المعضلة الأوروبية وهل انتصرت روسيا؟
تراجيديا الحرب والسياسة والدعاية والتشهير تتكرر أمامنا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والخطب المتلفزة والجماهيرية والبيانات الرسمية والأحاديث الصحفية وصيحات حقوق الانسان وحق تقرير المصير بحيث يبدو الأمر وكأنه مسرحية هابطة من مسرح روض الفرج.
والجميع يكذبون، وبعضهم يكذب الى حد الاجرام، والبعض يرتكب جرائم قاطعة في حق المسالمين ويلقى عبئها على الأخر، وتدمر المنشآت الاقتصادية ويتنصل الجميع من هذا التدمير برغم أن طفلا صغيرا يستطيع أن يؤشر على الجاني وتتعرض المحطات النووية لخطر جسيم نتيجة لتطرف ورعونة واجرام البعض.
وتغيب الدوافع والمصالح الحقيقية التي قادت لاندلاع الحرب ويعجز الجميع عن تقدير كيف يمكن لها أن تنتهي، والغريب أن البعض قد وقع أسيرا لدعايته وتشهيره وديماغوجيته وأصبح أسيرا لها.
لكل ذلك يجب أن نحاول اكتشاف الدوافع الحقيقية لعلنا نستطيع أن نجد لبلادنا مخرجا من هذا الجحيم الذي أحاط بنا ونحن لا ناقة ولأ جمل لنا فيه.
فما هي أصول الحرب الروسية الأوكرانية؟
المياه الدافئة
أن المياه الدافئة، الحلم التاريخي لروسيا ما قبل الإمبراطورية الى روسيا الامبراطورية او السوفيتية او الاتحادية، احتياج استراتيجي ملح للخروج من صقيع الشمال المتجمد.
صقيع الشمال الذي كان يتحكم به السويديون فخرج إليهم القيصر الخامس بطرس الاكبر ويهزمهم ويؤسس درة التاج الروسية، سانت بيترسبرغ أو لينينغراد، كي تؤمن طريق الشمال الغربي، طريق بحر البلطيق، و لكنه طريق يتحكم فيه، برغم كل ذلك، حلف الأطلنطي بعضوية كلا من ألمانيا والنرويج والدنمارك واستونيا ولاتفيا، وليتوانيا، وأخيرا بالسويد، وفنلندا.
وتدور معارك طاحنة في الشمال الشرقي وفي الشرق مع الإمبراطورية اليابانية ويكون أحد أهم الدوافع هو تأمين طريق الى الجنوب الشرقي، وتهزم وتفوز روسيا الى أن ينتهي الأمر بتأمين الطريق بضم ما يسمى بالجزر المتنازع عليها مع اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكن التحالف الأمريكي الياباني مازال يطل على الطريق.
ولكن يبقى الحلم الروسي الدائم بالوصول إلى المياه الدائمة الدفء، الى البحر الاسود.
معارك واتفاقات واختلافات مع الدولة الامبراطورية العثمانية وينجح الروس في النهاية في وضع قدم ثابتة على البحر الأسود خروجا من البحر الصغير قليل العمق، بحر آزوف عن طريق مضيق كيرتش ، ولكن مخرج البحر الأسود تتحكم به تركيا العضو في حلف الأطلنطي ، مضيق الدردنيل ، الى البحر الابيض الذى تتحكم في مخرجه الى المحيط بريطانيا الجاثمة في جبل طارق رغم انف الإسبان والعضو المؤسس لحلف الأطلنطي ، وبرغم انضمام اسبانيا المتأخر للحلف فما زال الاختلاف حول جبل طارق .
أن أحد أهم دوافع الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة الآن هي تأمين الوصول الى المياه الدافئة والتي هددتها الحماقة البالغة للاتجاهات القومية الأوكرانية، فتحركت روسيا باستعادة جزيرة القرم والتهديد باستخدام القوة لمنع دخول جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلنطي، وهو ما يتحقق الآن.
هذا هو الواقع الاستراتيجي للصراع الدائر في المنطقة، صراع أسهم في احتدامه غباء البحث عن المصالح واستخدام أساليب قديمة من عهد الحرب الباردة، برغم أن روسيا الاتحادية ليست الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يمثل فقط تهديدا للمصالح الاقتصادية والسياسية، بل أيضا تهديدا أيديولوجيا كبيرا.
هل انتصرت روسيا؟
أن النظر الى الخريطة ونتائج الاستفتاء الأخير توضح بجلاء أن روسيا قد حصلت على هدفها المباشر، فعدلت حدودها وامنت الوصول الى المياه الدافئة، لكن المسالة الاوكرانية هي جزء من التناقضات بين روسيا والحلف الغربي الذي تمدد الى حدودها، بل مجرد حلقة في مسار الصراع بين الدول العظمى على المصالح والنفوذ العالميين.
صراع سيكون طويلا ولا يمكن حله إلا بتقلص قوى ونفوذ أحد المتصارعين أو باندماج مصالحهم ورضى الأقل قوة بنصيب يتلاءم مع قوته.
ففي مثل هذا الصراع الاستراتيجي الطويل المدى لا تقاس قوة الدول بمستوى تسليحها، بل بعناصر القوة الشاملة، أي بحجم اقتصادها ومستوى تطوره وقدرته على خلق التطبيقات العلمية في حقل الإنتاج وعلى القدرة العلمية والبحثية وعلى موارده الطبيعية ولا يفوتنا هنا الأهمية الحاسمة لتطور التعليم والبحث العلمي.
أن مثل هذه الصراعات لا يمكن تقدير نتائجها التاريخية إلا في علاقتها بموازين القوى العالمية وهي تتغير، لذلك لا يمكن استنتاج أن النتائج المتحققة، حتى الآن، تشكل نقطة تحول في موازين القوى العالمية إيذانا ببروز قوى عظمى جديدة، روسيا أو الصين، بديلا عن القوة السائدة حاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لاعتبارات متعددة.
الأول منهما أن الموقف الحالي ما زال يعبر عن اختلال موازين القوى لمصلحة روسيا في منطقة النزاع، ولكنه لا يعبر عن بداية تعديل موازين القوى عالميا، والسبب الثاني أن الصراع الحالي ما زال في بداياته حيث لم يضع الطرف الآخر ما يستطيع أن يحشده في منطقة الصراع أو من أجلها، أن الصراع من أجل أوكرانيا مازال في بداياته رغم الدعم الغربي الاقتصادي والعسكري.
دروس التاريخ
أن الدروس القريبة تقدم لنا العديد من الأمثلة على مسار الصراعات بين القوى العظمى ، فالتقدم الألماني جاء متأخرا عن الدولتين الكبيرتين في القرن التاسع عشر ، إنجلترا وفرنسا ، ولم يكتمل توحد ألمانيا إلا في أعقاب انتصارها في الحرب الدائرة مع فرنسا سنة 1870 ، إلا أن هذا الانتصار العسكري المؤقت لم يضمن لألمانيا موقعا وطيدا كأحد القوى العظمى واضطرت الى خوض حربين عالميتين وهزمت في كلاهما ، ليصل بها الأمر إلى أن أصبحت حليفا ضمن المعسكر الغربي وتنال ما يتلاءم مع عناصر قوتها الشاملة ، ولعل بزوغ قوى عظمى جديدة ، الاتحاد السوفيتي ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية كان العامل الأساسي لاندماج ألمانيا في الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة ، اى اننا نتحدث عن خمسة وسبعون عاما كاملة لبداية استقرار وضع المانيا داخل التحالف الغربي الذي انبثق في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
وإذا كان الاتحاد السوفيتي وكتلته قد انبثقا كقوي عظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، فإن مسار الصراع بين الكتلتين أسفر عن استنزاف قوى المعسكر الشرقي ، صراع لا يدور بشكل مباشر بين الكتلتين بل في سائر بقاع الأرض ، بين قوى محلية تلقى الدعم من المعسكرين ، في كوريا وفيتنام وكوبا وانجولا والكونغو وموزمبيق وسائر بلاد ما كان يسمى ببلدان العالم الثالث ، ويضاف إلى ذلك سياسات التسليح الكثيفة التي القت أعباء إضافية كبيرة على اقتصاد الكتلة السوفيتية ، الآمر الذى صرح به روبرت مكنمارا ، وزير خارجية الولايات المتحدة ، في عهد كينيدي، حين صرح بأنه يمكن القضاء على الكتلة السوفيتية بسياسات تسليح كثيفة، الامر الذي اسفر عن انهيار الكتلة السوفيتية بعد 45 عاما.
الصراع الدولي والقوة الشاملة
إذا توقفنا أمام عناصر القوى الشاملة للقوى العظمى الحالية سنجد أن عناصر التفوق الشامل للولايات المتحدة ما زالت سائدة رغم التغييرات التي تتراكم لدى غيرها من القوى ، فبرغم التقدم الكبير الذي حققته روسيا في أعقاب فترة الفوضى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي ، فإن الحجم الكلي لاقتصادها في حدود خمس الاقتصاد الأمريكي ، وبرغم قدراتها العلمية و تسارع اندماج العمليات الإنتاجية مع الاكتشافات العلمية إلا أنه مازال الشوط طويلا أمامها للوصول إلى ما وصلت إليه الولايات المتحدة من اندماج العلم بالإنتاج ، ولعل أحد أبرز الأمثلة التي يمكن التدليل بها أن روسيا ما زالت تجاهد اقتصاديا لإنتاج طائرتها الشبحية الأولى السوخوى 57 ، برغم الموارد الطبيعية الكبيرة المتوفرة بأراضي روسيا، في حين أن الولايات المتحدة تنتج الأن طرازين منها F22 و F35، الأمر نفسه الذى حققته الصين بإنتاج طائراتها الشبحية الأولى.
وإذا كان هذا هو وضع روسيا فإن الصين، رغم ان حجم اقتصادها يتجاوز اقتصاد الولايات المتحدة، إذا قيس بالقوة الشرائية، إلا أنها ما زالت لم تلحق بعد بمستوى تطور وديناميكية الاقتصاد الأمريكي، بصرف النظر عن الفارق الكبير في مستوى دخل الفرد الذي يؤثر تأثيرا كبيرا في مستوى فاعلية القوى البشرية.
أن تغيير موازين القوى العالمية مازال طويلا وبعيدا والاحتمالات ما زالت متعددة ولم نصل الى نقطة التغيير بعد، وهو ما يدفعنا الى التفكير في المعضلة الأوروبية الحديثة، أي علاقتها بروسيا .
المعضلة الأوروبية الحديثة
منذ أن سبقت الدول الأوربية العالم في الوصول إلى الرأسمالية الحديثة وتاريخ العالم وثيق الارتباط بالصراعات الأوروبية، سواء داخل أوروبا نفسها أم على الصعيد العالمي.
صراع يتغير ويتشكل طبقا لتغير موازين القوى داخلها ومحاولة كل منها زيادة نفوذها ومصالحها على الصعيد العالمي، صراع لم يترك موقعا على سطح الأرض إلا وكان يدور داخلة.
صراع إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال على أمريكا الشمالية والجنوبية، ثم الصراع الفرنسي البريطاني داخل أوروبا وحول مستعمرات العالم القديم في أفريقيا وآسيا، ويصل إلى حد القتال المسلح بين القوتين الأكبر عالميا، في ذلك الزمان، إنجلترا السباقة إلى مرحلة أبعد في التطور وفرنسا الثائرة البونابرتية.
وعندما تختل موازين القوى من جديد ببدايات التقدم الألماني يندلع الصراع المسلح مع فرنسا في 1870، ثم يتكرر الأمر مرة ثانية مع تصاعد النمو الألماني لتندلع الحرب العالمية الأولى، وتهزم ألمانيا لتعود من جديد سنة 1939 وتصبح القارة محلا لصراع مسلح واسع النطاق.
لقد لعبت روسيا الإمبراطورية السوفيتية والاتحادية الحديثة أدوار بالغة الأهمية في الصراع الأوروبي سواء داخل أوربا نفسها أم على الحدود المتاخمة خصوصا في الشرق الآسيوي.
وبرغم أن روسيا، بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي، قد جاهدت للوصول إلى الرأسمالية الحديثة فلقد كانت متأخرة كثيرا عما وصلت اليه البلدان الأوروبية الغربية وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا ثم لاحقا ألمانيا، إلا أنها كانت دائما الدولة التي تحسم الصراع الأوروبي نتيجة حجمها الكبير.
فلقد كانت الإمبراطورية الروسية القوة التي قسمت ظهر فرنسا النابليونية حين تجاوز حدود قوته فهاجمها هجوما مباشرا وصل إلى احتلال موسكو نفسها، ولكن الروس، بتحالفهم مع القوى العظمى الأوروبية الأخرى، الإمبراطورية النمساوية وإنجلترا، هزمت فرنسا النابليونية وأرسل نابليون إلى المنفى.
ويتكرر الأمر ثانية مع روسيا السوفيتية حين أخطأت ألمانيا النازية بتجاوز حدود قوتها وعجزها عن الوصول إلى اتفاق مع القوة الأوروبية الأخرى الكبيرة، إنجلترا، فهاجمت الاتحاد السوفيتي، رغم وجود معاهدة عدم اعتداء، حيث يدور قتالا ضاريا وصلت فيه القوات الألمانية إلى مداخل المدن الروسية الأساسية، ستالينجراد (فولجا جراد) وموسكو ولينينغراد (سانت بطرسبرج)، بحجم قوات هائل يصل إلى 220 فرقة ألمانية.
ويستمر القتال سنوات طوال، بخسائر فادحة بين الطرفين، إلا أن الأمر يسفر في النهاية عن إجبار الحلفاء على فتح الجبهة الغربية خوفا من السيطرة السوفيتية على كامل الأراضي الأوروبية، وبرغم ذلك فإن القوات الروسية تدخل إلى برلين وينتحر هتلر.
والآن يتكرر الأمر مرة ثانية حين أصاب الضعف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفييتي واختلال موازين القوى داخل أوروبا، فيتوسع الطرف الآخر إلى ما يمكن تسميته بالمجال الحيوي للأمن القومي الروسي، توسعا لم يلق إلا مقاومة ضعيفة من روسيا المنهارة مؤقتا.
والآن يدور الصراع من جديد حيث استعادت روسيا جزءا كبيرا من قوتها المفقودة وتعالت مقاومتها للتوسع الغربي وعلى رأسه توسع حلف شمال الأطلنطي بعد أن ضم إليه معظم الدول الأوربية التي كانت داخل الكتلة السوفيتية ومنها دول البلطيق الثلاثة ولم يتبق إلا أوكرانيا وجورجيا.
وبرغم كل الضجيج الإعلامي الذي يثير السخرية لكل من يدرك المصالح المختفية خلفه فإن المعضلة الأوربية الحالية لا يمكن لها أن تتطور إلى قتال مسلح يشمل كامل المسرح الأوربي لأن المخاطر جسيمة وسوف تطال جميع الأطراف، فروسيا الاتحادية مدججة بالسلاح و استعادت جزءا كبيرا من قوتها وان كانت لم تلحق بعد بالتقدم على الجانب الآخر، ولكنها عادت لتصبح من جديد إحدى القوى العظمى التي لا يمكن تجاهل مصالحها، هذا بالطبع أذا تحلى الجميع بالرشاد الكامل.
افاق الصراع
فكيف سيتطور الصراع وهل تستطيع أوربا تحقيق الاندماج الروسي، اندماجا كانت ألمانيا أكثر الدول الأوربية مساهمة فيه، اندماجا لا يمكن النظر إليه إلا من خلال رؤية أكبر وأوسع انتشارا تنظر إلى كامل الأوضاع العالمية وعلى رأسها القوى الصاعدة الآسيوية، الصين الشعبية، وتأثيرات التطورات الاقتصادية والسياسية العالمية على وزن ودور القوة الأعظم ، الولايات المتحدة الأمريكية!
أن المشكلة الروسية الاوكرانية هي التعبير الأمثل عن النتائج المأساوية حين يتم تجاهل المصالح القومية للدول وتهديد سلامتها وعدم التعلم من دروس التاريخ، ولذلك فالحرب ستستمر وقد تمتد للمائة عام!!
تراجيديا الحرب والسياسة والدعاية والتشهير تتكرر أمامنا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والخطب المتلفزة والجماهيرية والبيانات الرسمية والأحاديث الصحفية وصيحات حقوق الانسان وحق تقرير المصير بحيث يبدو الأمر وكأنه مسرحية هابطة من مسرح روض الفرج.
والجميع يكذبون، وبعضهم يكذب الى حد الاجرام، والبعض يرتكب جرائم قاطعة في حق المسالمين ويلقى عبئها على الأخر، وتدمر المنشآت الاقتصادية ويتنصل الجميع من هذا التدمير برغم أن طفلا صغيرا يستطيع أن يؤشر على الجاني وتتعرض المحطات النووية لخطر جسيم نتيجة لتطرف ورعونة واجرام البعض.
وتغيب الدوافع والمصالح الحقيقية التي قادت لاندلاع الحرب ويعجز الجميع عن تقدير كيف يمكن لها أن تنتهي، والغريب أن البعض قد وقع أسيرا لدعايته وتشهيره وديماغوجيته وأصبح أسيرا لها.
لكل ذلك يجب أن نحاول اكتشاف الدوافع الحقيقية لعلنا نستطيع أن نجد لبلادنا مخرجا من هذا الجحيم الذي أحاط بنا ونحن لا ناقة ولأ جمل لنا فيه.
فما هي أصول الحرب الروسية الأوكرانية؟
المياه الدافئة
أن المياه الدافئة، الحلم التاريخي لروسيا ما قبل الإمبراطورية الى روسيا الامبراطورية او السوفيتية او الاتحادية، احتياج استراتيجي ملح للخروج من صقيع الشمال المتجمد.
صقيع الشمال الذي كان يتحكم به السويديون فخرج إليهم القيصر الخامس بطرس الاكبر ويهزمهم ويؤسس درة التاج الروسية، سانت بيترسبرغ أو لينينغراد، كي تؤمن طريق الشمال الغربي، طريق بحر البلطيق، و لكنه طريق يتحكم فيه، برغم كل ذلك، حلف الأطلنطي بعضوية كلا من ألمانيا والنرويج والدنمارك واستونيا ولاتفيا، وليتوانيا، وأخيرا بالسويد، وفنلندا.
وتدور معارك طاحنة في الشمال الشرقي وفي الشرق مع الإمبراطورية اليابانية ويكون أحد أهم الدوافع هو تأمين طريق الى الجنوب الشرقي، وتهزم وتفوز روسيا الى أن ينتهي الأمر بتأمين الطريق بضم ما يسمى بالجزر المتنازع عليها مع اليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكن التحالف الأمريكي الياباني مازال يطل على الطريق.
ولكن يبقى الحلم الروسي الدائم بالوصول إلى المياه الدائمة الدفء، الى البحر الاسود.
معارك واتفاقات واختلافات مع الدولة الامبراطورية العثمانية وينجح الروس في النهاية في وضع قدم ثابتة على البحر الأسود خروجا من البحر الصغير قليل العمق، بحر آزوف عن طريق مضيق كيرتش ، ولكن مخرج البحر الأسود تتحكم به تركيا العضو في حلف الأطلنطي ، مضيق الدردنيل ، الى البحر الابيض الذى تتحكم في مخرجه الى المحيط بريطانيا الجاثمة في جبل طارق رغم انف الإسبان والعضو المؤسس لحلف الأطلنطي ، وبرغم انضمام اسبانيا المتأخر للحلف فما زال الاختلاف حول جبل طارق .
أن أحد أهم دوافع الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة الآن هي تأمين الوصول الى المياه الدافئة والتي هددتها الحماقة البالغة للاتجاهات القومية الأوكرانية، فتحركت روسيا باستعادة جزيرة القرم والتهديد باستخدام القوة لمنع دخول جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الأطلنطي، وهو ما يتحقق الآن.
هذا هو الواقع الاستراتيجي للصراع الدائر في المنطقة، صراع أسهم في احتدامه غباء البحث عن المصالح واستخدام أساليب قديمة من عهد الحرب الباردة، برغم أن روسيا الاتحادية ليست الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يمثل فقط تهديدا للمصالح الاقتصادية والسياسية، بل أيضا تهديدا أيديولوجيا كبيرا.
هل انتصرت روسيا؟
أن النظر الى الخريطة ونتائج الاستفتاء الأخير توضح بجلاء أن روسيا قد حصلت على هدفها المباشر، فعدلت حدودها وامنت الوصول الى المياه الدافئة، لكن المسالة الاوكرانية هي جزء من التناقضات بين روسيا والحلف الغربي الذي تمدد الى حدودها، بل مجرد حلقة في مسار الصراع بين الدول العظمى على المصالح والنفوذ العالميين.
صراع سيكون طويلا ولا يمكن حله إلا بتقلص قوى ونفوذ أحد المتصارعين أو باندماج مصالحهم ورضى الأقل قوة بنصيب يتلاءم مع قوته.
ففي مثل هذا الصراع الاستراتيجي الطويل المدى لا تقاس قوة الدول بمستوى تسليحها، بل بعناصر القوة الشاملة، أي بحجم اقتصادها ومستوى تطوره وقدرته على خلق التطبيقات العلمية في حقل الإنتاج وعلى القدرة العلمية والبحثية وعلى موارده الطبيعية ولا يفوتنا هنا الأهمية الحاسمة لتطور التعليم والبحث العلمي.
أن مثل هذه الصراعات لا يمكن تقدير نتائجها التاريخية إلا في علاقتها بموازين القوى العالمية وهي تتغير، لذلك لا يمكن استنتاج أن النتائج المتحققة، حتى الآن، تشكل نقطة تحول في موازين القوى العالمية إيذانا ببروز قوى عظمى جديدة، روسيا أو الصين، بديلا عن القوة السائدة حاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، نتيجة لاعتبارات متعددة.
الأول منهما أن الموقف الحالي ما زال يعبر عن اختلال موازين القوى لمصلحة روسيا في منطقة النزاع، ولكنه لا يعبر عن بداية تعديل موازين القوى عالميا، والسبب الثاني أن الصراع الحالي ما زال في بداياته حيث لم يضع الطرف الآخر ما يستطيع أن يحشده في منطقة الصراع أو من أجلها، أن الصراع من أجل أوكرانيا مازال في بداياته رغم الدعم الغربي الاقتصادي والعسكري.
دروس التاريخ
أن الدروس القريبة تقدم لنا العديد من الأمثلة على مسار الصراعات بين القوى العظمى ، فالتقدم الألماني جاء متأخرا عن الدولتين الكبيرتين في القرن التاسع عشر ، إنجلترا وفرنسا ، ولم يكتمل توحد ألمانيا إلا في أعقاب انتصارها في الحرب الدائرة مع فرنسا سنة 1870 ، إلا أن هذا الانتصار العسكري المؤقت لم يضمن لألمانيا موقعا وطيدا كأحد القوى العظمى واضطرت الى خوض حربين عالميتين وهزمت في كلاهما ، ليصل بها الأمر إلى أن أصبحت حليفا ضمن المعسكر الغربي وتنال ما يتلاءم مع عناصر قوتها الشاملة ، ولعل بزوغ قوى عظمى جديدة ، الاتحاد السوفيتي ، في أعقاب الحرب العالمية الثانية كان العامل الأساسي لاندماج ألمانيا في الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة ، اى اننا نتحدث عن خمسة وسبعون عاما كاملة لبداية استقرار وضع المانيا داخل التحالف الغربي الذي انبثق في أعقاب الحرب العالمية الثانية .
وإذا كان الاتحاد السوفيتي وكتلته قد انبثقا كقوي عظمى في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، فإن مسار الصراع بين الكتلتين أسفر عن استنزاف قوى المعسكر الشرقي ، صراع لا يدور بشكل مباشر بين الكتلتين بل في سائر بقاع الأرض ، بين قوى محلية تلقى الدعم من المعسكرين ، في كوريا وفيتنام وكوبا وانجولا والكونغو وموزمبيق وسائر بلاد ما كان يسمى ببلدان العالم الثالث ، ويضاف إلى ذلك سياسات التسليح الكثيفة التي القت أعباء إضافية كبيرة على اقتصاد الكتلة السوفيتية ، الآمر الذى صرح به روبرت مكنمارا ، وزير خارجية الولايات المتحدة ، في عهد كينيدي، حين صرح بأنه يمكن القضاء على الكتلة السوفيتية بسياسات تسليح كثيفة، الامر الذي اسفر عن انهيار الكتلة السوفيتية بعد 45 عاما.
الصراع الدولي والقوة الشاملة
إذا توقفنا أمام عناصر القوى الشاملة للقوى العظمى الحالية سنجد أن عناصر التفوق الشامل للولايات المتحدة ما زالت سائدة رغم التغييرات التي تتراكم لدى غيرها من القوى ، فبرغم التقدم الكبير الذي حققته روسيا في أعقاب فترة الفوضى التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي ، فإن الحجم الكلي لاقتصادها في حدود خمس الاقتصاد الأمريكي ، وبرغم قدراتها العلمية و تسارع اندماج العمليات الإنتاجية مع الاكتشافات العلمية إلا أنه مازال الشوط طويلا أمامها للوصول إلى ما وصلت إليه الولايات المتحدة من اندماج العلم بالإنتاج ، ولعل أحد أبرز الأمثلة التي يمكن التدليل بها أن روسيا ما زالت تجاهد اقتصاديا لإنتاج طائرتها الشبحية الأولى السوخوى 57 ، برغم الموارد الطبيعية الكبيرة المتوفرة بأراضي روسيا، في حين أن الولايات المتحدة تنتج الأن طرازين منها F22 و F35، الأمر نفسه الذى حققته الصين بإنتاج طائراتها الشبحية الأولى.
وإذا كان هذا هو وضع روسيا فإن الصين، رغم ان حجم اقتصادها يتجاوز اقتصاد الولايات المتحدة، إذا قيس بالقوة الشرائية، إلا أنها ما زالت لم تلحق بعد بمستوى تطور وديناميكية الاقتصاد الأمريكي، بصرف النظر عن الفارق الكبير في مستوى دخل الفرد الذي يؤثر تأثيرا كبيرا في مستوى فاعلية القوى البشرية.
أن تغيير موازين القوى العالمية مازال طويلا وبعيدا والاحتمالات ما زالت متعددة ولم نصل الى نقطة التغيير بعد، وهو ما يدفعنا الى التفكير في المعضلة الأوروبية الحديثة، أي علاقتها بروسيا .
المعضلة الأوروبية الحديثة
منذ أن سبقت الدول الأوربية العالم في الوصول إلى الرأسمالية الحديثة وتاريخ العالم وثيق الارتباط بالصراعات الأوروبية، سواء داخل أوروبا نفسها أم على الصعيد العالمي.
صراع يتغير ويتشكل طبقا لتغير موازين القوى داخلها ومحاولة كل منها زيادة نفوذها ومصالحها على الصعيد العالمي، صراع لم يترك موقعا على سطح الأرض إلا وكان يدور داخلة.
صراع إنجلترا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال على أمريكا الشمالية والجنوبية، ثم الصراع الفرنسي البريطاني داخل أوروبا وحول مستعمرات العالم القديم في أفريقيا وآسيا، ويصل إلى حد القتال المسلح بين القوتين الأكبر عالميا، في ذلك الزمان، إنجلترا السباقة إلى مرحلة أبعد في التطور وفرنسا الثائرة البونابرتية.
وعندما تختل موازين القوى من جديد ببدايات التقدم الألماني يندلع الصراع المسلح مع فرنسا في 1870، ثم يتكرر الأمر مرة ثانية مع تصاعد النمو الألماني لتندلع الحرب العالمية الأولى، وتهزم ألمانيا لتعود من جديد سنة 1939 وتصبح القارة محلا لصراع مسلح واسع النطاق.
لقد لعبت روسيا الإمبراطورية السوفيتية والاتحادية الحديثة أدوار بالغة الأهمية في الصراع الأوروبي سواء داخل أوربا نفسها أم على الحدود المتاخمة خصوصا في الشرق الآسيوي.
وبرغم أن روسيا، بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي، قد جاهدت للوصول إلى الرأسمالية الحديثة فلقد كانت متأخرة كثيرا عما وصلت اليه البلدان الأوروبية الغربية وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا ثم لاحقا ألمانيا، إلا أنها كانت دائما الدولة التي تحسم الصراع الأوروبي نتيجة حجمها الكبير.
فلقد كانت الإمبراطورية الروسية القوة التي قسمت ظهر فرنسا النابليونية حين تجاوز حدود قوته فهاجمها هجوما مباشرا وصل إلى احتلال موسكو نفسها، ولكن الروس، بتحالفهم مع القوى العظمى الأوروبية الأخرى، الإمبراطورية النمساوية وإنجلترا، هزمت فرنسا النابليونية وأرسل نابليون إلى المنفى.
ويتكرر الأمر ثانية مع روسيا السوفيتية حين أخطأت ألمانيا النازية بتجاوز حدود قوتها وعجزها عن الوصول إلى اتفاق مع القوة الأوروبية الأخرى الكبيرة، إنجلترا، فهاجمت الاتحاد السوفيتي، رغم وجود معاهدة عدم اعتداء، حيث يدور قتالا ضاريا وصلت فيه القوات الألمانية إلى مداخل المدن الروسية الأساسية، ستالينجراد (فولجا جراد) وموسكو ولينينغراد (سانت بطرسبرج)، بحجم قوات هائل يصل إلى 220 فرقة ألمانية.
ويستمر القتال سنوات طوال، بخسائر فادحة بين الطرفين، إلا أن الأمر يسفر في النهاية عن إجبار الحلفاء على فتح الجبهة الغربية خوفا من السيطرة السوفيتية على كامل الأراضي الأوروبية، وبرغم ذلك فإن القوات الروسية تدخل إلى برلين وينتحر هتلر.
والآن يتكرر الأمر مرة ثانية حين أصاب الضعف روسيا مع انهيار الاتحاد السوفييتي واختلال موازين القوى داخل أوروبا، فيتوسع الطرف الآخر إلى ما يمكن تسميته بالمجال الحيوي للأمن القومي الروسي، توسعا لم يلق إلا مقاومة ضعيفة من روسيا المنهارة مؤقتا.
والآن يدور الصراع من جديد حيث استعادت روسيا جزءا كبيرا من قوتها المفقودة وتعالت مقاومتها للتوسع الغربي وعلى رأسه توسع حلف شمال الأطلنطي بعد أن ضم إليه معظم الدول الأوربية التي كانت داخل الكتلة السوفيتية ومنها دول البلطيق الثلاثة ولم يتبق إلا أوكرانيا وجورجيا.
وبرغم كل الضجيج الإعلامي الذي يثير السخرية لكل من يدرك المصالح المختفية خلفه فإن المعضلة الأوربية الحالية لا يمكن لها أن تتطور إلى قتال مسلح يشمل كامل المسرح الأوربي لأن المخاطر جسيمة وسوف تطال جميع الأطراف، فروسيا الاتحادية مدججة بالسلاح و استعادت جزءا كبيرا من قوتها وان كانت لم تلحق بعد بالتقدم على الجانب الآخر، ولكنها عادت لتصبح من جديد إحدى القوى العظمى التي لا يمكن تجاهل مصالحها، هذا بالطبع أذا تحلى الجميع بالرشاد الكامل.
افاق الصراع
فكيف سيتطور الصراع وهل تستطيع أوربا تحقيق الاندماج الروسي، اندماجا كانت ألمانيا أكثر الدول الأوربية مساهمة فيه، اندماجا لا يمكن النظر إليه إلا من خلال رؤية أكبر وأوسع انتشارا تنظر إلى كامل الأوضاع العالمية وعلى رأسها القوى الصاعدة الآسيوية، الصين الشعبية، وتأثيرات التطورات الاقتصادية والسياسية العالمية على وزن ودور القوة الأعظم ، الولايات المتحدة الأمريكية!
أن المشكلة الروسية الاوكرانية هي التعبير الأمثل عن النتائج المأساوية حين يتم تجاهل المصالح القومية للدول وتهديد سلامتها وعدم التعلم من دروس التاريخ، ولذلك فالحرب ستستمر وقد تمتد للمائة عام!!