يمثل الدكتور سيد شعبان علامة مائزة في عالم السرد القصصي، ولم يرصف قلمه في أغلال السرد، ولم يصدأ سن يراعه منذ ولج عالم القص، فقلمه سيًّال بمداد البلاغة، وبيان الفصاحة.
ولا يستدعي بعض تقنيات المسرح إلى عالمه القصصي، فيغيب الحوار عن قصصه في هذه المجوعة التي بين أيدينا المعنونة ( أولياء الله يسكنون المحروسة)، وربما يعود ذلك إلى بناء النص السردي، الذي لا يتجاوز الصفحة الواحدة في كثير من الأحيان؛ فالنص السردي لدى شعبان دفقة شعورية واحدة، تدفع المتلقي إلى مشاركته مشاركة وجدانية، فيأخذ بلبِّه صوب النص من بدايته حتى نهايته.
ويعوِّض الكاتب غياب الحوار بالشاعرية التي تهيمن على قصِّه، فيستعير من الشعر تقنياته، فتتجلى الصورة الشعرية في أبهى حللها، وتأخذ زخرفها في النص حتى تضحى لوحة فنية، يرسمها فنان بقلمه لا بريشته، تلونها الكلمات، وتزينها العبارات، عبر لغة مموسقة تعزف نوتتها الموسيقية، مستغلًا عبقرية اللغة وشاعريتها في خلق إيقاع متجانس في بعض التراكيب، ثم يحدث مغايرة في هذا التجانس في تراكيب أخرى، ينتج عنه تنوُّع موسيقي من خلال المزاوجة بين التوقع، وبين عدم التوقع.
والمكان هو العنصر الأبرز في هذه المجموعة؛ فالنص يُقرأ من عنوان، حيث إن المكان سيَّطر على المجموعة منذ عتبة العنوان، وإن كان الضمير العائد على الأولياء/ الشخصيات هو الفاعل، بينما المحروسة/ المكان مفعول؛ فإن هذا لا يمنع أهمية المكان في النص السردي، فعلاقة الإنسان بالمكان أشد وثاقة من علاقته بالزمان نفسه، فالمكان المولد والمنشأ والذكريات، والمحروسة هي مصر، وتتعدد الأماكن في هذه المجموعة، فتجمع بين المكان المفتوح وبين المكان المغلق، والمكان المفتوح مراوحة بين القاهرة بأحيائها وحارتها، وبين الكفر الريفي، والمكان المغلق: مقام الحسن ومقام الدسوقي، والمسجد والكنيسة، والحجرة والبيت، والقلعة، والدكان، والمغارة وجب يوسف، والعلاقة بين هذه الأماكن جميعًا، وبين المحروسة في العنوان علاقة اشتمال، ومن ثم تسهم هذه العلاقة في منح المجموعة القصصية تماسكها، وترابطها في منظومة متسقة الأجزاء، محكمة البناء.
ولم يتوقف الزمن عند سيد شعبان في مجموعته عند الزمن المضارع/ زمن السرد ، بل يستخدم تقنيات الاسترجاع والاستباق والحذف، فيعود إلى الماضي عبر ذاكرة السارد، ويستشرف المستقبل من خلال تقنية الاستباق، والحذف الزمني اقتصاد في النص، وقفز على كثير من الأحداث والتفاصيل، ويترك المجال مفتوحًا للمتلقي للبحث عن المسكوت عنه، والتقنية المهمة عند الكاتب، تقنية الزمن الميتافزيقي، أو الزمن الماورائي، فيستدعى إلى عالم النص زمن البرزخ أحيانًا، وزمن الحلم في أحايين كثيرة، وهو نوع من الهروب من الواقع الذي قد يصدمه بقوة أعلى منه، فيقول في نومه، ما لم يستطع قوله في صحوة.
والراوي في النص هو الراوي العليم الذي يعرف عن الشخصيات أكثر مما تعلم عن نفسها، فرؤيته رؤية من الخلف، وفي كثير من النصوص تشارك الجدة السارد، وتمسك منه دفة الحكي، والشخصيات المهيمنة على معظم شخصيات المجموعة، شخصيات الأولياء، وهم في الواقع، وفي عالم السرد ليسوا أولياء حقيقين، بل هم فئة إما دجالون، وإما سحرة، وهذه الفئة تمثل تزييف الوعي، وخداع الجماهير، وبالتالي فهم لا يسكنون المحروسة، لكنهم يحتلونها، إنهم يبتزُّون الفقراء، فيزيد فقرهم، ويجهَّلونهم، وينشرون بينهم الأمراض الاجتماعية، فمهمة المحتل نشر الفقر والجهل والمرض.
ولم تكن هذه الفئة وحدها هي التي خطفت أبناء المحروسة، بل نرى الكاتب يحدث توازنًا فنيًّا، فيقابل الأولياء بالقطط السمان، أو بالأحرى مصاصي الدماء، وكاتب التقارير السرية، والسلطان الذي ينتعل حذاء، ويحرِّمه على الرعية التي تعيش في مملكته حفاة، أو مجردة من العيش الكريم، ومن ثم فقد مثلت هذه الفئات وسيلة ضغط على الأغلبية المسحوقة، تلك الشخصيات المستلَبة والمأزومة في النص السردي، حتى تحولوا إلى مجموعة من الحرافيش، ويتجلَّى هذا في أسماء الشخصيات التي اختارها الكاتب بعناية فائقة: عم كشكول- كرشة- بهلول البياع- ابن خنفسة.. إلخ.
ويعالج شعبان في مجموعته أزمة الإنسان المعاصر الذي يعاني غياب الوعي، وتضنيه الغربة في بلاد الملح/ النفط، ويمزقه الاغتراب النفسي داخل وطنه، ويؤرق السارد جفاف النهر مصدر الحياة، وسر الوجود، فمرة يرى في نومه جفافه، ومرة أخرى يرى في منامه الهدهد يشير إلى بلقيس أن النهر في النزع الأخير.
وعندما استيقظ من نومه بحث في أكثر من نص عن منقذ ومخلص، فمرة تهرول هاجر في المحروسة، ومرة أخرى يستدعى جب يوسف، لعله يخرج منه، وينقذ المحروسة من السبع العجاف، وأخيرًا تلد مريم طفلًا؛ يمسك عصا موسى، وميلاد الطفل رمز للأمل، فهو المنقذ والمخلص، لكن الأمل الذي بعثه الكاتب في نفوسنا، يقطعه في نهاية المجموعة، وتنتهي بعبارة ( يا ولاد الحلال عيل تاه)، لكن هذه النهاية إن خالفت الأمل المنشود في بنية السطح، إلا أن بنية العمق من الممكن تجعلنا نؤول النص تأويلًا آخر، فالتعبير بالفعل الماضي (تاه)، يعبر عن حالة التيه التي يعيشها أبناء المحروسة، فهم في انتظار الوليد أن يشب عن الطوق، فيلقي بعصا موسى، لتلقف ما يأفك الأولياء الدجالون الذين يسكنون المحروسة، فتكون النهاية مفتوحة على أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل.
السيد شعبان في مجموعته هذه يجاهد بقلمه في معركة الوعي، تلك المعركة التي تحتاج إلى تكاتف المثقفين والمبدعين والمخلصين، حتى يخرج المغيبون من أرض التيه إلى عالم الوعي والتقدم الحضاري في عالم لا يقدر إلا من يمتلك العلم والثقافة.
أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله
أستاذ الأدب والنقد- جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا
ولا يستدعي بعض تقنيات المسرح إلى عالمه القصصي، فيغيب الحوار عن قصصه في هذه المجوعة التي بين أيدينا المعنونة ( أولياء الله يسكنون المحروسة)، وربما يعود ذلك إلى بناء النص السردي، الذي لا يتجاوز الصفحة الواحدة في كثير من الأحيان؛ فالنص السردي لدى شعبان دفقة شعورية واحدة، تدفع المتلقي إلى مشاركته مشاركة وجدانية، فيأخذ بلبِّه صوب النص من بدايته حتى نهايته.
ويعوِّض الكاتب غياب الحوار بالشاعرية التي تهيمن على قصِّه، فيستعير من الشعر تقنياته، فتتجلى الصورة الشعرية في أبهى حللها، وتأخذ زخرفها في النص حتى تضحى لوحة فنية، يرسمها فنان بقلمه لا بريشته، تلونها الكلمات، وتزينها العبارات، عبر لغة مموسقة تعزف نوتتها الموسيقية، مستغلًا عبقرية اللغة وشاعريتها في خلق إيقاع متجانس في بعض التراكيب، ثم يحدث مغايرة في هذا التجانس في تراكيب أخرى، ينتج عنه تنوُّع موسيقي من خلال المزاوجة بين التوقع، وبين عدم التوقع.
والمكان هو العنصر الأبرز في هذه المجموعة؛ فالنص يُقرأ من عنوان، حيث إن المكان سيَّطر على المجموعة منذ عتبة العنوان، وإن كان الضمير العائد على الأولياء/ الشخصيات هو الفاعل، بينما المحروسة/ المكان مفعول؛ فإن هذا لا يمنع أهمية المكان في النص السردي، فعلاقة الإنسان بالمكان أشد وثاقة من علاقته بالزمان نفسه، فالمكان المولد والمنشأ والذكريات، والمحروسة هي مصر، وتتعدد الأماكن في هذه المجموعة، فتجمع بين المكان المفتوح وبين المكان المغلق، والمكان المفتوح مراوحة بين القاهرة بأحيائها وحارتها، وبين الكفر الريفي، والمكان المغلق: مقام الحسن ومقام الدسوقي، والمسجد والكنيسة، والحجرة والبيت، والقلعة، والدكان، والمغارة وجب يوسف، والعلاقة بين هذه الأماكن جميعًا، وبين المحروسة في العنوان علاقة اشتمال، ومن ثم تسهم هذه العلاقة في منح المجموعة القصصية تماسكها، وترابطها في منظومة متسقة الأجزاء، محكمة البناء.
ولم يتوقف الزمن عند سيد شعبان في مجموعته عند الزمن المضارع/ زمن السرد ، بل يستخدم تقنيات الاسترجاع والاستباق والحذف، فيعود إلى الماضي عبر ذاكرة السارد، ويستشرف المستقبل من خلال تقنية الاستباق، والحذف الزمني اقتصاد في النص، وقفز على كثير من الأحداث والتفاصيل، ويترك المجال مفتوحًا للمتلقي للبحث عن المسكوت عنه، والتقنية المهمة عند الكاتب، تقنية الزمن الميتافزيقي، أو الزمن الماورائي، فيستدعى إلى عالم النص زمن البرزخ أحيانًا، وزمن الحلم في أحايين كثيرة، وهو نوع من الهروب من الواقع الذي قد يصدمه بقوة أعلى منه، فيقول في نومه، ما لم يستطع قوله في صحوة.
والراوي في النص هو الراوي العليم الذي يعرف عن الشخصيات أكثر مما تعلم عن نفسها، فرؤيته رؤية من الخلف، وفي كثير من النصوص تشارك الجدة السارد، وتمسك منه دفة الحكي، والشخصيات المهيمنة على معظم شخصيات المجموعة، شخصيات الأولياء، وهم في الواقع، وفي عالم السرد ليسوا أولياء حقيقين، بل هم فئة إما دجالون، وإما سحرة، وهذه الفئة تمثل تزييف الوعي، وخداع الجماهير، وبالتالي فهم لا يسكنون المحروسة، لكنهم يحتلونها، إنهم يبتزُّون الفقراء، فيزيد فقرهم، ويجهَّلونهم، وينشرون بينهم الأمراض الاجتماعية، فمهمة المحتل نشر الفقر والجهل والمرض.
ولم تكن هذه الفئة وحدها هي التي خطفت أبناء المحروسة، بل نرى الكاتب يحدث توازنًا فنيًّا، فيقابل الأولياء بالقطط السمان، أو بالأحرى مصاصي الدماء، وكاتب التقارير السرية، والسلطان الذي ينتعل حذاء، ويحرِّمه على الرعية التي تعيش في مملكته حفاة، أو مجردة من العيش الكريم، ومن ثم فقد مثلت هذه الفئات وسيلة ضغط على الأغلبية المسحوقة، تلك الشخصيات المستلَبة والمأزومة في النص السردي، حتى تحولوا إلى مجموعة من الحرافيش، ويتجلَّى هذا في أسماء الشخصيات التي اختارها الكاتب بعناية فائقة: عم كشكول- كرشة- بهلول البياع- ابن خنفسة.. إلخ.
ويعالج شعبان في مجموعته أزمة الإنسان المعاصر الذي يعاني غياب الوعي، وتضنيه الغربة في بلاد الملح/ النفط، ويمزقه الاغتراب النفسي داخل وطنه، ويؤرق السارد جفاف النهر مصدر الحياة، وسر الوجود، فمرة يرى في نومه جفافه، ومرة أخرى يرى في منامه الهدهد يشير إلى بلقيس أن النهر في النزع الأخير.
وعندما استيقظ من نومه بحث في أكثر من نص عن منقذ ومخلص، فمرة تهرول هاجر في المحروسة، ومرة أخرى يستدعى جب يوسف، لعله يخرج منه، وينقذ المحروسة من السبع العجاف، وأخيرًا تلد مريم طفلًا؛ يمسك عصا موسى، وميلاد الطفل رمز للأمل، فهو المنقذ والمخلص، لكن الأمل الذي بعثه الكاتب في نفوسنا، يقطعه في نهاية المجموعة، وتنتهي بعبارة ( يا ولاد الحلال عيل تاه)، لكن هذه النهاية إن خالفت الأمل المنشود في بنية السطح، إلا أن بنية العمق من الممكن تجعلنا نؤول النص تأويلًا آخر، فالتعبير بالفعل الماضي (تاه)، يعبر عن حالة التيه التي يعيشها أبناء المحروسة، فهم في انتظار الوليد أن يشب عن الطوق، فيلقي بعصا موسى، لتلقف ما يأفك الأولياء الدجالون الذين يسكنون المحروسة، فتكون النهاية مفتوحة على أكثر من قراءة، وأكثر من تأويل.
السيد شعبان في مجموعته هذه يجاهد بقلمه في معركة الوعي، تلك المعركة التي تحتاج إلى تكاتف المثقفين والمبدعين والمخلصين، حتى يخرج المغيبون من أرض التيه إلى عالم الوعي والتقدم الحضاري في عالم لا يقدر إلا من يمتلك العلم والثقافة.
أ. د. محمد عبد الرحمن عطا الله
أستاذ الأدب والنقد- جامعة باشن العالمية المفتوحة بأمريكا