د. عبدالجبار العلمي - قراءة في رواية "بذور الشيطان" للكاتبة السورية لينا كيلاني

تتناول رواية "بذور الشيطان" للكاتبة السورية لينا كيلاني موضوعا جديداً، قلما خاضت فيه الرواية العربية المعاصرة، حسب علمي، فقد انصبت هذه الأخيرة بشكل عام على معالجة القضايا الاجتماعية والمشاكل المختلفة التي يتخبط فيها المجتمع العربي... أما هذه الرواية، فتنسج على منوال آخر، إنها تعالج قضية ذات بعد إنساني عميق يتمثل في نبذ الغرب بحضارته ومنجزاته العلمية الموظفة في مجال الاستعمار والهيمنة على الشعوب المستضعفة الفقيرة، وتصحيح صورة الإسلام والمسلمين لغير المسلمين في العالم الغربي، لا سيما في زمن عرف هجوماً غير موضوعي على الإسلام والمسلمين نتيجة طغيان وجبروت الغرب الاستعماري، وامتلاكه سلطة الإعلام ووسائلها الجهنمية الخطيرة القائمة على التمويه والخديعة.
إن الرواية تتعاطف مع المسلمين الأفغان، وتنظر إليهم نظرة إنسانية موضوعية عميقة باعتبارهم شعباً ذا عمق حضاري، يحمل قيما إنسانية أصيلة. ( 1)
وسنقارب هذا النص الروائي الجميل انطلاقاً من مكونات الخطاب الروائي الآتية:

المنظور السردي :

إن الأعمال السردية التي تؤلفها المرأة العربية، عادةً ما تُصَنّف في إطار الكتابة النسائية أو الأدب النسائي. وفي أغلب هذه الأعمال، يطغى صوت الساردة – المشاركة بضمير المتكلم المؤنث ( 2 ) وتُرْجِع دة. زهور كرام استخدام تقنية الساردةالمشاركة- بضمير المتكلم المؤنث لدى حديثها عن رواية " أنا أحيا " " إلى الجرأة في إعلان ضمير المرأة صراحة، وبشكل مباشر، بل معبِّر انطلاقاً من العنوان : " أنا أحيا" لتُطلق بذلك ليلى بعلبكي صرخة ضمير تم تغييبه تاريخياً، وتعلن عن زمن فعله بانتقاله إلى موقع الفاعل"( 3( .
والملاحظ أن المنظور السردي في رواية " بذور الشيطان" للينا كيلاني يخرج عن هذا النمط من الرؤية السردية التي تطغى عليها الذاتية والأنا. إن المنظور السردي في هذه الرواية لا يقوم على ما يسمى بـ" المحكي النفسي " حيث يتم التركيز على الخطاب الحميمي الداخلي للشخصية " ( 4)، وإنّما يقوم على تغييب الذات، واستبعاد الأنا. ذلك أن المؤلفة الضمنية تختفي، وتترك دفة السرد لسارد – مشارك ذكر أمريكي الجنسية هو" فرانك" الذي كانت الكتابة هوايته المفضلة (ص:7)" أنا من ينقل إليكم أحداث هذه الرواية، أمريكي.. نعم أمريكي الجنسية والإمكانية الحضارية، لكني من أصل أسيوي.. وملامحي تدل على ذلك" (8) ويبدو أن الكاتبة بعدم إسنادها مهمة السرد لساردة –مشاركة أنثى (امرأة). أرادت أن تقدم أفكارها وقناعاتها من خلال الأحداث الروائية بشكل موضوعي بعيد من الأنا والذاتية، خاصة أن القضية التي تطرحها الرواية هي قضية عامة لا تخص المرأة وحدها ولا تهم الرجل وحده. إنها قضية تهم الإنسان بما هو إنسان، بغض النظر عن الاختلاف بين الذكر والأنثى، والشعوب والقبائل.


العنوان :

" بذور الشيطان " : بنية العنوان مركب إضافي، مكون من لفظين : بذور والشيطان، فلفظ بذور يرمز إلى الخير الآتي، والعطاء والنماء والنفع لبني الإنسان، يتعهدها بالرعاية والسهر على ريِّها، والتّضرّع إلى الله لينزل الغيث عليها إلى أن تنمو وتَيْنع وتؤْتي أكلها، فتصبح غذاء سائغاً للإنسان، ومصدراً لرزقه. ولكن لفظ بذور في بنية العنوان، لم يضف إلى لفظ الخير أو الخصب مثلاً، بل أضيف إلى لفظ الشيطان. والشيطان رمز للشر والخبث والكراهية. وهو هنا ليس الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس، بل إنه "شيطان العلم الذي سلب العلم براءته وقدسيته .. إنّها علوم الشر التي ستُحْكِم قبضتها على الجنس البشري " (9) إن هذا الشيطان قادم من أمريكا بالذات، أمريكا الحاملة لكل شر إلى العالم، والمصدرة للحروب المدمرة. إن العنوان في بنيته، يجسد الصراع بين قيم الخير وقيم الشر الذي سنصادفه حين نلج عالم الرواية. فلفظ البذور الذي يرمز إلى الخير، يدخل في ملفوظ العنوان، في تناقض تام مع لفظ الشيطان الذي هو رمز كل شر في كل الديانات، وعند كل شعوب العالم في كل زمان ومكان. وتتبدى دلالة العنوان في الرواية من خلال وروده في كثير من المقاطع السردية في سياقات مختلفة، وبصيغ متنوعة. فنجد مثلا تكرار لفظ البذور، أو الشيطان، أو صيغة العنوان نفسه، أو تركيب قريب منه مثل "مواسم الشيطان ". ( انظر الصفحات : 29 - 32-75-77-79-95 ). لقد تم استحضار اللّفظين المركبين للعنوان في كثير من الفقرات والمقاطع السردية في الرواية، لتحديد دلالته. "فالعنوان بناءً على بنيته التركيبية وعناصره المعجمية والدلالية، يمكن أن يفضي إلى تجنيس النص وإلى تحديد شكله ودلالته." (10) ويقول د. محمد مفتاح موضحاً وظيفة العنوان في النص بقوله :" إن العنوان يمدّنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ويقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص، وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج النص" (11(
الشخصيــات :

تمتلئ الرواية بالشخصيات الرئيسية والثانوية ، بيد أن الدراسة ستنصب أساساً على الشخصيات الأكثر حضوراً وبروزاً فيها.

أ- الشخصيات الرئيسية:
1 ـ السارد– المشارك الذي يسرد أحداث الرواية، وتوفي والده وقبله والدته، وبقي وحيداً يعيش في كنف صاحب المزرعة (جو). يحس بالغربة، رغم أن هذا الأخير اتخذه واحداً من أفراد الأسرة. وأنفق على تعليمه في الجامعات الراقية، حيث تخصص تخصصاً علمياً نادراً هو "مزيج من علوم النبات أو تخصيب النبات وعلوم أخرى." (12) لذلك سيبعثه للقيام بمهمة في أفغانستان تتعلق بتخصيب أرض بور. إن البلاد القوية المتقدمة علميا، تعمد إلى وسائل أخرى للسيطرة والغلبة، وقهر الشعوب الفقيرة المقهورة مثل سلاح التلوث الجيني بما يفوق التلوث النووي والكيمياوي. (13)

2 ـ صاحب المزرعة (جو) الأمريكي. وهو صاحب ذلك المشروع الخطير الذي يتعلق بتجربة علمية مشبوهة. تتمثل في زرع بذور غريبة في أرض"قاحلة جرداء لم تعرف الزراعة منذ أمد بعيد." (14). ولم تكن تلك الأرض إلا في أفغانستان. إن (جو) ينتظر أن يجني من خلال تحقيق هذا المشروع هو والشركة التي ينتمي إليها أرباحاً خيالية. ولا يأبه بما يمكن أن يلحق الإنسان من أضرار ومخاطر تهدد حياته (15 (
3 ـ "موهاد " الشاب الغريب المتشرد المتعلم يلتقي بالسارد -المشارك في مقصورته بالقطار في رحلته إلى أفغانستان حيث مجال التجربة العلمية (16(

– 4 آيشا: صبية أفغانية جميلة، من سكان الخيام. تعاطفت مع" فرانك" الهندي الأصل، فكانت تهتم بشؤونه، وتساعده في أعمال البيت، بدون أي مقابل، وبعلم أهلها ساكني الخيام بعد أن تأكدوا – طبعا – من سلامة نيته وعفته وكرم أخلاقه(17) إنها تتعامل مع الآخر مهما اختلفت معه في الديانة والجنس والانتماء الحضاري، تعاملا إنسانياً راقياً يتجاوز كل الحساسيات والخلفيات الأخرى.
ب ـ شخصيات ثانوية :
1 ـ " ميريام " كريمة " جو ". طفقت تحس بنشوء عاطفة حب نحو" فرانك "، إلا أن هذا الحب كان من طرف واحد .
2 ـ الرجل الأفغاني المسن الذي صادفه السارد ـ المشارك في القطار.استضافه في بيته البسيط الفقير.
3 ـ والد "آيشا" شيخ القبيلة المتنور الذي يحسن الحديث باللغتين الإنجليزية والروسية. سيفاجأ حينما يعرف من "فرانك" أن البذور المعول عليها لإعادة الخصوبة والينوعة إلى أرض بلده الجرداء القاحلة، إنما هي بذور شيطانية لا تصلح للزرع إلا مرة واحدة، ولا تختزن لزراعتها من جديد. ( انظر ص : 95 )
والملاحظ أن الرواية (النص الكبير) مثل العنوان (النص الصغير) المدروس آنفاً، تمتلئ بالتناقضات والمقابلة بين الأضداد سواء على مستوى الشخصيات أو الفضاء و الزمن الروائيين.
أ ـ الشخصيات :
فعلى مستوى الشخصيات، نلاحظ تقابلا ضدياً بين فريقين: فريق يمثل قيم الخير، وفريق آخر يجسد جانب الشر، وذلك كما يلي:
السارد ـ المشارك " فرانك " ـ" آيشا " ـ " موهاد " ـ " ميريام " ـ الشخص الأفغاني المضيف يقابلها "جو" وشركاه -فريق العمل المشرف على زراعة البذور والنباتات الشيطانية- الشيطان الذي يتراءى في أحلام ويقظة "فرانك". والملاحظ أن "جو" في الوقت الذي نتلقى فيه خبر المصير الذي آل إليه عن طريق أبنته "ميريام" وهو إصابته بالشلل، نجد أن "فرانك" أخذ يبحث عن البرء لروحه القلقة بمحاولة اطلاعه على الديانة الإسلامية والقرآن الكريم.
ب- الفضاء الروائي :
على مستوى الفضاء الروائي، نلاحظ أن الفضاءات تتناقض وتتصارع كما يلي: فضاء الضيعة الأمريكية التي يملكها "جو"، وهو عالم الحياة المادية. إنه فضاء الخصوبة والنماء والثراء، بيد أن تلك الخصوبة عقيمة روحياً، ولا يستعمل منتوجها في الغالب، إلا لخدمة أهداف استعمارية واستغلالية ضد الإنسانية بصفة عامة، والشعوب المقهورة على وجه الخصوص. إنه فضاء الخبث والقبح والحقد والأنانية وسيادة روح السيطرة والهيمنة على الآخر وخيرات أرضه. ويقابل هذا الفضاء الجهنمي الغني بما يملكه أهله وبما يستحوذون عليه، فضاء بلاد أفغانستان ذات الأرض الجرداء، والجبال الصلدة، والمسالك الوعرة، والطبيعة القاسية، والفاقة والبؤس، ولكن هذا الفضاء رغم قساوته وشظف الحياة فيه، يعبق بالأجواء الروحية، وتغمر أناسه القيم الإنسانية النبيلة التي كانت مثار إعجاب بطل الرواية "فرانك" القادم من العالم المادي الذي جفت فيه الروح الإنسانية، وعمه الانسياق وراء حياة مادية لا تكاد تعبأ بالعواطف وروح التكافل العائلي والاجتماعي. إنه فضاء البراءة والتعاون والتآلف التي تجسدها حياة الناس في الخيام كأنهم أسرة واحدة، كما تجسدها الفتاة النبيلة "آيشا" بصنيعها تجاه الضيف المغترب "فرانك".
كما أن فضاء الضيعة المفتوح الذي عاش فيه "فرانك" نوعاً من الاستقرار النسبي، يقابله فضاء القطار، وهو فضاء مغلق، بيد أنه يحرره من الفضاء الآخر، منطلقاً به نحو عوالم المجهول. إن فضاء الضيعة يمثل فضاء الثبات والجمود وعدم القدرة على التحول. أما فضاء القطار فهو فضاء القلق والتوتر والاضطراب والتحول وعدم الاستقرار. إنه بما هو كذلك، يعكس الحالة النفسية للسارد -المشارك " فرانك "، وبداية أزمته الروحية التي تنتهي به إلى الإيمان، والميل شيئاً فشياً إلى الديانة الإسلامية. وقراره الاستقرار في أفغانستان حيث ألفى الحب وسكينة الروح. يقول:" ولماذا لا أتزوج من "آيشا" وأعيش في هذه البلاد مع ناسها البسطاء الطيبين بسماحة نفوسهم.." (ص: 128).و يقول في نهاية الرواية :"وهكذا كانت بداية جديدة لحياتي، ونهاية ولو أنها صعبة لروايتي .. وأصبحت مزرعة "جو" مثل ذكرى من ماض بعيد.. وأصبح الناس الذين كنت منهم وكأنني لم أعد منهم " ( ص : 147 )
ج ـ الزمن الروائي :
بالنسبة للأزمنة، ثمة تقابل بين الليل والنهار، زمن الجهل وزمن المعرفة، فقد قضى السارد -المشارك مدة طويلة لا يعرف سر المهمة الخطيرة التي أرسله "جو" ليضطلع بها في تلك الأصقاع النائية المليئة بالأخطار. يقابل هذا الزمن، زمن المعرفة والكشف عن أسرار المهمة الحقيقية. إنه زمن النور والضياء والمعرفة التي أنارت سبيله إلى الفعل الإيجابي خدمة للإنسان وإنقاذه من شرور البذور والنباتات الشيطانية. ففي زمن السر ساد الليل والقتامة والعتمة والغموض، أما في زمن الكشف، فزال ستار الليل وتلألأ نور الحقيقة واليقين. نلمس ذلك في العبارت والوحدات المعجمية الواردة في المتتالية التالية:" نظرت إلى المكان من حولي وكان ستار الليل قد انكشف وتلألأ مكانه نور الفجر الفضي" ( ص : 79 ).
إن رواية " بذور الشيطان" رواية إنسانية هادفة. تدعو إلى المحبة والسلام وتحقيق العدل في العالم، وإقامة علاقة إنسانية بين البشر جميعاً، بغض النظر عن اختلاف الجنس أو الدين أو الأوطان.
تقدم لينا كيلاني رواية إنسانية جميلة في زمن تخلى فيه الإنسان عن إنسانيته، وعانق شيطانه.

د.عبدالجبار العلمي / أستاذ باحث من المغرب
*************
الهوامش:
* بذور الشيطان ، لينا كيلاني ، روايات الهلال ، العدد 702 يونيه ـ حزيران ، 2007 م . والرواية تتألف من اثني عشر فصلا، عمدت المؤلفة إلى عنونتها بعناوين دالة على مضمون الفصول.
1 ـ الرواية ، ص : 90
ـ يمكن أن نذكر أمثلة تجسد هذه الظاهرة نكتفي هنا بذكر بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر: " أنا أحيا" لليلى بعلبكي – " لن نموت غداً " لليلى عسيران –" لابحر في بيروت" لغادة السمان – " النار والاختيار" لخناثة بنونة- "امرأة ما" لهالة البدري – "الخباء" لميرال الطحاوي و "دنيازاد" لمي التلمسماني...
- 2 السرد النسائي العربي ، مقاربة في المفهوم والخطاب ، ط .1 ، شركة النشر والتوزيع ، المدارس ، الدار البيضاء ، ص : 115.
3 ـ نفسه ، ص : 140
4 ـ الرواية ، ص : 9.
5 ـ الرواية ، ص : 77
6 ـ د.عبدالمجيد نوسي ، التحليل السيميائي للخطاب الروائي ، البنيات الخطابية ـ التركيب ـ الدلالة ، ط.1 ، شركة النشر والتوزيع المدارس ، الدار البيضاء ، 2002 م. ص : 109
7 ـ دينامية النص ( تنظير وإنجاز )، ط.1، المركز الثقافي العربي ، بيروت ـ لبنان ، الدار البيضاء ، المغرب ، ص : 72
8 ـ الرواية ، ص : 9
-9 انظر الرواية ، ص : 143
–10 الرواية ، ص : 13
–11 انظر الرواية ، ص : 142
-12 الرواية ، ص : 30 وما بعدها
-13 انظر الرواية ، ص : 90

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى