان والمكان، لذا فهو قطعي الدلالة "لا يحتمل التأويل" على مستوى أصوله. ثانيا: أن تفسير ذات الفكرة أو التجربة الانسانيه يمكن أن يختلف باختلاف الجهة "الفكرية " المنظور منها إليها.ثالثا: أن هناك مواقف متعددة ، يمكن اتخاذها اتجاه اى فكره أو تجربه إنسانيه " الرفض المطلق و القبول المطلق والموقف النقدي"، وكل موقف منهما يمكن أن يؤسس لقراءة مختلفة لذات الفكرة أو التجربة الانسانيه.
قراءتان أساسيتان :وفى إطار هذا التعدد في القراءات نكتفي بتناول قراءتان أساسيتان للتجربة ناصرية هما:
]القراءة الأولى(القراءة العلمانية للتجربة الناصرية) : وهى قراءه ذات منطلقات فكريه متعددة ” ليبراليه ،ماركسيه… ” ، وتستند إلى افتراض مضمونه أن التجربة الناصرية كانت علمانيه، في موقفها من مشكله العلاقة بين الدين والدولة ، وترتب على هذا الافتراض انه ينبغي على الفكر السياسي الناصري، أن يتخذ موقف القبول المطلق للعلمانية كحل لمشكله العلاقة بين الدين والدولة:
نقد:
تناقض التجربة الناصرية مع العلمانية : غير أن الافتراض الذي تستند إليه هذه القراءة خاطئ،حيث إن التجربة الناصرية تناقضت – على المستويين النظري والتطبيقي – مع العلمانية كحل قدمته أوربا الليبرالية، ضمن ظروف تاريخيه خاصة، لمشكله العلاقة بين الدين والدولة، يقوم على الفصل بينهما، فعلى المستوى النظري نجد – من الناحية الشكلية الاصطلاحية- أن عبد الناصر لم يستخدم مصطلح علمانيه في اى من خطاباته الشفهية أو وثائقه المكتوبة ( مخلص الصيادي ، الناصرية والدين ، منتديات الفكر القومي العربي) ، أما من ناحية المضمون فقد رفض عبد الناصر مضمون العلمانية في بعض الخطابات والوثائق، حيث يقول مثلا سنة 1963 (الإسلام دين التطور والحياة، والإسلام يمثل الدين ويمثل الدنيا، لا يمثل الدين فقط). هذا فضلا عن أن التجربة الناصرية اتخذت موقفا ايجابيا من الدين ، على المستويين النظري والعملي- كما سنوضح لاحقا عند الحديث عن القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية – هو ما يتناقض مع كون العلمانية- بفصلها للدين عن الدولة – تتخذ موقفا سلبيا – أو على الأقل محايدا – من الدين، على الأقل على مستوى الدولة كممثل للمجتمع .
تناقض التجربة الناصرية مع التغريب: كما أن تبنى التجربة الناصرية لسياسات التحرر وطني وقومي وعالم ثالثى من الاستعمار الغربي” القديم والجديد والاستيطاني” ،والتنمية المستقلة في الاقتصاد ، وعدم الانحياز في السياسة الخارجية ، و صراعها مع قوى الاستعمارية الغربية… إنما ينهض كدليل – عملي تطبيقي – على تناقضها مع التغريب ، الذي مضمونه محاوله اجتثاث الجذور، والعلمانية – كما يقرر الدكتور عصمت سيف الدولة شكل من أشكال التغريب لان ( جوهر الدعوة العلمانية في مجتمع من المسلمين ، هو أن تستبدل بالشرائع والقواعد والآداب التي جاء بها الإسلام، بشرائع وقواعد وآداب وضعيه) (عن العروبة والإسلام،ص423) .
القراءة الثانية(القراءة الاسلاميه المستنيره للتجربة الناصريه ): أما القراءة الثانية فهي قراءه إسلاميه مستنيره للتجربه الناصرية.
التمييز بين التجربة الناصرية والفكر السياسي الناصري: هذه قراءه تميز بين التجربة الناصرية كتجربة تاريخيه معينه، تمت في مكان وزمان معينين ، و الفكر السياسي الناصري كفكر سياسي تم استقراءه - لاحقا- من التجربة الناصرية .
أولا: التجربة :
الموقف الصحيح من التجربة الناصرية :
أولا: موقف الرفض المطلق لا يعبر عن الموقف الاسلامى من الأفكار والتجارب الانسانيه
: هذه القراءة ترى أولا أن موقف الرفض المطلق للتجربة الناصرية، والقائم على التركيز على سلبياتها وتجاهل ايجابياتها ، لا يعبر عن الموقف الاسلامى من كل الأفكار والتجارب الانسانيه، حتى لو تبناه بعض من ينسبون أنفسهم إلى الإسلام – أفرادا أو جماعات، فقد ذم القران الكريم هذا الموقف ، في معرض ذمه لموقف الكفار والمشركين من الوحي، والقائم على رفضهم المطلق للعقيدة الصحيحة التي جاء بها الأنبياء، والذي يلازم قبولهم المطلق للعقائد الفاسدة المتوارثة من الآباء ، قال تعالى﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ (المائدة:104)، ويستند هذا الموقف - في كثير من الأحيان - إلى المعيار الذاتي في التقييم ، والمستند الى الانفعالات والعواطف الذاتية “كالكراهية مثلا “، وهو ما نهت عنه النصوص كما في قوله تعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ). كما يستند هذا الموقف – في كثير من الأحيان - إلى بدعه تكفير المخالف في المذهب، التي قالت بها فرقه الخوارج الضالة – وتتعارض مع نهى النصوص عن تكفير المسلمين، وتحذير علماء أهل السنة منه
الموقف الصحيح "الموقف النقدي/ التقويمي” : كما أن هذه القراءة “الاسلاميه” ترى – ثانيا- إن الذي يتسق مع الموقف الاسلامى الصحيح من التجارب الانسانيه ،هو الموقف الذي يتجاوز موقفي القبول المطلق و الرفض المطلق للتجربة الناصرية ، إلى موقف نقدي (تقويمي) قائم على الإقرار بالايجابيات(أوجه الصواب)والسلبيات (أوجه الخطأ)،بهدف اخذ الايجابيات ورفض السلبيات كما سبق بيانه.
نماذج للموقف التقويمى: وقد التزم بعض الكتاب المنتسبين إلى جماعه الأخوان المسلمين أو المتعاطفين معها بهذا الموقف النقدي التقويمي في تقييم التجربة الناصرية ، بالقول بوجوب الإقرار بايجابيات التجربة الناصرية ، بجانب الإقرار بسلبياتها : يقول ناجح إبراهيم القيادي بالجماعة الاسلاميه بمصر(…فإذا خرجنا عن إطار علاقته بالإخوان والحركة الإسلامية ونظرنا نظرة موضوعية إلى إيجابيات الرئيس عبد الناصر رحمه الله وسلبياته.. فقد خلصت إلى أن الرئيس عبد الناصر له إيجابيات كثيرة وله سلبيات كثيرة أيضا…)، ويقول د. يوسف القرضاوى (.. لا ريب أن الناس في رجل كعبد الناصر جد مختلفين؛ فله أنصار يرتفعون به إلى أعلى عليين، وله خصوم يهبطون به إلى أسفل سافلين. وبين مدح المغالين في المدح وقدح المبالغين في القدح تضيع الحقيقة… ثم إني أفرق تفريقا واضحا بين أمرين:أولهما: ما كان من “اجتهادات” قد تصيب، وقد تخطئ، وهو مأجور على صوابه، ومعذور في خطئه …وثانيهما: ما كان من مظالم ومآثم متعمدة، كما حدث لمعارضي عبد الناصر عامة، وللإخوان المسلمين خاصة …)( عبد الناصر في الميزان من مذكرات القرضاوي).
التجربة الناصرية والموقف الايجابي من الدين: وتستند هذه القراءة إلى أن التجربة الناصرية اتخذت موقف ايجابي من الدين الاسلامى ،على المستويين النظري والعملي:
ا/المستوى النظري: وقد تمثل هذا الموقف الايجابي لعبد الناصر ، من الدين الاسلامى ،على المستوى النظري ، في الكثير من أراء وأقوال وخطب جمال عبد الناصر، ومنها: تقرير جمال عبد الناصر أن أحد عوامل نجاح نضال الشعب المصري والشعوب العربية والمسلمة الأخرى هو (إيمان لا يتزعزع بالله وبرسله ورسالاته القدسية ...) (الميثاق الوطني، 1962 ، الباب الأول). وكذلك تقريره أن الإسلام هو الذي وحد الامه العربية (واتحدت المنطقة بسلطان العقيدة حين اندفعت تحت رايات الإسلام ...) ( خطاب أمام مجلس الأمة في 5/2/1958). كما يحدد في كتاب فلسفة الثورة (1953) الدوائر الثلاث التي يرى أن مصر تنتمي إليها،وأن دورها الخارجي يجب أن يتوزع بينها، فيراها أولا في الدائرة العربية وثانيا في الدائرة الأفريقية وثالثا في الدائرة الإسلامية. كما يرى جمال عبد الناصر ان الإسلام هو الحل الأول والأخير لمشكله العلاقة بين الفرد والمجتمع ( …. فليكتف المفكرون والفلاسفة بما بذلوا من جهد، ولا يبحثوا منذ اليوم عن حلول أخرى لمشكلة الفرد والمجتمع.. عندنا الحل.. الحل هو الذي نزل به الوحي على نبينا منذ ألف وثلاثمائة سنة.. هو الحل الأخير لمشكلة الإنسانية ) (مقال بعنوان “الحل الأول هو الحل الأخير”، العدد 5 من سلسلة اخترنا لك “العدالة الاجتماعية وحقوق الفرد”، أول يوليو 1954، طبع دار المعارف)
ب/المستوى التطبيقي: كما تمثل الموقف الايجابي لعبد الناصر من الإسلام كدين وكعلاقة انتماء ، على المستوى العملي في الكثير من المظاهر، ومنها : 1/ زيادة عدد المساجد في مصر ، من أحد عشر ألف مسجد قبل الثورة ، إلى واحد وعشرين ألف مسجد عام 1970 ، وهو ما يعادل عدد المساجد التي بنيت في مصر منذ الفتح الإسلامي وحتى عهد عبد الناصر. 2/ أنشاء مدينة البعوث الإسلامية ،التي كان ومازال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين، القادمين من سبعين دولة إسلامية ويقيمون فيها مجانا.3/ أنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي جمعت كل الشعوب الإسلامية . 4/ ترجمة القرآن الكريم إلى كل لغات العالم . 5/ إنشاء إذاعة القرآن الكريم. 6/ وضع موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي. 7/ إصدار قانون تحريم القمار ومنعه . 8/ إلغاء تراخيص العمل الممنوحة للنسوة العاملات بالدعارة (الدين والدولة والثورة : رفعت سيد أحمد. النبي والفرعون : جيل كيبل . المؤامرة ومعركة المصير : سعد جمعة. تقرير مجلس الكنائس العالمي لعام 1974،تقرير الحالة الدينية فى مصر عام1982 . الإسلام في عهد جمال عبد الناصر : عمرو صابح)
الصراع بين عبد الناصر وجماعه الأخوان المسلمين صراع سياسي وليس ديني : كما ترى هذه القراءة الاسلاميه المستنيره أن الصراع الذي دار بين عبد الناصر وجماعه الأخوان المسلمين – وبالأحرى قطاع من قطاعاتها وليس كل أفرادها- هو صراع سياسي ،وليس صراع ديني بين مسلمين وكفار وليس صراع سياسي،وذلك استنادا إلى إجماع علماء أهل السنة بفرقهم المتعددة على أن الامامه " بمعنى السلطة" فرع من فروع الدين الاجتهادية المتغيرة، وليست أصل من أصوله النصية الثابته ، "بخلاف الشيعة الذين قرروا أن الامامه من أصول الدين ، وبخلاف الخوارج الذين كفروا مخالفيهم"،وبالتالي لا يجوز تكفير المخالف فيها. وقد اقر بذلك عدد من الكتاب المنتسبين أو المؤيدين لجماعه الإخوان المسلمين يقول حسن دوح ( أن تصوير خلافنا مع عبد الناصر على انه جهاد بين جماعه مسلمين وجماعه كافرين تصوير خاطئ، ...)( الإرهاب المرفوض والإرهاب المفروض، بدون تاريخ، دار الاعتصام، القاهرة، ص 39). ويقول ناجح إبراهيم (أصل الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر هو اعتقاد كل منهما أنه الأجدر والأحق بالسلطة والحكم في مصر.. ولم يكن الخلاف أساسا على الدين أو الإسلام أو حرية الدعوة.)( جمال عبد الناصر فى فكر داعية). ويقول د.عبدا لمنعم أبو الفتوح عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين فى الحلقة الأولى من مذكراته «شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر» التي تنفرد «الشروق» بنشرها (...فقد كنت أرى أنه من الصعب أن نقول إن جمال عبد الناصر كان ضد الإسلام أو عدوا له كما كتب البعض، ومازلت أرى أن الصراع بينه وبين الإخوان كان صراعا سياسيا في الأساس)
رفض مذهب الإسلام السياسي وليس رفض الدين الإسلامى: هنا يجب تقرير نلاحظ ان أن هذا الخلاف – السياسي –بين عبد الناصر وجماعه الإخوان المسلمين- أو بالأحرى بعض قطاعاتها- لم ينطلق – على المستوى الفكري- من رفض الزعيم جمال عبد الناصر للإسلام كدين ، ولا حتى من رفضه لأفكار الإمام المؤسس للجماعة حسن ألبنا، التي مضمونها الدلالة قصدها عند وضعه للمفاهيم السياسية لجماعه الأخوان المسلمين ، والتي تتفق- على وجه الإجمال- مع السياسة الشرعية ومذهب أهل السنة في الامامه، والقائم على ان الامامه بمعنى السلطة من فروع الدين الاجتهادية المتغيرة ، وان ساهم فيه - على المستوى الفكري – رفض الزعيم جمال عبد الناصر أفكار مذهب” التفسير السياسي للدين”- والذي عبر عنه البعض خطا بمصطلح "الإسلام السياسي" – في صيغته القطبية التكفيرية- والذي يتعارض مع مفاهيم وقيم وقواعد وقيم الدين الكلية –لأنه يجعل الدين مجرد وسيله لغاية أخرى هي السياسة - ومذهب أهل السنة في الامامه – لأنه يجعل الامامه " بمعنى السلطة " من أصول الدين النصية الثابتة كما فى المذهب الشيعي ، والذي يشكل مضمون دلالة لم يقصدها الإمام المؤسس ، عند وضعه للمفاهيم السياسية لجماعه الأخوان المسلمين، ونقدها عند ظهورها في آخر أيام حياته . ففي الذكرى الأولى للاستشهاد حسن البنا وقف عبد الناصر على قبره مترحما ، واستمرت الإذاعة في تلاوة القران طوال اليوم ،ووقف عبد الناصر قائلا ” كان حسن البنا يلتقي مع الجميع ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية والأهداف السامية، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا… وأُشهد الله أنني أعمل - إن كنت أعمل- لتنفيذ هذه المبادئ، وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها”.
ثانيا: الفكر السياسي: أما موقف القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية من الفكر السياسي الناصري -الذي تم استقراءه منها- فتقوم على الاتى :
من الناحية الاصطلاحية: ترفض القراءة الاسلاميه المستنيره للتجربة الناصرية، الموقف الذي يفترض تناقض الفكر السياسي الناصري مع الإسلام ، استنادا إلى الناحية الاصطلاحية له فقط ، اى استنادا إلى مصطلح "ناصريه" ومشتقاته " ناصري، ناصريين.." وكونه محدث ، لأنه يتعارض مع القاعدة الشرعية العبرة بالمعنى وليس باللفظ ، ورد في المستصفى (لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني)( 1/23 ). هذا فضلا عن أن المسلمين – عبر التاريخ الاسلامى- نسبوا الجماعات التي تلتزم بأحد المذاهب التي هي محصله الاجتهاد في فروع الدين المتغيرة، إلى صاحب المذهب ، كالحنابلة والمالكية والشافعية والحنفية في الفقه أو الاشاعره والماتريديه و الطحاويه في علم الكلام . أما مصطلح “اسلامى”أو ” اسلاميين” كصيغه نسب لمفرد او جماعه من البشر، فلم يرد في القران أو ألسنه أو أقوال السلف الصالح، إنما ورد لفظ مسلم ومسلمين، قال الله تعالى: (... هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج:78) . وإذا كان بعض العلماء المسلمين في مراحل تاليه لعهد السلف الصالح (رضى الله عنهم) قد استخدم مصطلح (إسلاميين)، فأنهم قد استخدموه بدلالات غير دلالاته المعاصرة ، من هؤلاء العلماء الإمام ابو الحسن الاشعرى في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)،حيث عنى بالإسلاميين كل فرق وطوائف المسلمين ، وهى دلاله تختلف عن دلالته المعاصرة التي تقتصر على جماعه من المسلمين.
من ناحية المضمون :
رفض السياق العلماني التغريبي
: أما من ناحية المضمون فان القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية ، ترفض أولا القراءة العلمانية للناصرية، التي ترى انه ينبغي على الفكر السياسي الناصري ، أن يتخذ موقف القبول المطلق للعلمانية ، كحل لمشكله العلاقة بين الدين والدولة،لان هذه القراءة تضع الفكر السياسي الناصري في سياق تغريبي.
التزام استقراء الفكر السياسي الناصري بسياق اسلامى طبقا لموقف تجديدي متجاوز لموقفي التغريب والتقليد: كما أن القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية ترى ثانيا انه ينبغي عند استقراء الفكر السياسي الناصري من التجربة الناصرية، الالتزام- الاستدلالي- بسياق اسلامى- طبقا لموقف تجديدي متجاوز لموقفي التغريب والتجديد - يجعل العلاقة بين الإسلام كدين صالح لكل زمان ومكان، والفكر السياسي الناصري كمذهب سياسي محدود بزمان ومكان معيين ، علاقة تحديد وليست علاقة إلغاء ، وهو ما يتحقق من خلال الالتزام بموقف نقدي/ تقويمي – وليس موقف الرفض المطلق – من الفكر السياسي الناصري ، مضمونه- على مستوى أصول الدين النصية الثابتة - قبول ما يتسق من مفاهيمه معها، ورفض ما يمكن ان يتناقض منها معها . ومضمونه - على مستوى فروع الدين الاجتهادية المتغيرة- قبول الصواب ورفض الخطأ. وهذا الموقف يتسق مع تمييز عبد الناصر بين الدين كوضع الهي ثابت- يتخذ منه موقف ايجابي دائما - وبين الفكر الديني كاجتهاد بشرى متغير، يتضمن تفسيرين للدين، التفسير الأول هو تفسير تقدمي" مستنير" للدين، يعبر عن جوهر الدين – ويمثل حافز روحي للتطور والتقدم الاجتماعي- ويدعو المفكرين الدينيين إلى التزام به، والتفسير الثاني هو تفسير رجعى للدين ، يتناقض مع جوهر الدين-لأنه مجرد استغلال-توظيف- للدين لتحقيق مصالح خاصة– وهو يرفضه –حيث يقول(إنّ رسالات السماء كلّها في جوهرها كانت ثورات إنسانية إستهدفت شرف الإنسان وسعادته ، وإنّ واجب المفكرين الدينيين الأكبر هو الإحتفاظ للدين بجوهر رسالته)،ويقول أيضا ( الرجعية التي أرادت احتكار خيرات الأرض لصالحها وحدها أقدمت على جريمة ستر مطامعها بالدين، وراحت تتلمس فيه ما يتعارض مع روحه ذاتها لكى توقف تيار التفكير)
شرط الالتزام بسياق اسلامى الاتساق وليس التطابق: وهنا نشير أن شرط التزام استقراء الفكر السياسي الناصري بسياق اسلامى هو اتساق- عدم تناقض- الفكر السياسي الناصري مع النصوص وليس تطابقه معها ، ذلك انه من أصول الفقه السياسي السني أن السياسة الشرعية هي كل ما يحقق مصلحه الجماعة ولو لم يرد فيه نص ، يقول ابْنُ عَقِيلٍ(السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ.)، ويعرف ابن نجيم الحنفي في تعريف السياسة الشرعية بأنها:( فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي )(الأحكام السلطانية والسلوك في سياسة الملوك للإمام الماوردي)،ويقول ابن القيم( ...فَإِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الْعَدْلِ وَأَسْفَرَ وَجْهُهُ بِأَيْ طَرِيقٍ كَانَ، فَثَمَّ شَرْعُ اللهِ وَدِينُهُ... فَأَيُّ طَرِيقٍ اُسْتُخْرِجَ بِهَا الْعَدْلُ وَالْقِسْطُ فَهِيَ مِنْ الدِّينِ، وَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لَهُ...) (الأحكام السلطانية،أبي يعلى الفراء)
الأهداف: اذا كان الفكر السياسي الناصري، قد أشار إلى ثلاثة أهداف أساسيه ، تجسد حلول المشاكل المشتركة، التي يطرحها واقع الامه العربية ألمسلمه المعاصر، وهى الحرية كحل لمشكله الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي”بأشكاله المتعددة :القديم والجديد “الامبريالي والاستيطاني “الصهيوني”، والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة كحل لمشكله التخلف الاقتصاد والتبعية ألاقتصاديه ، والوحدة كحل لمشكله التجزئة والتفتيت…، فان القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية ترى أن تحديد الفكر السياسي الناصري من ناحية الأهداف إنما يتحقق من خلال التأكيد على هدف رابع – يحدد ولا يلغى الأهداف الأخرى – وهو الاصاله والمعاصرة – التجديد طبقا لضوابطه الشرعية- كحل لمشكله ألهويه الحضارية.
الوسائل: كما ان القراءة الاسلاميه للتجربة الناصرية ترى أن تحديد الفكر السياسي الناصري من ناحية الوسائل، انما يتحقق من خلال الالتزام بموقف نقدي/ تقويمي من وسائل الفكر السياسي الناصري ، مضمونه التمييز بين الثوابت والمتغيرات و قبول الصواب ورفض الخطأ .
مراجعات منهجيه لموقف الفكر السياسي الناصري من بعض القضايا:
أولا: مشكله العلاقة بين الدين والدولة والموقف من العلمانية:
تعريف العلمانية : مصطلح "العلمانية " هو ترجمه عربيه لمصطلح (Secularism )، والذي هو صيغه نسب لكلمه ( Secular )، والتي تعنى في اللغة اللاتينية الدنيا أو العالم ، فالأصل اللاتيني لمصطلح العلمانية يفيد أذا معنى ما هو دنيوي مقابل ما هو ديني،. أما اصطلاحا فان العلمانية هي نزعه تعمل على الفصل بين الدين"ممثله في السلطة الدينية" والدولة "ممثله في السلطة السياسية" . وما سبق من حديث هو عن الدلالة الاصليه –التاريخية "العامة - المشتركة" للعلمانية ، غير ان العلمانية اكتسبت لاحقا دلالات "خاصة – منفردة " متعددة.
شكلي العلمانية: وللعلمانية شكلين:
العلمانية المسيحية " ذات الأساس الديني":فقد كانت العلمانية في الأصل جزء من الديانة المسيحية، استنادا إلى قول المسيح (عليه السلام) " أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله " (متى 17: 21) وهى علمانيه ذات أساس ديني للاتي ا/ لأنها احد مبادئ الديانة المسيحية ، وردت الاشاره إليه في العديد من النصوص المسيحية،وله تطبيقات كثيرة في هذه الديانة، ب رغم أنها ترى جسد الإنسان يجب أن يخضع لسلطه الحاكم ، لكنها ترى في ذات الوقت أن روحه يجب أن تخضع لسلطه المسيح- تلاميذ المسيح – الكنيسة..
العلمانية الليبرالية"الطبيعية – الغير دينيه": فقد تحولت العلمانية إلي تيار فكرى معين، ظهر في مرحله معينه من مراحل التاريخ الاوربى ، انتهى إلي أقامه نظام متكامل للحياة ، هو النظام الليبرالي التي تشكل العلمانية احد أركانه، وهى علمانيه طبيعيه- غير دينيه، اى تنطلق من فكره "القانون الطبيعي "، لتقول بعدم تدخل الدولة في النشاط الديني والحياة الدينية للمجتمع - ليصبح النشاط الديني بذلك مقصورا على الأفراد - وتقول بوجوب خضوع جسد الإنسان للسلطة السياسية ، أما روحه فحرة حرية مطلقه ، اى تقوم على أساس حرية الاعتقاد المطلقة ولست المقيده ، اى للإنسان مطلق الحرية في اختيار اى اعتقاد ديني أو لا ديني "الإلحاد أو الشك.."
المواقف المتعددة من العلمانية : وقد تعددت المواقف من العلمانية في المجتمعات المسلمة ، غير أن هناك ثلاثة مواقف أساسيه منها وهى:
أولا : موقف القبول المطلق :اى قبول العلمانية دون تمييز بين دلالاتها المتعددة، وأشكالها المختلفة ، و سلبياتها وايجابيتها.
التغريب: كما سبق الاشاره فان أن العلمانية "الليبرالية" هي احد أركان النظام الليبرالي ، كنظام متكامل للحياة ، كان محصله عوامل ثقافية ونفسيه وتاريخية وحضارية سادت أوربا نحو سبعه قرون. بناءا على هذا فان موقف القبول المطلق للعلمانية هو شكل من أشكال التغريب الذي مضمونه أن تستبدل المفاهيم والقيم والقواعد الاسلاميه (التي تشكل الهيكل الحضاري للمجتمعات المسلمة ( بالمفاهيم والقيم والقواعد الغربية، لتحقيق قدر من الشعور المستقر بالانتماء إلى الحضارة الغربية
ثانيا : موقف الرفض المطلق: اى رفض العلمانية دون تمييز بين:
أولا: دلالاتها المتعددة "دلالتها الاصليه –التاريخية ودلالاتها اللاحقة
ثانيا: أشكالها المختلفة "العلمانية المسيحية ذات الأساس الديني،والعلمانية الليبراليه ذات الأساس الطبيعي الغير ديني
ثالثا: سلبياتها التي تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره على الحياة الخاصة... و ايجابياتها التي تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه السلطة ورفض الكهنوت والثيوقراطيه..
التكفير: وهذا الموقف يقوم على تكفير كل من يتبنى أو يدعو إلى العلمانية في المجتمعات المسلمة ،وهو هنا يواجه عده إشكاليات ومنها: أولا:عدم التمييز بين عله منع شكلي العلمانية ، فعله المنع في الشكل الأول من أشكال العلمانية "العلمانية المسيحية" وهى أنها من شرع من قبلنا الذي يخالف شرعنا ،أما عله المنع في الشكل الثاني من أشكال العلمانية "العلمانية الليبرالية" فهي أن أساسها طبيعي – لا دينى. ثانيا:عدم الالتزام بضوابط التكفير الشرعية ، ومنها قاعدة"التكفير على العموم أما المعين فيتوقف تكفيره على استيفاء الشروط وانتفاء الموانع" بمعنى جواز القول بان المذهب المعين أو القول المعين هو كفر، أما الشخص المعين فلا يجوز القول بكفره إلا بعد استيفائه شروط التكفير وانتفاء موانعه عنه.ثالثا :عدم التمييز بين أنواع عدم الالتزام بالشرع وهو ما يخالف أصل من أصول الفكر السياسي السني – وهو وجوب التمييز بين نوعين من أنواع عدم الالتزام بالشرع :الأول هو عدم الالتزام بالشرع مع الإقرار به، وحكمه انه ظلم أو فسق، والثاني: عدم الالتزام بالشرع مع إنكاره ، وحكمه انه كفر ، روى علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى” وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ” قال ( من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّبه، لم يحكم به فهو ظالم فاسق). رابعا: أن هذا الموقف يحصر رفض العلمانية للمبرر الديني ، ويستبعد رفضها لمبرر حضاري أيضا وهو أنها شكل من إشكال التغريب ،لأنه يقصر الإسلام على الدين، بينما الإسلام دين وحضارة.
ثالثا : الموقف النقدي : وهو الموقف الذي يقوم على التمييز بين الدلالات المتعددة لمصطلح العلمانية ، حيث أن للمصطلح دلاله أصليه – تاريخيه واحده - هي فصل الدين عن الدولة ، كما أن له دلالات لاحقه - خاصة متعددة ، وبالتالي فان رفض الدلالة الاصليه التاريخية"العامة المشتركة" للمصطلح، لا يترتب عليه رفض أو قبول دلالاته اللاحقة" الخاصة المنفردة" إلا بعد تقييمها.كما يقوم هذا الموقف على التمييز بين سلبيات للعلمانية التي تتناقض مع الإسلام كالدين ومنها إقصاء واستبعاد الدين عن الحياة العامة وقصره على الحياة الخاصة... و ايجابياتها التي تتسق مع الإسلام كدين : ومنها تقرير مدنيه السلطة ورفض الثيوقراطيه...
تجاوز الثيوقراطيه والعلمانية: والمنظور السياسي الاسلامى يتجاوز كل من الثيوقراطيه والعلمانية، لأنه يجعل علاقة الدين بالدولة علاقة وحدة وارتباط (وليست علاقة خلط أو تطابق كما في الثيوقراطيه )، لان السلطة في الإسلام مقيده بمفاهيم وقيم قواعد كليه ، مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعي الدلالة "كالشورى والعدل والمساواة....كما يجعل العلاقة بين الدين والدولة علاقة تمييز(وليست علاقة فصل كما في العلمانية) ، لان الإسلام ميز بين التشريع كوضع الهي ثابت والاجتهاد ككسب بشرى متغير. كما المنظور السياسي الاسلامى يقوم على مدنيه السلطة (وليس التشريع كما في العلمانية) ” لان الحاكم في المنظور السياسي الاسلامى نائب ووكيل عن الجماعة، لها حق تعيينه ومراقبته وعزله إذا جار” ، كما يقوم على دينيه التشريع " على مستوى أصوله " (وليس السلطة كما في الثيوقراطيه) ، “باعتبار أن قواعد الشريعة الاصوليه هي المصدر الرئيسي للتشريع”.
التجربة الناصرية تتناقض مع موقف القبول المطلق للعلمانية، وتتسق مع الموقف النقدي منها: بعد العرض السابق للمواقف المتعددة من العلمانية، نخلص إلى أن التجربة الناصرية تتناقض مع موقف القبول المطلق للعلمانية، وتتسق مع الموقف النقدي منها استنادا إلى الاتى:
أولا: اتخاذ التجربة الناصرية موقفا ايجابيا من الدين على المستويين النظري والعملي - كما سبق ذكره بالتفصيل - و هو ما يتناقض مع كون العلمانية- بفصلها للدين عن الدولة – تتخذ موقفا سلبيا – أو على الأقل محايدا – من الدين، على الأقل على مستوى الدولة كممثل للمجتمع.
ثانيا: تقرير دساتير العهد الناصري ان الإسلام هو دين الدوله، يقول المستشار طارق البشرى(أن هذا الحكم الدستوري " أن الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها في دستور ‏1923‏ " ظل مرعيًّا ضمن التراث الدستوري الأصيل للدولة المصرية على مدى القرن العشرين، وكل دستور كامل صدر في مصر أورد هذا النص بهذا الحكم، دستور‏1930 … ودستور‏1956‏ في عهد ثورة ‏23‏ يوليو ‏1952، ودستور ‏1964‏، ودستور‏1971.‏ ولم يشذ من ذلك إلا دستور ‏1958‏ في عهد وحدة مصر مع سوريا؛ لأنه لم يكن دستورا مكتملا… وقد زال بانفصال سوريا في‏1961…‏ وسنلاحظ تاريخيًّا أن النص على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، إنما يتضمن إقرارا بأن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع ‏.‏… كما يرى طارق البشرى ان السادات عندما عرف الشريعة بوصفها مصدر رئيسي للتشريع 1971 او المصدر الرئيسي للتشريع ‏1981‏ قد (سار على نهج سوابقه فيما يتعلق بأن دين الدولة الرسمي الإسلام، ونص على مصدرية الشريعة الإسلامية، وهو حكم لا يزيد عن كونه تطبيقا؛ لأن دين الدولة الإسلام، لأن الدين هو المرجعية أو المصدرية).وما سبق ذكره من إقرار دساتير العهد الناصري بان الإسلام هو الدين الرسمي الدولة، وكون ذلك يتضمن إقرارا بأن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع – كما قرر بعض القانونيين- يتناقض مع كون العلمانية يلزم منها - بفصلها للدين عن الدولة - نفى كون الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع .
ثانيا: قضايا الديموقراطيه ونظام الحكم وأساليب التغيير: وأخيرا نقدم مراجعات منهجيه ، لموقف الفكر السياسي الناصري من بعض القضايا السياسية، كالديموقراطيه ونظام الحكم وأساليب التغيير... تنطلق من التمييز بين الثوابت والمتغيرات ، ونستند هنا - بصوره أساسيه -على كتاب "عن الناصريين واليهم " للدكتور/ عصمت سيف الدوله (رحمه الله تعالى)
نحو فهم صحيح لموقف عبد الناصر من الديموقراطيه: إن الفهم الصحيح لموقف عبد الناصر من الديموقراطيه يتحقق من خلال الالتزام بالضوابط المنهجية الاتيه:
ا/التمييز بين الزعيم والدكتاتور : فالأول تحقق الاراده الشعبية أهدافها بتوحدها خلف زعامته ، ويصبح بالتالي محل رضا من اغلب الشعب. أما الثاني فيحول بدكتاتوريته دون تحقيق الاراده الشعبية لأهدافها، ويصبح بالتالي محل غضب اغلب الشعب . ولا يكاد يجادل احد على أن مواقف عبد الناصر القومية والوطنية الهادفة للتحرر من للاستعمار ، والداعمة للتضامن العربي ، والساعية لتحقيق العدالة الاجتماعية ...نالت تأييد اغلب الشعوب العربية- وليس الشعب المصري فقط - فضلا عن استمرار مكانته الوجدانية كرمز للكرامة والعزة عند هذه الشعوب حتى الآن، كل هذا وغيره يثبت أن عبد الناصر هو زعيم قومي وبالتالي ليس دكتاتور.
ب/ الديموقراطيه غير محصورة في صيغتها الليبرالية: إن عبد الناصر كان يرفض ألصيغه الليبرالية للديموقراطيه، لأنه إذ يحرر الشعب من استبداد الحاكمين ، لا يضمن عدم استبداد اقليه من الرأسماليين فيه ( د.عصمت سيف الدولة، النظرية ، ج2، ص197-198 ) ، وهو ما كان سائدا في مصر قبل قيام ثوره 23 يوليو حيث يوجد نظام ديموقراطى من الناحية الشكلية ” برلمان، تعدديه حزبيه، صحف حزبيه...”، لكن يسطر عليه ” فعليا ” تحالف من الإقطاعيين والرأسماليين والملك ، الخاضع للسلطة “الفعلية” للاحتلال البريطاني، ولكن رفض عبد الناصر للصيغة الليبرالية للديموقراطيه ، لا يعنى رفضه لكل صيغ الديمقراطية،أو رفضه للديموقراطيه من حيث هي نظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام ، وهو يتبنى صيغه أخرى للديموقراطيه ، هو الديموقراطيه الشعبية ذات المضمون الاجتماعي. والالتزام بهذا الموقف – النظري- يمكن أن يتحقق في واقعنا المعاصر من خلال أسلوب-عملي- متسق مع روحه –المستندة إلى الاراده الشعبية- ،ومضمونه تحرير الديموقراطيه " كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام" من صيغتها الليبرالية (بمنهجها الليبرالي" الطبيعي" ، أركانها الاربعه"الراسماليه والفردية والعلمانية. والديموقراطيه الليبرالية" وذلك بالاحتكام إلى الشعب ذاته،ومن خلال الالتزام بأساليب التغيير السياسي السلمي الديموقراطى.
ج/التمييز بين مضمون الديموقراطيه وشكلها: كما يجب تميز بين مضمون الديموقراطيه ” ان تعبر السلطة عن الاراده الشعبية”، وشكلها” شكل النظام السياسي الذي تعبر الاراده الشعبية من خلاله عن ذاتها”،و الأول ثابت بينما الثاني يخضع للتغيير في المكان وخلال الزمان، والدليل على هذا ان تعدد النظم السياسية الديموقراطيه الليبرالية بتعدد مجتمعاتها (بريطانيا، فرنسا، امريكا ،سويسرا…)، استنادا على هذا فان بعض المواقف السياسية لعبد الناصر كرفضه لتعدد الأحزاب، وأخذه بأسلوب التنظيم السياسي الشعبي الواحد، تتصل بشكل الديموقراطيه وليس مضمونها، فهي مرتبطة بظروف تاريخيه معينه ، هي مرحله التحرر الوطني والقومي من الاستعمار القديم،وبالتالي قابله للتجاوز في ظروف تاريخيه مغايره كواقعنا المعاصر.
مفاهيم سياسيه:
مفهوم "قوى الشعب العاملة":
تحدث الميثاق عن قوى الشعب العاملة، كما قسمها إلى فلاحين وعمال ومثقفين وجنود. غير انه يجب تقرير ان هذا التقسيم هو تقسيم مهني، يركز على القطاعات الرئيسية للشعب، دون إنكار قطاعاته الأخرى كالطلبة والحرفيون والعاطلون والنساء والشيوخ.
مفهوم "تحالف قوى الشعب": ان هذا المفهوم يعبر عن مبدأ سياسي هام ، هو وجوب التقاء كل القوى السياسية لتحقيق أهداف الامه، إلا انه يجب ان لا يفهم منه وحدة إرادة كل قوى منها، لأن أيا منها لم تكن منظمة ،على الوجه الذي تملك به وسيلة التعبير عن إرادتها الجماعية.
مفهوم"تذويب الفروق بين الطبقات": كما أشار الميثاق إلى الصراع الاجتماعي او الصراع
الطبقي وحله عن طريق تذويب الفروق بين الطبقات ، غير ان هذا المفهوم ليس غاية ، بل وسيله ذات أبعاد اقتصاديه ،قانونيه ،اجتماعيه… تهدف إلى تقليل الفوارق الطبقية فى المجتمع.
قضيه "تعدد الأحزاب": ان عدم منع الشعب من ان يعبر عن إرادته بالطريقة التي يختارها ،
ومنها تشكيل الأحزاب ، مبدأ ديمقراطي يجب الأخذ به اتساقا مع تقرير الميثاق ان ” الحرية كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب “..حيث ان ” كل الحرية ” تمتد إلى حرية اختيار طريقة وأسلوب التعبير عن الرأي وممارسة النشاط الحزبي.
أسلوب تنظيم الجماهير: كما ان انتظام الشعب كله في مؤسسات تبقى منعقدة
دائما، وتكون اطارأ لعرض المشكلات ،والحوار حول حلولها والتعبئة لوضع تلك الحلول
موضع التنفيذ ،هو اقرب ما وصلت إليه النظم إلى ” الديمقراطية المباشرة” التي هي
الديمقراطية الحقه، التي يتجه إليها التطور على مستوى البشرية جميعا. ولكن الصعوبة
كلها تكمن في كيف ينتظم الشعب في مؤسسات للديمقراطية. انه تنظيم في نقابات
وجمعيات ومؤسسات تعاونية وصحافة ومنظمات طلابية. ولكن كل هذه المؤسسات لا تفي
بحاجة بعض الشعب من الفلاحين والعمال والحرفيين المتخلفين ديمقراطيا. لهذا فإن
الموقف الايجابي هو انتظام الشعب في منظمات جماهيرية . ولكن لما كان هذا
الانتظام يجب ان يكون اراديأ بالإقناع أو التشجيع او القدرة ، فإن صيغته لا يمكن ان تكون مبدأ يلتقى عليه ويتلزم به ويحتكم اليه.
نظام الحكم: إن النظام الرئاسي كان نظام مرحلة عبد الناصر، ولكنه ليس مبدأ ثابتا من مبادئ مفهوم الديمقراطية… فبالاضافه إلى النظام الرئاسي القائم على الجمع بين رئاسة الدولة ورئاسة السلطة التنفبذيه،هناك نظام آخر مضمونه بقاء رئيس الدولة رمزا وصمام امن،على ان تؤول السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء ، بل هناك فى الديمقراطيات الغربية انظمه ملكيه الدستورية، يكون الملك فيها رمز، بينما تؤول السلطة التنفذيه إلى رئيس مجلس الوزراء.
أساليب التغيير: لقد كانت هناك أسباب تاريخيه معينه أدت إلى قيام ثوره يوليو بفعل مجموعة من ضباط القوات المسلحة ، وليس بتنظيم وتدبير وفعل حزب جماهيري . تتمثل هذه الأسباب في ان الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت مصر ما قبل ثورة 1952 كانت قد وفرت الشروط الموضوعية للثورة، والمتمثلة في السيطرة المطلقة لتحالف الاستعمار والإقطاع والرأسمالية على الشعب المصري وثرواته ، ولكنها لم تسمح باكتمال نضج شروطها الذاتية متمثله فى ان هذه الظروف لم تسمح للممارسة الديمقراطية بان تتعمق وتنمو إلى الحد الذي تستطيع فيه الجماهير امتلاك المقدرة الشعبية على فرض إرادتها . إن تلك الأسباب التاريخية هي التي تفسر قيام الثورة بتنظيم وتدبير وفعل مجموعة من ضباط القوات المسلحة تحت قيادة عبد الناصر ( تنظيم الضباط
الأحرار )، وليس بتنظيم وتدبير وفعل حزب جماهيري . هذا بالاضافه الى ان الانقلابات العسكرية كظاهره تكاد تكون المرحلة التالية لمرحلة التحرر من الاستعمار على مستوى العالم الثالث كله. وهذه الظاهرة هي حصيلة فشل تطبيق الديمقراطية فى العالم الثالث نتيجة للتخلف الديمقراطي : انعدام أو ضعف التقاليد الديمقراطية بفعل الاستعمار وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي، إضافة إلى تطبيق المفهوم الليبرالي القائم على سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية. إذا الانقلابات العسكرية تعبير عن مرحله تاريخيه انقضت أو تكاد تنقضي، ولابد من استحداث أساليب تغيير أخرى أهمها أسلوب التغيير الجماهيري السلمي بالياته المختلفة.
الموقف من ظاهره التعذيب: صاحبت التجربة الناصرية بعض الممارسات السالبة ومنها التعذيب ، و التقييم الموضوعي لها يقوم على الاتى:
ان التقييم الموضوعي لاى تجربه يجب ان يقوم على الإقرار بايجابياتها وسلبياتها،وليس اتخذا سلبياتها كمبرر لإنكار ايجابياتها.
انه يجب ادانه التعذيب كممارسه سالبه لا إنسانيه، مرفوضة أخلاقيا وقانونيا ودينيا ، بصرف النظر عن من قام بها.
ان ظاهره التعذيب مرتبطة بالبنية السياسية “مجموع الانظمه السياسية وأنماط التفكير السياسي..” للعالم الثالث، وليست مرتبطة بالنظم السياسية”السلطة السياسية” للعالم الثالث ، وسبب ذلك أنها نشأت نتيجة لعوامل تاريخيه استمرت عهود تاريخيه متطاولة كالاستعمار وتعاقب النظم الاستبدادية .فقد كانت ظاهره التعذيب موجودة قبل عهد عبد الناصر “النظام الملكي”،واستمرت بعد عهده )عهد الرئيسين السادات ومبارك)، بل تفاقمت بعده عهده وكانت احد أسباب قيام ثوره 25 يناير الشعبية المصرية ضد نظام مبارك،ولم يبد الغرب” الديموقراطى” اى اعترض جدى ضدها خلال هذين العهدين لأنهما كانا تابعين له سياسيا.
ان عبد الناصر لم يكن يعلم بهذه الممارسات بدليل ان بعضهم “شمس بدران” اقر بعد وفاه عبد الناصر بأنه قام بذلك دون إذن من السلطة، وعندما علم بهذه الممارسات قدم قام بها للمحاكمة، وسجنهم بعضهم إلى ان قام الرئيس السادات بالإفراج عنهم بعرض التوظيف السياسي.
ان ظاهره التعذيب في عهد عبد الناصر قد تم تضخيمها، بغرض التوظيف السياسي ، ،من قبل قوى ونظم سياسيه مارست أو أيدت ممارسه التعذيب، بحجم اكبر من حجمها الذي وجدت فيه في عهد عبد الناصر.
وقد أشار بعض الكتاب إلى بعض أسباب ظهور هذه الممارسة السالبة في العهد الناصري ، ومن هذه الأسباب الضغوط التي تعرضت لها مصر لدورها الريادي في قياده حركه التحرر من الاستعمار حينها ، وما صاحب ذلك من تضخم دور الاجهزه الامنيه، ومن هذه الأسباب ان المشروع الناصري أراد حشد الناس ضد الاستعمار القديم والجديد والصهوينيه، لكنه استند في ذلك الى تنظيمات جامعه ( اى تقبل كل من يعلن الالتزام بمبادئها) ولكن غير مانعه (اى لم تتوافر فيها إليه لتمييز بين من يؤمن بهذه المبادئ فعلا ، و من يدعي الالتزام بها)، حيث ابتكرت الدوله تنظيمات سياسيه عامه تتضمن داخلها كل جهاز الدولة (هيئه التحرير، الاتحاد القومي، الاتحاد الاشتراكي)، وهنا اتيح لمجموعه من البيروقراطيين ان يقوموا بالعديد من الممارسات ألسالبه كالتعذيب وغيره ، وبذلك لطخوا ثوب ثوره يوليو الأبيض بما علق به من نقاط سوداء… غير ان كل ما ذكروه هو تفسير”اى بيان للأسباب الذي لا يمنع رفض السلبيات” وليس تبرير” اى دفاع عن السلبيات “، إذ أن التعذيب – وغيره من الممارسات السالبة- لا تبرير له، وايه هذا أن جمال عند الناصر حاول تصحيحها عندما علم بحدوثها ، وقدم من قام بها للمحاكمة كما سبق ذكره.

د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

................................................................



1/ الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري

2/ د. صبري محمد خليل ( Google Sites )
[/HEADING]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى