يالها من بُلـغة !!..
تلك " البُلـغة " التي جعلتْ غضب " وصيفي " يتصاعد ويصل لحافة الانفـجار ، الحافة التي توقف عندها عن السـير، مواجهاً " مصيلحي " ـ الجار والصديق ـ بعينـين تقذفان الشـرر ، وصوته المتهدِّج بالإهانة والمذلَّة يطرح سؤاله الاستنكاري :
ـ " جرى إيه يا مصيلحي ؟ " .
لم يكن بالطبع ينتـظر منه جواب ، ولم يكن ليسمع له ، ولسانه انطلق كالمقذوف الذي يصعب إيقافه ، ثم وهو يقـذف بـ " البُلغـة " الجديدة من قدميه ، وسحابة من الدمع المقيَّد تغشى عينـيه ، وتشل عقله ، وهو يدمدم بصوت غريب ، لم يكن بالقطع صوت " وصيفي " المعتاد ، لكنه صوت الغضب المستمد من غضب الطبيعة ، صوت فيه شيء من الرعـود والزلازل والبراكـين ، وهو يقسم القسم الذي لا يقبل نقضاً ولا إبراماً :
ـ " عليَّ النعمة يا مصيلحي ما آني لابسها في رجليَّ . . وعليَّ النعمة كمان ما آني رايح فرح قنـديل النهار آده " .
فوجئ " مصيلحي " وتسمَّر مندهشاً بوقع المفاجأة ، و" وصيفي " ينحني علي قدميه :
ـ " هات يا شيخ . . كفاية بقى " .
ويخلِّص بغلظة منهما " بُلغـته " القديمة ، ويصفق نعليها بقوَّة ، حاملاً إيَّاها تحت إبطه ، عائداً أدراجه علي نفس " المشَّاية " صوب الـدار ، غير مبال هذه المرَّة ، وهو يدوس ويدب الأرض بقدمين متحررتين مفلطحتين ، مهرولاً كجمـل غضُوب ، منتوياً التخلص منها ، ومع كل خطوة يهم بها ، كان يتعارك مع داخله بحزن ، وتذكر " سعـدية " :
ـ " المشورة السودا . . مشورتك يا سعدية يا بنت الفرطوس . . صح . . كلام نسوان . . آني استاهل ضرب البُلـغة . . " .
يشتم زوجـته ويشتم نفـسه ويشتم " مصيلحي " ويشتم الجـزيرة كلَّها ، يشتم كل الذين
وضعـوه في هذا المأزق ، وبخاصة " سعـدية " . .
هي السبب ، هي التي نصحته بإلحاح ألاَّ يذهب للعرس منتعلاً نعله القديم ، نصحته أن يستلف " بلـغة " " مصيلحي " الجديدة ، ولن يحدث شيء يا " وصيفي " ، لن تنـهد الدنـيا
يعني ، ساعة زمن ، تؤدِّي فيها الواجـب وتقول مبروك للعريس ، بالمرَّة ، تتعـشى " أكلة
حلوة " ، تتفرج وتفـرَّح نفسك وترجع مبسوط ، وترجعها له باللـيل قبل الصبح ما يطلع " صاغ سليم " ، والناس لبعضها يا " وصيفي " والجار للجـار . .
كان متكئاً علي كوعه فوق الحصيرة التي تهرأت أطرافها وتغير لونها بمجاز الدار ، ورغم أن " سعدية " كانت تغسلها كل أسبوع وتنشرها في عين الشمس ، لم تكن لها حيلة مع العيال ، الذين يأكلون وينامون عليها ، ولا يهتمون حتى ولو أطالها الوسخ ، لا يخافون إلاَّ من أبيهم " وصيفي " عندما يعود من الغيط ، يخشون ثورات غضبه المفاجئة ، عندما يهجم عليهم ويطرق ظهورهم بالعصا " الزنزلخت " التي يحتفظ بها لتأديبهم . مـدَّ " وصيفي " قدميه علي آخرهما و " سعدية " لا تكف ، أعطاها أذن واحـدة وأعطى الأخرى لعقله الذي يقلب المسألة علي كافة وجوهها ، كانت عيناه تتراوحان ما بين " سعدية " المربعة أرضاً بالقرب منه ، فاردةً حجرها بغطـاء " الحلَّة " ، حيث تجوس أناملها بسرعة ودربة وآلية بين حبيبات الأرز ، تنتقي الطوب والحصى ، قبل أن تغمره بكوز ماء وترفعه علي النار ، ولسانها لا يكف ، أيضاً ، بآلية عن سوْق الحجج التي تجعل كلامها معـقولاً ، يدخل رأس " وصيفي " الناشـفة . .
صحيح ، أنه لو ذهب للعرس بهذه " البُلـغة " القديمة ، وبحالتها هذه ، لصار معيرةً ، ولصارتْ هي مسخرةً وعيباًً في حقِّه ، سيمضغ أولاد الحـرام في سيرته ، وما أكثرهم .
وصحيح أيضاً أنه فقـير ، لكنه ، وكما عرفه أهل الجزيرة كلهم ، ينام ببطن خاوية ولا يمـد يـده لأقرب الناس إليه ، وهو الذي يعـلو صوته بـ " العزومة " علي كل عابر سبـيل حتى ولو كانت " مشنته " خالية من رغيف خـبز واحـد . كرامته يحملها علي طرف أنفـه كما يقـولون عنه .
ناس قريته " جزيرة مطاوع " مثل كل ناس الدنيا ، عندما يذهبون للأعراس ، فإنهم يرتدون أجمل ما لديهم من ملابس ، وينتعلون في أقدامهم أفضل ما عندهم من نعال لامعة ، وهو ، ومنذ مطالع شبابه الباكر اعتاد علي انتـعال " البلـغة " في قدميه ، لم يفكِّر يوماً في شراء حذاء جلدي أو حتى كاوتشوك ، لم تدخل قدماه يوماً في حذاء إلاَّ حذاء الجيش " الأميري " الأسود الكبير ، وتذكَّـر عندما أدخلوه مع الجند المستجدين ـ في معسكر الاستقبال ـ مخزناً كبيراً به تل عال من الأحـذية ، ظل يجوس فيه مع زميله " حسـين " حتى وجـد حذاءاً بمقاس يناسبه ، ورغم ذلك ، سببَ له هذا الحذاء ضيقاً شديداً في أيامه الأولى حتى اعتـاد عليه . . وهاهو زميل الجيش يزوج ابنه هذه الليـلة ويدعوه ، فهل يتخلف ؟ . .
الجلباب الكشمير أو حتى الكتَّان ، الصديري البفتة أو الدمُّور ، بزراير الصدف أو القواطين السوداء أو البيضاء ، الطاقية الصوف والشال البني أو العمامة البيضاء . . كان يعتقد واثقاً ، أن كل هذه الأشياء ، عظُم شأنها أو صغُر ، لا يكتمل بهاؤها علي فلاَّح مثله إلاَّ بقدمين مدسوستين في " بلـغة " فاقوسي ، أشهر " بـلغ " في مصر كلّها ، كأنها إحـدى ضروريات الرجـولة التي تنقص بنقصانها .
ورغم غضبه الجامح المندفع ، وصوته العالي " الفُضحي " ، إلاَّ أنه عُرف بين الجميع بأنه جعجاع ، وقلـبه أبـيض كاللـبن الحلـيب ، يطلع ويطلع ويطلع ، وفي الآخر ينـزل علي " الفاضي" . . لهذا ، كثيراً ما كانوا يواجهون غضبه بالابتسام ، ولا يأخذونه مأخـذ الجـد . ورغم ، أيضاً ، أن مشكلة " البُلـغة " لم تحل بعـد ، فإنه عندما رجع من الغيط ،
مال علي " جمعة الحلاَّق " وأزال شعـر ذقنه ، رجع للـدار واستحم وارتدى ملابس داخلـية نظيـفة ، وترك جلبابه مطبـقاً تحت الوسادة .
حتـماً يذهب للعـرس . .
لا يستطيع أن يتخلف عن هذه الليالي المضيئة التي لا تأتي إلاَّ علي فترات متباعـدة ، يغرق فيها لـ " شوشته " حتى تغسل روحه من كل أدرانها ، وتملأ جوانحه بالبهجة والسعادة ، وتجعل ضحكته العالـية تحتل كل مساحة وجهه .
ليال مضيئة قـد يصدح فيها " أبو عطيَّة . . مدَّاح خير البريَّة " بالقصص الدينية التي يعشقها ، ويكاد يحفظ مواقفها وتفاصيلها وأغانيها عن ظهر قلب ، يتربع في الصفوف الأمامية ، يسمع ويستعـيد ويهلل بعـد كل وصلة ، وقـد يصل به الوجـد مداه ، فيقـذف طاقيته لفوق صوب السماء عدَّة مرَّات ، دلالة فرح طاغ ، يخلق صلة علي نحو ما بينه وبين المطرب ، كأن المطرب يطرب له وحده دون بقية خلق الجـزيرة ، وكأنه السمِّيع الوحـيد في الكـون . أو قـد تكون فرقة " أبوشعيشع " الفنـيَّة ، بممثّليها الذين يُضحـكون بـ " فصولهم " الكوميدية حتى طوب الأرض ، وراقصاتها الجميلات اللائى يهزهزن في صحراء بدنه الحـيوية والإثارة والوعـد الحلـو ، ويعود لـ " سعـدية " آخـر اللـيل منتـفش الريـش كديـك عـفي . .
هل عرفتْ " سعدية " أن ليـلة " القنـادلة " فيها طبل وزمر وفرقة " أبوشعيشع " ؟ . .
أ لهذا لا تكف عن الثرثرة بالإلحـاح كي يذهب لـ " مصيلحي " ؟ . .
حتـماً يذهب للعـرس . .
أيام الشقاء لا تنتهي ، يوم يعـبر أفق حياته يجر خلفه يوماً آخر للشقاء ، و " وصيفي " أثقلتْ الأيام حياته ، مطالب " سعـدية " والعيال لا تنتهي ، وهو يُطحن طحناً ما بين الحرث والتزحيف والتخطيط والتلقيط والشتل والعزق والري والدرس والجمع والحصاد . . أعمال لا تنتهي ، وريعها في نهاية الموسم لا يسـد ، حتى ، الأفواه المفتوحة بالـدار ، يلف كالثـور علي مدار الساقية ، وهو ليس ثوراً يلف علي مدار الأيـام ، هو بني آدم من لحم ودم ، بني آدم له طاقة وحِس ، بني آدم له نفس وروح يمكن أن تصـدأ مع الأيام . .
حتـماً يذهب للعـرس . .
يجدد قواه ، يستعيد نشاطه ، يرى وجوهاً مغسولة وضاحكة ، يسمع أفواهاً تترنم بالغناء الجميل ، يهـز وسطه هزتين أمام " زوبة اللهلوبة " أشهر وأجمل راقصات الفرقة ، ويضحي بقرشين من القروش القليـلة التي معه نقوطاً لها . هذه أيام ما قبل الحصاد ، تعدم القروش في الجيوب ، فما بالك بشراء " بُلـغة " جديدة ، الأمر مؤجل حتماً ورغم الأنف . في الأيام العادية ليست هناك مشكلة ، يذهب للغيط ويعود للـدار راكباً قدميه الحافيتين المشققـتين الخشـنتين اللتين بلون طين قطـعة أرضه جانب الترعة . .
وهذه " البلـغة " القابعة أمام ناظريه ، التي جار عليها الزمن ، لا يتذكر بالضبط متى اشتراها من فاقوس ، ما يتذكره أن البائع " غُلب حماره " وهو يختار له واحدة تناسب مقاس قدميه ، كان قاعـداً علي الدكَّة الخشبية بالمحل تحت أرفف " البـلغ " المرصوصة فوق رأسه ، مئات " البـلغ " ولا واحدة تناسب مقاسه ، " وصيفي " يحشر فردة في رجله ويخلع الأخرى ، والبائع الصبور فقـد صبره وهو يتنهد بإشفاق علي نعاله من هاتين القدمين الكبيرتين ، وتطال حرارة " التنهيدة " أرنبة أنف " وصيفي " فيهب غاضباً ، مدافعاً عن نفـسه :
ـ " آني اشتري بفلوسي يا عم . . ولاَّ إيه يعني؟ " .
والرجل يطبـطب علي كتفيه يعـتذر له :
ـ " صبرك بالله يا أخ . . لازماً نلاقي مقاسك إن شاء الله " .
وعندما يضطر " وصيفي " في النهاية لشراء " بلـغة " ، تكون هي أكبر المقاسات بالمحل ، والحقيقة أنها لا تكون المقاس المضبوط علي قدميه مائة في المائة ، لكنها بالقطع تكون المتاح الذي يؤدِّي الغرض . يعود بها للجـزيرة عارفاً أنه لو منح قدميه حق راحتيهما فيـها ، فإنها لن تعـمِّر طـويلاً . .
لهذا ، ولكل هذا ، يكون حرصه الشديد عليها ، كثيراً ما كان يحملها " نعلاً علي نعل " تحت إبطه ، يقفز فوق الحمار ، ويسحب مقود بقرته ذاهباً للغيط ، تتدلَّى قدماه الحافيتان علي جانبي الحمار ، والجلد الذي ماتت خلاياه بالخوض و" الدوس " والشقاء المستمر بلون الطين . فما الحاجة لـ " البُلـغة " إذن ؟ ! ، عندما تراه " سعـدية " تضحك ملء فمها سائلةً إيَّـاه : لماذا أخـذها ولماذا أعـادها طالما لم ينتـعلها ؟ . .
لكنها " البلـغة " بنت " البلـغة " ، مثلها مثل كل الأشياء ، يجري عليها ما يجري علي كل الأشياء ، حتماً مع الشمس والمطر ، علي التراب والحصى والوحل ، علي السكك والمصارف وشواطئ الخلجان . . فإنها رويداً رويداً تفـقد شيئاً من روحها ، شيئاً من كرامتها وهيبـتها ، شيئاً من ذاتها . . ، كأن تتلف اللوزة ، يتغير لون الجلد وتتهرأ خيوطه ، يتفـتق جانب النعل . . وهكذا . يحملها " وصيفي " تحت إبطه صاعداً بها الدروب المؤدية لـ " القوزة " ، أعلى مكان بسرَّة الجـزيرة ، هناك بجوار السوق ، يكون " شحـاته الإسكافي " قـد دقَّ لسان حديدته وفرش فرشته ووضع صفيحة مائه بجواره ، وأخرج مقصاته ومدقَّاته ومسلَّاته وخيوطه وشموعه وإبره . ما أن يرى " وصيفي " كومة " بُلـغ " الجزيرة بجواره حتى ينتابه الضيق ، هو يريد إصلاحها علي عجل وبدقَّة ، ولن يتركها عـنده حتى لا تتوه في هذه الزحمة ، فتجد طريقها لقدمين غريبتين ، كما يحدث أحياناً لبعض " البُـلغ " ، فمصائب قوم عند قوم فوائـد ، وإذا حدث ، لا قدر الله ، هل يفعل كما فعل أحـد الناس من قبل عندما وقف علي باب جامع الجـزيرة يفحص " البُلـغ " في أقـدام المصلـِّين الخارجـين بعد الصلاة ، فصار أضحـوكة للقـوم . .
ـ " سلام عليكم يا عم شحـاته " .
يرفع الإسكافي رأسه ، وتهتز السيجارة اللف المعـلقة بركن فمه ، والتي غالباً ما يكون أحـد الزبائن قـد أخرج علبة دخَّانه " الفرط " الصفيح ، ولفَّ له واحدة وأشعلها ووضعها في فمه ، علَّه يُعطي عناية خاصة واهتماماً زائداً بـ " بُلـغة السيجارة " :
ـ " أهلاً يا وصيفي . . أنت فين يا راجل من زمـان ؟ " .
ـ " دنيـا تلاهي يا عم شحـاته " .
يناولها إيَّاه ، يُلقي عليها نظرة سريعة لكنها فاحصة ، ثم ينحِّيها فوق زميلاتها ، هو مشغول جداً ، منهمك تماماً في التصليح والرتق وإعادة الرونق الزائل وتجديد شباب " البُـلغ " ، فلا يعرف " بُلـغة " هذا من ذاك ، لأنها جميعها تتشابه إلي حد كبير ، وإن كان يوحي لهم بغير ذلك ، يقول لهم إن " البُلـغة " تنادي صاحبها لأنها تعرفه ، كما إنها تشبهه إلي حـد كبير ، مثـلاً فيه " بلـغة " ضاحكة وأخرى مكشرة ، " بُلـغة " غجرية كصاحبها الذي يتعارك مع الذباب الذي يحط علي صفحة وجهه ، وأخري وجهها بشوش متسامح تستمدُّه من طيـبة صاحبها ، " بُلـغة " جميلة الطلعة تتبـختر بدلال في قدمي صاحبها وأخرى نزل عليها سخط الله فتتواري خجلاً عن أعين الناس ، " بُلـغة " خـير تقود قدمي صاحبها للخـير وأخرى شـر ـ والعيـاذ بالله ـ تقـود صاحبها للمهالك . .
الإسكافي يقول ، ولسانه يجري بالكـلام بنفس سرعة أنامله في الإصلاح . .
ما أعجـب كلامك يا إسكافي ! . .
هكذا يقولون لبعضهم البعض ، وهم ملتفُّون حوله ما بين مربع أو مقرفص أو " كـاعٍ " علي كوعه ، هذا الرجل " شحـاته " المعجون بماء العفـاريت ، يجعل من " البُـلغ " التي يركبونها نساءً جميـلات وقبيـحات ومختـلفات الطـباع . .
يسأل واحـدٌ منهم وهو يناوله سيجارة لـف أخـرى :
ـ " يعني البُـلغ زي النسوان يا عم شحـاته ؟ .
يؤكد لهم علي صدق كلامه ، بأن " البُلـغة " كالمرأة والمرأة كـ " البُلـغة " فعـلاً ، ويتساءل بمـكر العـارف بالإجابة مقـدماً :
ـ " من منكم . . ولا مؤاخذة . . يقدر يستغني عن مراته أو بُلغـته ؟ " .
يضحـكون وهم يؤمنون علي صـدق كلامه :
ـ " كلامك صح يا عم شحـاته " .
يتبادلون معه الضحكات والقفـشات ، الإسكافي رجل خفـيف الظـل ، وابن نكتة ، يُلقي علي مسامعهم آخر نكتة عن " البُـلغ " ، ويضحك معهم من أعماقه ، كأنه هو الذي يسمعها لأول مرَّة ، حتى تدمع عيناه من فرط الضـحك ، ومن بين قهقـهاته يتساءل :
ـ " خير اللَّهم اجعله خير . . إحنا اصطبحنا ببُلـغة مين النهار آده ؟ " .
يضحك " وصيفي " حتى يستلقي علي قـفاه . .
" بلـغة وصيفي " التي تم إصلاحها هذه المرَّة ، قطعتْ نفس الطريق لـ " القوزة " ذهاباً وعودةً مرَّات أخرى كثيرة ، وبدأ عمرها في النازل ، واستمر النزول للحـد الذي لم يعـد تفيدها جراحة إنقاذ جديدة ، كعجوز بلغ بها العمر عتيَّاً فلا يجدي معها طب الطبيب ولا دواء الصيدلي . عندئـذ ، انتعلها " وصيفي " عمَّال علي بطَّال ، وقلَّ حرصه عليها ، كأنه يستخلص منها الأنفـاس حتى الرمق الأخـير . .
فجأة ، وبلا مقدمات ، أطلَّ ظـفر إصبـعه الكبير من جانب بوزها ، وظـلَّت تنكمش من تحـت كعـبيه فلم تعـد تحملهما ، وأخيراً نشف جلـدها وتقوَّس وشاخ . .
هاهي منكمشة ومضعضعة بالقرب من الحصيرة تغـفو ولا تشكو ، غير قادرة عي القيام بوظيفـتها الأساسية . و" سعدية " لا تكف عن الثرثرة التي تضايقه ، لن تسكت إلاَّ إذا شال فردة " البُلـغة " وضربها بلغتـين علي جانبيها ، حتى تنقطه بالسكوت ، بعـدها ، يمكنه أن يلقـيها فوق أية كومة سباخ لتتـحلل وتذوب وتفنى . .
وحتـماً يذهب للعـرس . .
عرس " القنادلة " يناديه بصوت الندَّاهة ، و " قنديل " ابن صديقه " حسين " ينتظر مباركته ، وطعام العرس لن يكون له طعم بغيابه ، وحلـقة السامر ستكون باردة إن لم يشعـلها برقصة أمام " زوبة " ، وستنام " سعدية " مكسورة الخاطر بعـد صلاة العشاء مباشرة ، لن تسهر ، ولن تنتظر سبعـها آخر اللـيل كي يجـبر خاطـرها . .
ـ " أعـوذ بالله من الشيـطان الرجيم " .
استعاذ من الشيطان بصوت عال ، وهو يمد يـده لـ " البُلـغة " ، قلبها ظـهراً لبطن ، صعب حالها عليه ، نهـض ، ألقاها تحت قدميه وحشرهما فيها ، ارتدى جلبـابه ، خرج ، أمام الدار كـاد يتعثر في أولاده وأولاد " مصيلحي " الذين يلعبون في التراب ، علي باب جـاره صفَّق ونـادى :
ـ " مصيلحي . . مصيلحي يا أخويا " .
جاءه الصوتُ من جوف القاعة " الجوَّانية " يدعـوه :
ـ " تفضل يا وصيفي . . ادخل . . الـدار دارك " .
تنحنح كثيراً وهو يجتاز المجاز ، يقدم فردة " بُلـغة " ويؤخر أخرى . .
سلَّم وجلس وترس ظهره للحائط فوجدها أمامه ، كأنها كانت تنتظر قدومه ، محطوطة علي أرضية الطـاقة المحفورة في الحائط المواجه ، ورغم العتـمة الكابسة علي فراغ الحجرة كان بريقها لامعاً ، كـ " بنت بنوت " جميلة تجذبه إلي حسنها جـذباً ، خالها تضـحك له ، وتقول له بدلال : تحت أمرك وإذنك يا سيدي ، هي بالقطع فرسه وهو فارسها المنتظر ، حانتْ منه التفاته لـ " بُلـغته " العجـوز فاغتـم ، وتعكَّـر مزاجه للبون الشاسع بين الشـباب والهـرم . .
بالأمـس ، عندما رآها في يد " مصيلحي " عائداً بها من فاقـوس ، قال له :
ـ " مبروك يا مصيلحي . . تدوبها في عرق العافـية " .
هما جاران كالأخوين ، يتزاوران بمناسبة وبدون مناسبة ، يكفي أن يجلسا سوياً في أوقات الفراغ ، يتحدثان ويتسامران عن الزرع والقلع والضرع والماء في ترعة " بهجت " ، ولا مانع من أن يخوضا قليلاً في سيرة فلان أو علاَّن ، يمتصَّان أنفاس دخَّان الجوزة المعسول ، يحتسـيان أكـواب الشـاي . .
وكأنه اتفاق باطني ، غير مُعلن ، تكون زيارة هنا والأخرى هناك ، كأنما يتقاسمان كل شيء ، لكن أمر " البُلـغة " مختلف بالقطع ، والحال ليس مثل بعضه دائماً ، " مصيلحي " كان يربِّي ماعزاً في داره وباعه لـ " حسَّان الجزَّار " ، ومن ثم اشترى " البُلـغة " لنفسه و " الكتانيلاَّ " لزوجته وأحـذية الكاوتشوك لعيـاله . .
" وصيفي " يتأمل " البُلـغة " الجديدة ، يحلم بها في قدميه ، وهي تطير به ـ كبساط الريح ـ طيراً للعـرس . ورغم كل الروابط التي تربطهما سويَّاً ، فإنه وجـد حرجاً بالغاً في مفاتحته بالأمر ، لم يجـد حتى الكلام المناسب ، الذي يصلح كمدخل يطلب به طلبـه ، يخرج من موضوع ويدخل في آخر ، و" مصيلحي " يعمِّر حجراً جديداً لـ " الجوزة " ، ويناوله البوصة ، و" الجوزة " تكركر ، وأنفاس الدخَّان تتصاعـد وترتطم بالحوائط السوداء ، لتزداد سواداً فوق سوادها ، وطال الوقت علي " وصيفي " ، وهم السلف يركب رأسه ويثـقل كاهله ، حـام بالكـلام من بعـيد ـ كطائر خائف ـ حول عرس " القنادلة " ، ودعوة " حسين أبو قنديل " له :
ـ " حسين يا مصيلحي ؟ . . أنت تعرفه . . زميل الجيش معي . . تلات سنين بالتمام والكمال مع بعض . . فرح ابنه البِـكري قنديل الليـلة . . عقبال أولادك " .
ـ واجب يا صاحبي . . تعيـش وتجـامل عقبال عنـدك إن شاء الله " .
ـ " بس البلـغة . . " .
ولم يكمل " وصيفي " ، انحشرتْ الكلـمات في زوره ، وانتبه " مصيلحي " وحـدَّق في " البُلـغة " القديمة ، وفهم بذكـاء ومكـر الفلاَّح القراري :
ـ " أكيـد تلزمك بُلـغة جديدة . . طبعاً فرح وناس من هنا وهنـاك . . صح ؟ " .
هـزَّ " وصيفي " رأسه من أعلى لأسفل عدِّة مرَّات دون أن يفتح فمه بكلمة ، لكن عينيه تفضـحانه ، وهما تتراوحان ما بين وجه صديقه والوجه الضاحك لـ" البُلـغة " الجـديدة في الطـاقة :
ـ " تحت أمرك يا أخويا . . أنت عارف إنها لسَّه بشوكها . . مش لمست الأرض " .
ـ " فاهم . . البُلـغة في عيني وعلي راسي يا مصيلحي . . كلها ساعة زمن أو ساعتين . . مسافة السكَّة يعني " .
مـدَّ " مصيلحي " يده لـ " البُلـغة " ورفعها بحرص مبـالغ فيه ، وناولها إيّاه :
ـ " خلِّي بـالك منـها " .
نهضا سوياً ، دسَّ " مصيلحي " قدميه في " بُلـغة " " وصيفي " القديمة ـ التي أفاقـتْ من غفوتها للحظة ـ بامتعاض مفتـعل ، أغـاظ " وصيفي " وهو يحـشر قدميه الكبيرتين في " البُلـغة " الجـديدة ، سـائلاً إيَّاه :
ـ " إيـه رأيـك ؟ " .
ـ " تمـام . . بس رجليك . . " .
وفهم " وصيفي " وافتعل ضحكة صفـراء وهو يتظرف :
ـ " أعمل إيه . . نفسي أجيـب مقص وأقص الزيادات اللِّي فيـهم " .
علي " المشَّاية " الموصلة لبداية طريق " القنادلة " مشيا سوياً ، و" مصيلحي " وقـد تأخـر قليـلاً ، عيناه علي " بُلـغته " في قدمي صاحبه ، وصـرخ فجأة :
ـ " حاسـب . . حاسـب يا وصيفي . . يا راجل كنت حـتندب بيها في الوحـل " .
" المشَّاية " الضيقة التي تخترق الزرع كلها مطبَّات وقلاقل ومخلفات زراعية وروث مواشي وماء طافح من حافة القـناة المجاورة لها ، ومع كل صرخة " حاسـب " أخرى ، يقـفز " وصيفي " قفـزاً مبتـعداً عن مصدر الخطر ، وبدلاً من النظر أمامه للطريق انكسرتْ عيناه صوب " البُلـغة " في قدميه ، وكأنه ماشي علي قشر بيض ، راح يتقافـز حول البيض حتى لا يكسره ، ناس الجزيرة يمرُّون بهما ويلقون عليهما السلام ، والدم يهرب من وجه " وصيفي " ، ويخمِّن أن هؤلاء الناس الذين هم أهله وناسه ، لابـد أنهم عرفـوا الأمـر بـ " المفهومية " ، وبدأ الحرج يركـبه ويكـدِّر صفوه :
ـ " حاسـب . . حـوِّد شـمال يا وصيفي " .
لابـد أنهم يسـخرون منه ويضربون كفَّا بكف ، صرت مهـزأة يا " وصيفي " :
ـ " حاسـب . . خلِّيـك يمين شوية " .
" مصيلحي " لا يكف ، ولا علي باله أحـد من الناس سوى " البُلـغة " الجديدة وخوفه المرضي عليها . وفكَّر " وصيفي " بأنه ، حتى ولو خلعها وشالها علي رأسه ، فإن " مصيلحي " حتماً سيصرخ فيه ويقـول له : حاسب عليها من غراب البين ليخطـفها . .
اقتربا من نهاية " المشَّاية " ولم يتركه " مصيلحي " يمضي لحال سبـيله ، حتى خال أنه لن يتركه إلاَّ عنـد باب العرس ، وربما وقف ينتـظره هناك حتى ينتهي الفرح وينفض المعازيم . ومع بداية الطريق المؤدِّي لـ " القنادلة " ، لم يكن " مصيلحي " قد كـف ، لا من الصراخ بكلمة " حاسـب " ولا من " النظـر " لقدمي " وصيفي " ، ومع كل خطوة حريصة وخائفـة ومترددة من الوقوع في الخطأ لـ " وصيفي " ، كان الغضب يتصاعـد ويسد عليه الطريق المؤدِّي للعرس ، ويصل به للـذروة ، للحـد الذي أحسَّ فيه بالـذل والمهانة ، احتدم غضبه المتـنامي ووصل لحافة الانفـجار ، فوقف في مواجـهة " مصيلحي " وقـذف " البُلغـة " الجـديدة من قدميه ، وخلَّص " بُلغـته " القديمة من قـدمي " مصيلحي " وأقسـم ألا يذهب لعرس " القنـادلة " ، وحمل " بُلغـته " القديمة تحـت إبطه عائـداً للدار ، منتوياً فعـلاً ، بعد أن يتواري عن عيني " مصيلحي " ، أن يتخلَّـص منها فوق أقرب كومة سباخ ، لكنه تذكَّر " سعدية " فجأة ، ومشورتها الهبـاب التي أحوجته لهذا الجـار الناقص أدب " مصيلحي " ، فأجَّـل التخلص منها لحـين عودته للـدار ، وهناك ، لن يمنعه مانع من أن يحملها في كـفِّه ، ويرفعـها لفوق ، ويضرب بها " سعـدية " " بلغـتين " علي جانبـيها ، حتى تـبرد ناره ويهـدأ بـاله ويرتاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البلغة : حذاء خفيف يفضله الفلاَّحون المصريون ، دخلت صناعته مصر مع المغاربة إبَّان العصر الفاطمي ، واشتهرت منطقة فاقوس بصناعته
تلك " البُلـغة " التي جعلتْ غضب " وصيفي " يتصاعد ويصل لحافة الانفـجار ، الحافة التي توقف عندها عن السـير، مواجهاً " مصيلحي " ـ الجار والصديق ـ بعينـين تقذفان الشـرر ، وصوته المتهدِّج بالإهانة والمذلَّة يطرح سؤاله الاستنكاري :
ـ " جرى إيه يا مصيلحي ؟ " .
لم يكن بالطبع ينتـظر منه جواب ، ولم يكن ليسمع له ، ولسانه انطلق كالمقذوف الذي يصعب إيقافه ، ثم وهو يقـذف بـ " البُلغـة " الجديدة من قدميه ، وسحابة من الدمع المقيَّد تغشى عينـيه ، وتشل عقله ، وهو يدمدم بصوت غريب ، لم يكن بالقطع صوت " وصيفي " المعتاد ، لكنه صوت الغضب المستمد من غضب الطبيعة ، صوت فيه شيء من الرعـود والزلازل والبراكـين ، وهو يقسم القسم الذي لا يقبل نقضاً ولا إبراماً :
ـ " عليَّ النعمة يا مصيلحي ما آني لابسها في رجليَّ . . وعليَّ النعمة كمان ما آني رايح فرح قنـديل النهار آده " .
فوجئ " مصيلحي " وتسمَّر مندهشاً بوقع المفاجأة ، و" وصيفي " ينحني علي قدميه :
ـ " هات يا شيخ . . كفاية بقى " .
ويخلِّص بغلظة منهما " بُلغـته " القديمة ، ويصفق نعليها بقوَّة ، حاملاً إيَّاها تحت إبطه ، عائداً أدراجه علي نفس " المشَّاية " صوب الـدار ، غير مبال هذه المرَّة ، وهو يدوس ويدب الأرض بقدمين متحررتين مفلطحتين ، مهرولاً كجمـل غضُوب ، منتوياً التخلص منها ، ومع كل خطوة يهم بها ، كان يتعارك مع داخله بحزن ، وتذكر " سعـدية " :
ـ " المشورة السودا . . مشورتك يا سعدية يا بنت الفرطوس . . صح . . كلام نسوان . . آني استاهل ضرب البُلـغة . . " .
يشتم زوجـته ويشتم نفـسه ويشتم " مصيلحي " ويشتم الجـزيرة كلَّها ، يشتم كل الذين
وضعـوه في هذا المأزق ، وبخاصة " سعـدية " . .
هي السبب ، هي التي نصحته بإلحاح ألاَّ يذهب للعرس منتعلاً نعله القديم ، نصحته أن يستلف " بلـغة " " مصيلحي " الجديدة ، ولن يحدث شيء يا " وصيفي " ، لن تنـهد الدنـيا
يعني ، ساعة زمن ، تؤدِّي فيها الواجـب وتقول مبروك للعريس ، بالمرَّة ، تتعـشى " أكلة
حلوة " ، تتفرج وتفـرَّح نفسك وترجع مبسوط ، وترجعها له باللـيل قبل الصبح ما يطلع " صاغ سليم " ، والناس لبعضها يا " وصيفي " والجار للجـار . .
كان متكئاً علي كوعه فوق الحصيرة التي تهرأت أطرافها وتغير لونها بمجاز الدار ، ورغم أن " سعدية " كانت تغسلها كل أسبوع وتنشرها في عين الشمس ، لم تكن لها حيلة مع العيال ، الذين يأكلون وينامون عليها ، ولا يهتمون حتى ولو أطالها الوسخ ، لا يخافون إلاَّ من أبيهم " وصيفي " عندما يعود من الغيط ، يخشون ثورات غضبه المفاجئة ، عندما يهجم عليهم ويطرق ظهورهم بالعصا " الزنزلخت " التي يحتفظ بها لتأديبهم . مـدَّ " وصيفي " قدميه علي آخرهما و " سعدية " لا تكف ، أعطاها أذن واحـدة وأعطى الأخرى لعقله الذي يقلب المسألة علي كافة وجوهها ، كانت عيناه تتراوحان ما بين " سعدية " المربعة أرضاً بالقرب منه ، فاردةً حجرها بغطـاء " الحلَّة " ، حيث تجوس أناملها بسرعة ودربة وآلية بين حبيبات الأرز ، تنتقي الطوب والحصى ، قبل أن تغمره بكوز ماء وترفعه علي النار ، ولسانها لا يكف ، أيضاً ، بآلية عن سوْق الحجج التي تجعل كلامها معـقولاً ، يدخل رأس " وصيفي " الناشـفة . .
صحيح ، أنه لو ذهب للعرس بهذه " البُلـغة " القديمة ، وبحالتها هذه ، لصار معيرةً ، ولصارتْ هي مسخرةً وعيباًً في حقِّه ، سيمضغ أولاد الحـرام في سيرته ، وما أكثرهم .
وصحيح أيضاً أنه فقـير ، لكنه ، وكما عرفه أهل الجزيرة كلهم ، ينام ببطن خاوية ولا يمـد يـده لأقرب الناس إليه ، وهو الذي يعـلو صوته بـ " العزومة " علي كل عابر سبـيل حتى ولو كانت " مشنته " خالية من رغيف خـبز واحـد . كرامته يحملها علي طرف أنفـه كما يقـولون عنه .
ناس قريته " جزيرة مطاوع " مثل كل ناس الدنيا ، عندما يذهبون للأعراس ، فإنهم يرتدون أجمل ما لديهم من ملابس ، وينتعلون في أقدامهم أفضل ما عندهم من نعال لامعة ، وهو ، ومنذ مطالع شبابه الباكر اعتاد علي انتـعال " البلـغة " في قدميه ، لم يفكِّر يوماً في شراء حذاء جلدي أو حتى كاوتشوك ، لم تدخل قدماه يوماً في حذاء إلاَّ حذاء الجيش " الأميري " الأسود الكبير ، وتذكَّـر عندما أدخلوه مع الجند المستجدين ـ في معسكر الاستقبال ـ مخزناً كبيراً به تل عال من الأحـذية ، ظل يجوس فيه مع زميله " حسـين " حتى وجـد حذاءاً بمقاس يناسبه ، ورغم ذلك ، سببَ له هذا الحذاء ضيقاً شديداً في أيامه الأولى حتى اعتـاد عليه . . وهاهو زميل الجيش يزوج ابنه هذه الليـلة ويدعوه ، فهل يتخلف ؟ . .
الجلباب الكشمير أو حتى الكتَّان ، الصديري البفتة أو الدمُّور ، بزراير الصدف أو القواطين السوداء أو البيضاء ، الطاقية الصوف والشال البني أو العمامة البيضاء . . كان يعتقد واثقاً ، أن كل هذه الأشياء ، عظُم شأنها أو صغُر ، لا يكتمل بهاؤها علي فلاَّح مثله إلاَّ بقدمين مدسوستين في " بلـغة " فاقوسي ، أشهر " بـلغ " في مصر كلّها ، كأنها إحـدى ضروريات الرجـولة التي تنقص بنقصانها .
ورغم غضبه الجامح المندفع ، وصوته العالي " الفُضحي " ، إلاَّ أنه عُرف بين الجميع بأنه جعجاع ، وقلـبه أبـيض كاللـبن الحلـيب ، يطلع ويطلع ويطلع ، وفي الآخر ينـزل علي " الفاضي" . . لهذا ، كثيراً ما كانوا يواجهون غضبه بالابتسام ، ولا يأخذونه مأخـذ الجـد . ورغم ، أيضاً ، أن مشكلة " البُلـغة " لم تحل بعـد ، فإنه عندما رجع من الغيط ،
مال علي " جمعة الحلاَّق " وأزال شعـر ذقنه ، رجع للـدار واستحم وارتدى ملابس داخلـية نظيـفة ، وترك جلبابه مطبـقاً تحت الوسادة .
حتـماً يذهب للعـرس . .
لا يستطيع أن يتخلف عن هذه الليالي المضيئة التي لا تأتي إلاَّ علي فترات متباعـدة ، يغرق فيها لـ " شوشته " حتى تغسل روحه من كل أدرانها ، وتملأ جوانحه بالبهجة والسعادة ، وتجعل ضحكته العالـية تحتل كل مساحة وجهه .
ليال مضيئة قـد يصدح فيها " أبو عطيَّة . . مدَّاح خير البريَّة " بالقصص الدينية التي يعشقها ، ويكاد يحفظ مواقفها وتفاصيلها وأغانيها عن ظهر قلب ، يتربع في الصفوف الأمامية ، يسمع ويستعـيد ويهلل بعـد كل وصلة ، وقـد يصل به الوجـد مداه ، فيقـذف طاقيته لفوق صوب السماء عدَّة مرَّات ، دلالة فرح طاغ ، يخلق صلة علي نحو ما بينه وبين المطرب ، كأن المطرب يطرب له وحده دون بقية خلق الجـزيرة ، وكأنه السمِّيع الوحـيد في الكـون . أو قـد تكون فرقة " أبوشعيشع " الفنـيَّة ، بممثّليها الذين يُضحـكون بـ " فصولهم " الكوميدية حتى طوب الأرض ، وراقصاتها الجميلات اللائى يهزهزن في صحراء بدنه الحـيوية والإثارة والوعـد الحلـو ، ويعود لـ " سعـدية " آخـر اللـيل منتـفش الريـش كديـك عـفي . .
هل عرفتْ " سعدية " أن ليـلة " القنـادلة " فيها طبل وزمر وفرقة " أبوشعيشع " ؟ . .
أ لهذا لا تكف عن الثرثرة بالإلحـاح كي يذهب لـ " مصيلحي " ؟ . .
حتـماً يذهب للعـرس . .
أيام الشقاء لا تنتهي ، يوم يعـبر أفق حياته يجر خلفه يوماً آخر للشقاء ، و " وصيفي " أثقلتْ الأيام حياته ، مطالب " سعـدية " والعيال لا تنتهي ، وهو يُطحن طحناً ما بين الحرث والتزحيف والتخطيط والتلقيط والشتل والعزق والري والدرس والجمع والحصاد . . أعمال لا تنتهي ، وريعها في نهاية الموسم لا يسـد ، حتى ، الأفواه المفتوحة بالـدار ، يلف كالثـور علي مدار الساقية ، وهو ليس ثوراً يلف علي مدار الأيـام ، هو بني آدم من لحم ودم ، بني آدم له طاقة وحِس ، بني آدم له نفس وروح يمكن أن تصـدأ مع الأيام . .
حتـماً يذهب للعـرس . .
يجدد قواه ، يستعيد نشاطه ، يرى وجوهاً مغسولة وضاحكة ، يسمع أفواهاً تترنم بالغناء الجميل ، يهـز وسطه هزتين أمام " زوبة اللهلوبة " أشهر وأجمل راقصات الفرقة ، ويضحي بقرشين من القروش القليـلة التي معه نقوطاً لها . هذه أيام ما قبل الحصاد ، تعدم القروش في الجيوب ، فما بالك بشراء " بُلـغة " جديدة ، الأمر مؤجل حتماً ورغم الأنف . في الأيام العادية ليست هناك مشكلة ، يذهب للغيط ويعود للـدار راكباً قدميه الحافيتين المشققـتين الخشـنتين اللتين بلون طين قطـعة أرضه جانب الترعة . .
وهذه " البلـغة " القابعة أمام ناظريه ، التي جار عليها الزمن ، لا يتذكر بالضبط متى اشتراها من فاقوس ، ما يتذكره أن البائع " غُلب حماره " وهو يختار له واحدة تناسب مقاس قدميه ، كان قاعـداً علي الدكَّة الخشبية بالمحل تحت أرفف " البـلغ " المرصوصة فوق رأسه ، مئات " البـلغ " ولا واحدة تناسب مقاسه ، " وصيفي " يحشر فردة في رجله ويخلع الأخرى ، والبائع الصبور فقـد صبره وهو يتنهد بإشفاق علي نعاله من هاتين القدمين الكبيرتين ، وتطال حرارة " التنهيدة " أرنبة أنف " وصيفي " فيهب غاضباً ، مدافعاً عن نفـسه :
ـ " آني اشتري بفلوسي يا عم . . ولاَّ إيه يعني؟ " .
والرجل يطبـطب علي كتفيه يعـتذر له :
ـ " صبرك بالله يا أخ . . لازماً نلاقي مقاسك إن شاء الله " .
وعندما يضطر " وصيفي " في النهاية لشراء " بلـغة " ، تكون هي أكبر المقاسات بالمحل ، والحقيقة أنها لا تكون المقاس المضبوط علي قدميه مائة في المائة ، لكنها بالقطع تكون المتاح الذي يؤدِّي الغرض . يعود بها للجـزيرة عارفاً أنه لو منح قدميه حق راحتيهما فيـها ، فإنها لن تعـمِّر طـويلاً . .
لهذا ، ولكل هذا ، يكون حرصه الشديد عليها ، كثيراً ما كان يحملها " نعلاً علي نعل " تحت إبطه ، يقفز فوق الحمار ، ويسحب مقود بقرته ذاهباً للغيط ، تتدلَّى قدماه الحافيتان علي جانبي الحمار ، والجلد الذي ماتت خلاياه بالخوض و" الدوس " والشقاء المستمر بلون الطين . فما الحاجة لـ " البُلـغة " إذن ؟ ! ، عندما تراه " سعـدية " تضحك ملء فمها سائلةً إيَّـاه : لماذا أخـذها ولماذا أعـادها طالما لم ينتـعلها ؟ . .
لكنها " البلـغة " بنت " البلـغة " ، مثلها مثل كل الأشياء ، يجري عليها ما يجري علي كل الأشياء ، حتماً مع الشمس والمطر ، علي التراب والحصى والوحل ، علي السكك والمصارف وشواطئ الخلجان . . فإنها رويداً رويداً تفـقد شيئاً من روحها ، شيئاً من كرامتها وهيبـتها ، شيئاً من ذاتها . . ، كأن تتلف اللوزة ، يتغير لون الجلد وتتهرأ خيوطه ، يتفـتق جانب النعل . . وهكذا . يحملها " وصيفي " تحت إبطه صاعداً بها الدروب المؤدية لـ " القوزة " ، أعلى مكان بسرَّة الجـزيرة ، هناك بجوار السوق ، يكون " شحـاته الإسكافي " قـد دقَّ لسان حديدته وفرش فرشته ووضع صفيحة مائه بجواره ، وأخرج مقصاته ومدقَّاته ومسلَّاته وخيوطه وشموعه وإبره . ما أن يرى " وصيفي " كومة " بُلـغ " الجزيرة بجواره حتى ينتابه الضيق ، هو يريد إصلاحها علي عجل وبدقَّة ، ولن يتركها عـنده حتى لا تتوه في هذه الزحمة ، فتجد طريقها لقدمين غريبتين ، كما يحدث أحياناً لبعض " البُـلغ " ، فمصائب قوم عند قوم فوائـد ، وإذا حدث ، لا قدر الله ، هل يفعل كما فعل أحـد الناس من قبل عندما وقف علي باب جامع الجـزيرة يفحص " البُلـغ " في أقـدام المصلـِّين الخارجـين بعد الصلاة ، فصار أضحـوكة للقـوم . .
ـ " سلام عليكم يا عم شحـاته " .
يرفع الإسكافي رأسه ، وتهتز السيجارة اللف المعـلقة بركن فمه ، والتي غالباً ما يكون أحـد الزبائن قـد أخرج علبة دخَّانه " الفرط " الصفيح ، ولفَّ له واحدة وأشعلها ووضعها في فمه ، علَّه يُعطي عناية خاصة واهتماماً زائداً بـ " بُلـغة السيجارة " :
ـ " أهلاً يا وصيفي . . أنت فين يا راجل من زمـان ؟ " .
ـ " دنيـا تلاهي يا عم شحـاته " .
يناولها إيَّاه ، يُلقي عليها نظرة سريعة لكنها فاحصة ، ثم ينحِّيها فوق زميلاتها ، هو مشغول جداً ، منهمك تماماً في التصليح والرتق وإعادة الرونق الزائل وتجديد شباب " البُـلغ " ، فلا يعرف " بُلـغة " هذا من ذاك ، لأنها جميعها تتشابه إلي حد كبير ، وإن كان يوحي لهم بغير ذلك ، يقول لهم إن " البُلـغة " تنادي صاحبها لأنها تعرفه ، كما إنها تشبهه إلي حـد كبير ، مثـلاً فيه " بلـغة " ضاحكة وأخرى مكشرة ، " بُلـغة " غجرية كصاحبها الذي يتعارك مع الذباب الذي يحط علي صفحة وجهه ، وأخري وجهها بشوش متسامح تستمدُّه من طيـبة صاحبها ، " بُلـغة " جميلة الطلعة تتبـختر بدلال في قدمي صاحبها وأخرى نزل عليها سخط الله فتتواري خجلاً عن أعين الناس ، " بُلـغة " خـير تقود قدمي صاحبها للخـير وأخرى شـر ـ والعيـاذ بالله ـ تقـود صاحبها للمهالك . .
الإسكافي يقول ، ولسانه يجري بالكـلام بنفس سرعة أنامله في الإصلاح . .
ما أعجـب كلامك يا إسكافي ! . .
هكذا يقولون لبعضهم البعض ، وهم ملتفُّون حوله ما بين مربع أو مقرفص أو " كـاعٍ " علي كوعه ، هذا الرجل " شحـاته " المعجون بماء العفـاريت ، يجعل من " البُـلغ " التي يركبونها نساءً جميـلات وقبيـحات ومختـلفات الطـباع . .
يسأل واحـدٌ منهم وهو يناوله سيجارة لـف أخـرى :
ـ " يعني البُـلغ زي النسوان يا عم شحـاته ؟ .
يؤكد لهم علي صدق كلامه ، بأن " البُلـغة " كالمرأة والمرأة كـ " البُلـغة " فعـلاً ، ويتساءل بمـكر العـارف بالإجابة مقـدماً :
ـ " من منكم . . ولا مؤاخذة . . يقدر يستغني عن مراته أو بُلغـته ؟ " .
يضحـكون وهم يؤمنون علي صـدق كلامه :
ـ " كلامك صح يا عم شحـاته " .
يتبادلون معه الضحكات والقفـشات ، الإسكافي رجل خفـيف الظـل ، وابن نكتة ، يُلقي علي مسامعهم آخر نكتة عن " البُـلغ " ، ويضحك معهم من أعماقه ، كأنه هو الذي يسمعها لأول مرَّة ، حتى تدمع عيناه من فرط الضـحك ، ومن بين قهقـهاته يتساءل :
ـ " خير اللَّهم اجعله خير . . إحنا اصطبحنا ببُلـغة مين النهار آده ؟ " .
يضحك " وصيفي " حتى يستلقي علي قـفاه . .
" بلـغة وصيفي " التي تم إصلاحها هذه المرَّة ، قطعتْ نفس الطريق لـ " القوزة " ذهاباً وعودةً مرَّات أخرى كثيرة ، وبدأ عمرها في النازل ، واستمر النزول للحـد الذي لم يعـد تفيدها جراحة إنقاذ جديدة ، كعجوز بلغ بها العمر عتيَّاً فلا يجدي معها طب الطبيب ولا دواء الصيدلي . عندئـذ ، انتعلها " وصيفي " عمَّال علي بطَّال ، وقلَّ حرصه عليها ، كأنه يستخلص منها الأنفـاس حتى الرمق الأخـير . .
فجأة ، وبلا مقدمات ، أطلَّ ظـفر إصبـعه الكبير من جانب بوزها ، وظـلَّت تنكمش من تحـت كعـبيه فلم تعـد تحملهما ، وأخيراً نشف جلـدها وتقوَّس وشاخ . .
هاهي منكمشة ومضعضعة بالقرب من الحصيرة تغـفو ولا تشكو ، غير قادرة عي القيام بوظيفـتها الأساسية . و" سعدية " لا تكف عن الثرثرة التي تضايقه ، لن تسكت إلاَّ إذا شال فردة " البُلـغة " وضربها بلغتـين علي جانبيها ، حتى تنقطه بالسكوت ، بعـدها ، يمكنه أن يلقـيها فوق أية كومة سباخ لتتـحلل وتذوب وتفنى . .
وحتـماً يذهب للعـرس . .
عرس " القنادلة " يناديه بصوت الندَّاهة ، و " قنديل " ابن صديقه " حسين " ينتظر مباركته ، وطعام العرس لن يكون له طعم بغيابه ، وحلـقة السامر ستكون باردة إن لم يشعـلها برقصة أمام " زوبة " ، وستنام " سعدية " مكسورة الخاطر بعـد صلاة العشاء مباشرة ، لن تسهر ، ولن تنتظر سبعـها آخر اللـيل كي يجـبر خاطـرها . .
ـ " أعـوذ بالله من الشيـطان الرجيم " .
استعاذ من الشيطان بصوت عال ، وهو يمد يـده لـ " البُلـغة " ، قلبها ظـهراً لبطن ، صعب حالها عليه ، نهـض ، ألقاها تحت قدميه وحشرهما فيها ، ارتدى جلبـابه ، خرج ، أمام الدار كـاد يتعثر في أولاده وأولاد " مصيلحي " الذين يلعبون في التراب ، علي باب جـاره صفَّق ونـادى :
ـ " مصيلحي . . مصيلحي يا أخويا " .
جاءه الصوتُ من جوف القاعة " الجوَّانية " يدعـوه :
ـ " تفضل يا وصيفي . . ادخل . . الـدار دارك " .
تنحنح كثيراً وهو يجتاز المجاز ، يقدم فردة " بُلـغة " ويؤخر أخرى . .
سلَّم وجلس وترس ظهره للحائط فوجدها أمامه ، كأنها كانت تنتظر قدومه ، محطوطة علي أرضية الطـاقة المحفورة في الحائط المواجه ، ورغم العتـمة الكابسة علي فراغ الحجرة كان بريقها لامعاً ، كـ " بنت بنوت " جميلة تجذبه إلي حسنها جـذباً ، خالها تضـحك له ، وتقول له بدلال : تحت أمرك وإذنك يا سيدي ، هي بالقطع فرسه وهو فارسها المنتظر ، حانتْ منه التفاته لـ " بُلـغته " العجـوز فاغتـم ، وتعكَّـر مزاجه للبون الشاسع بين الشـباب والهـرم . .
بالأمـس ، عندما رآها في يد " مصيلحي " عائداً بها من فاقـوس ، قال له :
ـ " مبروك يا مصيلحي . . تدوبها في عرق العافـية " .
هما جاران كالأخوين ، يتزاوران بمناسبة وبدون مناسبة ، يكفي أن يجلسا سوياً في أوقات الفراغ ، يتحدثان ويتسامران عن الزرع والقلع والضرع والماء في ترعة " بهجت " ، ولا مانع من أن يخوضا قليلاً في سيرة فلان أو علاَّن ، يمتصَّان أنفاس دخَّان الجوزة المعسول ، يحتسـيان أكـواب الشـاي . .
وكأنه اتفاق باطني ، غير مُعلن ، تكون زيارة هنا والأخرى هناك ، كأنما يتقاسمان كل شيء ، لكن أمر " البُلـغة " مختلف بالقطع ، والحال ليس مثل بعضه دائماً ، " مصيلحي " كان يربِّي ماعزاً في داره وباعه لـ " حسَّان الجزَّار " ، ومن ثم اشترى " البُلـغة " لنفسه و " الكتانيلاَّ " لزوجته وأحـذية الكاوتشوك لعيـاله . .
" وصيفي " يتأمل " البُلـغة " الجديدة ، يحلم بها في قدميه ، وهي تطير به ـ كبساط الريح ـ طيراً للعـرس . ورغم كل الروابط التي تربطهما سويَّاً ، فإنه وجـد حرجاً بالغاً في مفاتحته بالأمر ، لم يجـد حتى الكلام المناسب ، الذي يصلح كمدخل يطلب به طلبـه ، يخرج من موضوع ويدخل في آخر ، و" مصيلحي " يعمِّر حجراً جديداً لـ " الجوزة " ، ويناوله البوصة ، و" الجوزة " تكركر ، وأنفاس الدخَّان تتصاعـد وترتطم بالحوائط السوداء ، لتزداد سواداً فوق سوادها ، وطال الوقت علي " وصيفي " ، وهم السلف يركب رأسه ويثـقل كاهله ، حـام بالكـلام من بعـيد ـ كطائر خائف ـ حول عرس " القنادلة " ، ودعوة " حسين أبو قنديل " له :
ـ " حسين يا مصيلحي ؟ . . أنت تعرفه . . زميل الجيش معي . . تلات سنين بالتمام والكمال مع بعض . . فرح ابنه البِـكري قنديل الليـلة . . عقبال أولادك " .
ـ واجب يا صاحبي . . تعيـش وتجـامل عقبال عنـدك إن شاء الله " .
ـ " بس البلـغة . . " .
ولم يكمل " وصيفي " ، انحشرتْ الكلـمات في زوره ، وانتبه " مصيلحي " وحـدَّق في " البُلـغة " القديمة ، وفهم بذكـاء ومكـر الفلاَّح القراري :
ـ " أكيـد تلزمك بُلـغة جديدة . . طبعاً فرح وناس من هنا وهنـاك . . صح ؟ " .
هـزَّ " وصيفي " رأسه من أعلى لأسفل عدِّة مرَّات دون أن يفتح فمه بكلمة ، لكن عينيه تفضـحانه ، وهما تتراوحان ما بين وجه صديقه والوجه الضاحك لـ" البُلـغة " الجـديدة في الطـاقة :
ـ " تحت أمرك يا أخويا . . أنت عارف إنها لسَّه بشوكها . . مش لمست الأرض " .
ـ " فاهم . . البُلـغة في عيني وعلي راسي يا مصيلحي . . كلها ساعة زمن أو ساعتين . . مسافة السكَّة يعني " .
مـدَّ " مصيلحي " يده لـ " البُلـغة " ورفعها بحرص مبـالغ فيه ، وناولها إيّاه :
ـ " خلِّي بـالك منـها " .
نهضا سوياً ، دسَّ " مصيلحي " قدميه في " بُلـغة " " وصيفي " القديمة ـ التي أفاقـتْ من غفوتها للحظة ـ بامتعاض مفتـعل ، أغـاظ " وصيفي " وهو يحـشر قدميه الكبيرتين في " البُلـغة " الجـديدة ، سـائلاً إيَّاه :
ـ " إيـه رأيـك ؟ " .
ـ " تمـام . . بس رجليك . . " .
وفهم " وصيفي " وافتعل ضحكة صفـراء وهو يتظرف :
ـ " أعمل إيه . . نفسي أجيـب مقص وأقص الزيادات اللِّي فيـهم " .
علي " المشَّاية " الموصلة لبداية طريق " القنادلة " مشيا سوياً ، و" مصيلحي " وقـد تأخـر قليـلاً ، عيناه علي " بُلـغته " في قدمي صاحبه ، وصـرخ فجأة :
ـ " حاسـب . . حاسـب يا وصيفي . . يا راجل كنت حـتندب بيها في الوحـل " .
" المشَّاية " الضيقة التي تخترق الزرع كلها مطبَّات وقلاقل ومخلفات زراعية وروث مواشي وماء طافح من حافة القـناة المجاورة لها ، ومع كل صرخة " حاسـب " أخرى ، يقـفز " وصيفي " قفـزاً مبتـعداً عن مصدر الخطر ، وبدلاً من النظر أمامه للطريق انكسرتْ عيناه صوب " البُلـغة " في قدميه ، وكأنه ماشي علي قشر بيض ، راح يتقافـز حول البيض حتى لا يكسره ، ناس الجزيرة يمرُّون بهما ويلقون عليهما السلام ، والدم يهرب من وجه " وصيفي " ، ويخمِّن أن هؤلاء الناس الذين هم أهله وناسه ، لابـد أنهم عرفـوا الأمـر بـ " المفهومية " ، وبدأ الحرج يركـبه ويكـدِّر صفوه :
ـ " حاسـب . . حـوِّد شـمال يا وصيفي " .
لابـد أنهم يسـخرون منه ويضربون كفَّا بكف ، صرت مهـزأة يا " وصيفي " :
ـ " حاسـب . . خلِّيـك يمين شوية " .
" مصيلحي " لا يكف ، ولا علي باله أحـد من الناس سوى " البُلـغة " الجديدة وخوفه المرضي عليها . وفكَّر " وصيفي " بأنه ، حتى ولو خلعها وشالها علي رأسه ، فإن " مصيلحي " حتماً سيصرخ فيه ويقـول له : حاسب عليها من غراب البين ليخطـفها . .
اقتربا من نهاية " المشَّاية " ولم يتركه " مصيلحي " يمضي لحال سبـيله ، حتى خال أنه لن يتركه إلاَّ عنـد باب العرس ، وربما وقف ينتـظره هناك حتى ينتهي الفرح وينفض المعازيم . ومع بداية الطريق المؤدِّي لـ " القنادلة " ، لم يكن " مصيلحي " قد كـف ، لا من الصراخ بكلمة " حاسـب " ولا من " النظـر " لقدمي " وصيفي " ، ومع كل خطوة حريصة وخائفـة ومترددة من الوقوع في الخطأ لـ " وصيفي " ، كان الغضب يتصاعـد ويسد عليه الطريق المؤدِّي للعرس ، ويصل به للـذروة ، للحـد الذي أحسَّ فيه بالـذل والمهانة ، احتدم غضبه المتـنامي ووصل لحافة الانفـجار ، فوقف في مواجـهة " مصيلحي " وقـذف " البُلغـة " الجـديدة من قدميه ، وخلَّص " بُلغـته " القديمة من قـدمي " مصيلحي " وأقسـم ألا يذهب لعرس " القنـادلة " ، وحمل " بُلغـته " القديمة تحـت إبطه عائـداً للدار ، منتوياً فعـلاً ، بعد أن يتواري عن عيني " مصيلحي " ، أن يتخلَّـص منها فوق أقرب كومة سباخ ، لكنه تذكَّر " سعدية " فجأة ، ومشورتها الهبـاب التي أحوجته لهذا الجـار الناقص أدب " مصيلحي " ، فأجَّـل التخلص منها لحـين عودته للـدار ، وهناك ، لن يمنعه مانع من أن يحملها في كـفِّه ، ويرفعـها لفوق ، ويضرب بها " سعـدية " " بلغـتين " علي جانبـيها ، حتى تـبرد ناره ويهـدأ بـاله ويرتاح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* البلغة : حذاء خفيف يفضله الفلاَّحون المصريون ، دخلت صناعته مصر مع المغاربة إبَّان العصر الفاطمي ، واشتهرت منطقة فاقوس بصناعته