رايفين فرجاني - الأيديولوجيا والتاريخ

في مقال آخر عن الأيديولوجيا والإستشراق, كدت أن أكتبه بهذا العنوان, أيضا رأيت أن العنوان المناسب أكثر هو (الأيديولوجيا) فحسب نظرا لبساطته وقصر حجمه وكونه مجرد مقال شارح أو مدخلي,مثل تلك التي أنشرها تحت عناوين فردية؛ التاريخ, المنطق, الميتافيزيقا. لولا أنني خصصت هذا العنوان (الأيديولوجيا) لمقال آخر.

وضحنا سابقا أن أي تأريخ للفلسفة -وربما أي تأريخ عموما- لن يخرج عادة عن

الإطار الأيديولوجي / الثقافي حيث الأفكار مرتبطة بـ أفراد معينون أو فئات مجتمعية معينة. وذلك يشمل سير الفلاسفة الذين ابتدعوا هذه الأفكار. وذلك يشمل أيضا الإتجاه السياسي الذي يؤرخ ويتتبع مراحل تطور الأفكار عبر المؤسسات الثقافية / السياسية الحاضنة لها داخل إطار الدولة / المجتمع.

الإطار الثاني,وهو الإطار المفضل من جهتي تحقيقا لأغراض علمية معينة,حيث الإستفادة من الأدوات التحليلية التاريخية بقدر الإمكان. أي الإتجاه التاريخي الغير منعزل عن الإتجاهات الأخرى عامة,والإتجاه الثقافي خاصة.

وإذا كان الإطار الثاني هو المنهج البحثي الذي يلزم أي باحث إنتهاجه,فإنه ولا ريب قائم دوما على قاعدة معرفية ينطلق منها الباحث (من المعلوم إلى المجهول) على حد قول المناطقة.

وتترجم لفظة أيديولوجيا إلى (علم المعتقدات) أو إلى (المذهبية) أي هو مذهب الباحث نحو إعتقاد معين,يشمل مجموعة من المعتقدات ضمن منظومة فكرية دينية أو إلحادية. وهذا في حد ذاته تصنيف ديني لما في (الدين) من تأثير طاغ على مسيرة الفكر في حياة الفرد أو حياة جميع البشر عبر التاريخ. والمذهب الديني يختلف عن (المذهب) العلمي في الإعتناق اللامبرر أو المتبنى ضمن تلك المنظومة الفكرية التي تتصف تارة بالثبات وتارة بالعبثية. وإلى الفوضوية دوما تلك نتيجة مفضية لأي حالتين.

الإعتقاد,ورغم أنه لدي أهل السنة هو أعلى درجات اليقين,يمثل في الأيديولوجيا عقد فكري قد يقيد المعتنق لهذا الفكر,ويقد ينظم تفكيره في إتجاه معين مثل حاجب البصر للحصان يغطي جانبي النظر على الطريق.

وهذه علاقة قتلت بحثا وفق إشكالية (الإيديولوجيا والإبستمولوجيا) تتخلص حول وضع الأيديولوجيا بوصفها دراسة حول تأثير نوع معين من المعرفة,أما الإبستمولوجيا فهي دراسة جميع أشكال المعرفة.

إلا أننا لا يمكن أن نحصر الإعتقاد فقط في مساحته تلك حيث الإعتقاد نوع من أنواع المعرفة. فالأيديولوجيا منظومة فكرية تتشابك فيها القيم المعرفية والأخلاقية وحتى الوجودية ,ربما وفق برنامج أخلاقي يتميز بمسحة كيرجاردية.

وهذا هو أصعب وضع حيث تكون فيه الأيديولوجيا في أخطر حالاتها,المعرفة -لحالها- قوة. فما بالك لو اقترنت بجهاز أخلاقي معزول وجوديا عن الواقع. لأنه يرفع الأيديولوجيا / الإعتقاد / المذهب؛أيديولوجيته / معتقده / مذهبه,فوق أي فكر أو إعتقاد. هذا ينتج عنه نبذ للرأي الآخر,من باب جهل العلم بالشيء,حيث الغرور يصم الآخرين بالجهل. أو من باب صون المقدس من الدنس. هنا تصبح الأيديولوجيا والمعرفة خطيرتان معا بالفعل,لأنه إجتماع يفرض علينا,بحكم أن (المعرفة قوة) نوع معين من المعرفة,وينظم وفقه معارفنا وفق نظام سياسي / ديني قمعي محكم. حيث يقول لنا ما يجب أن نعرف. وما لا يجب أن نعرف. لأنه يكره الضعف. لا يريد أن يتخلخل النظام بـ أولئك الذين يطرحون الأسئلة الخاطئة.

لذا يرجع التشريع الوحيد للمعرفة,عادة إلى شخص,أو مؤسسة. وأحيانا ما يمتزج الإثنين. نسبة إلى أشخاص

وهي ليست مؤسسة واحدة في المجتمع الواحد,مما ينتج عنه التشظي العنيف لهذا المجتمع. وليس الإنقسام ناتج عن فكرة (الإنتماء إلى مؤسسات / جماعات مختلفة) بل ينتج عن محاولة كل جهة قمع الجهات الأخرى,أو استقطاب البعض,وطمس البعض,وفرض سيطرتها على الكل دون أي مجال للرأي الآخر.

لذا ينبثق عن الإختلافات المزيد من الإختلافات في عجلة دوارة فوق شظايا زجاج تنتج المزيد من التشظي. فنحن نتحدث عن سياسيات مؤسسية أو دولية مختلفة. وثقافات مجتمعية مختلفة. وعقول فردانية مختلفة. ورغم أن الأيديولوجيا هي منتج فكري للإنسان,إلا أن موقعها المتميز بين السرديات الكبرى يجعلها قادرة على إنتاج الإنسان نفسه.

الأيديولوجيا قائمة على الجدل بين كونها علما للأفكار أم علم المذاهب. الأولى تعني بدراسة الأفكار في سياقاتها النفسية والإجتماعية. أما الثانية,فهي تعني بفعل ذلك,مع إضافة أن الأفكار تدرس في تكتلات مذهبية تصبح هي (المسيطرة) على الجماعات,ومن ثم على الأفراد بحكم الضغط المجتمعي. خاصة مع قدراتها العاتية في توظيف (الديانات) و(الثقافات) و(الفلسفات) وحتى (السرديات) أو أي من الأشكال الأيديولوجية / الثقافية الأخرى.

هنا نحن نحرص على التمييز بين الأيديولوجي,والمعرفي,والثقافي,والوجداني,وتنقية الأيديولوجيا من سياقاتها الإجتماعية الوجدانية أو الثقافية,أو سياقاتها المعرفية. والحفاظ فقط على الفكرة في صورة أصلها الميتافيزيقي الأفلاطوني. ومن ثم في (الصلة) بين الأفكار,والأفراد. من حيث (الإستخدام) الوظيفي,وليس المنطقي. أي أننا لا نعني بالطرق السليمة للحصول على المعرفة كما في الإبستمولوجيا. ولا ما وصلنا من معارف كما في علم المعلوماتية مثلا. بل نعني بالفكرة نفسها ككائن ميتافيزيقي متجرد من أي خصال معرفية. وفي نفس الوقت,نريد الأيديولوجيا متجردة من تأثيراتها الوجدانية / الإجتماعية.

لا أعرف كيف يمكن تحقق ذلك. وما يتضح لنا كما هو ظاهر من مختلف قراءاتي أن الأيديولوجيا مرتبطة بعلم النفس وعلم المجتمع والتاريخ. بل وتكونت من خلالهما كانسكاب الماء من بين الصخور بعد المطر. ولكنه ليس ماءا عذبا كما يظهر.

لذا,وبعيدا عن الإبستمولوجيا نلحظ أن الأيديولوجيا مرتبطة أكثر,بـ معرفة التبريرات للمعرفة,أو تبرير لتطبيقات معرفية معينة. هذا يقربها من السياسة / الثقافة كثيرا,وإن كان إعتناق الأيديولوجيا أكثر إقناعا من أي قناعات أخرى.

1-الأيديولوجيا والدين: حيث يمارس الدين وضع التبريرات الأخلاقية الميتافيزيقية

2-الأيديولوجيا والسياسة: حيث تمارس السياسة وضع التبريرات البراجماتية الظرفية

3-الأيديولوجيا والثقافية: حيث تمارس الثقافة وضع التبريرات الثقافية الإجتماعية

وعن الثلاث تنبثق العلاقة بين الأيديولوجيا واليوتوبيا. وهذا مرتبط بالتاريخ,لأنه يتحدث عن واقع في المستقبل,لم يتحقق في الماضي,ونسعى دوما إلى تحقيقه بالحاضر. كما أنه تقريبا يظل شاغل الفكر الرئيسي. فماذا قد يشغل فكر الإنسان,سوى تحسين أوضاع معيشة الإنسان. هذا يأخذ دوما ثلاث إتجاهات رئيسية للأيديولوجيا؛إما دينية أو سياسية أو فلسفية. وهو ما استخرج منه عبد الله العروي تصنيفه لتيارات الفكر العربي المعاصر.

وهناك علاقة رابعة هي الأيديولوجيا والعلم,ودورها الهام في تشكل دافع أو حافز يحافظ على شغب باحث / طالب العلم,ويساعده في إنتاجه المعرفي حيث الأيديولوجيا هنا تمثل إستعداد نفسي عند الباحث قرين الواقع بعيدا عن أي حياد (تام) مقصود ومفقود في آن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى