خالد محمد مندور - ما بين النثر والشعر والدهشة

نعم ايها السادة انها الدهشة التي يبدو أنها قد أصبحت قرينة للانطباع الذى أخرج به كلما قرأت بعض من كتبه التى نشرت بعضا من اجزائها على هذا الموقع، ليست فقط الدهشة بل ايضا الاحساس بان نوافذ جديدة قد فتحت وإنك قد أصبحت أكثر قدرة على فهم تساؤلاتك التي كنت تحسها وتحاول الإجابة عليها وانت غير المتخصص .
ففى أحد مشاريعه النقدية الكبيرة لدراسة الشعر المصرى الحديث يتوقف محمد مندور امام مسرحيات شوقى ليقدم لنا تصوراته حول النثر والشعر فيجيب على تساؤلاتك ويتأكد الانطباع الأول ، الدهشة .
فلندع محمد مندور يتحدث

" شوقي والفن المسرحي

ليس من شك في أنَّ عنصر الدراما؛ أي الحركة، يُعتَبَر العمود الفقري في الفن المسرحي، وكلمة «دراما» اليونانية الأصل، معناها الاشتقاقي هو الحركة، ومنذ القِدَم استعرض أرسطو في كتاب الشعر عند حديثه عن التراجيديا، الوسائل التي يولِّد بها المؤلِّفون المسرحيون هذه الحركة، فتحدَّث عن المفاجآت المسرحية المختلفة، وطرق قيادة الأحداث المسرحية إلى نتائجها النفسية والأخلاقية، ومن المعروف أنَّ المسرح الذي نشأ نشأة دينية عند اليونان القدماء، كان يعتمد أساسيًّا على الصراع بين البشر «والأنانكية»؛ أي الضرورة الكونية، التي كانتْ تختلط عندهم أحيانًا بالقضاء والقدر، بالرغم من أنهم كانوا يُخضِعون الآلهةَ ذاتها لتلك الضرورة، كما كانوا يُجرون ذلك الصراعَ أيضًا بين الآلهة والبشر، ولكنَّه لَمَّا كانتْ آلهتهم تتَّصِف بجميع صفات الإنسان بما فيها من مواضع ضعف وقوة، وكانتْ تستشعر جميع المشاعر البشرية بما فيها من قبح وجمال، فإنَّ هذا الصراع كان يتَّخِذ طابعًا إنسانيًّا بحتًا، فالآلهة ترضى وتغضب، وتحب وتكره، وترتكب الآثام، وتخطف النساء، وتغار من البشر، وتفكِّر كما يفكِّرون، حتى ليمكن القول بأنَّ عنصر الدراما عندهم كان يقوم على أنواع الصراع البشري المختلفة أي الداخلية والخارجية؛ ولذلك عندما نشأ الأدب الكلاسيكي بعد عصر النهضة اعتمد هو الآخَر على عنصر الصراع في توليد الدراما، والظاهر أنَّ شوقي قد تأثَّر بهذا المذهب الكلاسيكي، فاعتمد في الكثير من مسرحياته على الصراع الذي يجري داخل النفس البشرية أو خارجها، على نحو ما نلاحظ في «مصرع كليوباترة» أو «مجنون ليلى» أو «عنترة»، ولكنَّه للأسف لم يستطع أن يتعمَّق ذلك الصراع على نحو يُثير الانفعالات القوية، أو التفكير العميق في نفس القارئ أو المشاهد، وكان ذلك لسببين:
أولهما: أنَّ شوقي قد أجرى الصراع بين العوامل النفسية والعوامل الأخلاقية، وقد لا يكون هذا الاختيار في مبدئه سببًا لضعف تأثير مسرحياته؛ فقد اعتمد كورني من قبْلِه على نفس الصراع بين المشاعر والأخلاق، وعلى الأخص بين الحب والواجب، ومع ذلك بلغ من التأثير والقوة مبلغًا رائعًا في «السيد» و«هوراس» و«سينا» وغيرها من مآسيه، ولكنَّ كورني لم يسلك مسلك شوقي، في تخيُّر المبادئ الأخلاقية التي يُدْخِلها في صراع مع العواطف البشرية؛ فالأخلاق التي يستند إليها كورني ترجع في جوهرها إلى ما يُسمِّيه علماء الأخلاق «أدب الرياضة والاستصلاح»؛ أي أدب رياضة النفس على الخير والحق والجمال، واستصلاحها على أساس قيادة الضمير والاستماع لصوته الإلهي، وأمَّا شوقي فإنَّ مبادئ الأخلاق عنده تستَنِد إلى ما يُسمَّى ﺑ «أدب المواضَعة والاصطلاح»؛ أي ما تواضَع عليه المجتمع من عادات وتقاليد، لا تغوص جذورها في الضمير الفردي، ولا تَلقَى جزاءَها من وخزات ذلك الضمير، بل تستند إلى رأْيِ الجماعة في الفرد وحكمهم عليه، وجزاؤها يصدر عن رأيِ الجماعة أو القبيلة ومدى سيطرته على الفرد، وبذلك لم تصبح مبادئ الأخلاق عنده شيئًا مستقرًّا في أعماق النفس البشرية، حيث تستقر أيضًا المشاعر والعواطف والشهوات، بحيث يمكن أن يجري الصراع العنيف الذي يمزِّق النفس البشرية، ويُثير تفكير ومشاعر القارئ أو المشاهد حتى تلهث أنفاسُه ويرتفِعَ انفعالُه، وهذا واضح في مأساة المجنون مثلًا، حيث لا يجري الصراع في نفس ليلى بين الحب والواجب، بل بين الحب وتقاليد العرب، فهي لا ترفض الزواج من قيس؛ لأنَّ ضميرها يأبَى هذا الزواج؛ بل لأنَّ العرب تستنكر زواج الفتاة بمَن شبَّب بها وفضَح حبَّه لها، وفي «عنترة» نرى ألوانًا من نفس النوع الذي يستند غالبًا إلى تقاليد وأوضاع المجتمع لا إلى الضمير الفردي ومبادئ الأخلاق الشخصية.
والسبب الثاني: هو أنَّ شوقي لم يعمِّق حتى ذلك الصراع الذي أجْراه بين المشاعر الإنسانية والأخلاق الاجتماعية؛ ولذلك لا نَجِد في مسرحياته صِراعًا حقًّا عنيفًا، بل انتصارات سهلة يسيرة لمبادئ تلك الأخلاق على المشاعر الإنسانية، فنحن لا نلمح في مجنون ليلى آثارًا قوية لذلك الصراع، ولا تمزُّقًا داخليًّا عنيفًا يهزُّ مشاعرنا، وعلى العكس من ذلك يمرُّ هذا الصراع مرورًا هيِّنًا، فوالِدُ ليلى يفوِّض لها الأمر ويترك لها الخيار، فتفضِّل في يُسْر وسهولة وردًا الثقفي على قيس دون أن نُحِسَّ بأن هذا التفضيل قد كلَّفها عسيرًا، أو أثار في نفسها شجونًا، وإذا كان شوقي لم يَشَأْ أن يُنْطق ليلى أمامَ أبيها أو أهل قبيلتها، بما يُفْصِح عن هذا الصراع، فقد كانتْ لديه وسائل مسرحية معروفة يستطيع أن يصوِّر لنا هذا الصراع المؤثِّر بواسطة ما يسمُّونه ﺑ «الائتمان»، أو بواسطة «المناجاة»، والائتمان هو أن يَحْمِلَها على الإفضاء بمكنون سرها إلى صديقةٍ أو أمةٍ أو تابعةٍ تَثِق فيها، والمناجاة تكون بواسطة المنولوج الفردي الذي تخلو فيه إلى نفسها، تنفض مكنونها وتُظهِرنا على جراحها الخفية وآلامها أو آمالها الدفينة، ولكنه لم يفعل، بل إننا لنلاحظ أنه يُضْعِف أحيانًا جلال وروعة ذلك الانتصار الأخلاقي السهل، بإشارات عابرة لا ندري لماذا أقْحَمها، مع أنه لم يستغلَّها في سياق المأساة، ولا في تصوير الشخصيات تصويرًا كاملًا، أو في تزكية الأثر الذي تُحدِثه مسرحيته، وذلك على نحو ما نلاحظ في شخصية رئيسية كشخصية نتيتاس في مأساة قمبيز، فهذه الفتاة النبيلة يتضح من مجموع المأساة أنها ضحَّتْ بنفسها فداءً لوَطَنِها، عندما قبِلَتِ الزواج من قمبيز، حتى تمنعه من غزو مصر بعد أن علَّق هذا الغزو على قبول أو رفض فرعون تزويجه من ابنته، ومع ذلك يأبى شوقي إلَّا أن يُشير في مطلع مأساته إلى حبٍّ عاثرٍ كان بين نتيتاس وتاسو حارس فرعون، إذْ تخلَّى الأخير عنها وهجرَ حبَّها لينقله إلى نفريت بنت فرعون الحالي، الذي قَتَلَ والد نتيتاس، وبذلك ألقى في نفس القارئ شكًّا في نبل نتيتاس، وعظمة تضحيتها، وأصبحنا نتساءل هل كانتْ تضحية نتيتاس عن يأسٍ من حبها العاثر، أم فداء لوطنها؟ وفضلًا عن ذلك فإن ظروف نتيتاس، كانت تسمح بأن يصوِّر الشاعر في نفسها أنواعًا عاتية من الصراع؛ وذلك لأن نفسها لم تكن جريحةً بسبب غدر تاسو لحبِّها فحسب، بل كانتْ جريحة أيضًا بسبب قتْل فرعون لأبيها واغتصابه الملك منه، وليس بمعقول أن لا يكون لهذه الجراح أثرٌ عميق في نفسها، ولو أنَّ الشاعر عمَّق هذه الجراح، واستغلَّ المشاعر التي كان من الطبيعي أن تولِّدها في نفس نتيتاس، ثم غلَّب في النهاية داعيَ النُّبْل والوطنية الفدائية في نفسها لازدادتْ شخصيتها قوةً وجاذبيةً ونبلًا وإثارةً لمشاعر القُرَّاء والمشاهدين.
وهكذا يتَّضح لماذا لم ينجح شوقي النجاح الكامل في استغلال عنصر الصراع، الذي استغلَّتْه التراجيديا الكلاسيكية عند الفرنسيين، فوصلتْ إلى قمة الدراما والتأثير المسرحي.
ودراسة عنصر الدراما عند شوقي، يتطلَّب النظر أيضًا في طريقة استخدامه للحِيَل المسرحية الثانوية، مثل «التعرُّف» الذي استخدمه في تعرُّف آمال على أخيها مراد بك، في مأساة «علي بك الكبير»، وتعرُّف «حسون» على «بثينة» في مأساة أميرة الأندلس، وكذلك حيلة «المفاجأة» التي استخدمها في مفاجأة بشر لقيس في مأساة «المجنون»، وأيضًا وسيلتَيِ «الائتمان» «والمناجاة» في الكشف عن دخائل النفوس، وكل هذه حِيَلٌ معروفة مطروقة في الأدب المسرحي منذ أقدم أزمنته، وليس من الممكن المفاضَلة على نحو مطلق بين هذه الحيل؛ ففي بعض المواقف قد تَفضُل المناجاةُ الائتمانَ، وفي مواقف أخرى قد يصحُّ العكس، وموضع المؤاخذة ربما كان في إسرافه في المناجاة، حيث نُطالِع أو نسمع منولوجات غنائية طويلة، في مواقفَ حَرِيَّةٍ بأن تَعْقِد اللسانَ أو لا تُنطِقه إلَّا بالنَّزْر اليَسير، ولكنَّه شوقي الشاعر الغنائي الذي ينطلق على سجيته ليُطْربنا بقصائده الشجية التي تكاد تكون قِطَعًا غنائية قائمةً بذاتها لا أجزاء من مسرحية، على نحو ما نلاحظ في منولوجات كليوباترة وأنطونيو، أو وادي العدم، أو أغنية التوباد، وإن يكن من الملاحظ أنَّ مسرح شوقي قد تطوَّر، فقلَّتْ قصائد المناجاة، أو أَوْجزتْ في المسرحيات التي تلَتْ «مصرع كليوباترة» و«مجنون ليلى»، وازدادتْ أهمية الحوار وطبعيته.
ولو أننا نظرنا بإمعان في مسرح شوقي لوجدنا أنَّه يقوم على عناصر أخرى دخيلة على عنصر الدراما:
(١)ففي بعض الأحيان نَلقَى مشاهدَ قصصيةً ووصفيةً لا نتبيَّن علاقتها بعناصر الدراما، وهي أكثر صلاحية إمَّا للقصص أو للملاحم، ونحن نفهم أن يأتي القصص والوصف عرضًا في بعض الحالات داخل الحوار، إذا كان هذا الوصف أو ذلك القصص، يؤثِّر في عنصر الدراما أو يكشف عن جوانب نفسية من الشخصيات، ويفسِّر سلوكها، ولكننا لا نتبيَّن أحيانًا أيه علاقة بين ذلك الوصف أو القصص، وسَيْر الدراما أو شخصياتها، ونضرب لذلك مثلًا بالمشهد الذي يَصِف فيه الشاعر مرورَ موكب الحسين بن علي في صحراء الحجاز وتهليل العرب وتكبيرهم لذلك الموكب، ولقد يصوِّر هذا المشهد حقيقة تاريخية ثابتة في مطلع حكم الأمويين وهزيمة العلويين وظهور مذهب الشيعة في الحجاز، ولكننا لم نتبيَّن في المسرحية تأثير هذه الظاهرة في سَيْرها أو في أشخاصها، وكذلك مشاهد الجن وندوات غناء الغريض في نفس المسرحية، وذلك مع العلم بأنَّه حتى في مجال القصص الذي يتَّسع لتصوير البيئة يحرص القُصَّاص على أن يربطوا بين تلك البيئة وأحداث قصتهم وشخصياتهم، وفي مسرحية «أميرة الأندلس» نشاهد عدة لوحات استعراضية، تُصيب عنصر الدراما فيها بشيء غير قليل من البُطْء والتفكُّك، والظاهر أنَّ شوقي كان يطمع في أن يصوِّر البيئات التاريخية التي استمدَّ منها مواضيع مسرحياته، وهذا مطمع لا غبار عليه، ولكنَّ الفن المسرحي كان يقضي بأن يأتي هذا التصوير في تضاعيف عنصر الدراما، وأن يُربط به رباطًا وثيقًا، وإنَّه لَمِن الغريب أن نلاحظ أنه عندما يكون لوصفِ تلك البيئة تأثيرٌ مباشر على سَيْر الدراما نجد شوقي يلزم الصمت، أو الاقتضاب المخِلَّ في تصويرها، ولعلَّ هذا أوضح ما يكون في رواية «قمبيز»، حيث يوضِّح كيف أنَّ جنود اليونان المرتزقة، قد كانوا العنصر الغالب المسيطر في جيش فرعون، ثم يفاجئنا بأنَّ «فانيس» رئيس أولئك الجند، قد غدر بفرعون، والتَجَأ إلى «قمبيز»، حيث أَخْبره بالخديعة التي خدَعَه بها فرعون عندما زوَّجه ﺑ «نتيتاس» مُوهِمًا إياه بأنها ابنته، وذلك دون أن يُخبِرنا بسبب هذا الغدر ولا بواعثه.
(٢)والعنصر الثاني الذي يراه النُّقَّاد المحدَثون دخيلًا على الدراما هو العنصر الغنائي، وذلك باعتبار أنَّ شوقي قد وضع مسرحياته؛ لكي تُمثَّل، لا لكي تُغَنَّى فهي مآسٍ وملهاة، لا أوبرا ولا أوبريت، وهم يفسِّرون ذلك بأنَّ شوقي كان شاعرًا غنائيًّا أقحم نفسَه على الفن المسرحي دون أن يستطيع التخلُّص من طابعة الغنائي، وهذا النقد صحيح، ولكنَّه لا يذهب بقيمة هذا الإنتاج الأدبي الجميل، ونحن نُصِرُّ على أنَّ مآسي شوقي الشعرية لو أُتِيح لها الموسيقيون والمغنون الذين يستطيعون تحويلها إلى أوبرا لأصابتْ نجاحًا كبيرًا، ومَن منا لا يطرب ﻟ «أنا أنطونيو وأنطونيو أنا»، أو «جبل التَّوْباد حيَّاك الحيا»، أو «تلفتت ظبية الوادي»؟! أو غيرها من المقطوعات التي لحَّنَها وغنَّاها المطرب محمد عبد الوهاب، فما بالُنا لو لُحِّنتْ كلُّ تلك المآسي من مطلعها إلى نهايتها ومُثِّلتْ بالغناء، وكلُّها مآسٍ تصلح بموضوعاتها ولوحاتها وأشعارها؛ لأن تكون أوبرات رائعة مستوفية لكافة العناصر، وبذلك يستمر المسرح المصري الغنائي في تطوُّره الغنائي، ويكمل ما ابتدأه «سلامة حجازي» و«سيد درويش».
ويسوقنا هذا النظر إلى دراسة مسألة الشعر وصلاحيته للأدب المسرحي.
وبالرغم من أنَّ الأدب المسرحي قد نشأ شعرًا عند اليونان القدماء، واستمرَّ شعرًا عند جميع الكلاسيكيين، ثم عند عدد كبير من الرومانتيكيين، وظلَّ شعرًا عند بعض المحدَثين والمعاصِرين، مثل إدمون روستان، إلَّا أنَّ الجدل لا يزال قائمًا حول صلاحية الشعر للأدب المسرحي، بعد أن طغى عليه النثر، حتى كاد يُغرِقَه، وبخاصة بعد احتلال القصص النثرية مكان الصدارة في جميع الآداب، وتقهقُر الشعر حتى الغنائي منه، ونحن لا نريد استقصاء جميع النظريات التي تدور حول الشعر والنثر والمقارنة بينهما، وإنما نكتفي بعرض سريع لبعض تلك النظريات، التي تكشف عن اتجاهات ذلك الجدل، وهي نظريات قديمة متجدِّدة قِدَم الأدب وتجدُّده.
ففي سلسلة من المحاضرات التي ألقاها بول فاليري في الكوليج دي فرانس بباريس، عرض هذا الشاعر العظيم، نظريةً تُشْبِه النثر بالمشي، والشعر بالرقص، وهذه النظرية، وإن تكن وثيقة الصلة بالمذهب الرمزي الذي يَدِين به هذا الشاعر، الذي يعلِّق على موسيقى الشعر ونغماته الإيحائية الأهمية الأولى، إلَّا أنَّها مع ذلك تصدق إلى حدٍّ بعيد على مُعظم أنواع الشعر وأنواع النثر؛ فالنثر بوجهٍ عام سَيْرٌ نحوَ هدف هو: التعبير عن مكنون الفِكْر أو إحساس القلب؛ وهو لذلك وسيلة لا غاية، وأمَّا الشعر ففنٌّ جميل في ذاته يَقصِد إلى خلق الصُّوَر الجمالية أولًا، ويأتي التعبير فيه في المرتبة الثانية، ونستطيع أن نقرِّب للفهم هذه النظرية بمَثَل بسيط نسُوقه دون تخيُّر خاص؛ لأنه يكفي في إيضاح الفكرة، وليكن قولنا: «جاء وقت الظهيرة» فهذا التعبير النثري البسيط يُفصِح عن المعنى الذي نُرِيده، وهو يُشبِه السَّيْرَ نحو هذا الهدف التعبيري، وأمَّا الشعر فحرصه الأول ينصرف إلى خلق صورة جميلة تداعب الخيال، وهذه الصورة هي الهدف الأول للشعر، بينما يأتي التعبير في المرتبة الثانية؛ ولذلك يعبِّر الأعشى عن هذا المعنى بقوله: «وقد انتعلَتِ المَطِيُّ ظِلالَها.» فهذه الصورة، وإن تكن تُفِيد حلولَ وقتِ الظهيرة، إلَّا أنَّ المعنى يتضاءل أمام الصورة الشعرية في ذاتها، وكأنَّ هذه الصورة الجمالية رقْصٌ لغوي، وإذا صحَّتْ هذه النظرية يكون الشعر فنًّا جميلًا في ذاته، لا يُطالَب بتحليل خلجات النفس الخفية وخواطرها الهروب، بقدر ما يُطالب بخلق الصور الجمالية والإيحاء والتصوير بواسطة النَّغَم والإيقاع، وعلى هذا النحو يكون الشعر أصلحَ للوصْف والتصوير منه للتعبير والإفصاح اللذين يتطلَّبهما الأدب المسرحي، ويكون مجاله الغناء لا المسرح.
على أنَّ هذه النظرية قد عارَضَها الأدباء والمفكِّرون، منذ القِدَم وباستطاعتنا أن نعثُرَ عند العرب أنفسِهم على معارضة قوية لها، في قول صاحب «العِقد الفريد»: «زعمتِ الفلاسفة أنَّ النغم فضلٌ في المنطق لم يقْدِر اللسان على استخراجِه، فاستخرجتْه الطبيعة بالألحان على الترجيع لا على التقطيع، فلمَّا ظهَرَ عشِقَتْه النفس، وحنَّ إليه الرُّوح؛ ولذلك قال أفلاطون: «لا ينبغي أن تمنع النفس من مُعاشَقة بعضِها بعضًا».» ومعنى هذا النص الجميل أنَّ الشعر يَفضُل النثر؛ إذْ يجمع بين التعبير والنغم، وبفضْل هذا النغم يستخرج من النفس ما يعجز المنطق؛ أي التعبير، على استخراجه، ويظهر ذلك عندما نُرجِّع الشعر أي نترنَّم به دون الاكتفاء بتقطيعه إلى تفاعيل، أو قراءته في صمت، وكأنَّ النغم يستنزف عندئذٍ جزءًا من مكنون النفس البشرية، بقي متخلِّفًا بها بعد أن حملتِ الألفاظ إلى الخارج ما تستطيع حمله من ذلك المكنون؛ ولهذا تعشق النفس النغم؛ لأنه يحمل جزءًا منها، وكأنها بذلك تعشق بعضها بعضًا، وهذا المعنى أحسَّه الكثيرون من نُقَّاد الشعر في الشرق والغرب، ولقد كتب سليمان البستاني في مقدمة ترجمته للإلياذة، صفحات دقيقة نافذة عن أوزان الشعر العربي، وصلاحية بعضها لبعض الموضوعات دون الأخرى، وباستطاعتنا أن نضرب هنا مثلًا أو مثلين لإيضاح هذه النظرية الرائعة، ولنأخذ إحداهما من قول الشاعر أحمد زكي أبو شادي في حنينه إلى الماضي:
عودي لنا يا ليالي أمسنا عودي ...........وجدِّدي حظَّ محروم وموعودِ
وموضع الاستشهاد هو أننا نلاحِظ تلك المدَّات المتلاحِقة، التي نُحسُّ منها الحنين إلى الماضي على نحوٍ أقوى مما تحمله دلالة الألفاظ، وكأنَّ النغم هنا وسيلة للتعبير العاطفي تُضاف إلى التعبير العقلي الذي تُفِيده الألفاظ، وبذلك لا يكون الشعر وسيلةً للتعبير فحسب، بل وسيلة مزدوجة تجمع بين العقل والعاطفة، أو تلوِّن العقل بالعاطفة.
وليكن المثل الثاني قول أحمد شوقي في وصْف كأس الخمر:
حفَّ كأسَها الحَبَبْ ............فهْي فضة ذهبْ
فالمعنى في ذاته قريب المنال، وهو أنَّ الحَبَب؛ أي فقاقيع الخمر الصفراء، تتصاعد بيضاء إلى حافة الكأس، ولكنَّ روعة البيت تأتي من تصوير الحركة التي يوحي بها إيقاعُه، الذي نكاد نرى معه تلك الفقاقيع، وهي تتصاعد تباعًا إلى حافة الكأس، وبذلك يصبح الشعر هنا وسيلة يجمع بين المعنى العقلي للألفاظ والإيحاء الحركي للنغمات.
ومن هذين المثالين يتضح أنَّ الشعر لا يعجز عن التعبير الذي يستطيعه النثر، بل على العكس يفوق النثر؛ لأنه يستطيع بواسطة النغم أن يستخرج اللون العاطفي للفكرة، أو يوحي بالحركة التي لا توحي بها دلالة الألفاظ في ذاتها.
وهكذا نخلص إلى أنَّ الشعر أداة صالِحة لكلِّ ضروب الأدب، بما فيها الأدب التمثيلي، ولكنْ «على الترجيع لا على التقطيع» كما قال بحقٍّ ابنُ عبدِ ربِّه نقلًا عن الفلاسفة؛ أي على أنْ يُترنَّم بهذا الشعر لا على أن يُقرَأ في صمتٍ أو أن يُلقَى في حوار، وفي رأْيِنا أنَّ هذا الترنيم يبلغ مداه وتتحقَّق وظائف النغم وقدرته التعبيرية والتصويرية، إذا تغنَّى بهذا الشعر، وبخاصة إذا كان شعرًا غنائيًّا بخصائصه الجمالية المعروفة، على نحو ما جاء شعر شوقي في أدبه المسرحي، وبذلك ننتهي إلى النتيجة التي سبق أن سُقْناها، وهي أنَّ مسرح شوقي، وبخاصة مآسِيه الشعرية ترتفع إلى القِمَّة إذا لُحِّنتْ وعُرضتْ في دُور التمثيل كأوبرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى