إرادة الفكر
بين يديّ كتاب: " إفراط لم يكتمل".
تميّزٌ مستحق؛ تثري مكتبة سمير منصور لمديرها العام السيد/ سمير منصور ؛ المكتبة العربية بشكل عام والفكرية بشكل خاص، بهذا الإثراء الفكري الذي يتشرب الثقافة ممارسة وتأصيلا حاذقين، في إطار على يحيد عن "سكّة" الوعي المجتمعي.
كتاب "إفراط لم يكتمل" كتاب يبوح بما اختمر به فكر الدكتور محمود عبد المجيد عساف، وما يميز الكتابة في إفراطه المعنون بـ "مقالات"؛ أنها مقالات بنكهة حارة، كالتوابل تماما.
إن أول إحساس يجربه الكاتب في القارئ؛ إحساس فوّار ماقبل التقديم، وفيه نحس بأن الارتكاز الأساسي للفكرة هو الهم الفكري، والمشاغبة العقلية التي لا تدع للكاتب إراحة من تزاحم قناعاته وبالتالي بلورتها في تأطير كتابي فكري يولد من رحم معاناة، تأخذ شكل زخم التوجيه والتلقي، مما جعله يخط بعضه بعنوان يعبر عن الحال والحالة.
ولعل عنوان "مأثورات" هو المتمم لما نقول؛ فاستخلاص قول دانتي: " ...إن أشد الأماكن حرارة في جهنم محجوزة للذين يقفون على الحياد في أوقات الأزمات...."، واستحقاق مساند للفكرة بقول باولو فريري عن المقهورين المكتسبين الفعل المغيّر للحال عبر التغيير، والتنويه للآخر بشمولية التغيير للجميع دون فئة محددة، معلنا في ما سبق؛ خلاصة الإحساس بالصراع الفكري بقول الشاعر صلاح عبد الصبور ...."فتحسس رأسك"، ويبدو أنها فورة إيصال الرسالة للقارئ.
يأخذنا د. عسّاف في رحلة فكرية مدارية، تنبش مسارات حياتية، مابين المجتمع كمجمّع للشكل الحياتي المعلوم، ثم باحث عن تكوين هذا المجتمع؛ بالولوج في عالم المرأة في القسم الثاني من الكتاب، وكأن الكاتب ينحاز للمرأة بالشكل الذي لا لبس فيه، مستعينا بالقول المأثور: " المرأة نصف المجتمع"، وكأن الرجل ليس النصف الآخر، يبدو أنه كرجل أراد اصطفاف القارئ من فئة النساء لصفه.
كان القسم الثالث للكتاب مفتاحا لما بعده، بمعنى أن الحديث عن الجامعات في هذا القسم كان التربة الخصبة التي من خلالها يمكن الانتقال للقسم الرابع وهو الثقافة، وقد وُفق الكاتب في ترتيب القسمين بتتابع، مما شكل رافدا للتوسع في بسط أطروحاته الفكرية إلى الحديث عن التربية والتعليم، وهو مجال عملي حي بالنسبة للدكتور عسّاف لقربه العملي، يمكننا القول أنه يضع أمام عينه تلسكوبا دقيقا للحالة التي وصل لها التعليم، وهذا ما جعله يختتم الكتاب بالقسم الأخير من الكتاب من خلال الآفات المجتمعية التي يراها وتتعايش مع كل منا في ظل انكفاء المبادئ لصالح المصلحة الشخصية وتسجيل نقاط فارقة لكينونة "الأنا" والأنا فقط.
إحدى أهم عملية الإنضاج الفكري في كتاب "إفرط لم يكتمل"؛ الدلالات اللفظية في المعنى، ورسوخ التأصيل المعلوماتي ضمن مسار التضمين اللغوي، ونرى ذلك في جلّ عناوين الموضوعات التي نطالعها في الفهرس؛ ومنها: ( تعاسة القوة النابعة من ضعف الكراهية - خطوة للخلف.. خطوة للأمام، سهم للقلب - البؤس الذي لا يتحسس الفقر - المرأة الاسفنجية، وتزوير الذات - المرأة المتذاكية وحساسية الضلع الأعوج - الوجه الرقمي في التعامل مع المرأة "فض اشتباك" - التسول الأكاديمي.. توفيق بين التزوير والجنة - النسّاخون الجدد.. وشعراء القبيلة - أبسط مما نتصور..أخطر مما نتوقع - تصلب الشرايين في قضايا التحسين - على قيد حق واستخفاف.....) وكثير من الموضوعات التي يشكل العنوان لها موطأ كشف وتكشف للتواصل والإيصال الفكري.
ولأن كاتبنا مشغول بوفرة الهم العام والخاص؛ يقترب من حالة إزهاق الروح وتمزق خلجات النفس، يحاول في ذاته الاقتراب والركون بهدوء في مقال "انشغال..أم شدهة بال" إلا أن الفجوة بين الواقع ومحاولة التأقلم شاسعة في ظل نقر كاتبنا قضية الكهرباء وتأثيرها على الوئام الداخلي لحالة إنسانية ليست كأي حالة على وجه البسيطة!
هناك وخز ناعم يحاول د.عسّاف إيهام نفسه بالهدوء في مقال "سيكلوجيا المسؤولية والسعادة" والمضحك المبكي؛ أن الهدوء المصطنع وراءه حالة من الغضب العارم، والذي يمكن من خلاله التمني بإطلاق الرصاص بالكم الجمعي الذي يريح المعذبين من جرّاء عدم تحمل الحاكمين كما ونوعا المسؤولية كما يجب أن تكون.
يثقب د.عسّاف جدران الجامعات الفلسطينية خاصة والجامعات بشكل عام، ذلك لأن الملمّات من تسرب الخلل هي هي، وتبلغ ذروة التصويب في ذاكرة الكاتب إلى توجيه الفكرة لإنشاء "جامعة الإنقاذ" وهذا وصف يعلمنا بأننا نعيش كارثة في التعامل الجامعي الذي يكون في شكل متجر وزبائن!
قد يتبادر إلى الذهن؛ أين السياسة من هذا الكتاب؛ ويبدو أن الكاتب أمعن في إدامة المتخفي في المعنى بإظهار الكرابيج في ظهرها، بتأصيل المعنى الحقيقي الملموس والممارس وهو "الفساد"!
إن كتاب "إفراط لم يكتمل" محاولة كي الذات، وكي الآخر، وتصويب نيران صديقة مؤلمة، ورغم معرفتنا بالقول المأثور " آخر العلاج الكي"، فإننا نأمل أن يكون الكي فعلا الممهد للعلاج، وأحسب أن د. عسّاف نجح بنجاعة في رش الماء - دون عداوة - للتنبيه بأن هذا الحال غير مستقيم وعواقبه وخيمة في حال لم يكن هناك استيقاظ من الممارسات التي تقتل فينا معنى الإنسان.
طلعت قديح
بين يديّ كتاب: " إفراط لم يكتمل".
تميّزٌ مستحق؛ تثري مكتبة سمير منصور لمديرها العام السيد/ سمير منصور ؛ المكتبة العربية بشكل عام والفكرية بشكل خاص، بهذا الإثراء الفكري الذي يتشرب الثقافة ممارسة وتأصيلا حاذقين، في إطار على يحيد عن "سكّة" الوعي المجتمعي.
كتاب "إفراط لم يكتمل" كتاب يبوح بما اختمر به فكر الدكتور محمود عبد المجيد عساف، وما يميز الكتابة في إفراطه المعنون بـ "مقالات"؛ أنها مقالات بنكهة حارة، كالتوابل تماما.
إن أول إحساس يجربه الكاتب في القارئ؛ إحساس فوّار ماقبل التقديم، وفيه نحس بأن الارتكاز الأساسي للفكرة هو الهم الفكري، والمشاغبة العقلية التي لا تدع للكاتب إراحة من تزاحم قناعاته وبالتالي بلورتها في تأطير كتابي فكري يولد من رحم معاناة، تأخذ شكل زخم التوجيه والتلقي، مما جعله يخط بعضه بعنوان يعبر عن الحال والحالة.
ولعل عنوان "مأثورات" هو المتمم لما نقول؛ فاستخلاص قول دانتي: " ...إن أشد الأماكن حرارة في جهنم محجوزة للذين يقفون على الحياد في أوقات الأزمات...."، واستحقاق مساند للفكرة بقول باولو فريري عن المقهورين المكتسبين الفعل المغيّر للحال عبر التغيير، والتنويه للآخر بشمولية التغيير للجميع دون فئة محددة، معلنا في ما سبق؛ خلاصة الإحساس بالصراع الفكري بقول الشاعر صلاح عبد الصبور ...."فتحسس رأسك"، ويبدو أنها فورة إيصال الرسالة للقارئ.
يأخذنا د. عسّاف في رحلة فكرية مدارية، تنبش مسارات حياتية، مابين المجتمع كمجمّع للشكل الحياتي المعلوم، ثم باحث عن تكوين هذا المجتمع؛ بالولوج في عالم المرأة في القسم الثاني من الكتاب، وكأن الكاتب ينحاز للمرأة بالشكل الذي لا لبس فيه، مستعينا بالقول المأثور: " المرأة نصف المجتمع"، وكأن الرجل ليس النصف الآخر، يبدو أنه كرجل أراد اصطفاف القارئ من فئة النساء لصفه.
كان القسم الثالث للكتاب مفتاحا لما بعده، بمعنى أن الحديث عن الجامعات في هذا القسم كان التربة الخصبة التي من خلالها يمكن الانتقال للقسم الرابع وهو الثقافة، وقد وُفق الكاتب في ترتيب القسمين بتتابع، مما شكل رافدا للتوسع في بسط أطروحاته الفكرية إلى الحديث عن التربية والتعليم، وهو مجال عملي حي بالنسبة للدكتور عسّاف لقربه العملي، يمكننا القول أنه يضع أمام عينه تلسكوبا دقيقا للحالة التي وصل لها التعليم، وهذا ما جعله يختتم الكتاب بالقسم الأخير من الكتاب من خلال الآفات المجتمعية التي يراها وتتعايش مع كل منا في ظل انكفاء المبادئ لصالح المصلحة الشخصية وتسجيل نقاط فارقة لكينونة "الأنا" والأنا فقط.
إحدى أهم عملية الإنضاج الفكري في كتاب "إفرط لم يكتمل"؛ الدلالات اللفظية في المعنى، ورسوخ التأصيل المعلوماتي ضمن مسار التضمين اللغوي، ونرى ذلك في جلّ عناوين الموضوعات التي نطالعها في الفهرس؛ ومنها: ( تعاسة القوة النابعة من ضعف الكراهية - خطوة للخلف.. خطوة للأمام، سهم للقلب - البؤس الذي لا يتحسس الفقر - المرأة الاسفنجية، وتزوير الذات - المرأة المتذاكية وحساسية الضلع الأعوج - الوجه الرقمي في التعامل مع المرأة "فض اشتباك" - التسول الأكاديمي.. توفيق بين التزوير والجنة - النسّاخون الجدد.. وشعراء القبيلة - أبسط مما نتصور..أخطر مما نتوقع - تصلب الشرايين في قضايا التحسين - على قيد حق واستخفاف.....) وكثير من الموضوعات التي يشكل العنوان لها موطأ كشف وتكشف للتواصل والإيصال الفكري.
ولأن كاتبنا مشغول بوفرة الهم العام والخاص؛ يقترب من حالة إزهاق الروح وتمزق خلجات النفس، يحاول في ذاته الاقتراب والركون بهدوء في مقال "انشغال..أم شدهة بال" إلا أن الفجوة بين الواقع ومحاولة التأقلم شاسعة في ظل نقر كاتبنا قضية الكهرباء وتأثيرها على الوئام الداخلي لحالة إنسانية ليست كأي حالة على وجه البسيطة!
هناك وخز ناعم يحاول د.عسّاف إيهام نفسه بالهدوء في مقال "سيكلوجيا المسؤولية والسعادة" والمضحك المبكي؛ أن الهدوء المصطنع وراءه حالة من الغضب العارم، والذي يمكن من خلاله التمني بإطلاق الرصاص بالكم الجمعي الذي يريح المعذبين من جرّاء عدم تحمل الحاكمين كما ونوعا المسؤولية كما يجب أن تكون.
يثقب د.عسّاف جدران الجامعات الفلسطينية خاصة والجامعات بشكل عام، ذلك لأن الملمّات من تسرب الخلل هي هي، وتبلغ ذروة التصويب في ذاكرة الكاتب إلى توجيه الفكرة لإنشاء "جامعة الإنقاذ" وهذا وصف يعلمنا بأننا نعيش كارثة في التعامل الجامعي الذي يكون في شكل متجر وزبائن!
قد يتبادر إلى الذهن؛ أين السياسة من هذا الكتاب؛ ويبدو أن الكاتب أمعن في إدامة المتخفي في المعنى بإظهار الكرابيج في ظهرها، بتأصيل المعنى الحقيقي الملموس والممارس وهو "الفساد"!
إن كتاب "إفراط لم يكتمل" محاولة كي الذات، وكي الآخر، وتصويب نيران صديقة مؤلمة، ورغم معرفتنا بالقول المأثور " آخر العلاج الكي"، فإننا نأمل أن يكون الكي فعلا الممهد للعلاج، وأحسب أن د. عسّاف نجح بنجاعة في رش الماء - دون عداوة - للتنبيه بأن هذا الحال غير مستقيم وعواقبه وخيمة في حال لم يكن هناك استيقاظ من الممارسات التي تقتل فينا معنى الإنسان.
طلعت قديح