الجنس في الثقافة العربية عبد العالي سامي - أُنطولوجيا الجسد (3) : ثمة مراحل مرَّ بها الجسد أنطولوجياً حتى وصل إلى صورته الراهنة

(3)


الجسد مخلُّوقاً(سلطة اللاهوت): وهي مرحلة السلطة اللاهوتية المُضافة إلى الجسد من الخارج، باعتباره احدى بصمات الإله في الإنسان. إنه ” الجسد– القيمة ” من وجهة نظر المؤمنين في الأديان. حيث مثلَّ أثراً لاكتشاف عظمة الخالق بصدد التكوين والوظائف والحكمة التي يجسدها. إنَّ الإله وهب الإنسان جسداً معجزاً في حياةٍ يتحملها كنعمة ميتافيزيقية.
وجميع الديانات تبدي امتناناً للسماء، لأنَّها أوجدت الجسد الذي يحس ويشعر ويتمتع بالملذات ويتطلع إلى الروحانيات، لكن الأهم أنَّ أية سلطة له لن تكون نابعةً منه تخصيصاً، فدوما تستحضر سواها من المصدر المسؤول عن ذلك، هذا بخلاف الغرائز التي ستجد تصنيفها داخل أهواء الجسد. أي أنَّ خطابات الأديان وعظياً تعول على التحذير من انحرافات الجسد كدابة للشر. فالإنسان العاصي ستلاحقه اللعنات، لأنَّه خالف قانون الخالق (للجسد) واتبع شهواته الدنيا. وهذا يضمر كون الجسد محلَّاً لشيطان خفيٍّ.
هناك جانب محقر في المسألة أساسه غرائز الجسد حين تشد الإنسان إلى حمأة الحياة بينما الروح تجذبه إلى أعلى. ونظراً لكون الإنسان لا يستطيع التخلص من غرائزه، فالكهانة الدينية تقنعه بأنَّ خلاصة يعتمد على قمع جسده ووضعه تحت الوصاية. إذن بطبيعة الجسد ذاته لا يستطيع الإنسان التحرر من رجال الدين انتظاماً لقطيع طويل باسم العبودية للإله. أي اعتبار القيد نابعاً من الجسد بتسييس حركته لصالح ما يتحكم فيه.
الجسد مؤسطَّراً (سلطة الأسطورة): والسلطة هاهنا تكمن في إضفاء الطابع الأسطوري على الجسد، فقد تمَّ تصويره في المنحوتات الفرعونية واليونانية القديمة على أنَّه خليط من الحيوان الخرافي والجانب الإنساني. والسلطة تقع على غرار النقطة الأولى خارج قوى الجسد الإنساني، وكأنَّ هناك اسراراً تسكنه ليفعل أشياء خارقة للمألوف.
بإشارةٍ سبقت كانت آلهة الفراعنة تحمل الجانبين كدلالةٍ على قوى تنوء بها الطاقة البشرية. والسلطة تحرم الجسد الآخر في مجال الأساطير من الوجود حراً. لأن ادراج كيانه الضعيف كإنسانٍ عادي يجعل الجسد الأسطوري خارج التوقع ويجلب أسراراً تليق بالآلهة لا بالبشر.
الجسد موجُوداً (سلطة الكائن الإنساني): وهو جسد ناتج عن الحداثة الغربية، فالجسد ليس مسكوناً بالأساطير ولا بالأسرار ولا تحركه قوى ميتافيزيقية مفارقة، لكنه مجرد جسم مادي بيولوجي له سياقه ورغباته. وبإمكانه أن يخضع للتغيرات ويمرض ويشفى متاحاً للدراسة والفحص. وهو ما يفترض قدرة َالجسد على المشاركة في الحياة العامة طالما يمكن التحكم فيه. والعنوان البارز أن الجسد يستطيع التعبير عن نفسه وبإمكاننا تأهيله لتحمل القيم والمسؤولية والحرية داخل مواطني الدول والمجتمعات.
بوضوح قال كوجيتو ديكارت( أنا أفكر إذن أنا موجود) وهو اعلان صريح بقوة الفكر داخل جسد يغدو موجوداً في ذاته. والكوجيتو هنا اعلان سياسي وليس فلسفياً فقط. وطالما نستطيع التفكير بحرية، فإننا نستطع الوجود بالدرجة نفسها. هو اعلان نزع السلطة المقدسة التي أوجدت ذوات الناس سلفاً( الجسد مخلوقاً ومؤسطراً). والفكر يعني ممارسة الجسد كاشفاً قدراته الطبيعية. ورغم ما قيل فلسفياً عن الكوجيتو الديكارتي( ثنائية الفكر والوجود) إذ يباعد الفكر عن الجسد لو فصلَّنا الأمر، لكن تأويلُّه يعني لحظات الفكر الأولى(أنا أفكر) والوجود الثانية( إنا موجود) قد لا ينفصلان. الفكر هو عين الوجود والوجود هو عين الفكر، الأنا واحد.
وتلك خطوة كبيرة في قطع هيمنة السلطة على الأجساد من الخارج، فالسلطة -لأول وهلةٍ ديكارتيةٍ- هي كامنة في ذات الإنسان طالما هو إنسان وطالما يمتلك فكراً حراً وإبداع وجوده. والخطوة التالية أن الفرد قد يكون خالقاً عكس مما يروَّج من قبل رجال اللاهوت والكهانة( الجسد المحقر).
الجسد شفافاً (سلطة الروحانيات): تحاول اتجاهات روحانية بث انفاس إنسانية على إيقاع لاهوتي قديم في الجسد. والأمر مبني على اعتبار الجسد في الحقيقة أقل أهمية من الروح. ولا تخفى الثنائية: جسد/ روح، عقل / حس، جوهر / مظهر.
والجسد هاهنا هو البديل الخلفي لما كانت تمارسه السلطة المادية. ولذلك، فالروح هو السلم لمعراج بالجسد نحو الأعلى. ويؤكد هذا التفكير أنَّ الجسد سيتحول من كتلةٍ غرائزيةٍ إلى مستوى شفاف. أي محاولة للتطهر من الإحساس الداخلي بالخطيئة على افتراض كون الجسد جراباً لآثام قديمة.
والأخطر أنْ يصل الجسد رغم ماديته إلى سلطة باسم الروح، وهذا ما يعيد قداسته المفقودة. والأمر واسع الانتشار في الجماعات الصوفية والأديان التي تعنى بالروحانيات حيت تختزل القداسة في أشخاص بعينهم. ويصبح الجسد منعزلاً، هائماً فوضويا، غائباً. وهذا له جانب سياسي متعلق باصطياد الاجساد الهائمة ضمن حشود الأيديولوجيا، فالسياسة تفرغ الأجساد من طاقات التمرد، وإذا كانت الروح تفعل ذلك، فليس أمام الأنظمة السياسية سوى مد خط الروحانيات إلى المجهول، حتى تترك الأجساد كقواقع مقذوفة على شواطئ الحياة.
الجسد مؤدلجاً (سلطة الأيديولوجيا): تأتي الفكرة من إلباس الجسد لباس الأيديولوجيا، وكافة الأيديولوجيات تخضع الجسد لمعايير حاكمة، تقده قداً على مقاييس معينة إنْ لم تكن لتخلقه من جديد. الأيديولوجيات الدينية تستعمل لاهوت التحريم للسيطرة على الجسد، فلَّها طقوس حول ماهيته من إسناده إلى الإله وكيفية التعامل معه وآداب اللياقة الجسدية وأزمنته وأهم التغيرات الطارئة عليه. كل ذلك في إطار تنظيم اجتماعي ثقافي يستقبل إمكانياته وفق مرجعية الدين.
كذلك الأيديولوجيات السياسية تتعامل مع الأجساد كمعادل موضوعي لتحقق منافعها. فهي تريد الاصطفاف باسمها وتنحت علامات الجسد وفقاً لتراتب يخدم مصالح الفاعلين. فالأيديولوجيا الماركسية تفترض الاصطفاف في مجتمع الطبقات بما يشعل الصراع الاجتماعي.
وكذلك الاتجاهات الليبرالية تفترض أن الأجساد تتحول إلى ثقافة تحرر نفسها من مركزية السلطة لصالح سلطتها الخاصة، بحيث يتقلص دور الدولة والمجتمع وتزيد رقعة الحرية الفردية. ولأول مرة بعد عصر النهضة وجدت الاجساد صدى لتحولاتها في مسارات نوعية بجب أن تقطعها. ومع وقوع الايديولوجيات في حفرة اللاهوت من جهة مركزية النظرية ونسق الفكر إلا أنها تركت أثراً لم يكن مقصوداً. مؤداه أن الجسد بإمكانه حمل مصيره كطاقة قابلة للانفجار خلال أية لحظة. ولذلك فإن عصور الأيديولوجيات تنتهي غالباً بانفجار حيوي للأجساد على جثث النظريات المغلقة.
الجسد طقساً( التدين الظاهري): وهو المنتشر لدى جماعات الاسلام السياسي كانتشار النار في الهشيم. يعتبرون الجسد طقساً جمعياً علينا تغطيته بالرموز. وهو ما يوثق عرى السلطة مستدعياً اشباحها. السلطة هي سلطة المقدس، فالرجال يرتدون جلباباً وبنطالاً قصيرين، وتنقش الذقون بلحى طويله وتحمل الأيدي سواكاً لا يمل صاحبها تخليلاً لأسنانه. ويمشون بتؤدة ومثابرة بين خطى سريعة وأخرى بطيئة تعكس خجلاً خادعاً كإيحاء بالخشية من الله. ولا ينسى رجال الجماعات الاسلامية محاولة التظاهر بالجدية المطلوبة لحسم الأمور.
الجسد تسييس ذكوري يعكس خطاب الإسلاميين البرجماتي الذي يصطاد متابعيه في شباكه من أول طرحِه، مع الزعم أنه مجرد جسد عابد، قانت لله في تفاصيله ومسعاه. بالطبع سيأتي المظهر مع علامة الصلاة(الزبيبة بالجبهة) والوجه الجاد كأنَّ ثمة مهمةً لا تنتهي. أما جسد النساء فهو محط عناية الاسلام السياسي بالمقام الأول. التغطية بالنقاب والملابس السميكة هي نظرية سياسية في طبيعة المرأة وأفكارها ووجودها في الحياة. كما أن جسدي المرأة والرجل مربوطان بمرجعية جهادية تترجم إلى أفعال دموية، ولذلك فالجسد الذي هو طقس بالمعنى السابق كان عبوة ناسفة تحصد الأرواح لدى الدواعش والقاعدة والسلفية الجهادية وبوكوحرام.

الكاتب : عبد العالي سامي
بتاريخ : 05/07/2021




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى