رايفين فرجاني - التاريخ كما يجب أن يكون

فلسفة التاريخ
ـــــــــــــــــــــــــ
التاريخانية فلسفة تتخذ من التاريخ مادة للدراسة وغاية لها.

وفلسفة التاريخ أداة جيدة مفيدة للإحاطة بالعلوم,نرجع للماضي لنستخرج كنوزه مما أغفله الزمن وأغفلناه معه,أو نتتبع مسار تطور العلوم لنعرف موقعنا منه في الحاضر ومآلنا فيه بالمستقبل,وفائدة ثالثة هي إشباع فضولنا,وهو ضروي أيضا لشحذ همتنا إلى تحصيل المعارف. وفائدة رابعة حيث تقدم لنا النظرة التاريخية مقاربة لشرح وفهم وجود الظواهر، وخاصة الممارسات الإجتماعية والثقافية،من خلال دراسة تاريخها. هي أيضا تتجاوز الدور التسجيلي للنصوص التاريخية كونها تأريخا فحسب. هذا في الماضي. وبما يتجاوز الدور الإجتماعي في دراسة التاريخ (ماضيا وحاضرا ومستقبلا) لوضع ضوابط للمجتمع. وبما يتجاوز الدور الخطابي في استنباط الأفكار من التاريخ وتحليل آليات عملها. حيث التاريخانية مذهب يتجاوز بمراحل مفهوم التاريخ باعتباره ما حدث إلى دراسة في ماهية الحدث نفسه. وهو بذلك يتصل (بالإضافة إلى التأريخ والخطاب والعلوم الإجتماعية) بالميتافيزيقا والمنطق واللغات. أنه مشروع هائل لم يكتمل بعد,يسعى إلى بلورة رؤية فلسفية شاملة تنطلق من التاريخ مرجعا أوليا للحقيقة ومصدرا أساسيا للمعرفة.

وقد سار بنا هذا الإتجاه إلى إكتشاف مصطلح جديد,هو الحاضرية الفلسفية؛تصور ينفي وجود ماضي وينفي وجود مستقبل,ويختزل التاريخ / الزمن كله في حاضر سرمدي (أي حقيقة الأشياء صارت مثل حقيقة الأرقام). وبرغم أنها تتناقض في ذلك مع نظرية الأبدية (التي تعتبر الماضي والحاضر والمستقبل حقائق أبدية دائمة الوجود) ومع نظرية تزايد كتلة الوقت التي تعتقد أن الأحداث الماضية تضاف مع الحاضر في كونها تمثل وجود،وإن لم تكن في الوقت الحاضر ظاهرة،وكذلك الأحداث المستقبلية بالنسبة للأبدية تعتبر موجودة رغم أنها لم تحدث بعد،فالأبدية والكتلة المتزايدة يفرقون بين الظهور والوجود،بخلاف الحاضرية التي تحصر الوجود في الظهور فقط. هنا تتقاطع التاريخانية مع الزمانية,لأن التاريخ هو مسار زمني أو هو مفهوم زمني. بغض النظر يصور على أنه خط أو نقطة خاصية فيزيائية أو عقلية.

وهنا يظهر لنا التاريخ على أنه رابط بين أكثر الفلسفات تطرفا في حديها؛المثالية ماثلة في الوجودية,والمادية متمثلة في الطبيعانية (خاصة علم الفيزياء).

وهذا ما تعمل عليه مجموعة الدراسات المسماة (فلسفة التاريخ),ومجموعة أخرى تسمى (المادية التاريخية),ومجموعة ثالثة تسمى مدرسة (الحوليات),وربما رابعة هي الفلسفة (القارية),قد تكون الأخيرة هي أكبر الفلسفات التي اتخذت التاريخ موضوعا لها.

وقد ينظر للأمر (لكل هذا) على أنها مجموعة من الفلسفات لا تشكل إلا مزيدا من الأدوات لفهم التاريخ,بعد أن استنفذت الأدوات التقليدية الغرض منها,مثل (التوثيق وتحقيق الوثائق والبحث عن المزيد من الوثائق).

أي تجاوز لتلك المذاهب التقليدية في البحث,حيث "نجد,أنه في الفلسفة على سبيل المثال وبالأخص,وتأريخها,يكرر الفرض نفسه,ويعاد للظهور ما سبق طرحه جانبا,وكان تأريخ الفلسفة,سلسلة من المحاولات مقطوعة الصلة ببعضها,لا تخضع للتطور أو النمو,أو الحذف حسب قانون الخطأ والصواب,ومع ذلك فإنه في كومة المذاهب المكررة والمعادة بين فترة سابقة وأخرى لاحقة (فترة يونانية,فترة مسيحية,فترة إسلامية) أو عصور قديمة ووسيطة وحديثة. يمكن للملتزم بالمنهج التأريخي,على أسس جدلية واضحة,أن يؤكد على وجود تطور ونمو وتراكم وحذف,وجدة,في معالجة أية مشكلة فلسفية عبر تأريخ الفلسفة."[31]

التاريخ كما يجب أن يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كنت صغيرا جدا حين ساهم المسلسل العربي العظيم (عباس الأبيض في اليوم الأسود) في بلورة المرحلة الأولى من تفكير وترسيخ العديد من المسائل داخل ذهني بهذا العمر المبكر جدا من حياة البشر. وقد زدت في الوصف لأعلي من قيمة نفسي كما عُرف عني أو كما أعرف عن نفسي -فربما لا يعرفني أحد- من تقدير للذات.

ولكن مهما بلغ المرء من غرور,كل هذا يتضاءل أمام مفهوم التاريخ القادر على إحتواء مفاهيم جبارة مثل الزمن,الموت,التغيير,الإنسان,داخل نطاقه.

والتاريخ كما يجب أن يكون تعد واحدة من أشهر العبارات المقترنة بلفظة (تاريخ) مثلها مثل (التاريخ يعيد نفسه) و(التاريخ يكتبه الأقوياء).

التاريخ كما يجب أن يكون عبارة توحي بأن التاريخ هو مفهوم آخر خارج عن نطاق الزمن بوصفه ظاهرة طبيعية تجري في الواقع بما يجعلها شرطا أساسيا لوجودنا البشري. التاريخ وإن كان لازال كذلك,إلا أنه يخرج عن الإستقلال الطبيعي الغير مسيطر من قبل الإنسان, إلى شيء آخر قابل لتحكم الإنسان به. وربما هو شيء قابل للتصنيع أو التوليد!. كما توضح العبارة الأخيرة,بل وحتى قد لا يخرج عن نمط معين كما تقول العبارة التي قبلها.

وهذا صحيح إلى حد كبير,فبعكس الزمن الذي لا يحتاج إلى قياس,لأنه لن يتوقف سواء شعرنا به أو لم نشعر,وتأثيراته واقعة علينا سواء رغبنا أم لم نرغب. فإن التاريخ يزيد عن الزمن,وعن قياسه,بكونه سلسلة متصلة عبر خط الزمن من المرويات. أي أنه كومة من الحكايات. وهذه هي العلاقة الرئيسية بين التاريخ والأدب,وبالتالي بين التاريخ وبقية السرديات الأخرى. والتاريخ من السرديات الكبرى. وعملية (التأريخ) تدخل في صناعة السرديات الكبرى,أي صناعة المعنى,والوعي. فعملية التأريخ,تحتم معنى صناعة الحكايات. الحكايات التي تعطينا معنى,مثل لماذا قد نخسر هذه الحرب,أو لماذا تتقدم أمة,وتندثر أمة.

الأسئلة في حد ذاتها ممتعة,ومتابعة التاريخ في محاولة الإجابة عنها شيقة للغاية,هذا غير الضرورات التي تقتضي الإجابة عن هذه الأسئلة من أجل الإفادة العلمية بالطبع. لذا يعد التاريخ والمنهج التاريخي واحد من النظم المعرفية / الفكرية الكبرى التي تساعدنا على فهم جيد للظواهر الإجتماعية والطبيعية.

بل يمكننا أن نصل إلى فهم ممتاز إذا كانت قراءتنا للتاريخ جيدة.

قراءة التاريخ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التاريخ هو تتابع زمني للأحداث والمتغيرات يشمل جميع الظواهر الكونية بإعتبارها لا تخرج عن إطار الزمن.

ولهذا يجري التمييز عادة بين الزمن,المكون الرئيسي للتاريخ والحاضن له. والتاريخ بمفهومه الإنساني,وموضوعه الرئيس هو الإنسان,وما يتعلق بالإنسان.

كما أن الزمن يفهم على أنه ظاهرة لازال البحث جاري حول هويتها وطبيعتها ومدارها.

أما التاريخ فهو سياق مأخوذ كما هو في صورته الشكلانية الممثلة في مسار زمني يتبع خطا مستقيما له بداية ووسط ونهاية. وهذه تحديدا هي الصلة الأساسية التي تربط بين التاريخ والسرد,فكلاهما يتبنى نفس الخط الزمني على ثلاث مستويات

-حقيقي,حتى لو مزيف يتضح أنه حقيقي

-وآخر حقيقي يتضح أنه مزيف

-وخط وهمي خيالي

الخطوط الثلاثة تمثل التاريخ والإعلام والأدب على التوالي.

وحتى ضمن الأشكال السردية الأخرى لهذا الخط الزمني,مثل بعثرة الأحداث والأزمان,أو تكرارها,أو توازيها مع خطوط زمنية أخرى,لا يخرج عن الشكل المستقيم. لأنها كلها ترد إليه في النهاية ضمن ترتيب منظم يقتضي على العقل البشري هذا التنظيم بشكل إرادي أو لا إرادي.

عملية التنظيم (السرد) هذه هي أول أداة مستخدمة في التاريخ,فطالما أن التاريخ يكتب,فهو يقرأ.

وينقسم التنظيم التاريخي إلى

-تاريخ الأحداث (مثل الأحداث الماضية والجارية)

-تاريخ الأفكار (مثل تاريخ: الديانات / المدنيات)

الأدوات التاريخية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأول ما يعتمد عليه الباحث هو (الكتابة) أي التاريخ المكتوب. ولا يخفى على أحد الأهمية الكبيرة التي تشغلها الكتابة في مجال التاريخ (وفي الفلسفة عموما خاصة بعد أن رسخ جاك دريدا لها,واستخلص فلسفته منها),حتى أن التاريخ البشري اجتمع الباحثين على تقسيمه لحقبتين كبريتين؛ما قبل التاريخ,أي ما قبل الكتابة,والتاريخ. أي ما بعدها.

وعملية التنظيم النصية / الكتابية تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين

الأولى هي التوثيق المعاصر للحدث,وتتمثل آثاره الكتابية في النصوص التاريخية التي تؤرخ لحدث ما أو حقبة ما. ونصوص الرحلات التي تؤرخ لأحداث معينة ضمن إطار مكاني معلوم. ونصوص المذكرات والترجمات التي تؤرخ للأحداث السائرة في حياة شخصية معروفة أو المتعلقة بها. وهناك نوع آخر من النصوص التاريخية هي النصوص الفكرية التي توثق للأفكار بدلا من الأحداث (وقد تدخل اليوميات والمذكرات والترجمات ضمن هذه الفئة). وتنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية؛النصوص الدينية,التي تؤرخ للحالة الدينية الدنيوية للمجتمع المعتنق لهذا الدين,وما يتبع ذلك من إضاءات على مناحي الحياة الأخرى المتصلة إتصالا وثيقا بالحياة الدينية,ومن أهم النصوص الدينية نذكر القرآن والإنجيل والتوراة,وأيضا كاب الطاو والفيدا والتلمود,وخلافه. والنصوص الإجتماعية بتفريعاتها المختلفة,التي تعمل على تسجيل حالات قانونية,أو إقتصادية,أو سياسية,أو صحافية. مثل المخالصات المالية أو إيصالات البيع والشراء أو إعلان عن منتج,أو الخطابات السياسية,أو الصحف والمجلات. وغير ذلك. القسم الثالث هو النصوص الأدبية. خاصة تلك التي تعيد سرد أحداث معاصرة ضمن سياق أدبي غير منفصل عن السياقات المحيطة على جميع الأصعدة الإجتماعية والتاريخية والسياسية ... إلخ. حيث مواضيع مطروحة بإسلوب يتأثر صاحبه حتما بما يحيط به. يلاحظ أن المدرسة البنيوية في النقد الأدبي لها إتجاه خاص في دراسة الأثر الأدبي يتخلص في أن الإنفعال والأحكام الوجدانية عاجزة تماما عن تحقيق ما تنجزه دراسة العناصر الأساسية المكونة لهذا الأثر،لذا يجب أن تفحصه في ذاته،من أجل مضمونه،وسياقه،وترابطه العضوي،فهذا أمرٌ ضروري لا بد منه لاكتشاف ما فيه من ملامح فنية مستقلة في وجودها عن كل ما يحيط بها من عوامل خارجية. أي ليست المدرسة التاريخية ولا السياقية هي المدرسة الفلسفية الوحيدة التي تقرّ بأهمية بتأثر العمل الأدبي بفترته التاريخية. وبالطبع لا يتسنى لنا أن نغفل النصوص الشفاهية.

يرتبط بالعملية الكتابية عمليات أخرى,تتمثل في النشاطات الإبداعية,والصناعية,والإنتاجية بإختلاف طرائقها وتباين منتجاتها في تنوع يشتمل على آثار محفوظة منذ وقت إنشاءها ومعلنة عن نفسها تمييزا بينها وبين الزيف منها. هذه هي الأماكن والآثار المادية والبصرية التي يمكن قراءتها عبر ثلاث وسائل معروفة

-إما أنه مرفق بها نصوص يعمل طالب / باحث التاريخ على قراءتها وترجمتها

-وإما أنها مقروءة بصريا بذاتها مثل المنحوتات واللوحات الفنية والأماكن والمزروعات

-وإما الإستفادة من تاريخ زمنها المحدد عبر أجهزتنا القياسية المنتجة عبر آخر ما وصلته علومنا التقنية والفيزيائية والرياضية. مثل الرمامات والبقايا العظمية لمخلوقات كانت حية.

ويستفاد في كل هذا من علوم التوثيق والآثار والحفريات بالإضافة إلى علوم وتخصصات أخرى.

ونضيف إلى ما سبق نوع آخر غريب ومستحدث من الآثار,ولم يعد غريبا بيننا,وإن لم يتم الإستفادة منه بالقدر الكافي بعد (فنحن مثلا وبشكل سطحي لا نشهد على الكثير من المتاحف الرقمية). نعم .. هذا ما قصدته,الجمع الكبير والمتنوع من المواد والوسائط الإلكترونية والرقمية. والتي توفر مادة بحثية غنية للغاية,وتحمل مجموعة من الخصائص الهامة,على رأسها المصداقية. حتى ولو كان حدثا مشهودا داخل فيلم مختلق (مفبرك). فإن هذا يظل خبرا ذو مصداقية لأنه دال على المستوى التقني في الفترة التي أخرجت لنا هذا الفيلم. بالإضافة إلى بعض الخبايا الجنائية أو السياسية أو الفنية التي دعت لإختلاق الإكذوبة داخل الفيلم. بالإضافة إلى خاصية التنوع والتمازج في الوسائط السمعية والبصرية والنصية والتفاعلية والله وحده أعلم ماذا سوف يخرج لنا من وسائط أخرى (اعتقد أن المستوى الأعلى هو الفضاء السايبراني وجسد الأفاتار,ونحن قريبون منه). ويحضرني قصة طريفة عن مارك توين الذي كان يستثمر أمواله في مشاريع فاشلة,ولما عُرض عليه تمويل إختراع الهاتف,رفض وهو لا يتصور كيف يمكن لإنسان أن يتحدث مع إنسان آخر,ويسمع صوته عبر قطعة معدنية موصولة بالسلك!.

نضيف إلى مجموع الآثار التاريخية,الممارسات البشرية المشتملة على اللغة والسلوك وأنماط التفكير المختلفة. والمشتملة أيضا على الأجساد البشرية الحية قبل الميتة -من أشهر الأجساد الميتة نذكر إنسان نياندرثال- لما فيه الفائدة من تحليلات وقياسات ديموغرافية وإنثروبولوجية. وهذا النوع من الأدوات التاريخية يسمى عادة بـ (الكليات الخمسة) في علم الإنسان (الإنثروبولوجيا). ولهذا يفيدنا كثيرا دراسة علم مثل الإثنولوجيا (علم الأعراق) والإثنوغرافيا (علم وصف الأعراق).

تاريخ إسلامي أم تأريخ إسلامي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكرنا أن عملية التنظيم النصية / الكتابية تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين

الثانية هي التوثيق المفارق للحدث,والمعني هنا هو الجهود التأريخية والعمليات الفكرية التي يوظفها المؤرخ لبيان تفاصيل الحدث الذي حدث فعلا (أو لم يحدث) والذي في بعض الحالات يكون لايزال يحدث. إلا أن جهود المؤرخ (أو المؤسسة) الماضوية تستقل تماما عن كونه معاصرا أو شاهدا على الحدث / العصر.

وقد يختلط الحياد العلمي,أو حتى السلوك المعرفي المحرك بواسطة مطالب أيديولجية لا تختلف كثيرا عن التحري العلمي الباحث عن الحقيقية. قد تختلط النزاهة والمصداقية بعوامل أخرى داخلية أو خارجية,تتمثل غالبا في إحدى ثلاث حالات

-الجهل,أي أن تغيب بعض الشواهد أو القرائن أو الوثائق عن المؤرخ,أو أن يجانبه الصواب في جمعه وتحليله وتنظيمه.

مثل السؤال الشهير حول (هل حقا تم فك رموز اللغة الهيروغليفية؟).

-الزيف,أي التزييف المتعمد من قبل المؤرخ لأغراض دعائية أو سياسية أو مادية,إلخ. وهذا الجانب مادة دسمة للمقارنة بين الإعلام والتأريخ.

-الإعتقاد,الإتباع العربي / الإسلامي المشهور لكل ما هو (نص مقدس) أو حتى لكل ما هو ذكر مقدس,وسلوك مقدس (مثل زيارة الأضرحة والتبرك بها).

وهذا مزيج فريد بين الجهل والزيف,فعندما يؤرخ الطالب هنا لحياة رجل صالح يوصف بأنه ولي,قد يغالي في تعداد والتصديق على فضائل هذا الرجل وأعماله الصالحة,أو حتى بعض مواقفه العجيبة.

ونضرب مثلا آخر,وهو أكثر قوة وحدة,بالقول أن القرآن قد يكون محرف,وهذا مجرد طرح لإحتمال يؤدي بنا إلى تساؤل مشروع. ولكن هذا أيضا يقودنا إلى مفارقة عويصة. فمن يشرع لنا هذا طالما أن المصدر الأول والأوحد (من حيث إتفاق جميع المذاهب عليه) لم يعد يملك هذه الشرعية. ولكن قبل إصدار أي حكم لنتوقف قليلا عند هذا السؤال.

-هل القرآن تم تحريفه؟

وأنا غير معني هنا -ولكن تناولت المسألة في مقال آخر- بالإجابة عن هذا السؤال بقدر ما يهمني حاليا -أي في هذه الدراسة- وضع هذه الفرضية في الموضع الصحيح لأي فرضية. أي تظل (قيد الإحتمال). وطالما استهللنا نقدنا بالتشكيك في أهم وأقوى مصدر إسلامي,لا يصعب علينا إن شئنا هدم التراث الإسلامي كله.

وهذه مقولة تستند إلى حجة كلامية سفسطائية من قائلها (أي كاتب هذا المقال),ولكنها لا تخرج عن متطلبات بحثية هامة. وهو السؤال قبلا حول الشخص الذي يؤرخ. فنحن لا ننسى أن محمد هو إنسان,والقرآن هو النص الذي أنتجه. (نحن لم نشهد أي معجزة ولا أي نزول من السماء). وكذلك عثمان جامع الصحف هو أيضا إنسان. وتظل حقيقة أن هناك نصوصا قرآنية تم حرقها محل تساؤل حول حقيقة حفظ القرآن,وهي حقيقة تم تجاهلها عمدا وإتكالا على حجة وجود آية (إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون). رغم أنها قد تكون آية موضوعة,ولا ينفي هذا الإحتمال سوى مجموعة من الأدوات التاريخية مثل التواتر والحفظ الشفهي للقرآن والحديث,التي لا تنفي يقينا (بحسب ما تقتضيه الضرورة العلمية) أي إحتمال مضاد.

هذه الأدوات التاريخية هي ما تعنينا هنا,لحاجتنا إليها في بناء تاريخ إسلامي,أو غير إسلامي إستنادا إلى معارفنا وأدواتنا الإسلامية. ومن ذلك تلك المستخدمة في التحقيق في أمر المؤرخين والناقلين أنفسهم.

-المسلمون أقاموا منظومة في تحقيق الأخبار دقيقة للغاية في النظر في الأسانيد وفي المتون والعلل,لم يأتي أحد بمثلها ولا بما هو قريب منها.

-حتى الغربيين يقولون أن علم مصطلح الحديث والجرح والتعديل وتحقيق الروايات وتحليل المستوى عند المسلمون يعتبر ميزة خاصة بتراثهم لا يلحقهم بها أحد.[32]

ولكن هذا يصلح موضوعا لمقال أو مقالات أخرى.

[HR][/HR]
[31]الزمان في الفكر الديني والفلسفي القديم / حسام الألوسي / المؤسسة العربية للدراسات والنشر,ص 12.
[32]دوكنز وعجز الإلحاد أمام معضلة الأخلاق / حوار بين د.محمد العوضي رئيس مركز رواسخ,ود.سامي عامري ضمن مبادرة البحث العلمي للمذاهب المعاصرة والأديان,عرضت الحلقة على قناة سامي عامري اليوتيوبية في هذا الرابط

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى