أدب أندلسي أ. د. لطفي منصور - استراحةٌ مع موشّحٍ جميلٍ..

كلمة موجزة في الموشّحات :
المُوشَّحُ فَنٌّ شعريٌّ خرجَ عن رَتابَةِ بحورِ الخليل وشكلِ القصيدةِ العربيّة المَأْلوفةِ التي جاءَتنا منذُ العصْر الجاهلي، فدخلتْ أوزانٌ جديدةٌ لم تكنْ معروفة، وهو في الغالب شعرٌ غنائيٌّ، فيه وصفٌ للزهورِ والرّياحينِ أو ما يعرَفُ بالزَّهْرِيّات" .
الموَشّحُ مشتَقٌّ من التوشيح، وهو التزيين والترصيع، لأن قصيدةَ الموشّح فيها تلوُّنٌ في الشكلِ والأسلوب.
وهناك رأيٌ يقول إن كلمةَ "موشّحة" سريانيّة، وهو لحْنٌ موسيقيٌّ متعدِّد النغَمات، كان يسمعُ في الكنائس السريانيّة في بلاد الشّام.
وهناك من يقول إنّ الشعراءَ الأندلسيّين تأثّروا بشعرِ الرُّعاة (التروبادور).
ونحن - كاتب هذه السطور - لا نقبلُ الرَّأْيَيْن الماضيَيْن . لأنّ ما كان يُعْزَفُ في الكنيسَةِ هي تواشيح وألْحانٌ دينيّة، ولو كان للموشّحات علاقةٌ مع الدين لَمَجَّها المسلمون في الشرقِ والغَرْب.
أمّا بالنسبة لألحان الرّعاةِ الفرنسيّين فالمستشرقونَ أنفسهم رفضوا هذا لعدم وجود أيِّ علاقةٍ بين موسيقى الموشّحات التي وجِدَتْ للغناءِ والرقصِ والدّعَةِ والطّرَب، وبين غناء الرّعاة.
الخلاصةُ ، وهي الحقيقةُ ، أنّ الموشّحَ شِعْرٌ عربِيٌّ فِيهِ تجديدٌ للشِّعر وقوالبه التي أوجدها الخليل. وهذا التجديدُ فرضَتْهُ البيئَةُ الأندلسيّةُ الجميلَةُ الخلابَةُ التي دفعتْ شعراءَ "الزهريّات" أن يبتدِعوا ويجدِّدوا ألوانًا في الشكل، وتيسيرَ اللغةِ والأسلوب، وتفصيحَ العاميّةِ، خاصَّةً في "خَرْجات" التواشيح.
يتكوّنُ الموشّحُ مِن أدْوار. كلّ دَوْرٍ يشتملُ على بيتٍ شعريٍّ كامِلِ الشّطْرين يُسَمَّى الْقُفْل لأنّ الشاعِرَ يقفُلُ به موشّحَه ويُنْهيهِ ، تتّبعُ الأقفال الرّوِيّ نَفْسَهُ . ثمّ تتبعُهُ الأغصان، وهي أشطُرٌ تتفقُ مع الأقفال بالوزنِ العروضي، وتختلف عنها بالرّوِيّ - كما سنشاهد في الموشّحِ الآتي.
الموشّح الكامل هو الذي يحتوي على أرْبَعَةِ أدوارٍ على الأقلّ ، هذا ما حدّدَهُ ابْنُ سناءِ الْمُلْك الذي نظمَ كثيرًا في الموشّحات.
الموشّحُ الذي سأعْرضُه مصدرُه كتاب "مختارات ابن الطويل الشعريّة" بتحقيقنا ودراستنا وضبطنا (ص : ٧٠٨).
الموشّح كاملٌ يضُمُّ خمسَةَ أدْوار، وستّةَ أقفال
وهي والأغصان على (بحر المديد فاعِلاتنْ فاعِلُنْ فاعل فَعِلاتْ مع الزحافات)
وهذا الموشّح لابن الزَّقّاق عليّ بن إبراهيم البلنْسي الأندلسي. وهو من شعراء الزهريات، اختارَ له ابْنُ الطويل عدّة مقطوعات (ص: ٥٧٨)
..................
خُذْ حَديثَ الشَّوْقِ عَنْ نَفَسِي
وَعَنِ الدَّمْعِ الذي هَمَعَا
ما تَرَى شَوْقِي قَدِ اتَّقَدَا
وَهَمَى بالدَّمْعِ وَاطِّرَدَا
وَاغْتَدَى قَلْبِي عَلَيْهِ سُدَى
آهِ مِنْ ماءٍ وَمِنْ قَبَسِ
بَيْنَ طَرْفِي وَالْحَشَا جُمِعَا
بِأَبِي رِيمٌ إذا سَفَرَا
أَطْلَعَتْ أزْرارُهُ قَمَرَا
فَاحْذَروهُ كُلَّما نَظَرَا
فَبِأَلْحاظِ الْجُفونِ قِسِي
أنا مِنْهَا بَعْضُ مَنْ صُرِعَا
أَرْتَضِيهِ جارَ أَوْ عَدَلَا
قَدْ خَلَعْتُ الْعُذْرَ وَالْعَذَلَا
إنَّما شَوْقِي إلَيْهِ فَلَا
كَمْ وَكَم أشْكُو إلَى اللَّعْسِ
ظَمَئِي لَوْ أَنَّهُ نَفَعَا
ضَلَّ هذا الظَّبْيُ بِالْحَوَرِ
وَبِطَرْفٍ فاتِرِ النَّظرِ
حُكْمُهُ في أنْفُسِ الْبَشَرِ
مِثْلُ حُكْمِ الصُّبْحِ في الْغَلَسِ
إِنْ تَجَلَّى نُورُهُ انْصَدَعَا
شَبَّهَتْهُ بِالرّشَا الأمَمُ
فَلَعَمْرِي إنّهُمْ ظَلَمُوا
فَتَغَنَّى مَنْ بِهِ السَّقَمُ
أيْنَ ظَبْيُ الْقَفْرِ وَالْكُنُسِ
مِنْ غَزالٍ في الْحَشَا رَتَعَا
————
همعَ الدمع: سالَ
قِسِي: أصْلُها قِسِيٌّ جمعَ قوس التي ترمي السهام.
بِأبي ويمٌ: الباء التَفْدِيَة. أيْ أفدي.
سَفَرَ: كشفَ وجهَهُ.
أطْلَعَتْ أزرارُه قمرا: عندما تُحَلُ أزْرارُ النقابِ عن الوجه يبدو كالقمر حسْبَ تشبيه الشاعر.
وهذا التشبيه مأخوذٌ من قصيدةِ ابن زُرَيْق البغدادي، الذي ترك حليلَته بعد وقت قصير من زواجهما وسافرَ إلى الأندلس طمعًا بالعطاء، إلا أنه مات قبل أن يحصلَ على شيء فرثى نفسَه وذكرَ امرَأتَه بأجمل بيت في القصيدة فقال:
أسْتَوْدِعُ اللّهَ في بغدادَ لي قَمَرًا
بِالْكَرْخِ مِنْ فَلَكِ الأزْرارِ مطلعُهُ
اللّعْس: الشفتان اللتان تعلوهما سُمْرَةٌ.
الكُنُس: جمع كُناس وهو المكان الذي يكنسُ فيه الظبيُِ في القيلولة.
يفضّل الشاعِرُ ظَبْيَ الْبَشَر على ظبيِ الصحاري.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى