د. محمد الشرقاوي - خنقُ السّنابل وسقيُ الطفيليات في مغرب العجائب

واحَسرتاه.. واخَيبتاه.. واحُرقتاه.. ! انقلبت الآية وانتشرت مفارقة مدوّية في مغربٍ لم أعد أعرفه، أو أجدني لا صبورا أو غير مبالٍ، إزاء ما ألمّ به مسخ فكري وهُزال فني وعُهر قِيَمي، في حقبة تنمّ عمّا يرقى إلى ضياع البوصلة ومركّب التجاهل والنكران عند أهل الحلّ والعقد.
أستخدم مجازات "فلاحية" هذه المرّة من قبيل خنق السنابل وسقي الطفيليات لتبسيط المعنى العميق، ليكون أقرب إلى مخيلة المغاربة بحكم أن الإنسان ابن بيئته، أو كما كان الراحل الحسن الثاني يعتبر المغرب "بلدا فلاحيا" في المقام الأول. ولا ينبغي الابتعاد عن ثنائية الغرس في الفلاحة والغرس في العقول والأذواق والخطاب العام. ويعود أصل كلمة "ثقافة" culture إلى اللفظ اللاتيني cultura، وهو "زراعة التربة" في عهد الإغريق، قبل أن اتسع المفهوم إلى "زراعة العقل أو القدرات أو الأخلاق" أوائل القرن السادس عشر.
قبل عقود قليلة، كان غيث الأمطار وافرًا في المغرب، فامتلأت السدود، واخضرّت أراضي البور وأراضي السقي على حدّ سواء. وبالتوازي، كان غيث الأفكار عند جيل الحبابي، والجابري، وجسوس، والمرنيسي والفاسي وكنون، وأيضا غيث الإبداع لدى الشرقاوي، وبن يسف، والغرباوي، والكلاوي، فضلا عن غيث الإلهام لدى البيضاوي وعامر واجواهري، دون نسيان غيث الفرجة الراقية لدى الصديقي وبرشيد، وغيرهم مُثمرًا ومزهرًا. كان أساتذة الجامعة والكتاب والرسامون والشعراء والملحنون وطنيّي الإخلاص، تقدميّي الرؤية، رصينيّي المنحى الفكري والأخلاقي، وراقيّي الذوق الفني.
ساهم هذا الزخم المغربي جدّا في تكوين أكثر من جيل، ومن خلاله ارتقت المخيّلة الجماعية لدى المغاربة، وإن لم يكن للجابري تقدير مغربي بألمعية أطروحته النقدية ومنهجية الفصل والوصل، وإن راعى بيئة المغرب السياسية والثقافية والدينية، فاقترح نسقه الوسطي "تبيئة المفاهيم". كان الغيث متفرّقا وإن فُرضت قرارات المنع على محاضرات المهدي المنجرة في أكثر من مدينة مركزية أو مهمّشة (أستخدم فعلا مبنيا للمجهول "فُرضت" لمحاكاة تلك البدعة الخفية). وتشهد حالات أخرى على نبوغ مغربي اتسع له العالم، وضاق به صدر بعض الفئات في مغرب المركز.
واليوم، لا عجب أن يتزامن جفاف السماء وجفاف مغرب الفكر والفن والجماليات المتحضرة. ويحتار المرء في قياس مستوى التراجع أو بالأحرى زيادة التخلف في الأعوام الأخيرة. فصار الفضاء الثقافي والفني مرتعا خصبًا لغلبة الطفيليات والأعشاب الضالّة، فضلا عن أصحاب النزعات الوصولية والانتهازية سواء داخل الجامعة وعبر الفضائيْن الفني والإعلامي أو خارجهم، دون تعميم على ذوي الهمة الثقافية والفنية الوطنية الحقيقية.
مغرب العجائب اليوم يعاني ازدواجية الشخصية عندما يُوجّه السماد والماء والاهتمام والاعتراف إلى "نجوم" الصورة الباهتة، والرقصة الشاردة، و"الكَمْيَة الواعرة"، وإلى "مؤثري" التضليل والنفخ حسب الطلب، وليس إلى السنابل المثمرة.
مغرب العجائب يُغرق الجمهور في مسلسل طفيليات تنتصر على سنابل القمح" Parasites Triumph over Wheat Spikes بانتظار مسلسل آخر بطفيليات جديدة.
فلا تذهبوا بعيدا..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى