الجزء الثامن.
عند محمد داني من خلال مجموعته "الموسم":
مرارة الواقع وتقنيات الكتابة، قراءة في مجموعة"الموسم" لمحمد داني
أصدر المبدع المتعدد، محمد داني، مجموعته القصصية، والتي تحمل العنوان التالي: الموسم، عن مطبعة ووراقة البوغاز، سنة 2016.
وتضم في حناياها اثني عشر نصا على امتداد 108 صفحة.
وجل النصوص تحمل عنوانا مفردا ومعرفا، وما اختيار هذه العناوين إلا للتعبير عن التعاقد الموجود بين المؤلف والمتلقي، تعاقد يشي بتلاقي الطرفين في معرفة الموضوعات التي سيتم التطرق إليها، ويشتركان في إدراكها؛ هما معا على علم بها، لكن المؤلف سيسعى إلى إبراز الخفي فيها، والمسكوت عنه فيها. إن التعريف عتبة مشتركة بين الطرفين، ولحظة اتصال تأتي بعدها لحظة الانفصال لكون المؤلف سيعمد إلى إعادة تشكيل تلك المعرفة فنيا بطريقة تجعل المتلقي مندهشا وهويعيد اكتشافها.
وقد ورد في ظهر غلاف العمل، أن جل النصوص لها مع المؤلف حكاية ما..وفي نفسه.. بعضها من محض الخيال.. وبعضها من صميم الواقع.
ونفهم من هذا القول أن النصوص قد جمعت بين التخييلي والواقعي في توليفة فنية مميزة.
إن القاص يتعهد، بناء على ما سبق، الحديث عن الظواهر السلبية التي يعرفها واقع المتلقي، ويسعى إلى معالجتها فنيا بما يحقق له المتعة والإفادة.
هكذا، وجدنا المجموعة تحتفي بظواهر من قبيل: وضعية المبدع في وسط لا يحفل سوى بمتعة هز البطن، ووضعية رجال التعليم الكارثية، ووضعية السجون وما تشهده من أحداث مروعة، ومزلزلة، وواقع حقوق الإنسان في ظل القمع، والظلم، والتهميش، ووضعية الحاصلين على الشواهد، ووضعية المتقاعدين، إلخ، وهي كلها ظواهر ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية.
علي مستوي عمق الرؤية يعيد المبدع بناء رؤية جديدة للواقع عبر الإلمام بتفاصيله و استحضار آليات إنتاجه والتشابك مع سياقاته.
وقد تناول القاص في نصوصه قضية الوضع الاعتباري للمؤلف، قصة "الموسم" ص 4 مبرزا هشاشة وضعه، بفعل تهميشه؛ كما تناول قضية رجل التعليم، قصة "الحافلة" ص30، وبين وضعه المزري، في مجتمع لا يهتم بالعلم والمعرفة. وفي نص "الكبش" ص8، تحدث عن الشعيرة الدينية التي تحولت إلى طقس مباهاة، فلم تعد تشتمل على الروح الدينية بل حل محلها الجانب الاجتماعي حيث الظهور والتفاخر. هذا، فضلا عن تناوله لقضايا أخرى كمثل وسائل التنقل التي تهدر فيها كرامة المرأة، وقضية السجون وما تعرفه من انحرافات "الكابوس" ص14، وقضية تسوية أوضاع المتقاعدين: "التقاعد" ص70، وإهدار كرامة الإنسان، كما في نص "الحلقة" ص35، حيث تفقد فيها الرجل نسانيته ليصير أسفل سافلين، وبطيبة خاطر، فقط، للحصول على مورد رزق.
واضح أن المجموعة قد امتاحت من الواقع موضوعاتها، وتناولت الكثير من الظواهر بالتشريح والنقد، معتمدة اللغة الساخرة في تناولها. والقاص لم يعتمد الواقع في سطحيته، بل غاص في أعماقه لقراءته القراءة الصحيحة، واستخراج ما يموج بداخله معتمدا معالجة فنية لا تستسلم للتقريرية ولغة الصحافة، بل ركزت على الجوانب الفنية، مشغلة في كل قصة ما يناسبها، مع الإشارة إلى أن اللغة الساخرة ظلت الخيمة التي تأوي كل النصوص، إنها اللغة العبرية، المخترقة للمجموعة ككل.
والملاحظ أن القاص قد تناول قضايا متنوعة، منها الاجتماعي، والسياسي، والثقافي؛ أي تناول كل ما يحيط بالإنسان، وبخاصة تلك التي تتميز باختلالات قصد التقويم والتصويب.
ونص: الموسم، الذي منح المجموعة قبعته، تناول قضية الأديب، في مجتمع مائع، وأظهر، بكثير من المرارة، تواري هذا الكائن السائر في طريق الانقراض، لصالح نموذج جديد مرغوب فيه، والأكيد أنه مدفوع إلى الواجهة دفعا، لغايات سياسية بالأساس.
وعليه، تم تشكيل ذائقة ميالة إلى الرقص المبتذل، والغناء الساقط، بهدف إلهاء الناس عن قضاياهم الحيوية. ولتحقيق النجاح الكبير لمثل هذا المشروع التخريبي، تم تهميش الكتاب والنقاد، والمثقفين عموما، لكون أصواتهم مزعجة، غير راضية عن الواقع.
وبناء عليه، نجد أن القاص يبغي وضع القارئ أمام الصورة البئيسة للواقع، ويبين له هزاله ومهزلته، حتى يتخذ منه الموقف المناسب، وبذلك، نقول: إن المجموعة ذات أهداف نبيلة، تتجلى في رغبتها بناء مجتمع سليم، يعاد فيه الاعتبار للمثقف، وتصان كرامة الموظف، ويحافظ على شرف المواطن.
إن أي مبدع لا يتبنى فِكراً إنسانياً حقيقياً تَحررياا من كل القيود التي تَحول دون تطور الإنسان وعلى جميع الأصعِدة؛ هو ليس مبدعا حرا. وأي فنان لا يصرخ في وجه الظلم والعبودية بكل أشكالها السياسية منها والاجتماعية والدينيةليس جديرا بأن يكون فنانا حقيقياً. أي كاتب لا تتعدى طُروحاته المحظور والمقبول، ويكتب بتحفظ كبير، ولا يتناول بالتعرية المسكوت عنه، ولا يستطيع خرق الثالوث المحظور، بجرأة وفنية، لن يتركَ أثراً خالدا، ولن تكون كتاباته سوى خاطرة أدبية براقة من دون عمق.. لا أثر لها ولا بقاء.
والملاحظ أن نص "الموسم" يرصد أثر الصدام بين الذات والواقع، بين الرغبة والأمر المفروض، فهذا الاشتباك بين الطرفين، وهذا التعارض بين الرغبتين، ولد لدى السارد قتامة نفسية لم يتمكن من تجاوزها إلا بفضل السخرية، على اعتبار أنها أداة الضعاف تحقق لهم توازنهم المختل، وتعيد إليهم اطمئنانهم المفقود. و لا غرو أن السخرية هي، في الآن نفسه، أداة هدم وبناء، فهي تهدم القائم لقبحه، وبناء، لأنها تسعى إلى إعادة ترتيب مفرداته بطريقة صحية وصحيحة، تكون مخالفة للصورة الأولى. ففي الوقت الذي تسخر من اختلالات الواقع، فهي تبرز دور هذه الاختلالات في إعاقة النهوض والتجديد، ومن صلب هذه السخرية المعبرة، نتلمس ملامح الواقع المأمول.
هكذا، نجد أنفسنا أمام تعارض جديد، أساسه الاختلاف بين وجهتي نظر، واحدة دينامية، والثانية استاتية جامدة. فالدينامية تميل إلى التغيير، بينما الستاتية تنزع باتجاه الجمود والرسوخ. وطبعي أن يحدث التصادم بين الوجهتين، تكون الذات المتكلمة، بما أنها مفرد، إلى الانهزام المؤقت؛ ذلك أن الذات وهي تسطر معالم القبح في الواقع، إنما تبذر في التربة ما سيأتي بالخير. ونعلم أن أهم التغييرات التي شهدها العالم كانت بفضل إرادات حرة أبت إلا الخروج عن المعيار والنموذج، مقترحة بدائل ممكنة، ومشيرة إلى منافذ التهوية الصحية.
وقد اعتمد النص في بنائه على التوازي، إذ عمد إلى تشكيل قصتين تسيران في اتجاهين مختلفين في نص واحد، وتلتقيان لتحقيق الاشتباك والتصادم. بينهما تباعد على مستوى البنية والهدف، وتناقضهما هو السبب وراء الصدام.
وتتولد المفارقة بفعل إشراقة وعي بين المرجو والموجود، فانبثاق التعارض عمق الشرخ بين الطرفين، ما ترغب فيه الذات المفردة، وسلطة الواقع المحمي من طرف الجماعة. وقد صار من العبث خرقه، أو تجاوزه إلا بآلية السخرية كأداة فضح وتعرية.
.
بالنسبة لسخرية اللغة يبدو مهما التقرير بأن لغة السرد عند الكاتب يانعة تتسم بألق خاص لاسيما علي مستوي تقنية الوصف حيث يبرع الكاتب في تجسيد الثابت والمتغير بأسلوبه التركيبي الجميل.. لغة الكاتب ساخرة في عمقها وإن بدت علي عكس ذلك للقارئ غير المتأمل حيث نلاحظ كيف يطوع الكاتب لغته لتجهر وتسر وتسخر كما شاء له موضوع قصته, ورؤى شخصياته.
وقبل الختم، لابد من الإشارة، ولو بشكل مقتضب، إلى بعض التقنيات التي وظفها القاص، سي محمد داني، في نصوصه:
بعض التقنيات الموظفة في المجموعة:
الحوار: يظهر أفكار الشخصيات، ونزوعاتها وميولاتها، ويفضح واقعها.
كما أنه يساهم في تطور الأحداث، وتناميها.
الشكل المسرحي: حيث ينتهي النص بطريقة مسرحية، وكان الستارة تنزل معلنة نهاية الحدث. وهو ما نعثر عليه في نص "التعيين" ص39، حيث يتم توظيف ما يشبه الإرشادات المسرحية أثناء بلوغ النهاية:
وبدأ إبراهيم يفض الظرف، والكل يتطلع إليه ويحملق بفضول، ثم أخرج ورقة بيضاء، مطوية، وأغرق نظره فيها، بعدما فتحها.. وطالت قراءته لها ..
-أي وزارة يا ولدي؟{يسأله والده}
-ماذا؟؟.. لا ... لا ... هذا مستحيل؟ ...
ويتسمر إبراهيم مكانه، بل لم تستطع ركبتاه حمله .. فجثم عليهما باكيا..
-ما بك يا ولدي؟..{ تسأله أمه باستغراب}.
-الإعفاء يا أماه... الإعفاء... لا وظيفة ولا هم يحزنون ...
-ماذا؟؟ !...{ تصيح الأسرة باندهاش}...
وتنزل الستارة، معلنة انتهاء المسرحية، فالجمل الموجودة بين معقوفين شبيهة بالإرشادات المسرحية المعبرة عن حالة الشخصيات، وتبرز انفعالاتها، وردود أفعالها. ينتهي النص بخيبة معممة، طالت كل أفراد الأسرة، للتدليل على مرارة الواقع، وأثره في نفوس الفئة المهمشة.
التوازي: حيث يبنى النص باعتماد برنامجين سرديين متعارضين، مما يولد الاصطدام بينهما، ويكون الفشل واقعا على الحلقة الأضعف..مما يولد في نفسها المرارة.
وقد بينا أن نص "الموسم" ينبني على هذه التقنية، إذ من جهة، نجد القاص وهو ينتظر دوره في إلقاء نصه، رغم كل المعيقات، ومن جهة أخرى، نجد الفرقة الشعبية التي تقدم دورها كاملا غير منقوص لجمهور متجاوب معها.
السخرية: إذ يتم تجاوز الخيبة بهذا الفعل، ويتحقق به توازن الشخصيات.
ففي نص "الموسم" لم يعلن القاص عن غضبه، عن احتجاجه، بل كان رد فعله باردا، يخفي مرارة يطفح بها رده الأخير:
-مهرجان آخر؟ حسنا ... إلى مهرجان آخر، وسأحضر معي شيخاتي ليغنوا قصصي، ص 7.
فالقول الظاهر أن القاص راض عما اقترح عليه، لكن الباطن عكس ذلك، إنه طافح بالسخرية من وضع فني مترد، يعبر بتلك السخرية عن رفضه الأمر الواقع، ويسعى إلى ما هو أفضل منه.
الاستباق: وهو توقع الآتي، كما في نص كابوس، إذ ما حدث للشخصية لم يقع إلا على مسرح النوم، لكن النص سيباغتنا ببداية شبيهة ببداية الكابوس، الأمر الذي يدفع بنا إلى:
إما الاعتقاد أن الشخصية ستتعرض لمثل ما تعرضت له في حلمها.
وإما أن توقعنا سيخيب، وأن الشخصية ستتلافى الوقوع في الفخ كما وقعت فيه أثناء الحلم.
لكن، ما ينبغي التأكيد عليه، هنا، أن النص سعى إلى فضح واقع السجون، وتعريته، وانتقاد ما يقع فيه من تجاوزات، وانحرافات.
حلم اليقظة: حيث تميل الشخصية إلى قناعة مفادها: أن حصولها على شهادة الإجازة سيمكنها، لا محالة، من الحصول على وظيفة سامية تحقق لها الوجاهة الاجتماعية، وتخلصها، وللأبد، من فقرها المدقع؛ وتنتقل العدوى إلى باقي شخصيات النص، إذ ستنخرط جميعا في صوغ الحلم الجميل، وتعيشه بكل جوارحها، لكن الواقع سيخيب توقعاتها، ويجرعها المرارة.
هكذا تتحقق المعادلة التالية، التوقع والخيبة، جمالية الحلم وقبح الواقع، البناء الحالم والصدمة الهدامة.
والملاحظة أن شخصيات العمل ككل مصابة بداء الإحباط والهزيمة، ولم يكن القصد تثبيط الهم بل شحذها، وحثها على النهوض وتحقيق التغيير المنشود.
الخاتمة :
تتميز المجموعة بدقة ملاحظاتها للحراك اليومي للناس، تعري المجتمع وتفضح زيــفه، وتكشف تناقضاته، وتسخر من سلوكات الكثير من أفراده من خلال شخصيات النصوص السردية، وقد نجح سي محمد داني في هذا نجاحا كبيرا مما يجعل المتلقي يقف مندهشًا حيال تلك السلوكات ، أيشفق على تلك الشخصيات؟ أم يــدينها ؟ أم يدين المجتمع ؟
من الضروري على المبدع أن يخوض في مواضيع راهنة حارقة، ويعالج قضايا تغيب عن عيني الإنسان العادي في قص مبني بطريقة جذابة .... فيعيد إليها ألقها، وحياتها، فلكي نبدع سرديا وشعريا، علينا أن نبني حدثًا أسلوبيا يتخطى المعيار الكلامي السائد.
**
عند محمد الشرادي من خلال مجموعته "كتاب الحب":
الحب في مجموعة "كتاب الحب" لمحمد الشرادي
يدعونا القاص محمد الشرادي في كتابه "كتاب الحب" إلى الاستحمام في ماء الحب مرات ومرات لنتطهر من أدران الكراهية والحقد، لكي نغتسل بماء الحب؛ العاطفة الإنسانية السامية، لنكون في المستوى الراقي الذي يدخلنا باب الإنسانية بجمال.
الاصدار الذي لاشك انه مخاض تراكمات وإلمام عميق بالتراث العشق العرب ، ونتاج الماعات عرفانية ونورانية في محراب الحب أو المحبة ( l'aimance ) بنعناها الاشراقي كما نحثها عبدالكبير الخطيبي بشغف العاشفين للمعرفة،
الكتاب ليس مجموعة قصصية، بل هو رواية متنوعة الفصول، ومختلفة الشخصيات، القاسم المشترك بينها هو المحبة والعشق؛ إن هذه العاطفة السامية هي العمود الفقري لمختلف القصص، والتجلي الأسمى والأبلغ لرسالة القاص بعد أن شاهد عالما غاصا بالكره والحقد، عامر بالحروب، مما يهدد الحياة.
القاص محمد الشرادي يسير على نهج من كرس حياته للحب، وأنتج كتبا لتشيد به وتعلي من شأنه، لتوقظ الإنسان فينا، إنه على غرار صاحب كتاب "طوق الحمامة" وصاحب كتاب "فقه الحب" وغيرهما، يرسل لنا رسالة ذات أهمية للإقبال على الحياة والاحتفاء بها بالاحتفاء بالآخر، ومعانقته بدل نبذه، وإقصائه، ومن ثم محقه ومحوه.
إن كتاب الشرادي لا يخجل من طرح هويته الواضحة غير المواربة البتة، إنها كتابة تعرف خصمها وتشير إليه؛ هذا الخصم ينتمي إلى فئة من لا يحتكم البتة إلى لغة العقل و الحوار و الاعتراف بالآخر. و بهذا فإن الكتابة عند الشرادي ذات وظيفة، والثَّيمة في قصصه لتطغى على سائر عناصر القص الأخرى ، وهو عندما يبصر على امتداد ساحة الرؤية كلّ هذا الرماد و الحرائق و العويل والانكسارات لا يمانع بالمجازفة بالكثير من أجل أن يقول كلمته، كلمته النظيفة في زمن القذارات والقمع والإلغاء و كتم الأنفاس حتى وان كان مثل هذا ما يدفع بنصّه لمتاخمة بيارات الحكائية، وضمن الحيّز الذي يشي بتألق الحساسية إلى جانب مهارات عديدة، مائزة تسجّل للقاص أيضاً. 1
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=597693
ما يلاحظ على هذا الكتاب كونه محفوفا بعتبات من بدايته حتى نهايته، كما أن تلك العتبات تحف بالنصوص مفردة وجمعا، بل وتخترق بعضها، والبارز أنها ذيلت بمصدرها وبصاحبها بدقة. والناظر إلى أسماء من منحوا قولهم للكتاب سيجد أن أغلبهم من الصوفية، مما يعني أن البعد الصوفي هو الأكثر حضورا والأبرز تأثيرا؛ فالصوفية عشق ومحبة وانفتاح على الآخر، ولا أدل على ذلك من قولة ابن عربي التي تسع كل الأديان، لتصير الحب أسمى دين.
من البداية:
غلاف وردي يستغرق الضفتين معا، ليعانق العالم، وكأن هذا الأخير صورة مصغرة في الكتاب، أو أن الكتاب رحيق العالم، بحيث صار روحا تتلبسه، إنها جدلية التداخل بين الخارج والداخل، حيث يشير الداخل إلى الخارج، وحيث يحضر الخارج في الداخل بشكل مكثف. لون وردي يعبر عن الحلم، وعن الحب، ينتقل من الأصغر إلى الأكبر الذي هو العالم، وينتقل هذا العالم إلى الداخل بكثافته ليشرق قصصا تشيد بالحب، وتقول: إن العالم في بدئه ومنتهاه حب.
وبلونين كتب الحب؛ الأسود والأبيض، كنوع من الجدل أو الصراع بينهما، فالسواد لا يكون إلا صورة عن الكره المنبوذ، والأبيض بصفائه الحليبي لا يعبر إلا عن الحب، فهو الطهر والصفاء، والنبل والإنسانية. ولذا، نجد صورة لقلبين متعانقين، أو بدقة، متداخلين، كحلقتي سلسلة لا انفصام بينهما، وفوقهما ملاك المحبة، ذلك الذي يحمل قوسا ويوجه سهامه للقلبين العاشقين. أما اسم المؤلف، فقد أتى بالأبيض كدلالة على ارتباطه بالصفاء الذي يمثله الحب؛ إنه ينتصر له لا للسواد. كما أن التجنيس أتى بهذا اللون الرائع، لتقول: إن ما تتضمنه من قصص ستكون كلها مناصرة للحب، رافضة للكراهية.
وفي ظهر الغلاف، الوردي، هو الآخر، مقتطف يخبرنا القاص من خلاله عن الهدف أو الرهان من الكتاب؛ رهان محو الصورة السيئة عن الحب، بمصالحته مع الفرح، والنهايات السعيدة.
وحين نفتح الكتاب نجد أنفسنا مع إهداء لا للأسرة الصغيرة، بل لأمراء العشاق الذين فاضت قلوبهم حبا، والذين يدخلون قائمة الشهداء بتضحياتهم.
أما الصفحات الثلاث الموالية فتضمن مقتطفات أو قصص تتمحور حول الحب، من آدم إلى يومنا هذا.
آدم أحب بقوة حواء، وصار ذلك سنة في نسله، فالأصل هو المحبة، والفرع ما يناقضها، وسار على هذا الدرب سيدنا إبراهيم في حبه لهاجر، وما كان معنى قوله سبحانه، لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، إلا الحب. ليأتي جلال الدين الرومي موضحا أن الحب دين البشرية قاطبة؛ وهو الطريق النوراني المفضي إلى الله. ليكون المقتطف الأخير نشيد حب، حيث الآخر والأنا، في وحدة وانسجام.
رحلة مع النصوص:
هي مجموعة من ثلاثة عشر نصا، تحمل العناوين التالية:
دموع الفرح سكر.
موقع استراتيجي.
Naja Naja
صنعتك لنفسي.
كيمياء الحب.
على كل شيء قدير.
دعه يمر، عده يعمل.
جبل التوباد.
أنوار موطئي القدمين.
زهرة الجوري.
طين بهي، نور سني.
أراه، فأراني.
نور أنّى تراه.
هي قصص بمثابة حبات ماس منظومة في خيط الحب المقدس، تشكل عقد لؤلؤ وهاج، يزين طوق الإنسان فيرفعه درجات.
يمكن تقسيم شخصيات المجموعة إلى قسمين اثنين؛ قسم المحبين، وقسم الكارهين، اعتمادا على لوني كتاب الحب في الغلاف. تدخل تلك الشخصيات في صراع ينتهي بغلبة المحبين، لتؤكد، بذلك، ما جاء في ظهر من رغبة في الانتصار للمحبة وربطها بالفرح والإقبال على الحياة البهيجة.
والصراع يكون مع طرف خارج الذات أو من داخلها. والغلبة تكون لصالح المحب، فدون حب لا نساوي شيئا. به نقاوم عتمة قلوب الكراهية. به نقاوم غرور ذواتنا باعتباره عاطفة غيرية. به ننمي خيالنا و نصعد به إلى مراقي الإنسانية الحق. به يتحول الأخر من جحيم إلى خل حميم. فمن لم تدخل قلبه حبة خرذل من الحب لا خير فيه.
وللحب فعل السحر في تحول الفرد من كاره أو غاز إلى عاشق ولهان، يقطر عذوبة، كما هو شأن شخصية قصة "دموع الفرح سكر" ص7، فالرجل لم ير في تلك الأنثى رائعة الجمال، سوى قلعة ينبغي اقتحامها، ورأى نفسه جنرالا حربيا تكسو صدره النياشين؛ وأن من واجبه اقتحامها، بيد أنه فشل، وفشلت أسلحته، فالحب ليس ميدان حرب، بل هو تعبير عن خلجات النفس، وسمو الروح. وحين تطهر من أدران فكره الحربي، وسكن قلبه نور الحب، تغير، وتغيرت تعابيره، وانساق وراء النور. لقد غيره الحب، وقبلته الغادة، ومنحته قلبها؛ فالحب كالتوبة يجب ما قبله ص12.
وقد تكون الإعاقة جسدية، تمنع المحب من خلق التواصل مع المحبوب، نتيجة إحساس بالدونية، كما في نص "دعه يمر، دعه يفعل" ص44، مما يدفعه إلى التفكير في الانتحار، لكن الأم، تقف ضد السوداوية، تضخ الطاقة الإيجابية في نفس ابنها، قائلة له؛ وهي تحذره من مغبة ما قد يقدم عليه: ويحك، الحب حياة. لو كانت تريد موتك ما أحبتك...ص48. وتضيف من أجل إقناعه: كتمان الحب إثم كبير، وعقابه عند الله عظيم.
وإذا كانت الإعاقة الجسدية حاجزا، فإن البحر، هو الآخر، لعب دور المعيق، لكن الأم لعبت دورا إيجابيا في تغيير موقف ابنها، كما الحب الذي شفاه، وأعاد إليه حيوية رجليه.
من هنا، يتبين لنا أن القاص يسعى إلى إقناع قارئه بالطاقة السحرية التي يمتلكها الحب، وقدرته على شفاء الأجساد والنفوس العليلة.
بخلاف من سكن فؤاده الكره، وصار له دينا، فإنه غير قادر على الحب والعطاء، وهذا الصنف من البشر هو من تقاومه النصوص، وتقف ضد فكره السوداوي، وتسعى إلى إزاحته بعيدا حتى لا يلوث صفاء المحبة، ويكدر نقاءها. كما في نص "أراه فأراني" ص76. القوم الذين صدئت قلوبهم، وامتلأ جوفهم بالكره، لم يقبلوا قصة الحب المشرقة التي جمعت بين شخصين، وخافوا أن تشفى قلوب الناس بالحب، وتنار العقول به، فيكون من نتائج ذلك اهتزاز عروش الحقد وهدم أسلاك العزل، ويفقدون جراء ذلك وصايتهم...ص80، فأرسلوا من يقتل الحب، قبل أن يستفحل أمره؛ ولكون الحب ربانيا، فقد عادت جماعة الكره خائبة، تجر ذيول الهزيمة: عاد الشباب بوجوه مسكونة بالفزع، كأنهم رأوا مشاهد من عذاب القبر مرأى العين. فما سبب نكوصهم؟ قولهم: بيت... تطعمه...الملائكة...بيت... تحرسه...الملائكة !ص81. وتكسير الكلام دليل على ما اعترى الشباب من خوف وهلع.
الفرق بين الخصم الداخلي والخصم الخارجي، أن الأول يشفى من كرهه بالحب، فيما الثاني، يظل حبيس ظلام قلبه.
العجائبي:
إذا كان العجائبي يتمثل في خرق منطق السببية بين الأحداث، ويعبث بنظام الأشياء، ويشترط فيه القلة والخروج عن المألوف أو المعتاد عليه.
إنه شكل من أشكال القص ، تعترض فيه الشخصيات بقوانين جديدة تعارض قوانين الواقع التجريبي ، وتقر الشخصيات فيه ببقاء قوانين الواقع كما هي . فهذا النوع من السرد يكون بعيداً عن الواقع بطريقة تسمح نوعاً ما للاقتراب من حدود اللامعقول .
وقد أشار تودوروف إلى أنه: (( التردد الذي يحس به كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة فيما يواجه حدثاً غير طبيعي حسب الظاهر )) ؛ بمعنى أن ثمة قوانين جديدة غير مألوفة يجب قبولها في تفسير الظواهر الطبيعية ، يستند السرد فيه ((إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما)).2 _
فإن النص؛ وهو يستلهم البعد الصوفي، قد وظف الخارق والعجيب؛ لأنه يدخل ضمن نسقه، ويعد أحد أبرز مكوناته، لذا، يدعونا السارد إلى التصديق، بدل الشك.
هناك جدلية العلاقة بين التراث بوصفه حضارة الأمة وركنها الثقافي المميز، والسرد العجائبي بوصفه نسقاً من أنساق السرد العربي وشكلاً من أشكال تلاعبه السردي – في حضوره وغيابه- داخل النص القصصي .
ووجود العجائبي في النص السردي (( يترك أثراً خاصاً في القارىء خوفاً أوهولاً، أو مجرد حبّ استطلاع ، والعجائبي يخدم السرد ويحتفظ بالتوتر : إذ إن حضور العناصر العجائبية يتيح تنظيماً للحبكة مكثفاً بصورة خاصة 3_ المرجع السابق.
ففي قصة "طين بهي، طين سني" ص70، نجد عتبته تؤكد البعد العجائبي كضرورة من ضرورة الحياة، إذ استدعاء السماء، كفاعل مشارك لنا في هذا الكون.
والقصة تتحدث عن ملاك التي تحب، باستمرار، ودون كلل، أن تشهد كيف يخرج الله الليل من النهار، مشاهدة لا تخمد وهج سحر اللحظة وعظمتها. لتجد نفسها أمام قطرة عجيبة من السماء، ستكبر ليخرج من رحمها كائن على هيأة لا تمت بصلة لأعيان الأرض، يتألق بنور مهيب يهز وجدان من وقع بصره على إشراقه. ص71.
قطرة خلخلت نظام الأشياء، وخرقت منطقها، لكنها بدت عادية كما لو أنها استمرار طبيعي لتتابع أحداث الواقع، لا يثير الاسغراب. ذلك الكائن النوراني الذي سيتحول عاشقا لملاك بعد سيرورة أحداث وحوار، وحيرة. ملاك الطاهرة والفاتنة، سيكون جزاؤها هذا النازل من السماء هدية لطهرها، وروحها الثانية التي ظلت تبحث عنها في مشهد توالد الليل والنهار. وستتكفل بتعليمه فنون عشق النساء كمرحلة أسمى في محراب تبتله وعبادته.
أما في نص "نور أنّى تراه" ص 82، فنجد العتبة معبرة عن حضور وهج العجائبي في ثراتنا العربي، من خلال ما جاء في كتاب الحب والمحبة الإلهية من كلام الشيخ الأكبر، حيث ذوبان المحب لصير بركة ماء.
وليأتي النص في مفتتحه بتنبيه إلى ضرورة التصديق بقبول أحداثه، وتجنب التشكيك فيها بالتكذيب والتعجب؛ إنه تحذير يدعونا إلى قبول العجائبي كجزء أساسي، وركن مهم من أركان القصة، يعادل الواقع إن لم نقل إنه عماد هذا الواقع.
والقصة تتحدث عن قلب ظل، بعد فناء صاحبه، يترنح من شدة الحرارة، يعطس نفسه في الماء، فيغلي الماء ويفيض عن إنائه. يدس نفسه تحت الثلج ويسيل حمما حارقة...ص83، فالعجائبي والمبالغة ليسا إلا من أجل الإقناع بتبيين درجة العشق التي بلغها القلب كشاهد على محبة صاحبه الذي أفناه ما كان يحمله من عشق.
من هنا، نقول: إن وجود العجائبي في القصة القصيرة (( يمنحها قوة حالمة ودلالات قادرة على استيلاد الواقع والحقيقة بأكثر من شكل دون الوقوف على الشكل التقليدي ، وهو الوقوف المرعب أمام حقيقة عارية شوهاء . كما أن السرد العجائبي يملك مرونة تعز في السرد التقليدي تمكنه من حمل الكثير من المغازي وصهر الأسطوري والحكائي والخرافي في بنية جديدة تعرض الحقيقة كما يراها الكاتب أو كما يشعرها أو كما تلقاها لا كما وقعت. 4_ المرجع السابق.
الأسطوري:
تندرج الأسطورة ضمن الجنس الأدبي الميتافيزيقي الذي يتواشج و العجائبي والفانتاستيكي تحت اسم متقارب.
و تعد شريانا من شرايينهما.
وتروي حدثا وقع في عصور ممعنة في القدم. وهي، بذلك، تعيدنا إلى نلك العصور، لكونها تروي تاريخا مقدسا للإنسان الأول، ومعتقداته وطقوسه الأولى. و تعد مظهرا لمحاولته الأولى كي ينظم تجربة حياته في وجود غامض.
الأسطورة هي تلك الحكاية المقدسة المرتبطة بذلك الزمن البدائي، ذلك الزمن الذي حاول فيه الإنسان فهم كونه فهما صحيحا.
فالأسطورة بمثابة تفسير يقوم به الإنسان للأسرار التي لا يفهمها، أي للأسطورة وظيفة تفسيرية دون أن تنفي الوظائف الأخرى: الأخلاقية والتعليمية والتعويضية؛ وهي كقصة مليئة بالمغامرات الشائقة والجذابة والتي تنتهي نهاية سعيدة.
وأبرز نص حضرت فيه الأسطورة بغاية تأكيد قوة الحب، وسحريته، قصة "Naja Naja" ص20؛ وهي قصة تتحدث عن ثلاث شخصيات، هي: أكاش، وبوجا، والحية.
التناص:
يعد التناص قانون النصوص جميعا. و النص الإبداعي ينتمي إلى عدد كبير من المرجعيات التي تشكله، فتصير، جراء ذلك، نصا مركزيا جديدا يتضمن معنى إضافيا متفردا ومتميزا على كل المرجعبات التي انبثق منها. إن التناص يؤكد أن كل ما يقال ،الآن، قد قيل قبل الآن بأشكال مختلفة .
وقد يأتي التناص عفويا اعتباطيا أو توارديا غير مقصود، أو قصديا ذا مرام. فلا وجود للنصوص البريئة أو الصافية.
إن أغلب التناصات المقصودة الواعية تقوم إما على نصوص تحفظها الذاكرة الثقافية وموروثها الجمعي وإما على نصوص متميزة ومتفردة على بقية نصوص زمانها، يكون القارئ على علم بها غالبا.
وإذا كان من الضرورة بمكان أن يشير الكاتب إلى مصدر تناصه ليجنب القارئ والناقد والباحث مشقة تتبع أوجه التشابه والمقارنة والسرقة الأدبية. ويتيح له فرصة تناول الجوانب الإبداعية للنص الجديد. فإن القاص الشرادي قد مكن القارئ من مصادر تناصه بذكر الكتب التي استفاد منها على الهامش، مؤكدا بذلك مدى تشعب مطالعاته وغنى مرجعياته، وتنوعها، لكن أهم رافد له كان الرافد الصوفي، فقد استفاد من هذه التجربة الروحية، وجعلها أس عمله، وأهم خاصية فنية تتميز بها مجموعته. ومعظم نصوص العمل ذيلت بالمراجع المستفاد منها، لدرجة يقربها من البحث العلمي، أو الدراسات النقدية. من ذلك، النصوص التالية، "دموع الفرح سكر" ص7 و"على كل شيء قدير" ص39، والفت للانتباه، أن العناوين بنفسها ذات رجع، تشير إلى نصوص أو أقوال سابقة، كما النص الأخير، الذي يتناص مع القرآن الكريم، و نص "دعه يمر، دعه يفعل" الذي يذكرنا بمبدأ اقتصادي ينص على أن اقتصاديات السوق تعمل بكفاءة مثلى في غياب التنظيم الحكومي؛ لذلك يعارض متبنو هذا المبدأ كل أشكال الرقابة الحكومية وأي نوع من التشريعات أو ضرائب الشركات، بل إن بعضهم يرى أن الضرائب تعتبر بمنزلة عقوبة على الإنتاج، لكن عنوان القصة قلب التركيب، من جهة، واعتمد كلمة: يفعل، بدل، يعمل؛ وهو تحوير يتماشى ورهان النص.
والمطلع على العمل، سيدرك بسهولة مدى حضور النص المقدس، وأقصد بذلك القرآن والحديث، ثم النص الصوفي بتجليات مختلفة، فضلا عن الشعر، وكلها منابع تصب في النصوص لتغنيها، وتخصبها.
ختاما:
كتاب الحب كتاب لتهذيب النفوس، ولتطهير الأرواح، وحث الناس على محبة الآخرين بغاية خلق عالم يسوده السلام، بدل الكراهية التي تقتل الحياة. كتاب الحب كتاب كتب بفنية عالية وبلغة تقترب من صفاء الصوفية؛ كتاب هو بمثابة رواية ذات فصول متنوعة رابطها المهم، وروحها الأساس، هو الحب؛ هذا الشعور النبيل الذي عمده الله وباركه.
**
كتاب الحب، مجموعة قصصية، محمد الشرادي، وراقة ومطبعة بلال، الطبعة الأولى، سنة 2018
2_ http://www.alnaked-aliraqi.net/article/858.php
3 و4_ نفسه.
عند محمد داني من خلال مجموعته "الموسم":
مرارة الواقع وتقنيات الكتابة، قراءة في مجموعة"الموسم" لمحمد داني
أصدر المبدع المتعدد، محمد داني، مجموعته القصصية، والتي تحمل العنوان التالي: الموسم، عن مطبعة ووراقة البوغاز، سنة 2016.
وتضم في حناياها اثني عشر نصا على امتداد 108 صفحة.
وجل النصوص تحمل عنوانا مفردا ومعرفا، وما اختيار هذه العناوين إلا للتعبير عن التعاقد الموجود بين المؤلف والمتلقي، تعاقد يشي بتلاقي الطرفين في معرفة الموضوعات التي سيتم التطرق إليها، ويشتركان في إدراكها؛ هما معا على علم بها، لكن المؤلف سيسعى إلى إبراز الخفي فيها، والمسكوت عنه فيها. إن التعريف عتبة مشتركة بين الطرفين، ولحظة اتصال تأتي بعدها لحظة الانفصال لكون المؤلف سيعمد إلى إعادة تشكيل تلك المعرفة فنيا بطريقة تجعل المتلقي مندهشا وهويعيد اكتشافها.
وقد ورد في ظهر غلاف العمل، أن جل النصوص لها مع المؤلف حكاية ما..وفي نفسه.. بعضها من محض الخيال.. وبعضها من صميم الواقع.
ونفهم من هذا القول أن النصوص قد جمعت بين التخييلي والواقعي في توليفة فنية مميزة.
إن القاص يتعهد، بناء على ما سبق، الحديث عن الظواهر السلبية التي يعرفها واقع المتلقي، ويسعى إلى معالجتها فنيا بما يحقق له المتعة والإفادة.
هكذا، وجدنا المجموعة تحتفي بظواهر من قبيل: وضعية المبدع في وسط لا يحفل سوى بمتعة هز البطن، ووضعية رجال التعليم الكارثية، ووضعية السجون وما تشهده من أحداث مروعة، ومزلزلة، وواقع حقوق الإنسان في ظل القمع، والظلم، والتهميش، ووضعية الحاصلين على الشواهد، ووضعية المتقاعدين، إلخ، وهي كلها ظواهر ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية.
علي مستوي عمق الرؤية يعيد المبدع بناء رؤية جديدة للواقع عبر الإلمام بتفاصيله و استحضار آليات إنتاجه والتشابك مع سياقاته.
وقد تناول القاص في نصوصه قضية الوضع الاعتباري للمؤلف، قصة "الموسم" ص 4 مبرزا هشاشة وضعه، بفعل تهميشه؛ كما تناول قضية رجل التعليم، قصة "الحافلة" ص30، وبين وضعه المزري، في مجتمع لا يهتم بالعلم والمعرفة. وفي نص "الكبش" ص8، تحدث عن الشعيرة الدينية التي تحولت إلى طقس مباهاة، فلم تعد تشتمل على الروح الدينية بل حل محلها الجانب الاجتماعي حيث الظهور والتفاخر. هذا، فضلا عن تناوله لقضايا أخرى كمثل وسائل التنقل التي تهدر فيها كرامة المرأة، وقضية السجون وما تعرفه من انحرافات "الكابوس" ص14، وقضية تسوية أوضاع المتقاعدين: "التقاعد" ص70، وإهدار كرامة الإنسان، كما في نص "الحلقة" ص35، حيث تفقد فيها الرجل نسانيته ليصير أسفل سافلين، وبطيبة خاطر، فقط، للحصول على مورد رزق.
واضح أن المجموعة قد امتاحت من الواقع موضوعاتها، وتناولت الكثير من الظواهر بالتشريح والنقد، معتمدة اللغة الساخرة في تناولها. والقاص لم يعتمد الواقع في سطحيته، بل غاص في أعماقه لقراءته القراءة الصحيحة، واستخراج ما يموج بداخله معتمدا معالجة فنية لا تستسلم للتقريرية ولغة الصحافة، بل ركزت على الجوانب الفنية، مشغلة في كل قصة ما يناسبها، مع الإشارة إلى أن اللغة الساخرة ظلت الخيمة التي تأوي كل النصوص، إنها اللغة العبرية، المخترقة للمجموعة ككل.
والملاحظ أن القاص قد تناول قضايا متنوعة، منها الاجتماعي، والسياسي، والثقافي؛ أي تناول كل ما يحيط بالإنسان، وبخاصة تلك التي تتميز باختلالات قصد التقويم والتصويب.
ونص: الموسم، الذي منح المجموعة قبعته، تناول قضية الأديب، في مجتمع مائع، وأظهر، بكثير من المرارة، تواري هذا الكائن السائر في طريق الانقراض، لصالح نموذج جديد مرغوب فيه، والأكيد أنه مدفوع إلى الواجهة دفعا، لغايات سياسية بالأساس.
وعليه، تم تشكيل ذائقة ميالة إلى الرقص المبتذل، والغناء الساقط، بهدف إلهاء الناس عن قضاياهم الحيوية. ولتحقيق النجاح الكبير لمثل هذا المشروع التخريبي، تم تهميش الكتاب والنقاد، والمثقفين عموما، لكون أصواتهم مزعجة، غير راضية عن الواقع.
وبناء عليه، نجد أن القاص يبغي وضع القارئ أمام الصورة البئيسة للواقع، ويبين له هزاله ومهزلته، حتى يتخذ منه الموقف المناسب، وبذلك، نقول: إن المجموعة ذات أهداف نبيلة، تتجلى في رغبتها بناء مجتمع سليم، يعاد فيه الاعتبار للمثقف، وتصان كرامة الموظف، ويحافظ على شرف المواطن.
إن أي مبدع لا يتبنى فِكراً إنسانياً حقيقياً تَحررياا من كل القيود التي تَحول دون تطور الإنسان وعلى جميع الأصعِدة؛ هو ليس مبدعا حرا. وأي فنان لا يصرخ في وجه الظلم والعبودية بكل أشكالها السياسية منها والاجتماعية والدينيةليس جديرا بأن يكون فنانا حقيقياً. أي كاتب لا تتعدى طُروحاته المحظور والمقبول، ويكتب بتحفظ كبير، ولا يتناول بالتعرية المسكوت عنه، ولا يستطيع خرق الثالوث المحظور، بجرأة وفنية، لن يتركَ أثراً خالدا، ولن تكون كتاباته سوى خاطرة أدبية براقة من دون عمق.. لا أثر لها ولا بقاء.
والملاحظ أن نص "الموسم" يرصد أثر الصدام بين الذات والواقع، بين الرغبة والأمر المفروض، فهذا الاشتباك بين الطرفين، وهذا التعارض بين الرغبتين، ولد لدى السارد قتامة نفسية لم يتمكن من تجاوزها إلا بفضل السخرية، على اعتبار أنها أداة الضعاف تحقق لهم توازنهم المختل، وتعيد إليهم اطمئنانهم المفقود. و لا غرو أن السخرية هي، في الآن نفسه، أداة هدم وبناء، فهي تهدم القائم لقبحه، وبناء، لأنها تسعى إلى إعادة ترتيب مفرداته بطريقة صحية وصحيحة، تكون مخالفة للصورة الأولى. ففي الوقت الذي تسخر من اختلالات الواقع، فهي تبرز دور هذه الاختلالات في إعاقة النهوض والتجديد، ومن صلب هذه السخرية المعبرة، نتلمس ملامح الواقع المأمول.
هكذا، نجد أنفسنا أمام تعارض جديد، أساسه الاختلاف بين وجهتي نظر، واحدة دينامية، والثانية استاتية جامدة. فالدينامية تميل إلى التغيير، بينما الستاتية تنزع باتجاه الجمود والرسوخ. وطبعي أن يحدث التصادم بين الوجهتين، تكون الذات المتكلمة، بما أنها مفرد، إلى الانهزام المؤقت؛ ذلك أن الذات وهي تسطر معالم القبح في الواقع، إنما تبذر في التربة ما سيأتي بالخير. ونعلم أن أهم التغييرات التي شهدها العالم كانت بفضل إرادات حرة أبت إلا الخروج عن المعيار والنموذج، مقترحة بدائل ممكنة، ومشيرة إلى منافذ التهوية الصحية.
وقد اعتمد النص في بنائه على التوازي، إذ عمد إلى تشكيل قصتين تسيران في اتجاهين مختلفين في نص واحد، وتلتقيان لتحقيق الاشتباك والتصادم. بينهما تباعد على مستوى البنية والهدف، وتناقضهما هو السبب وراء الصدام.
وتتولد المفارقة بفعل إشراقة وعي بين المرجو والموجود، فانبثاق التعارض عمق الشرخ بين الطرفين، ما ترغب فيه الذات المفردة، وسلطة الواقع المحمي من طرف الجماعة. وقد صار من العبث خرقه، أو تجاوزه إلا بآلية السخرية كأداة فضح وتعرية.
.
بالنسبة لسخرية اللغة يبدو مهما التقرير بأن لغة السرد عند الكاتب يانعة تتسم بألق خاص لاسيما علي مستوي تقنية الوصف حيث يبرع الكاتب في تجسيد الثابت والمتغير بأسلوبه التركيبي الجميل.. لغة الكاتب ساخرة في عمقها وإن بدت علي عكس ذلك للقارئ غير المتأمل حيث نلاحظ كيف يطوع الكاتب لغته لتجهر وتسر وتسخر كما شاء له موضوع قصته, ورؤى شخصياته.
وقبل الختم، لابد من الإشارة، ولو بشكل مقتضب، إلى بعض التقنيات التي وظفها القاص، سي محمد داني، في نصوصه:
بعض التقنيات الموظفة في المجموعة:
الحوار: يظهر أفكار الشخصيات، ونزوعاتها وميولاتها، ويفضح واقعها.
كما أنه يساهم في تطور الأحداث، وتناميها.
الشكل المسرحي: حيث ينتهي النص بطريقة مسرحية، وكان الستارة تنزل معلنة نهاية الحدث. وهو ما نعثر عليه في نص "التعيين" ص39، حيث يتم توظيف ما يشبه الإرشادات المسرحية أثناء بلوغ النهاية:
وبدأ إبراهيم يفض الظرف، والكل يتطلع إليه ويحملق بفضول، ثم أخرج ورقة بيضاء، مطوية، وأغرق نظره فيها، بعدما فتحها.. وطالت قراءته لها ..
-أي وزارة يا ولدي؟{يسأله والده}
-ماذا؟؟.. لا ... لا ... هذا مستحيل؟ ...
ويتسمر إبراهيم مكانه، بل لم تستطع ركبتاه حمله .. فجثم عليهما باكيا..
-ما بك يا ولدي؟..{ تسأله أمه باستغراب}.
-الإعفاء يا أماه... الإعفاء... لا وظيفة ولا هم يحزنون ...
-ماذا؟؟ !...{ تصيح الأسرة باندهاش}...
وتنزل الستارة، معلنة انتهاء المسرحية، فالجمل الموجودة بين معقوفين شبيهة بالإرشادات المسرحية المعبرة عن حالة الشخصيات، وتبرز انفعالاتها، وردود أفعالها. ينتهي النص بخيبة معممة، طالت كل أفراد الأسرة، للتدليل على مرارة الواقع، وأثره في نفوس الفئة المهمشة.
التوازي: حيث يبنى النص باعتماد برنامجين سرديين متعارضين، مما يولد الاصطدام بينهما، ويكون الفشل واقعا على الحلقة الأضعف..مما يولد في نفسها المرارة.
وقد بينا أن نص "الموسم" ينبني على هذه التقنية، إذ من جهة، نجد القاص وهو ينتظر دوره في إلقاء نصه، رغم كل المعيقات، ومن جهة أخرى، نجد الفرقة الشعبية التي تقدم دورها كاملا غير منقوص لجمهور متجاوب معها.
السخرية: إذ يتم تجاوز الخيبة بهذا الفعل، ويتحقق به توازن الشخصيات.
ففي نص "الموسم" لم يعلن القاص عن غضبه، عن احتجاجه، بل كان رد فعله باردا، يخفي مرارة يطفح بها رده الأخير:
-مهرجان آخر؟ حسنا ... إلى مهرجان آخر، وسأحضر معي شيخاتي ليغنوا قصصي، ص 7.
فالقول الظاهر أن القاص راض عما اقترح عليه، لكن الباطن عكس ذلك، إنه طافح بالسخرية من وضع فني مترد، يعبر بتلك السخرية عن رفضه الأمر الواقع، ويسعى إلى ما هو أفضل منه.
الاستباق: وهو توقع الآتي، كما في نص كابوس، إذ ما حدث للشخصية لم يقع إلا على مسرح النوم، لكن النص سيباغتنا ببداية شبيهة ببداية الكابوس، الأمر الذي يدفع بنا إلى:
إما الاعتقاد أن الشخصية ستتعرض لمثل ما تعرضت له في حلمها.
وإما أن توقعنا سيخيب، وأن الشخصية ستتلافى الوقوع في الفخ كما وقعت فيه أثناء الحلم.
لكن، ما ينبغي التأكيد عليه، هنا، أن النص سعى إلى فضح واقع السجون، وتعريته، وانتقاد ما يقع فيه من تجاوزات، وانحرافات.
حلم اليقظة: حيث تميل الشخصية إلى قناعة مفادها: أن حصولها على شهادة الإجازة سيمكنها، لا محالة، من الحصول على وظيفة سامية تحقق لها الوجاهة الاجتماعية، وتخلصها، وللأبد، من فقرها المدقع؛ وتنتقل العدوى إلى باقي شخصيات النص، إذ ستنخرط جميعا في صوغ الحلم الجميل، وتعيشه بكل جوارحها، لكن الواقع سيخيب توقعاتها، ويجرعها المرارة.
هكذا تتحقق المعادلة التالية، التوقع والخيبة، جمالية الحلم وقبح الواقع، البناء الحالم والصدمة الهدامة.
والملاحظة أن شخصيات العمل ككل مصابة بداء الإحباط والهزيمة، ولم يكن القصد تثبيط الهم بل شحذها، وحثها على النهوض وتحقيق التغيير المنشود.
الخاتمة :
تتميز المجموعة بدقة ملاحظاتها للحراك اليومي للناس، تعري المجتمع وتفضح زيــفه، وتكشف تناقضاته، وتسخر من سلوكات الكثير من أفراده من خلال شخصيات النصوص السردية، وقد نجح سي محمد داني في هذا نجاحا كبيرا مما يجعل المتلقي يقف مندهشًا حيال تلك السلوكات ، أيشفق على تلك الشخصيات؟ أم يــدينها ؟ أم يدين المجتمع ؟
من الضروري على المبدع أن يخوض في مواضيع راهنة حارقة، ويعالج قضايا تغيب عن عيني الإنسان العادي في قص مبني بطريقة جذابة .... فيعيد إليها ألقها، وحياتها، فلكي نبدع سرديا وشعريا، علينا أن نبني حدثًا أسلوبيا يتخطى المعيار الكلامي السائد.
**
عند محمد الشرادي من خلال مجموعته "كتاب الحب":
الحب في مجموعة "كتاب الحب" لمحمد الشرادي
يدعونا القاص محمد الشرادي في كتابه "كتاب الحب" إلى الاستحمام في ماء الحب مرات ومرات لنتطهر من أدران الكراهية والحقد، لكي نغتسل بماء الحب؛ العاطفة الإنسانية السامية، لنكون في المستوى الراقي الذي يدخلنا باب الإنسانية بجمال.
الاصدار الذي لاشك انه مخاض تراكمات وإلمام عميق بالتراث العشق العرب ، ونتاج الماعات عرفانية ونورانية في محراب الحب أو المحبة ( l'aimance ) بنعناها الاشراقي كما نحثها عبدالكبير الخطيبي بشغف العاشفين للمعرفة،
الكتاب ليس مجموعة قصصية، بل هو رواية متنوعة الفصول، ومختلفة الشخصيات، القاسم المشترك بينها هو المحبة والعشق؛ إن هذه العاطفة السامية هي العمود الفقري لمختلف القصص، والتجلي الأسمى والأبلغ لرسالة القاص بعد أن شاهد عالما غاصا بالكره والحقد، عامر بالحروب، مما يهدد الحياة.
القاص محمد الشرادي يسير على نهج من كرس حياته للحب، وأنتج كتبا لتشيد به وتعلي من شأنه، لتوقظ الإنسان فينا، إنه على غرار صاحب كتاب "طوق الحمامة" وصاحب كتاب "فقه الحب" وغيرهما، يرسل لنا رسالة ذات أهمية للإقبال على الحياة والاحتفاء بها بالاحتفاء بالآخر، ومعانقته بدل نبذه، وإقصائه، ومن ثم محقه ومحوه.
إن كتاب الشرادي لا يخجل من طرح هويته الواضحة غير المواربة البتة، إنها كتابة تعرف خصمها وتشير إليه؛ هذا الخصم ينتمي إلى فئة من لا يحتكم البتة إلى لغة العقل و الحوار و الاعتراف بالآخر. و بهذا فإن الكتابة عند الشرادي ذات وظيفة، والثَّيمة في قصصه لتطغى على سائر عناصر القص الأخرى ، وهو عندما يبصر على امتداد ساحة الرؤية كلّ هذا الرماد و الحرائق و العويل والانكسارات لا يمانع بالمجازفة بالكثير من أجل أن يقول كلمته، كلمته النظيفة في زمن القذارات والقمع والإلغاء و كتم الأنفاس حتى وان كان مثل هذا ما يدفع بنصّه لمتاخمة بيارات الحكائية، وضمن الحيّز الذي يشي بتألق الحساسية إلى جانب مهارات عديدة، مائزة تسجّل للقاص أيضاً. 1
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=597693
ما يلاحظ على هذا الكتاب كونه محفوفا بعتبات من بدايته حتى نهايته، كما أن تلك العتبات تحف بالنصوص مفردة وجمعا، بل وتخترق بعضها، والبارز أنها ذيلت بمصدرها وبصاحبها بدقة. والناظر إلى أسماء من منحوا قولهم للكتاب سيجد أن أغلبهم من الصوفية، مما يعني أن البعد الصوفي هو الأكثر حضورا والأبرز تأثيرا؛ فالصوفية عشق ومحبة وانفتاح على الآخر، ولا أدل على ذلك من قولة ابن عربي التي تسع كل الأديان، لتصير الحب أسمى دين.
من البداية:
غلاف وردي يستغرق الضفتين معا، ليعانق العالم، وكأن هذا الأخير صورة مصغرة في الكتاب، أو أن الكتاب رحيق العالم، بحيث صار روحا تتلبسه، إنها جدلية التداخل بين الخارج والداخل، حيث يشير الداخل إلى الخارج، وحيث يحضر الخارج في الداخل بشكل مكثف. لون وردي يعبر عن الحلم، وعن الحب، ينتقل من الأصغر إلى الأكبر الذي هو العالم، وينتقل هذا العالم إلى الداخل بكثافته ليشرق قصصا تشيد بالحب، وتقول: إن العالم في بدئه ومنتهاه حب.
وبلونين كتب الحب؛ الأسود والأبيض، كنوع من الجدل أو الصراع بينهما، فالسواد لا يكون إلا صورة عن الكره المنبوذ، والأبيض بصفائه الحليبي لا يعبر إلا عن الحب، فهو الطهر والصفاء، والنبل والإنسانية. ولذا، نجد صورة لقلبين متعانقين، أو بدقة، متداخلين، كحلقتي سلسلة لا انفصام بينهما، وفوقهما ملاك المحبة، ذلك الذي يحمل قوسا ويوجه سهامه للقلبين العاشقين. أما اسم المؤلف، فقد أتى بالأبيض كدلالة على ارتباطه بالصفاء الذي يمثله الحب؛ إنه ينتصر له لا للسواد. كما أن التجنيس أتى بهذا اللون الرائع، لتقول: إن ما تتضمنه من قصص ستكون كلها مناصرة للحب، رافضة للكراهية.
وفي ظهر الغلاف، الوردي، هو الآخر، مقتطف يخبرنا القاص من خلاله عن الهدف أو الرهان من الكتاب؛ رهان محو الصورة السيئة عن الحب، بمصالحته مع الفرح، والنهايات السعيدة.
وحين نفتح الكتاب نجد أنفسنا مع إهداء لا للأسرة الصغيرة، بل لأمراء العشاق الذين فاضت قلوبهم حبا، والذين يدخلون قائمة الشهداء بتضحياتهم.
أما الصفحات الثلاث الموالية فتضمن مقتطفات أو قصص تتمحور حول الحب، من آدم إلى يومنا هذا.
آدم أحب بقوة حواء، وصار ذلك سنة في نسله، فالأصل هو المحبة، والفرع ما يناقضها، وسار على هذا الدرب سيدنا إبراهيم في حبه لهاجر، وما كان معنى قوله سبحانه، لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، إلا الحب. ليأتي جلال الدين الرومي موضحا أن الحب دين البشرية قاطبة؛ وهو الطريق النوراني المفضي إلى الله. ليكون المقتطف الأخير نشيد حب، حيث الآخر والأنا، في وحدة وانسجام.
رحلة مع النصوص:
هي مجموعة من ثلاثة عشر نصا، تحمل العناوين التالية:
دموع الفرح سكر.
موقع استراتيجي.
Naja Naja
صنعتك لنفسي.
كيمياء الحب.
على كل شيء قدير.
دعه يمر، عده يعمل.
جبل التوباد.
أنوار موطئي القدمين.
زهرة الجوري.
طين بهي، نور سني.
أراه، فأراني.
نور أنّى تراه.
هي قصص بمثابة حبات ماس منظومة في خيط الحب المقدس، تشكل عقد لؤلؤ وهاج، يزين طوق الإنسان فيرفعه درجات.
يمكن تقسيم شخصيات المجموعة إلى قسمين اثنين؛ قسم المحبين، وقسم الكارهين، اعتمادا على لوني كتاب الحب في الغلاف. تدخل تلك الشخصيات في صراع ينتهي بغلبة المحبين، لتؤكد، بذلك، ما جاء في ظهر من رغبة في الانتصار للمحبة وربطها بالفرح والإقبال على الحياة البهيجة.
والصراع يكون مع طرف خارج الذات أو من داخلها. والغلبة تكون لصالح المحب، فدون حب لا نساوي شيئا. به نقاوم عتمة قلوب الكراهية. به نقاوم غرور ذواتنا باعتباره عاطفة غيرية. به ننمي خيالنا و نصعد به إلى مراقي الإنسانية الحق. به يتحول الأخر من جحيم إلى خل حميم. فمن لم تدخل قلبه حبة خرذل من الحب لا خير فيه.
وللحب فعل السحر في تحول الفرد من كاره أو غاز إلى عاشق ولهان، يقطر عذوبة، كما هو شأن شخصية قصة "دموع الفرح سكر" ص7، فالرجل لم ير في تلك الأنثى رائعة الجمال، سوى قلعة ينبغي اقتحامها، ورأى نفسه جنرالا حربيا تكسو صدره النياشين؛ وأن من واجبه اقتحامها، بيد أنه فشل، وفشلت أسلحته، فالحب ليس ميدان حرب، بل هو تعبير عن خلجات النفس، وسمو الروح. وحين تطهر من أدران فكره الحربي، وسكن قلبه نور الحب، تغير، وتغيرت تعابيره، وانساق وراء النور. لقد غيره الحب، وقبلته الغادة، ومنحته قلبها؛ فالحب كالتوبة يجب ما قبله ص12.
وقد تكون الإعاقة جسدية، تمنع المحب من خلق التواصل مع المحبوب، نتيجة إحساس بالدونية، كما في نص "دعه يمر، دعه يفعل" ص44، مما يدفعه إلى التفكير في الانتحار، لكن الأم، تقف ضد السوداوية، تضخ الطاقة الإيجابية في نفس ابنها، قائلة له؛ وهي تحذره من مغبة ما قد يقدم عليه: ويحك، الحب حياة. لو كانت تريد موتك ما أحبتك...ص48. وتضيف من أجل إقناعه: كتمان الحب إثم كبير، وعقابه عند الله عظيم.
وإذا كانت الإعاقة الجسدية حاجزا، فإن البحر، هو الآخر، لعب دور المعيق، لكن الأم لعبت دورا إيجابيا في تغيير موقف ابنها، كما الحب الذي شفاه، وأعاد إليه حيوية رجليه.
من هنا، يتبين لنا أن القاص يسعى إلى إقناع قارئه بالطاقة السحرية التي يمتلكها الحب، وقدرته على شفاء الأجساد والنفوس العليلة.
بخلاف من سكن فؤاده الكره، وصار له دينا، فإنه غير قادر على الحب والعطاء، وهذا الصنف من البشر هو من تقاومه النصوص، وتقف ضد فكره السوداوي، وتسعى إلى إزاحته بعيدا حتى لا يلوث صفاء المحبة، ويكدر نقاءها. كما في نص "أراه فأراني" ص76. القوم الذين صدئت قلوبهم، وامتلأ جوفهم بالكره، لم يقبلوا قصة الحب المشرقة التي جمعت بين شخصين، وخافوا أن تشفى قلوب الناس بالحب، وتنار العقول به، فيكون من نتائج ذلك اهتزاز عروش الحقد وهدم أسلاك العزل، ويفقدون جراء ذلك وصايتهم...ص80، فأرسلوا من يقتل الحب، قبل أن يستفحل أمره؛ ولكون الحب ربانيا، فقد عادت جماعة الكره خائبة، تجر ذيول الهزيمة: عاد الشباب بوجوه مسكونة بالفزع، كأنهم رأوا مشاهد من عذاب القبر مرأى العين. فما سبب نكوصهم؟ قولهم: بيت... تطعمه...الملائكة...بيت... تحرسه...الملائكة !ص81. وتكسير الكلام دليل على ما اعترى الشباب من خوف وهلع.
الفرق بين الخصم الداخلي والخصم الخارجي، أن الأول يشفى من كرهه بالحب، فيما الثاني، يظل حبيس ظلام قلبه.
العجائبي:
إذا كان العجائبي يتمثل في خرق منطق السببية بين الأحداث، ويعبث بنظام الأشياء، ويشترط فيه القلة والخروج عن المألوف أو المعتاد عليه.
إنه شكل من أشكال القص ، تعترض فيه الشخصيات بقوانين جديدة تعارض قوانين الواقع التجريبي ، وتقر الشخصيات فيه ببقاء قوانين الواقع كما هي . فهذا النوع من السرد يكون بعيداً عن الواقع بطريقة تسمح نوعاً ما للاقتراب من حدود اللامعقول .
وقد أشار تودوروف إلى أنه: (( التردد الذي يحس به كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة فيما يواجه حدثاً غير طبيعي حسب الظاهر )) ؛ بمعنى أن ثمة قوانين جديدة غير مألوفة يجب قبولها في تفسير الظواهر الطبيعية ، يستند السرد فيه ((إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما)).2 _
فإن النص؛ وهو يستلهم البعد الصوفي، قد وظف الخارق والعجيب؛ لأنه يدخل ضمن نسقه، ويعد أحد أبرز مكوناته، لذا، يدعونا السارد إلى التصديق، بدل الشك.
هناك جدلية العلاقة بين التراث بوصفه حضارة الأمة وركنها الثقافي المميز، والسرد العجائبي بوصفه نسقاً من أنساق السرد العربي وشكلاً من أشكال تلاعبه السردي – في حضوره وغيابه- داخل النص القصصي .
ووجود العجائبي في النص السردي (( يترك أثراً خاصاً في القارىء خوفاً أوهولاً، أو مجرد حبّ استطلاع ، والعجائبي يخدم السرد ويحتفظ بالتوتر : إذ إن حضور العناصر العجائبية يتيح تنظيماً للحبكة مكثفاً بصورة خاصة 3_ المرجع السابق.
ففي قصة "طين بهي، طين سني" ص70، نجد عتبته تؤكد البعد العجائبي كضرورة من ضرورة الحياة، إذ استدعاء السماء، كفاعل مشارك لنا في هذا الكون.
والقصة تتحدث عن ملاك التي تحب، باستمرار، ودون كلل، أن تشهد كيف يخرج الله الليل من النهار، مشاهدة لا تخمد وهج سحر اللحظة وعظمتها. لتجد نفسها أمام قطرة عجيبة من السماء، ستكبر ليخرج من رحمها كائن على هيأة لا تمت بصلة لأعيان الأرض، يتألق بنور مهيب يهز وجدان من وقع بصره على إشراقه. ص71.
قطرة خلخلت نظام الأشياء، وخرقت منطقها، لكنها بدت عادية كما لو أنها استمرار طبيعي لتتابع أحداث الواقع، لا يثير الاسغراب. ذلك الكائن النوراني الذي سيتحول عاشقا لملاك بعد سيرورة أحداث وحوار، وحيرة. ملاك الطاهرة والفاتنة، سيكون جزاؤها هذا النازل من السماء هدية لطهرها، وروحها الثانية التي ظلت تبحث عنها في مشهد توالد الليل والنهار. وستتكفل بتعليمه فنون عشق النساء كمرحلة أسمى في محراب تبتله وعبادته.
أما في نص "نور أنّى تراه" ص 82، فنجد العتبة معبرة عن حضور وهج العجائبي في ثراتنا العربي، من خلال ما جاء في كتاب الحب والمحبة الإلهية من كلام الشيخ الأكبر، حيث ذوبان المحب لصير بركة ماء.
وليأتي النص في مفتتحه بتنبيه إلى ضرورة التصديق بقبول أحداثه، وتجنب التشكيك فيها بالتكذيب والتعجب؛ إنه تحذير يدعونا إلى قبول العجائبي كجزء أساسي، وركن مهم من أركان القصة، يعادل الواقع إن لم نقل إنه عماد هذا الواقع.
والقصة تتحدث عن قلب ظل، بعد فناء صاحبه، يترنح من شدة الحرارة، يعطس نفسه في الماء، فيغلي الماء ويفيض عن إنائه. يدس نفسه تحت الثلج ويسيل حمما حارقة...ص83، فالعجائبي والمبالغة ليسا إلا من أجل الإقناع بتبيين درجة العشق التي بلغها القلب كشاهد على محبة صاحبه الذي أفناه ما كان يحمله من عشق.
من هنا، نقول: إن وجود العجائبي في القصة القصيرة (( يمنحها قوة حالمة ودلالات قادرة على استيلاد الواقع والحقيقة بأكثر من شكل دون الوقوف على الشكل التقليدي ، وهو الوقوف المرعب أمام حقيقة عارية شوهاء . كما أن السرد العجائبي يملك مرونة تعز في السرد التقليدي تمكنه من حمل الكثير من المغازي وصهر الأسطوري والحكائي والخرافي في بنية جديدة تعرض الحقيقة كما يراها الكاتب أو كما يشعرها أو كما تلقاها لا كما وقعت. 4_ المرجع السابق.
الأسطوري:
تندرج الأسطورة ضمن الجنس الأدبي الميتافيزيقي الذي يتواشج و العجائبي والفانتاستيكي تحت اسم متقارب.
و تعد شريانا من شرايينهما.
وتروي حدثا وقع في عصور ممعنة في القدم. وهي، بذلك، تعيدنا إلى نلك العصور، لكونها تروي تاريخا مقدسا للإنسان الأول، ومعتقداته وطقوسه الأولى. و تعد مظهرا لمحاولته الأولى كي ينظم تجربة حياته في وجود غامض.
الأسطورة هي تلك الحكاية المقدسة المرتبطة بذلك الزمن البدائي، ذلك الزمن الذي حاول فيه الإنسان فهم كونه فهما صحيحا.
فالأسطورة بمثابة تفسير يقوم به الإنسان للأسرار التي لا يفهمها، أي للأسطورة وظيفة تفسيرية دون أن تنفي الوظائف الأخرى: الأخلاقية والتعليمية والتعويضية؛ وهي كقصة مليئة بالمغامرات الشائقة والجذابة والتي تنتهي نهاية سعيدة.
وأبرز نص حضرت فيه الأسطورة بغاية تأكيد قوة الحب، وسحريته، قصة "Naja Naja" ص20؛ وهي قصة تتحدث عن ثلاث شخصيات، هي: أكاش، وبوجا، والحية.
التناص:
يعد التناص قانون النصوص جميعا. و النص الإبداعي ينتمي إلى عدد كبير من المرجعيات التي تشكله، فتصير، جراء ذلك، نصا مركزيا جديدا يتضمن معنى إضافيا متفردا ومتميزا على كل المرجعبات التي انبثق منها. إن التناص يؤكد أن كل ما يقال ،الآن، قد قيل قبل الآن بأشكال مختلفة .
وقد يأتي التناص عفويا اعتباطيا أو توارديا غير مقصود، أو قصديا ذا مرام. فلا وجود للنصوص البريئة أو الصافية.
إن أغلب التناصات المقصودة الواعية تقوم إما على نصوص تحفظها الذاكرة الثقافية وموروثها الجمعي وإما على نصوص متميزة ومتفردة على بقية نصوص زمانها، يكون القارئ على علم بها غالبا.
وإذا كان من الضرورة بمكان أن يشير الكاتب إلى مصدر تناصه ليجنب القارئ والناقد والباحث مشقة تتبع أوجه التشابه والمقارنة والسرقة الأدبية. ويتيح له فرصة تناول الجوانب الإبداعية للنص الجديد. فإن القاص الشرادي قد مكن القارئ من مصادر تناصه بذكر الكتب التي استفاد منها على الهامش، مؤكدا بذلك مدى تشعب مطالعاته وغنى مرجعياته، وتنوعها، لكن أهم رافد له كان الرافد الصوفي، فقد استفاد من هذه التجربة الروحية، وجعلها أس عمله، وأهم خاصية فنية تتميز بها مجموعته. ومعظم نصوص العمل ذيلت بالمراجع المستفاد منها، لدرجة يقربها من البحث العلمي، أو الدراسات النقدية. من ذلك، النصوص التالية، "دموع الفرح سكر" ص7 و"على كل شيء قدير" ص39، والفت للانتباه، أن العناوين بنفسها ذات رجع، تشير إلى نصوص أو أقوال سابقة، كما النص الأخير، الذي يتناص مع القرآن الكريم، و نص "دعه يمر، دعه يفعل" الذي يذكرنا بمبدأ اقتصادي ينص على أن اقتصاديات السوق تعمل بكفاءة مثلى في غياب التنظيم الحكومي؛ لذلك يعارض متبنو هذا المبدأ كل أشكال الرقابة الحكومية وأي نوع من التشريعات أو ضرائب الشركات، بل إن بعضهم يرى أن الضرائب تعتبر بمنزلة عقوبة على الإنتاج، لكن عنوان القصة قلب التركيب، من جهة، واعتمد كلمة: يفعل، بدل، يعمل؛ وهو تحوير يتماشى ورهان النص.
والمطلع على العمل، سيدرك بسهولة مدى حضور النص المقدس، وأقصد بذلك القرآن والحديث، ثم النص الصوفي بتجليات مختلفة، فضلا عن الشعر، وكلها منابع تصب في النصوص لتغنيها، وتخصبها.
ختاما:
كتاب الحب كتاب لتهذيب النفوس، ولتطهير الأرواح، وحث الناس على محبة الآخرين بغاية خلق عالم يسوده السلام، بدل الكراهية التي تقتل الحياة. كتاب الحب كتاب كتب بفنية عالية وبلغة تقترب من صفاء الصوفية؛ كتاب هو بمثابة رواية ذات فصول متنوعة رابطها المهم، وروحها الأساس، هو الحب؛ هذا الشعور النبيل الذي عمده الله وباركه.
**
كتاب الحب، مجموعة قصصية، محمد الشرادي، وراقة ومطبعة بلال، الطبعة الأولى، سنة 2018
2_ http://www.alnaked-aliraqi.net/article/858.php
3 و4_ نفسه.