محمد السلاموني - الفن والنبوءة والتاريخ

علاقة الفن بالثقافة، لا علاقة لها بالبرايجما الإجتماعية؛ كما تذهب الأيويولوجيات الحديثة التى قلَّصته، حين أرادت له أن يتحول إلى مجرد "أداة" لخدمتها.
وبتعبير آخر، الدور الوظيفى الذى عهدت الحداثة للفن بالقيام به، فى إطار البراديجما "أى النموذج المعرفى" الخاصة بها، جعلته تابعا للأيديولوجيات والمعارف الحديثة، مما أفقده استقلاليته، ومن ثم خصوصيته النوعية .
وكى أكون منصفا، عندما أعادت الحداثة تعريف الفن برمته، كان ذلك فى السياق الذى احتفت فيه بمبدأ "التاريخانية"- التى توصف عادة بتمركزها حوله إلى حد العبادة "عبادة التاريخ".
أعنى بهذا أن "التاريخانية- كأيديولوجيا" هى التى فرضت على الفن الإندراج فى مشروعها، ليضطلع بالقيام بوظيفة محددة فى برنامجها الحداثى؛ وبالإمكان تحديد تلك الوظيفة فى المساهمة فى نشر وتعميم "الإستعارة" الحداثية الخاصة بالواقع التاريخى الجديد الذى اختلقته، على أنقاض الواقع القديم .
غير أن هذا المنحى، فيما يقول لنا التاريخ نفسه، لم يكن يعنى الفن فى شئ ، بقدر ما كان يعنى "الحداثة" ذاتها.
الفن و"العالم الماورائى":
تاريخيا، الإنسان البدائى الذى ابتكر "الفن"، لم يكن يعرف أنه كذلك، وكان يعد نتاجاته طقوسا ورموزا عقائدية، يتواصل من خلالها مع العالم الماورائى؛ أى أنها، بالنسبة إليه، كانت "لغة كونية-إلهية مقدسة" .
من هنا كان الكاهن، الساحر، "العارف الأكبر"، أو قل "الشامان"، هو الذى يقود القبيلة فى أدائها لتلك الطقوس المتمحورة حول "الحياة والموت" .
وغنى عن البيان، أن "الخوف من المجهول والرغبة العارمة فى معرفة الغيب"؛ بما هو "سؤال المصير"، كانا هما الشغل الشاغل للإنسان البدائى.
ستتطور الأدوات الطقسية العقائدية بمرور الزمن، غير أن "الشِّعر: بماهو اللغة الأولى؛ لغة الآلهة والأبطال أنصاف الآلهة، والكهنة أيضا" ظل هو اللغة الأساطيرية المُرَمَّزَة، الممسكة بالأصل النقى؛ الذى تنحدر منه الموجودات- وكما نلاحظ ، فالفنون والآداب لم تتحرر منه سوى مع الحداثة فقط ؛ إذ أفسحت مجالا واسعا للنثر.
فى "الشِّعر" تنفتح "أنا الشاعر" على الكون، هكذا فى مثول مطلق، هو "حضور الكونى؛ إذ تحضِر الأنا فى الكون كما يحضِر الكون فى الأنا"؛ من هنا كانت الرمزية التى هى قوام الشِّعر.
الحداثى والكونى:
لم تنتج الحداثة شِعرا، فقط من استطاعوا الإنفلات من إرغاماتها هم من تحرروا من أداء الدور الوظيفى الذى قررته للشِّعر، وأنتجوا شعرا كونيا، هو ما تبقى للإنسانية إلى الآن، وسيظل...
لذا ليس غريبا أن يذهب الجميع، بذهاب السياق التاريخى الذى رهنوا إبداعهم به، ويتبقى "شكسبير ورامبو ووردزورث ووايتمان وهولدرلين وإليوت...وغيرهم"، فهم الشعراء الكونيون بحق .
ليس للشعر من وظيفة سوى أنه يعيد اللَّحمة بين الإنسان والكون، إذ يدرجه فى الإيقاع الكونى، فيحضر الكون فى اللغة الرمزية المتماهية مع العمق الإنسانى.
فى الشِّعر، وفى الشعر فقط ، يعود الإنسان إلى الكون، ويتكلمه الكون كما يتكلم هو الكون .
تلك "الوحدة الكونية" هى ما يمسك بها الشِّعر، وهى جسر العبور من الأنا إلى الآخر...
الشِّعر والنبوءة:
الشَّاعر الكونى يرى...
فى انفتاح الكونى على الأنا، من خلال الرمز، يقول الكون... يقول ما نجهله، يقول ما يغيب عَنَّا،
ليس باعتباره ما سيجئ به المستقبل، بل باعتباره مكَوِّن من مكَوِّنات الكون؛ إنه الزمن فى كُلِّيته حين يسيل...
نحن الذين نُقَسِّمه إلى "ماض وحاضر ومستقبل"، من هنا كان ما نطلق عليه اصطلاح "النبوءة"- أمَّا الكون فلا علاقة له بهذا التقسيم .
فى الكون دورات لا تنتهى، ولا شئ يموت .
الموت حدث إنسانى فاجع، أما الكون فيدور فى دورات... ومن يموت من البشر والكائنات الحَيَّة سرعان ما يذوب ويتحول إلى مواد طبيعية، يتغذى عليها الأحياء فى الدورة الجديدة
، وبذا فالكون لا يعرف الموت، الموت حياة تواصل حياتها...
// حين تحدث نيتشة عن مبدأ "العَود الأبدى"، عائدا إلى المفهوم البدائى عن "الزمن الدائرى"، واضعا تصوراتنا عن "التاريخ الخطى؛ الصاعد أو المتطور" فى موضع سؤال، بقدر ما كان بذلك يطفئ "الأمل الحداثى" فى "التقدم" نحو "الفردوس الأرضى"، فقد كان يطفئ أيضا "الأمل الدينى" فى الفردوس الإلهى"- ذلك أن الأنبياء هم من أتوا إلينا بفكرة "الزمن الخطى؛ المنقسم إلى ماض وحاضر ومستقبل- كما يذهب مارسيا إلياد" .
عند نيتشه ليس هنالك سوى الدائرة، أما الخط المستقيم الصاعد فهو وهمنا الكبير.
نيتشه وهيدجر يراهنون على الشِّعر
لأن الشِّعر هو الكون حين ينفتح من خلالنا، فى اللغة، على ما سيأتى.
نعم، الشاعر الحقيقى هو العرَّاف الكونى بالمصائر الختامية .
أما المؤرِّخ فيثرثر بما مضى وبما سوف يأتى، تِبعا لما تمليه عليه الأيديولوجيا فى بنائها للحكاية التاريخية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى