رايفين فرجاني - التأريخ

ولما وقفنا في الجزء الأول على أخبار المؤرخين,وضرورة التحقق من أمرهم قبل الأخذ بنقولهم (حيث يستفاد أيضا من هذا المقال (دليلك لقراءة تاريخ مُبَسَّط مُشَوِّق غير مُمِلّ,محمد إلهامي,الجزيرة نت).

نتابع هاهنا بعض الأمثلة والتفاصيل في بيان من يؤخذ به ومن يترك من المحققين.

-شاهد على العصر
لا مراء في أن المؤرخ المعاصر لعصره هو أكثر قيمة من المفارق لذاك العصر,مهما كان الأخير أكثر مصداقية من الأول. فالأول يصدقه زمانه بأنه كان حاضرا أولا,وكاتبا ثانيا. وهيرودوت كان مؤرخا أرخ لحارب حارب فيها. وحتى إذا سلمنا بفرضية مفادها أنه لا صادق ولا كاذب,وإنما مشكوك في أمره. ثم انتقلنا من الشك إلى التأكيد على كذبه. يظل هذا الكذب واقعا وأكثر واقعية من أي جهل صامت لا يحكي عن أي شيء,ولا يوصف حتى على نحو الإشارة بأنه (المسكوت عنه). أي أنه,عند وضع نصوص هذا الشاهد / المؤرخي في سياقها التاريخ المشهدي,المؤطر بالضرورة,بسياقات أخرى,إجتماعية أو سياسية أو نفسية,عند وضع الشواهد والمشاهد في سياقها الصحيح,نخرج بمجموعة من الإستنتاجات تسمى بـ القرائن / الحيثيات / الحوليات,أو حتى المقاربات,التي توضع هي الأخرى في مقارنة ونقلات تحليلية استنباطية تساعدنا على فهم ومعرفة ما حدث فعلا.

-النصوص الأدبية
لا شك أن الكتب التاريخية,وما يتعلق بها من وثائق وأدلة وآثار,وتحليلات وقراءة للتاريخ أكثر إحكاما ودقة وموثوقية من الكتب الأدبية,ومع ذلك لا يمكن إغفال القدر العظيم الذي تحمله تلك الكتب من روح العصر,ومن الصدق الشخصي الذي لا يتواجد في الكثير من كتب التاريخ. بل بعض هذه الكتب,زادت وغطت في الدقة والموثوقية,وأُخرجت نصوصا محكمات حتى صارت مراجع في الفترة التاريخية التي تصورها. خاصة إذا طبقنا مرة أخرى النظرية السياقية على تلك النصوص الأدبية,مثل العلاقات الإقتصادية والسياسية بين الكاتب والناشر,التي تصب في منفعة الكاتب / المؤرخ,مما يؤثر سلبا على حياده الموضوعي ومصداقية سجلاته,لورود عامل نفسي متحيز.

-المدارس التاريخية
القائمة على النظريات التأريخية الكبرى تلك النظريات التي تقدم لنا نماذج تفسيرية من أجل قراءة التاريخ. مثل علوم الجرح والتعديل والتواتر والإسناد والإخبار والمدرسة الخلدونية والتوفيقية عند العرب قديما,ومثل المدارس الماركسية والوثائقية والتحليلية والتفكيكية والنقدية والآلية ومدرسة الحوليات عند الغرب حديثا,وحتى المدرسة السياقية التي جرى ذكرها أعلاه. من أبرز الموضوعات والمقولات والنظريات المعني بها المدارس التاريخية,نذكر

-التاريخ كما يجب أن يكون

-التاريخ يكتبه الأقوياء

-التاريخ والزمن

-نظرية المؤامرة

-حفريات المعرفة

-عجلة التاريخ

-ما وراء التاريخ

-نهاية التاريخ

-تاريخ المدنية

-تاريخ الأديان

-تاريخ الأفكار

-المظاهر الإجتماعية
والإنسانية,الدالة بلا ريب على وجود البشر,لذا وجب علينا تتبع وجودها لاستنباط أشياء أخرى ربما كانت مرافقة لهذه المظاهر والسلوكيات في حقبات لا يصل إليها علمنا بعد.

ولما قسمنا التاريخ إلى أربعة أقسام,كان كل قسم يعني بموضوعه كما الآتي

1-التاريخ: تاريخ للأحداث في سياقها الزمني

2-الجغرافيا: تاريخ للأحداث في إطارها المكاني

3-التراجم: تاريخ للأشخاص

4-الآثار: تاريخ للأشياء

هذا إذا خصصنا التاريخ بمواضيعه الأكثر حميمية,مثلما فعلنا في الفلسفة (في ذاتها),فيما عدا ذلك فالتاريخ جزء أساسي من جميع الحقول المعرفية لا يمكن فصله عنه.

إذا استعملنا أدوات المدرسة الإجتماعية,أو النفسية,لتساعدنا على قراءة الملاحظات والمشاهدات لنفس هذه الظواهر سابقا,ومقارنتها مع نفس هذه الظواهر اليوم. يخرج لنا عظيم الفائدة,وذلك لثلاثة أسباب

1-أن الملاحظين في الماضي,كانوا بعيدين كثيرا عن عدد من مشتتات الحاضر

2-أن الملاحظين في الماضي,لاحظوا مظاهر إنسانية ظلت ثابتة إلى يومنا الحاضر بحسب ما خرج عن مشاهداتنا

3-أن الملاحظين في الماضي,هم قوم العلماء العقلاء,تبنوا برنامجا علميا,وطبقوه,وربما أفنوه أعمارهم فيه.

-عجلة الزمن
هذا أمر غاية في الأهمية,وهو أنه يجب التشديد على وضع وثيقة مرجعية ثابتة, ومتجددة,أصيلة من حيث ثباتنا على مصداقية ما يرد فيها من حقائق,وهو ما قصدته أولا بالثبوت. وليس بمعنى الثبات,أي أن معلوماتها لا تتغير. عجلة الزمن هذه هي موسوعة شاملة وموجزة لجميع التسلسلات والتتابعات التاريخية التي مرت على البشر. منذ أن عرف التاريخ تأريخا,وإلى يومنا هذا,الذي سيكون أمسا,وغد الغد هو أمس أيضا. ولهذا وجب التجدد من أجل المزيد من التسجيلات الناتجة عن التحقيق في الماضي,أو تسجيل الحاضر.

-ماهية التاريخ
أو بيان الفارق والعلاقة بين التاريخ والتأريخ,وهو أن الأول زمنا,يوصف بأنه زمن طويل يتحول فيه الخبر تاريخا,أما الثاني فهو ببساطة تسجيل لهذا الزمن عبر رصد أحداثه. وفائدته ناهيك عن كونه حفظ لتراثنا,وخلود لذواتنا الفانية مما يجعلها حاجة أساسية ضد الموت, وقيمة فنية لا غنى عنها. إلا أن هناك إضافة هامة,تعين الفارق بين المؤرخ والمفكر التاريخي. والحق أن أي مؤرخ يجب أن يكون مفكرا تاريخيا,لأن التاريخ غايته الإستفادة من الماضي في بيان وقائع الحاضر. وكالعادة,ومثل معظم المنتجات الفكرية,ينسب أول بوادر الفكر التاريخي إلى حاضرة الغرب متمثلة في مهدها الأول؛أي اليونان "فكان (هيرودوت) أبو التاريخ بحق كما لقبه الجميع. اشتهر بعلمه وباهتمامه بدراسة الحروب الفارسية وكان قد عايش الحرب بين اثينا واسبرطة في آخر عمره كذلك . قبله لم تكن لهذا النوع من الكتابات تسمية خاصة تعرف بها مثل الفلسفة أو الريضيات أو الفلك،ولكن كانت هناك مصطلحات عامة مثل مسجلوا الأخبار،أو الإخباريون وهم الذين يجمعون أخبار الشعوب. لكن مع هيرودوت بدأت فكرة تصور عام لحركة التاريخ ولأول مرة استبدل كلمة logoi بمعنى علم بـ historia بمعنى بحث ودرس. وكانت تستعمل في البحث الجنائي وفي المجال الفلسفي حول حقيقة الكون. إذن الأمر لم يعد مجرد تسجيل أحداث الماضي وإنما هو دراسة وبحث. توصل هيرودة من منطلقاته هذه إلى تجاوز الحدث لربطه بالصراع المستمر في العالم بين أوروبا وآسيا وبين الشرق والغرب مستشهدا بالحرب الطروادية التي كان يعتبرها مقدمة للصراعات المستقبلية وبهذا تجاوز الآني المستقر الى حركة التاريخ [نشأة الفكر التأريخي وتطوره عند اليونان,مصطفى العبادي,مقال منشور بعالم الفكر العدد 1يوليو-سبتمبر 2002].

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى