"إن الثورة لا تقوم على مخططات مثالية، ويوتوبيا مقرر سلفاً، وإنما من خلال التحليل الجدلي للواقع القائم والسعي إلى تغييره. أما نزعة ماركيوز الجمالية الحالمة، والمتفائلة إلى أقصى حد، فإنها تتحول في النهاية الأمر إلى ضرب من اليوتوبيا المستحيلة التي رفضها ماركيوز نفسه ".
سعى ماركيوز إلى أن يعطي لمفهومه عن السلب أو (النفي) دلالات إيجابية، فالسلب عنده سلب عدمي يرفض ما هو قائم دون أن يطرح البديل عن الذي رفضه، لقد كان ماركيوز نفسه منتبهاً لذلك الأمر عندما قرر أن يضفي على نظريته النقدية بعداً مستقبلياً وهذا ما يشير إليه بقوله إن مفاهيم النظرية النقدية " مفاهيم بناءة لا تتضمن الواقع المعطى فحسب، بل تتضمن في الوقت نفسه إلغاءه والواقع الجديد الذي يأتي بعده. فإعادة البناء النظري للعملية الاجتماعية، ونقد الظروف القائمة وتحليل اتجاهاتها يتضمن بالضرورة المكونات المستقبلية الاتجاه ". ويظهر بوضوح الطابع المستقبلي للنظرية النقدية من خلال اهتمام ماركيوز بالدور النقدي للخيال، وقوله بإمكان تحقق اليوتوبيا أو نهاية اليوتوبيا.
انطلاقاً مما تقدم يرى ماركيوز أن المجتمع الصناعي المتقدم قد ضيّق النطاق الفني للخيال، وسمح بنشاط الخيال العلمي والتقني الذي يعمل داخل إطار الإنتاج العلمي والتقني والذي يمكن أن يحقق مزيداً من التقدم الاجتماعي والحضاري، لكن الأمر الذي يؤكد عليه ماركيوز هو ضرورة رد الاعتبار للخيال لما له من أهمية قصوى في تحرير الإنسان والخروج به من مأزق الوضع القائم من خلال إمكانية استدعاء الصور وتوجيهها نحو ما يمكن أن يسهم في تغيير الواقع.
- الدور النقدي للخيال: تحتل مقولة الخيال أهمية بالغة في نظرية ماركيوز النقدية، فهي لا تشغل في نظريته النقدية دوراً معرفياً فحسب، بل دوراً سياسياً وإيديولوجياً. فالخيال يكتسب لدى ماركيوز أهمية خاصة من حيث إنه يأخذ بأيدينا خارج حدود الواقع القائم، ويمثل رمز المنطقة المحصّنة المحرمة التي لم يستطيع مبدأ الواقع انتهاك حرماتها.
ويؤكد ماركيوز على أن هناك صلة وثيقة بين الفلسفة والخيال، ولقد أشار الفلاسفة السابقون – أرسطو، كانط – إلى أهمية التخيل في تجاوز الهوة بين الواقع القائم والواقع العقلاني، فبدون الخيال تظل كل المعرفة الفلسفية في قبضة الحاضر أو الماضي، وتكون مقطوعة الصلة بالمستقبل الذي هو الرابطة الوحيدة بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي للنوع البشري.
وهنا يجب أن نشير إلى أن الخيال عند هربرت ماركيوز له قوة نافية وخلاقة في نفس الوقت من حيث إنه:
1. لديه القدرة على إدراك (حدس) موضوع ما، برغم أن هذا الموضوع ليس قائماً.
2. لديه القدرة على خلق أشكال جديدة من المادة المعرفية المعطاة.
3. إنه يتمتع بدرجة عالية من الاستقلال عما هو معطى، ويشير إلى درجة عالية من الحرية وسط عالم من اللا حرية.
ويرى ماركيوز وفقاً للنظرية الفرويدية فإن الخيال هو القيمة العقلية الوحيدة التي لا تزال إلى حد بعيد تحتفظ ببراءتها الأولى، وتحتفظ بحريتها واستقلالها تجاه مبدأ الواقع.
يعيد التخيل التوازن المفقود بين منطق السيطرة ومنطق الارتواء، أو بين لوغوس وإيروس، والتخيل من وجهة نظر مبدأ الواقع ليس نافعاً وغير حقيقي، أنه مجرد لعب، حلم يقظة. ومن حيث هو كذلك، فإنه يداوم الحديث بلغة مبدأ السعادة، بلغة الحرية مقابل القمع، ولغة الرغبة والارتواء غير المحبط. في حين أن الواقع يسير وفق قوانين العقل، ولا علاقة له مطلقاً بلغة الحلم.
ويعتقد ماركيوز أن الخيال كعملية عقلية مستقلة إنما يتمتع بقدرة عالية على تحقيق ضرب من الانسجام والتوحد، وخلق عالم مثالي حر يتجاوز الواقع الإنساني المتناحر، فالتخيل يستهدف إعادة التوافق بين الفرد والكل، وبين الرغبة وتحقيقها، بين السعادة والعقل. وبينما يتحول هذا التناغم إلى مجال اليوتوبيا بفعل مبدأ الواقع القائم، فإن التخيل يلح على أنه ينبغي ويمكن أن يتحول إلى واقع.
ولا يكتفي ماركيوز بإظهار الدور الخلاق للخيال في قدرته على تصور عالم مثالي متكامل، بل يلح أيضاً على ضرورة أن يدخل الخيال إلى قلب الممارسة السياسية، وأن تمتزج المقولات الفنية الجمالية بالمقولات السياسية. وهذا ما يشير إليه ماركيوز عندما يتحدث عن حركات التمرد والاحتجاج التي يقودها الشباب والطلبة في أوروبا فيقول: إذا أصبحت قيمة وحقيقة الخيال من متطلبات الفعل السياسي لتمرد شباب المثقفين اليوم، وإذا ما انتشرت الأشكال السريالية للاحتجاج والرفض بين الحركة، فإن هذا التطور الذي يبدو ظاهرياً بلا معنى يمكن أن يشير إلى تغير أساسي في الموقف. إن الاحتجاج السياسي إذ يكتسب صفة شاملة يصل إلى بعدٍ مازال بوصفه بعداً جمالياً لا سياسياً في جوهره. والاحتجاج السياسي يقوم بتنشيط العناصر الأساسية والعضوية بدقة من خلال هذا البعد: أي الحساسية الإنسانية التي تتمرَّد على وصايا العقل القمعي، وهي بفعلها هذا إنما تبعث القوة الحسية للخيال.
وعلى الرغم من إعطاء ماركيوز أهمية كبيرة للدور النقدي للخيال، إلا أنه يعود فيؤكد على أن النظرية النقدية تسعى إلى استنتاج مقولاتها من الواقع العيني للإنسان، وليس من العالم السحري للخيال فقط، لذلك فهو يقرر أن النظرية النقدية لا تتصور أفقاً لا نهائياً للإمكانات، ومن حيث هي كذلك " فإن حرية التخيل تحتفي إلى الحد الذي تصبح عنده الحرية الواقعية إمكانية حقيقية. وحدود الخيال لا تعود هكذا قوانين للماهية... ولكنها حدود تقنية بأدق معنى".
- نهاية اليوتوبيا: يستخدم ماركيوز مفهوم اليوتوبيا بطريقة لا تخلو من الغموض والالتباس، فنجد اليوتوبيا في كتابات ماركيوز أحياناً ما تشير إلى معنى الرفض أو السلب لما هو قائم مع التطلع إلى خلق حضارة ذات معالم جديدة، وهذا المعنى يختلف عن المعنى التقليدي لليوتوبيا، من حيث إن ماركيوز لا يقصد باليوتوبيا هنا اللا مكان، وإنما إمكانية واقعية قابلة للتحقق، وفي هذا يقول ماركيوز: يجب أن يكون التفكير بالتناقض قادراً على الفهم والتعبير عن الإمكانات الجديدة لوجود مختلف كيفاً. إنه يجب أن يكون قادراً على تجاوز قوة القمع التكنولوجي وأن يدرج في مفاهيمه عناصر الارتواء التي تكون مقهورة ومعاقة من خلال هذا القمع. بعبارة أخرى فإن التفكير بالتناقض يجب أن يكون في تعارضه مع الواقع القائم أكثر قدرة على النفي واليوتوبيا.
غير أن ماركيوز في أماكن أخرى يشير إلى أن هناك بعض الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية، التي من صالحها بقاء الوضع الراهن القائم دون تغيير تستخدم مفهوم اليوتوبيا لوصف أي محاولة لنقد أو تجاوز الوضع القائم باعتبارها محاولة غير واقعية، وتعارض قوانين الواقع والتاريخ. ووفقاً لهذا المعنى الأخير فإن "ما يوصف باعتباره يوتوبيا لم يعد ذلك الذي يُشار إليه باللا مكان، وما لا يمكن أن يكون في العالم التاريخي، بل ذلك الذي تحول دون ظهوره المجتمعات القائمة ".
يرفض ماركيوز المعنى الأخير لليوتوبيا لأنه يسعى إلى إعاقة إمكانات تاريخية معينة عن الظهور، ويقمع الطموح البشري، ويجمد إمكاناته الغنية. وفي مقابل ذلك يرى ماركيوز أن اليوتوبيا بهذا المعنى المشار إليه ليست في حقيقة الأمر إمكانية مستحيلة أو تقع خارج نطاق التاريخ كما يصورونها، بل هي إمكانية تاريخية وإنسانية بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي هذا النطاق يذهب ماركيوز إلى أن أي شكل للعالم المتجسد من الحياة الإنسانية وأي تحول للبنية التقنية والطبيعية أصبح اليوم أمراً ممكناً. وأساس هذه الإمكانية هو الأساس التاريخي. فاليوم لدنيا القدرة على تحويل العالم إلى جحيم، وقد تقدمنا على الطريق لفعل ذلك. إلا أننا نمتلك أيضاً القدرة على تحويله إلى ما هو عكس الجحيم. وينتهي ماركيوز من هذه الآراء المتفائلة والمعبرة عن إيمان عميق بقدرة الإنسان على صنع الفردوس الأرضي، إلى القول بأن نهاية اليوتوبيا أصبحت أمراً ممكناً، ويعني بذلك أن ما تطرحه قوى الثورة المضادة على أنه يوتوبيا أو نوع من الوهم هو في الحقيقة إمكانية واقعية وقابلية للتحقق.
وبهذا المعنى نجد أن ماركيوز سعى إلى أن يضع الحدود الفاصلة بين الممكن والمستحيل، أو بين غير اليوتوبي واليوتوبي فإنه يتساءل عن الأسباب والعوامل التي تجعل اليوتوبيا إمكانية مستحيلة وفقاً للمعنى التقليدي للكلمة. وفي الإجابة عن هذا التساؤل يميز ماركيوز بين نوعين من استحالة تحقيق اليوتوبيا: الأول: عندما تقف الظروف الذاتية والموضوعية في مجتمع ما حائلاً دون تحقيق التحول التاريخي، وهذا ما يطلق عليه عدم وضوح الموقف الاجتماعي، والأمثلة على ذلك كثيرة منها المشروع الشيوعي خلال فترة الثورة الفرنسية كان يبدو مشروعاً مستحيلاً لعدم توافر الشرط الذاتي- الموضوعي لإمكان تحقيق ذلك. وبذلك يمكن النظر إلى عدم تحقق التجربة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الأعلى تقدماً، على أنه الغياب الواقعي المزعوم للعوامل الذاتية والموضوعية التي تجعل هذا التحقق مستحيلاً الآن.
ولا شك في أن الاستحالة هنا استحالة مؤقتة وليست دائمة، لذلك فإن ماركيوز ينفي عن هذا المستوى من الاستحالة صفة اليوتوبيا بالمعنى التقليدي الذي يعني الإمكانية المستحيلة ويؤكد على أن الاشتراكية إذا كانت غير ممكنة الآن في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً نظراً لغياب الطبقة الثورية الفعالة، فإن لا يعني أن الاشتراكية مشروع يوتوبي.
أما المستوى الثاني من الاستحالة، فيتمثل في تعارض المشروع اليوتوبي مع القوانين العلمية البيولوجية والفيزيائية مثل فكرة إعادة مرحلة الشباب للمسنين أو عودة العصر الذهبي...إلخ، وينظر ماركيوز إلى هذا المستوى الأخير من الاستحالة على أنه اليوتوبيا بمعناها الدقيق، أي الذي يقف خارج نطاق التاريخ ويتجاوز حدود التجربة الإنسانية.
ويبقى السؤال: هل نجح ماركيوز في تحديد الخط الفاصل بين ما هو يوتوبي وما هو غير يوتوبي، أي بين الممكن والمستحيل؟
في حقيقة الأمر، رغم تعاطفنا مع نزعة ماركيوز المتفائلة بإيمانه بالقضاء على الفقر والبؤس والعمل المغترب، والقضاء على القهر السياسي والجنسي أصبحت أمراً ممكناً، وأن تحقيق الحرية والسعادة للإنسان ليس أمراً مستحيلاً طالما أنه إمكانية واقعية تخضع للحركة التاريخ، إلا أننا سنتعرض بعض الملاحظات النقدية حول مفهومه عن نهاية اليوتوبيا:
1- إن ماركيوز عندما حصر مفهوم اليوتوبيا بالمعنى التقليدي في إطار تعارضه مع القوانين العلمية التي تحكم الظواهر البيولوجية والفيزيائية قد وقع في خطيين:
أ- إنه تجاهل وفقاً للمفهوم الماركسي أن هناك قوانين تحكم الواقع التاريخي والاجتماعي لا تقل أهمية عن القوانين العلمية الأخرى، وعند هذه النقطة تتسع المساحة بين ماركيوز والماركسية.
ب- تخيل ماركيوز أن القوانين العلمية قوانين مطلقة ولا تخضع للتطور التاريخي، في حين أن قوانين العلم هي جزء من التجربة الإنسانية الشاملة، وما يبدو اليوم ضرباً من ضروب اليوتوبيا في مجال العلم قد يصبح يوماً ما واقعاً معاشاً، والأمثلة العلمية خير دليل على ذلك.
2- إن النظرية النقدية إذا كانت تعلي من شأن الدور النقدي للخيال، ومن قيمة البعد الجمالي فهذا في حد ذاته ليس مبرراً للقول بأن ماركيوز قد انشق عن صفوف الماركسيين فماركس نفسه قد بيّن أن الإنسان يشكل الأشياء وفقاً لقوانين الجمال. وكان لينين يخاطب الجماهير بقوله ينبغي أن نحلم، وقد قال انجلز في كتابه ( الثورة والثورة المضادة في ألمانيا ): إن الانتفاضة فن، بالقدر نفسه الذي تكون به الحرب أو أي شيء آخر فناً. لكن برغم ذلك لم يكن الحلم والخيال في التراث الماركسي حلماً مطلقاً أو خيالاً جامحاً بلا حدود، بل كان محكوماً بإمكانات الواقع والممارسة الثورية، وهذا الفرق بينهم وبين ماركيوز من حيث إن ماركيوز لم يكن مهتماً بالرجوع إلى الواقع كما كان يفعل ماركس وانجلز، فقد كان مهتماً بسلب هذا الواقع، وممارسة دور الرفض العظيم، والقطيعة التامة مع ما هو قائم. وهذا النقد قد أثبت أن ماركيوز كان يغير من مواقفه الفكرية وفقاً لاختلاف الظرف التاريخي، لأننا نعتقد بأن شخصية ماركيوز تتميز بجانبين في غاية الأهمية:
*الأول: هو الفيلسوف الرومانتيكي الحالم والحاد المزاج معاً.
*الثاني: هو المفكر السياسي، إلا أنه يبدو أن ماركيوز الفيلسوف الرومانتيكي الحالم كان دائماً يتفوق على ماركيوز السياسي الملتزم بقضايا وإمكانات الواقع الاجتماعي.
3- إذا نظرنا إلى موقف ماركيوز اليوتوبي سنجد أنه عندما حاول أن يرسم معالم حضارة جديدة تخلو من القمع السياسي والجنسي وتسودها قيم الحرية والجمال والسعادة، ويتحول فيها العمل إلى لعب، ويصبح الإنسان سيد نفسه. نقول إن ماركيوز لم يراع أي معايير واقعية أو تاريخية تؤكد وجود مثل هذه الحضارة، وحتى إذا كان ماركيوز يستطيع أن يبرهن على استحالة وجود قوانين تحكم الظاهرة الاجتماعية، فإنه لا يستطيع أن يتجاهل التاريخ. وأي مشروع للتغيير الاجتماعي فإنه لا بد من أن يستمد تصوراته من التجربة الإنسانية السابقة، وقد رفض ماركس وانجلز المشروعات اليوتوبية التي تقفز فوق قوانين التاريخ، وتحلق بعيداً عن أرض الإنسان، ورفضوا أيضاً وضع مثل عليا ينبغي للواقع أن يتطابق معها.
إن الثورة لا تقوم على مخططات مثالية، ويوتوبيا مقرر سلفاً، وإنما من خلال التحليل الجدلي للواقع القائم والسعي إلى تغييره. أما نزعة ماركيوز الجمالية الحالمة، والمتفائلة إلى أقصى حد، فإنها تتحول في النهاية الأمر إلى ضرب من اليوتوبيا المستحيلة التي رفضها ماركيوز نفسه.
المراجع المعتمدة:
(1) هربرت ماركيوز: فلسفة النفي (دراسات في النظرية النقدية)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1971.
(2) كمال بومنير: جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت (نموذج هربرت ماركيوز)، الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت والجزائر، ط1، 2010.
(3) هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، ترجمة: مطاع صفدي، دار الآداب، بيروت، ط2، 2007.
(4) Herbert Marcuse: An Essay on Liberation, Beacon Press, Boston, 1969.
(5) Herbert Marcuse: Negations - Essays In Critical Theory, penguin Press, 1958.
(6) Herbert Marcuse: Five Lectures - Psychoanalysis, Politics An Utopia, Beacon Press, Boston, 1970.
(7) إدوارد باتالوف: فلسفة التمرد، ترجمة: سامي الرزاز، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1981، ص(199).
(8) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.
سعى ماركيوز إلى أن يعطي لمفهومه عن السلب أو (النفي) دلالات إيجابية، فالسلب عنده سلب عدمي يرفض ما هو قائم دون أن يطرح البديل عن الذي رفضه، لقد كان ماركيوز نفسه منتبهاً لذلك الأمر عندما قرر أن يضفي على نظريته النقدية بعداً مستقبلياً وهذا ما يشير إليه بقوله إن مفاهيم النظرية النقدية " مفاهيم بناءة لا تتضمن الواقع المعطى فحسب، بل تتضمن في الوقت نفسه إلغاءه والواقع الجديد الذي يأتي بعده. فإعادة البناء النظري للعملية الاجتماعية، ونقد الظروف القائمة وتحليل اتجاهاتها يتضمن بالضرورة المكونات المستقبلية الاتجاه ". ويظهر بوضوح الطابع المستقبلي للنظرية النقدية من خلال اهتمام ماركيوز بالدور النقدي للخيال، وقوله بإمكان تحقق اليوتوبيا أو نهاية اليوتوبيا.
انطلاقاً مما تقدم يرى ماركيوز أن المجتمع الصناعي المتقدم قد ضيّق النطاق الفني للخيال، وسمح بنشاط الخيال العلمي والتقني الذي يعمل داخل إطار الإنتاج العلمي والتقني والذي يمكن أن يحقق مزيداً من التقدم الاجتماعي والحضاري، لكن الأمر الذي يؤكد عليه ماركيوز هو ضرورة رد الاعتبار للخيال لما له من أهمية قصوى في تحرير الإنسان والخروج به من مأزق الوضع القائم من خلال إمكانية استدعاء الصور وتوجيهها نحو ما يمكن أن يسهم في تغيير الواقع.
- الدور النقدي للخيال: تحتل مقولة الخيال أهمية بالغة في نظرية ماركيوز النقدية، فهي لا تشغل في نظريته النقدية دوراً معرفياً فحسب، بل دوراً سياسياً وإيديولوجياً. فالخيال يكتسب لدى ماركيوز أهمية خاصة من حيث إنه يأخذ بأيدينا خارج حدود الواقع القائم، ويمثل رمز المنطقة المحصّنة المحرمة التي لم يستطيع مبدأ الواقع انتهاك حرماتها.
ويؤكد ماركيوز على أن هناك صلة وثيقة بين الفلسفة والخيال، ولقد أشار الفلاسفة السابقون – أرسطو، كانط – إلى أهمية التخيل في تجاوز الهوة بين الواقع القائم والواقع العقلاني، فبدون الخيال تظل كل المعرفة الفلسفية في قبضة الحاضر أو الماضي، وتكون مقطوعة الصلة بالمستقبل الذي هو الرابطة الوحيدة بين الفلسفة والتاريخ الحقيقي للنوع البشري.
وهنا يجب أن نشير إلى أن الخيال عند هربرت ماركيوز له قوة نافية وخلاقة في نفس الوقت من حيث إنه:
1. لديه القدرة على إدراك (حدس) موضوع ما، برغم أن هذا الموضوع ليس قائماً.
2. لديه القدرة على خلق أشكال جديدة من المادة المعرفية المعطاة.
3. إنه يتمتع بدرجة عالية من الاستقلال عما هو معطى، ويشير إلى درجة عالية من الحرية وسط عالم من اللا حرية.
ويرى ماركيوز وفقاً للنظرية الفرويدية فإن الخيال هو القيمة العقلية الوحيدة التي لا تزال إلى حد بعيد تحتفظ ببراءتها الأولى، وتحتفظ بحريتها واستقلالها تجاه مبدأ الواقع.
يعيد التخيل التوازن المفقود بين منطق السيطرة ومنطق الارتواء، أو بين لوغوس وإيروس، والتخيل من وجهة نظر مبدأ الواقع ليس نافعاً وغير حقيقي، أنه مجرد لعب، حلم يقظة. ومن حيث هو كذلك، فإنه يداوم الحديث بلغة مبدأ السعادة، بلغة الحرية مقابل القمع، ولغة الرغبة والارتواء غير المحبط. في حين أن الواقع يسير وفق قوانين العقل، ولا علاقة له مطلقاً بلغة الحلم.
ويعتقد ماركيوز أن الخيال كعملية عقلية مستقلة إنما يتمتع بقدرة عالية على تحقيق ضرب من الانسجام والتوحد، وخلق عالم مثالي حر يتجاوز الواقع الإنساني المتناحر، فالتخيل يستهدف إعادة التوافق بين الفرد والكل، وبين الرغبة وتحقيقها، بين السعادة والعقل. وبينما يتحول هذا التناغم إلى مجال اليوتوبيا بفعل مبدأ الواقع القائم، فإن التخيل يلح على أنه ينبغي ويمكن أن يتحول إلى واقع.
ولا يكتفي ماركيوز بإظهار الدور الخلاق للخيال في قدرته على تصور عالم مثالي متكامل، بل يلح أيضاً على ضرورة أن يدخل الخيال إلى قلب الممارسة السياسية، وأن تمتزج المقولات الفنية الجمالية بالمقولات السياسية. وهذا ما يشير إليه ماركيوز عندما يتحدث عن حركات التمرد والاحتجاج التي يقودها الشباب والطلبة في أوروبا فيقول: إذا أصبحت قيمة وحقيقة الخيال من متطلبات الفعل السياسي لتمرد شباب المثقفين اليوم، وإذا ما انتشرت الأشكال السريالية للاحتجاج والرفض بين الحركة، فإن هذا التطور الذي يبدو ظاهرياً بلا معنى يمكن أن يشير إلى تغير أساسي في الموقف. إن الاحتجاج السياسي إذ يكتسب صفة شاملة يصل إلى بعدٍ مازال بوصفه بعداً جمالياً لا سياسياً في جوهره. والاحتجاج السياسي يقوم بتنشيط العناصر الأساسية والعضوية بدقة من خلال هذا البعد: أي الحساسية الإنسانية التي تتمرَّد على وصايا العقل القمعي، وهي بفعلها هذا إنما تبعث القوة الحسية للخيال.
وعلى الرغم من إعطاء ماركيوز أهمية كبيرة للدور النقدي للخيال، إلا أنه يعود فيؤكد على أن النظرية النقدية تسعى إلى استنتاج مقولاتها من الواقع العيني للإنسان، وليس من العالم السحري للخيال فقط، لذلك فهو يقرر أن النظرية النقدية لا تتصور أفقاً لا نهائياً للإمكانات، ومن حيث هي كذلك " فإن حرية التخيل تحتفي إلى الحد الذي تصبح عنده الحرية الواقعية إمكانية حقيقية. وحدود الخيال لا تعود هكذا قوانين للماهية... ولكنها حدود تقنية بأدق معنى".
- نهاية اليوتوبيا: يستخدم ماركيوز مفهوم اليوتوبيا بطريقة لا تخلو من الغموض والالتباس، فنجد اليوتوبيا في كتابات ماركيوز أحياناً ما تشير إلى معنى الرفض أو السلب لما هو قائم مع التطلع إلى خلق حضارة ذات معالم جديدة، وهذا المعنى يختلف عن المعنى التقليدي لليوتوبيا، من حيث إن ماركيوز لا يقصد باليوتوبيا هنا اللا مكان، وإنما إمكانية واقعية قابلة للتحقق، وفي هذا يقول ماركيوز: يجب أن يكون التفكير بالتناقض قادراً على الفهم والتعبير عن الإمكانات الجديدة لوجود مختلف كيفاً. إنه يجب أن يكون قادراً على تجاوز قوة القمع التكنولوجي وأن يدرج في مفاهيمه عناصر الارتواء التي تكون مقهورة ومعاقة من خلال هذا القمع. بعبارة أخرى فإن التفكير بالتناقض يجب أن يكون في تعارضه مع الواقع القائم أكثر قدرة على النفي واليوتوبيا.
غير أن ماركيوز في أماكن أخرى يشير إلى أن هناك بعض الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية، التي من صالحها بقاء الوضع الراهن القائم دون تغيير تستخدم مفهوم اليوتوبيا لوصف أي محاولة لنقد أو تجاوز الوضع القائم باعتبارها محاولة غير واقعية، وتعارض قوانين الواقع والتاريخ. ووفقاً لهذا المعنى الأخير فإن "ما يوصف باعتباره يوتوبيا لم يعد ذلك الذي يُشار إليه باللا مكان، وما لا يمكن أن يكون في العالم التاريخي، بل ذلك الذي تحول دون ظهوره المجتمعات القائمة ".
يرفض ماركيوز المعنى الأخير لليوتوبيا لأنه يسعى إلى إعاقة إمكانات تاريخية معينة عن الظهور، ويقمع الطموح البشري، ويجمد إمكاناته الغنية. وفي مقابل ذلك يرى ماركيوز أن اليوتوبيا بهذا المعنى المشار إليه ليست في حقيقة الأمر إمكانية مستحيلة أو تقع خارج نطاق التاريخ كما يصورونها، بل هي إمكانية تاريخية وإنسانية بالمعنى الدقيق للكلمة. وفي هذا النطاق يذهب ماركيوز إلى أن أي شكل للعالم المتجسد من الحياة الإنسانية وأي تحول للبنية التقنية والطبيعية أصبح اليوم أمراً ممكناً. وأساس هذه الإمكانية هو الأساس التاريخي. فاليوم لدنيا القدرة على تحويل العالم إلى جحيم، وقد تقدمنا على الطريق لفعل ذلك. إلا أننا نمتلك أيضاً القدرة على تحويله إلى ما هو عكس الجحيم. وينتهي ماركيوز من هذه الآراء المتفائلة والمعبرة عن إيمان عميق بقدرة الإنسان على صنع الفردوس الأرضي، إلى القول بأن نهاية اليوتوبيا أصبحت أمراً ممكناً، ويعني بذلك أن ما تطرحه قوى الثورة المضادة على أنه يوتوبيا أو نوع من الوهم هو في الحقيقة إمكانية واقعية وقابلية للتحقق.
وبهذا المعنى نجد أن ماركيوز سعى إلى أن يضع الحدود الفاصلة بين الممكن والمستحيل، أو بين غير اليوتوبي واليوتوبي فإنه يتساءل عن الأسباب والعوامل التي تجعل اليوتوبيا إمكانية مستحيلة وفقاً للمعنى التقليدي للكلمة. وفي الإجابة عن هذا التساؤل يميز ماركيوز بين نوعين من استحالة تحقيق اليوتوبيا: الأول: عندما تقف الظروف الذاتية والموضوعية في مجتمع ما حائلاً دون تحقيق التحول التاريخي، وهذا ما يطلق عليه عدم وضوح الموقف الاجتماعي، والأمثلة على ذلك كثيرة منها المشروع الشيوعي خلال فترة الثورة الفرنسية كان يبدو مشروعاً مستحيلاً لعدم توافر الشرط الذاتي- الموضوعي لإمكان تحقيق ذلك. وبذلك يمكن النظر إلى عدم تحقق التجربة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية الأعلى تقدماً، على أنه الغياب الواقعي المزعوم للعوامل الذاتية والموضوعية التي تجعل هذا التحقق مستحيلاً الآن.
ولا شك في أن الاستحالة هنا استحالة مؤقتة وليست دائمة، لذلك فإن ماركيوز ينفي عن هذا المستوى من الاستحالة صفة اليوتوبيا بالمعنى التقليدي الذي يعني الإمكانية المستحيلة ويؤكد على أن الاشتراكية إذا كانت غير ممكنة الآن في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً نظراً لغياب الطبقة الثورية الفعالة، فإن لا يعني أن الاشتراكية مشروع يوتوبي.
أما المستوى الثاني من الاستحالة، فيتمثل في تعارض المشروع اليوتوبي مع القوانين العلمية البيولوجية والفيزيائية مثل فكرة إعادة مرحلة الشباب للمسنين أو عودة العصر الذهبي...إلخ، وينظر ماركيوز إلى هذا المستوى الأخير من الاستحالة على أنه اليوتوبيا بمعناها الدقيق، أي الذي يقف خارج نطاق التاريخ ويتجاوز حدود التجربة الإنسانية.
ويبقى السؤال: هل نجح ماركيوز في تحديد الخط الفاصل بين ما هو يوتوبي وما هو غير يوتوبي، أي بين الممكن والمستحيل؟
في حقيقة الأمر، رغم تعاطفنا مع نزعة ماركيوز المتفائلة بإيمانه بالقضاء على الفقر والبؤس والعمل المغترب، والقضاء على القهر السياسي والجنسي أصبحت أمراً ممكناً، وأن تحقيق الحرية والسعادة للإنسان ليس أمراً مستحيلاً طالما أنه إمكانية واقعية تخضع للحركة التاريخ، إلا أننا سنتعرض بعض الملاحظات النقدية حول مفهومه عن نهاية اليوتوبيا:
1- إن ماركيوز عندما حصر مفهوم اليوتوبيا بالمعنى التقليدي في إطار تعارضه مع القوانين العلمية التي تحكم الظواهر البيولوجية والفيزيائية قد وقع في خطيين:
أ- إنه تجاهل وفقاً للمفهوم الماركسي أن هناك قوانين تحكم الواقع التاريخي والاجتماعي لا تقل أهمية عن القوانين العلمية الأخرى، وعند هذه النقطة تتسع المساحة بين ماركيوز والماركسية.
ب- تخيل ماركيوز أن القوانين العلمية قوانين مطلقة ولا تخضع للتطور التاريخي، في حين أن قوانين العلم هي جزء من التجربة الإنسانية الشاملة، وما يبدو اليوم ضرباً من ضروب اليوتوبيا في مجال العلم قد يصبح يوماً ما واقعاً معاشاً، والأمثلة العلمية خير دليل على ذلك.
2- إن النظرية النقدية إذا كانت تعلي من شأن الدور النقدي للخيال، ومن قيمة البعد الجمالي فهذا في حد ذاته ليس مبرراً للقول بأن ماركيوز قد انشق عن صفوف الماركسيين فماركس نفسه قد بيّن أن الإنسان يشكل الأشياء وفقاً لقوانين الجمال. وكان لينين يخاطب الجماهير بقوله ينبغي أن نحلم، وقد قال انجلز في كتابه ( الثورة والثورة المضادة في ألمانيا ): إن الانتفاضة فن، بالقدر نفسه الذي تكون به الحرب أو أي شيء آخر فناً. لكن برغم ذلك لم يكن الحلم والخيال في التراث الماركسي حلماً مطلقاً أو خيالاً جامحاً بلا حدود، بل كان محكوماً بإمكانات الواقع والممارسة الثورية، وهذا الفرق بينهم وبين ماركيوز من حيث إن ماركيوز لم يكن مهتماً بالرجوع إلى الواقع كما كان يفعل ماركس وانجلز، فقد كان مهتماً بسلب هذا الواقع، وممارسة دور الرفض العظيم، والقطيعة التامة مع ما هو قائم. وهذا النقد قد أثبت أن ماركيوز كان يغير من مواقفه الفكرية وفقاً لاختلاف الظرف التاريخي، لأننا نعتقد بأن شخصية ماركيوز تتميز بجانبين في غاية الأهمية:
*الأول: هو الفيلسوف الرومانتيكي الحالم والحاد المزاج معاً.
*الثاني: هو المفكر السياسي، إلا أنه يبدو أن ماركيوز الفيلسوف الرومانتيكي الحالم كان دائماً يتفوق على ماركيوز السياسي الملتزم بقضايا وإمكانات الواقع الاجتماعي.
3- إذا نظرنا إلى موقف ماركيوز اليوتوبي سنجد أنه عندما حاول أن يرسم معالم حضارة جديدة تخلو من القمع السياسي والجنسي وتسودها قيم الحرية والجمال والسعادة، ويتحول فيها العمل إلى لعب، ويصبح الإنسان سيد نفسه. نقول إن ماركيوز لم يراع أي معايير واقعية أو تاريخية تؤكد وجود مثل هذه الحضارة، وحتى إذا كان ماركيوز يستطيع أن يبرهن على استحالة وجود قوانين تحكم الظاهرة الاجتماعية، فإنه لا يستطيع أن يتجاهل التاريخ. وأي مشروع للتغيير الاجتماعي فإنه لا بد من أن يستمد تصوراته من التجربة الإنسانية السابقة، وقد رفض ماركس وانجلز المشروعات اليوتوبية التي تقفز فوق قوانين التاريخ، وتحلق بعيداً عن أرض الإنسان، ورفضوا أيضاً وضع مثل عليا ينبغي للواقع أن يتطابق معها.
إن الثورة لا تقوم على مخططات مثالية، ويوتوبيا مقرر سلفاً، وإنما من خلال التحليل الجدلي للواقع القائم والسعي إلى تغييره. أما نزعة ماركيوز الجمالية الحالمة، والمتفائلة إلى أقصى حد، فإنها تتحول في النهاية الأمر إلى ضرب من اليوتوبيا المستحيلة التي رفضها ماركيوز نفسه.
المراجع المعتمدة:
(1) هربرت ماركيوز: فلسفة النفي (دراسات في النظرية النقدية)، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، منشورات دار الآداب، بيروت، ط1، 1971.
(2) كمال بومنير: جدل العقلانية في النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت (نموذج هربرت ماركيوز)، الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف، بيروت والجزائر، ط1، 2010.
(3) هربرت ماركيوز: الحب والحضارة، ترجمة: مطاع صفدي، دار الآداب، بيروت، ط2، 2007.
(4) Herbert Marcuse: An Essay on Liberation, Beacon Press, Boston, 1969.
(5) Herbert Marcuse: Negations - Essays In Critical Theory, penguin Press, 1958.
(6) Herbert Marcuse: Five Lectures - Psychoanalysis, Politics An Utopia, Beacon Press, Boston, 1970.
(7) إدوارد باتالوف: فلسفة التمرد، ترجمة: سامي الرزاز، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1981، ص(199).
(8) حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر (دراسة في النظرية السوسيولوجية المعاصرة)، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.