يواصل الشاعر صلاح الدين بشر نحت حضوره الشعري في المشهد الثقافي المغربي والعربي بقصائد نثرية منفلتة من ضيق النظم وصرامة العروض لأنها تؤمن بالحرية وبان لكل قصيدة خصوصياتها سواء على مستوى الإيقاع أو البناء الفني. غير عابئ بالنقد الموجه لمثل هذا النوع من الكتابة الشعرية تاركا للذائقة والزمن الحكم الفصل.
والناظر إلى قصائد الديوان جميعها سيكتشف أنها تخاطب العين قبل الأذن؛ وتجعل من الورقة رافدا من روافد بناء الدلالة وتشكيل المعنى. فلم تعد الورقة حاملا سلبيا بل صارت طرفا في الكتابة وعنصرا مهما من عناصر التشكيل والبناء. فالملاحظ أنها تدخل مع سواد الكلام في جدلية التنافر والصراع بحيث نشاهد عيانيا تلك الحركة بين الطرفين تضمر مرة وتستعر طورا؛ وكل طرف يسعي إلي خلق مساحة كبيرة لصالحه. فالكلام باللغة ليس سيد الموقف إذ يعانده الصمت ببلاغة حضوره. والبياض يصير بذلك لغة أخري وطرفا في الحوار المعبر عن التأزم النفسي والواقعي الذي يحكم سواد الكلام. وبذلك تنتقل الورقة من السلبية إلى الفاعلية والتأثير الدلالي، وهو عبر عنه الباحث الديهاجي بقوله:
لم تستثمر الورقة، أو الصفحة تحديدا، بوصفها وجها آخر لكينونة الكتابة، بل ظلت، فقط، ميدانا لحروب طاحنة، تقليدية تارة ومتطورة تارة أخرى، وما كان من حظها سوى ما أصابها من سخط هذه الحروب.. حروب بالكاد تركت لها بعض خصلات ضوء وبياض، وكأنها كائن أخرس، لا قيمة له في ذاته.
إلا أنه مع الثورات الفكرية المابعدية، التي فجرت النظريات، وجعلتها تعيد النظر في علاقة الذات بالموضوع، وتنظر إلى المهملات والتفاصيل بعين الدهشة الفلسفية، بدأ الاهتمام بالصفحة، باعتبارها دالا كبيرا لا يقل قيمة وأهمية عن فعل الكتابة، يتزايد شيئا فشيئا، خصوصا في مجال الشعر. الصفحة بوصفها تشكل شعرية بصرية، تكمل ما استأسد به اللسان، منذ زمن طويل. هنا تحديدا بدأنا نتحدث عن الكتابة كحداثة، أو كما يسميها صلاح بوسريف بحداثة الكتابة.
وجدلية الصمت والكلام تتبدى من خلال رسم كل قصيدة شكلها الخاص وانطباعها المميز عن غيرها علي رقعة البياض. هكذا؛ نجد وجود نقط الحذف التي تمتد حتى لتبلغ السطرين مخلفة وراءها سؤال المعني. ونقط الحذف قد تقع وسط القصيدة وقد تكون خاتمة لها. مما يؤكد أن الصمت هو الآخر لغة من لغات الديوان، مثال ذلك:"أجر ذيلا... !!! ص 9 التي جاءت في صفحتين، تنتهي الأولى بنقط حذف امتدت من السطر ما قبل الأخير لتمتد منه إلى الصفحة الموالية كاسبة تسعة أسطر تصغر وتصغر إلى أن تصير مجرد نقطة. ويختم النص بالطريقة نفسها تقريبا. أما في قصيدة "أحمل حقائب من جروحي " !. ص 15، فتحمل تشكيلا مختلفا في تنضيد نقط الحذف التي تخف حدتها في قصيدة "ولي رقصتي ! ص 72، حيث لا تحضر إلا في المقطع الأخير بين السطر الثاني وبقية الأسطر.
ولعل أهم تيمتين في العمل هما تيمة الرحلة بمختلف تجلياتها وتيمة الألم. وهما تيمتان تقويان معني التوتر المتجلي عبر مسرح الصفحات التي تحتضن جدلية الصمت والكلام. وتستضمر ما يعتري النفس من خيبات ونكبات ويمنحها رغم قوة الألم طاقة الصراع من أجل انتزاع الفرح والأمل؛ فليس هدف الشاعر تطويق القارئ بنصوص مشحونة باليأس بل برغبة تجاوزه.
فالناظر إلى مجموع قصائد الإضمامة سيلمس وبشكل سريع حضور الألم واليأس، والمعاناة المصحوبة بتيمة التنقل والسفر والرحلة. فضلا عن أن الشاعر يسحب من بعض الكلمات معناها الجميل ليكسبها دلالة جديدة، من مثل كلمة الإيقاد، والإشعال، والسراج، فارتباطها بكلمات مغايرة يجعلها تكسب دلالة تلك الكلمات، وتنفصل، بالتالي، عن دلالتها الخاصة، كما في قول الشاعر:
أشعل ريشي،
وأوقد السنين العجاف
وسراج الخرائب،
واللهب _ من جسدي_ يرقص،
كالديك في معبد الشمس،
تغرق في غروب بحرها الأوحش،
كذلك الهندي الآفل في زحمة
التاريخ والطوفان... ص 19.
فمجموع الكلمات المرتبطة بالحبور والأمل صارت منطفئة بفعل اتشاحها بدلالات الخيبة والوحشة والأفول..
أما عن الرحلة والسفر والتنقل من مكان إلى آخر، فيكفي أن تلقي نرة سريعة على عناوين القصائد لتلمس هذا الحضور، وكمثال على ذلك، نجد:
أجر ذيلا... !!، وأجري وراء صفير !وأحمل حقائب جروحي !وعلى سبيل الوداع، وأسير على نار سكة... مع العلم، أن القصائد التي تحمل عناوينها هذه المعاني تستضمرها أو تجليها في النص لا العنوان، ولنضرب مثلا توضيحيا يبين ذلك بقصيدة: يا هذا العمى !... ص 98. حيث نجد حضورا كثيفا لكلمة العصا التي ترافقه في ترحاله وسفره.
وإذا كان الطباق له دور مهم في تجلية التوتر وما تعيشه الذات من صراع؛ فإن المقابلة ترفع من حدته وتذهب به بعيدا باعتبار أنها طباق مزدوج كما في قوله
أعبر جسر النار،
تومض بين سواد المدينة،
وضوء الموت،
ورماد الحياة...ص 19.
فالمقابلة منحت زخما دلاليا للمقطع، إضافة إلى حضور المدينة كمكان يشهد هذا التوتر، ولا يغب عن بالنا أن عنوان المجموعة يستحضر المكان بقوة، بواسطة حرف الجر: في، وبكلمة السدم والجحيم معا. مما يولد الانطباع أن هذا المكان بمختلف تجلياته هو مصدر هذا التعب، وسبب هذا التوتر النفسي العالي؛ ولا يمكن عزل المكان عن الإنسان؛ لأنه هو الدينامو في كل ما يعتري الذات من أحزان، مما يكاد يقرب المعنى من القولة السارترية المعروفة.
البعد البصري:
التكسير يدخل ضمن التشكيل البصري وله دلالته في التعبير إما عن الانكسار أو عن الرفض أو عن الحسرة أو عن الانهزام ..
ويأخذ وضعيات متعددة كتابة منحنية مائلة عمودية أفقية متداخلة من الأعلى نحو الأسفل ومن اليمين نحو اليسار لتعود من اليسار نحو اليمن. ص 22 و 23 و81...
التشكيل البصري يمنح القارئ إحساسا بالتشتت ويعكس الحالة النفسية للشاعر كما يتحول إلى بلاغة وإلى حمال لدلالات عميقة عن الذات والمحيط. فالتشكيل البصري اشتهر توظيفه في قصيدة النثر. إن الشكيل البصري يكشف عن رغبة الشاعر في ضخ قصائده بمؤثرات جديدة وبميسم جديد يكشف بصمته وقدرته على تحويل المساحة النصية ذاتها إلى بؤرة جمالية بصريا مفتوحة على تأويلات متعددة . لقد تمكن الكاتب عبر الخرق المتكرر للمساحة النصية الضامرة لقصائده من تحويلها إلى لوحة فنية اعتمادا على اللعب على حركة رسم الكلمات وموقعها في كل مرة تماشيا مع الحالة النفسية المتنوعة لكل قصيدة وفيها .
وإذا كانت الألفاظ، كما يقول سعيد بكور " ليست مجرد صوامت جوفاء، بل إنها وحدات تحمل لون المشاعر وتقلبات النفس، وتتأثر بطبيعة التجربة، فقد نجد اللفظ الواحد يتكرر في قصائد متعددة لكنه يكتسب دلالات سياقية من تفاعله النصي الداخلي، ومعنى ذلك أن للفظ دلالة أصلية ودلالة أو دلالات طارئة يكتسبها من طبيعة التجربة ومن السياق".
فإن اللغة في الديوان تتحول غاية، يتم التعامل معها باعتبارها وسيطاروحيا، ليفهم الإنسان معنى وجوده في العالم وليعبر عن كل المشاعر التي تنتابه وأهمها الحزن والاغتراب والوحدة والإحساس بالزمن ووطأته، وكمثال على ذلك القصيدة الأولى التي تعد مفتتح الديوان:
على امتداد نقطة الماء
ما وراء الأفق
مرفأ بعيد لي،
يغرق في كل المنافي،
يحصده الاغتراب
في حرقة دمع سخين
على خد بهيم،
ويكرع من موجات صهيل،
تركض
به الريح
إلى زمن غيلان،
تصول في غابات الوقت،
تئد رقص السنابل،
وعرس المناجل... ص7 و8.
فالمثال النصي يعبر عن تغول القبح من خلال كلمة غيلان التي تئد كل ما هو جميل، والمعبر عنه هنا بالسنابل والعرس، فالكلمتان توحيان بالفرح لكن المنجل كان لها بالمرصاد.
ولعل معنى كلمة سدم التي تتصدر عنوان الديوان والمسبوقة بحرف الجر، ما يعبر عن اجواء القصائد جميعها، ويطويها تحت جناح معنى الأسى والغربة والألم والوحدة، واليأس والقنوط، إذ تشير كلمة سديم إلى:
• التَّعَب والسدر وَالْمَاء المندفق والضباب الرَّقِيق وبقع سحابية متوهجة أَو مغيمة فِي الفضاء ناشئة عَن تكاثف أَو تصادم عدد لَا يُحْصى من الأجرام السماوية وَمِنْه المجرة (ج) سدم
إن المعنى الأساس للكلمة هو التعب والسأم والعيش في وضعية ثابتة كالماء إلى أن يأسن، ويفقد عذوبته ومذاقه السلسبيل، ويتقوى هذا المعنى بالمضاف إليه وهو الجحيم.
هكذا، نجد الإيقاع يتأرجح بين الخفوت والحركية ، ويتأثر بالمعاني والواقع النفسي المتحول للشاعر ، ويكتسب نبضه من توظيف الطباق الذي يجعل حركيته بين مد وجزر، صاعدة حينا ونازلة حينا آخر ومتموجة حينا ثالثا، كما يتأثر بقلب مواضع الألفاظ في التركيب، حيث يحاكي القلب الموضعي حركية النفس الداخلية، وتتقوى فاعليته بالجناس والتوازي والتكرار، وهذه الظواهر كلها تجعل القصيدة لوحة فسيفسائية تتلون بأصباغ متباينة، وبين انفعال النفس ورنين الصوائت وتلوّن الصوامت تتحول جغرافيا القصيدة إلى ميدان فسيح يعكس طبيعة التموج الذي تحياه الذات .سعيد بكور.
**
وختاما يمكن القول إن من مميزات الديوان ذلك الانسجام الجمالي والمعنوي بين عناصره، وهو ما أثرى تجربة الشاعر، ووسم نمطه الإبداعي بتطور مُطَّرد يصعب مواكبة سيرورته، والإحاطة بما تجترحه من أساليب خلق وابتكار في قراءة مقتضبة ومبتسرة. عبد النبي بزاز.
والناظر إلى قصائد الديوان جميعها سيكتشف أنها تخاطب العين قبل الأذن؛ وتجعل من الورقة رافدا من روافد بناء الدلالة وتشكيل المعنى. فلم تعد الورقة حاملا سلبيا بل صارت طرفا في الكتابة وعنصرا مهما من عناصر التشكيل والبناء. فالملاحظ أنها تدخل مع سواد الكلام في جدلية التنافر والصراع بحيث نشاهد عيانيا تلك الحركة بين الطرفين تضمر مرة وتستعر طورا؛ وكل طرف يسعي إلي خلق مساحة كبيرة لصالحه. فالكلام باللغة ليس سيد الموقف إذ يعانده الصمت ببلاغة حضوره. والبياض يصير بذلك لغة أخري وطرفا في الحوار المعبر عن التأزم النفسي والواقعي الذي يحكم سواد الكلام. وبذلك تنتقل الورقة من السلبية إلى الفاعلية والتأثير الدلالي، وهو عبر عنه الباحث الديهاجي بقوله:
لم تستثمر الورقة، أو الصفحة تحديدا، بوصفها وجها آخر لكينونة الكتابة، بل ظلت، فقط، ميدانا لحروب طاحنة، تقليدية تارة ومتطورة تارة أخرى، وما كان من حظها سوى ما أصابها من سخط هذه الحروب.. حروب بالكاد تركت لها بعض خصلات ضوء وبياض، وكأنها كائن أخرس، لا قيمة له في ذاته.
إلا أنه مع الثورات الفكرية المابعدية، التي فجرت النظريات، وجعلتها تعيد النظر في علاقة الذات بالموضوع، وتنظر إلى المهملات والتفاصيل بعين الدهشة الفلسفية، بدأ الاهتمام بالصفحة، باعتبارها دالا كبيرا لا يقل قيمة وأهمية عن فعل الكتابة، يتزايد شيئا فشيئا، خصوصا في مجال الشعر. الصفحة بوصفها تشكل شعرية بصرية، تكمل ما استأسد به اللسان، منذ زمن طويل. هنا تحديدا بدأنا نتحدث عن الكتابة كحداثة، أو كما يسميها صلاح بوسريف بحداثة الكتابة.
وجدلية الصمت والكلام تتبدى من خلال رسم كل قصيدة شكلها الخاص وانطباعها المميز عن غيرها علي رقعة البياض. هكذا؛ نجد وجود نقط الحذف التي تمتد حتى لتبلغ السطرين مخلفة وراءها سؤال المعني. ونقط الحذف قد تقع وسط القصيدة وقد تكون خاتمة لها. مما يؤكد أن الصمت هو الآخر لغة من لغات الديوان، مثال ذلك:"أجر ذيلا... !!! ص 9 التي جاءت في صفحتين، تنتهي الأولى بنقط حذف امتدت من السطر ما قبل الأخير لتمتد منه إلى الصفحة الموالية كاسبة تسعة أسطر تصغر وتصغر إلى أن تصير مجرد نقطة. ويختم النص بالطريقة نفسها تقريبا. أما في قصيدة "أحمل حقائب من جروحي " !. ص 15، فتحمل تشكيلا مختلفا في تنضيد نقط الحذف التي تخف حدتها في قصيدة "ولي رقصتي ! ص 72، حيث لا تحضر إلا في المقطع الأخير بين السطر الثاني وبقية الأسطر.
ولعل أهم تيمتين في العمل هما تيمة الرحلة بمختلف تجلياتها وتيمة الألم. وهما تيمتان تقويان معني التوتر المتجلي عبر مسرح الصفحات التي تحتضن جدلية الصمت والكلام. وتستضمر ما يعتري النفس من خيبات ونكبات ويمنحها رغم قوة الألم طاقة الصراع من أجل انتزاع الفرح والأمل؛ فليس هدف الشاعر تطويق القارئ بنصوص مشحونة باليأس بل برغبة تجاوزه.
فالناظر إلى مجموع قصائد الإضمامة سيلمس وبشكل سريع حضور الألم واليأس، والمعاناة المصحوبة بتيمة التنقل والسفر والرحلة. فضلا عن أن الشاعر يسحب من بعض الكلمات معناها الجميل ليكسبها دلالة جديدة، من مثل كلمة الإيقاد، والإشعال، والسراج، فارتباطها بكلمات مغايرة يجعلها تكسب دلالة تلك الكلمات، وتنفصل، بالتالي، عن دلالتها الخاصة، كما في قول الشاعر:
أشعل ريشي،
وأوقد السنين العجاف
وسراج الخرائب،
واللهب _ من جسدي_ يرقص،
كالديك في معبد الشمس،
تغرق في غروب بحرها الأوحش،
كذلك الهندي الآفل في زحمة
التاريخ والطوفان... ص 19.
فمجموع الكلمات المرتبطة بالحبور والأمل صارت منطفئة بفعل اتشاحها بدلالات الخيبة والوحشة والأفول..
أما عن الرحلة والسفر والتنقل من مكان إلى آخر، فيكفي أن تلقي نرة سريعة على عناوين القصائد لتلمس هذا الحضور، وكمثال على ذلك، نجد:
أجر ذيلا... !!، وأجري وراء صفير !وأحمل حقائب جروحي !وعلى سبيل الوداع، وأسير على نار سكة... مع العلم، أن القصائد التي تحمل عناوينها هذه المعاني تستضمرها أو تجليها في النص لا العنوان، ولنضرب مثلا توضيحيا يبين ذلك بقصيدة: يا هذا العمى !... ص 98. حيث نجد حضورا كثيفا لكلمة العصا التي ترافقه في ترحاله وسفره.
وإذا كان الطباق له دور مهم في تجلية التوتر وما تعيشه الذات من صراع؛ فإن المقابلة ترفع من حدته وتذهب به بعيدا باعتبار أنها طباق مزدوج كما في قوله
أعبر جسر النار،
تومض بين سواد المدينة،
وضوء الموت،
ورماد الحياة...ص 19.
فالمقابلة منحت زخما دلاليا للمقطع، إضافة إلى حضور المدينة كمكان يشهد هذا التوتر، ولا يغب عن بالنا أن عنوان المجموعة يستحضر المكان بقوة، بواسطة حرف الجر: في، وبكلمة السدم والجحيم معا. مما يولد الانطباع أن هذا المكان بمختلف تجلياته هو مصدر هذا التعب، وسبب هذا التوتر النفسي العالي؛ ولا يمكن عزل المكان عن الإنسان؛ لأنه هو الدينامو في كل ما يعتري الذات من أحزان، مما يكاد يقرب المعنى من القولة السارترية المعروفة.
البعد البصري:
التكسير يدخل ضمن التشكيل البصري وله دلالته في التعبير إما عن الانكسار أو عن الرفض أو عن الحسرة أو عن الانهزام ..
ويأخذ وضعيات متعددة كتابة منحنية مائلة عمودية أفقية متداخلة من الأعلى نحو الأسفل ومن اليمين نحو اليسار لتعود من اليسار نحو اليمن. ص 22 و 23 و81...
التشكيل البصري يمنح القارئ إحساسا بالتشتت ويعكس الحالة النفسية للشاعر كما يتحول إلى بلاغة وإلى حمال لدلالات عميقة عن الذات والمحيط. فالتشكيل البصري اشتهر توظيفه في قصيدة النثر. إن الشكيل البصري يكشف عن رغبة الشاعر في ضخ قصائده بمؤثرات جديدة وبميسم جديد يكشف بصمته وقدرته على تحويل المساحة النصية ذاتها إلى بؤرة جمالية بصريا مفتوحة على تأويلات متعددة . لقد تمكن الكاتب عبر الخرق المتكرر للمساحة النصية الضامرة لقصائده من تحويلها إلى لوحة فنية اعتمادا على اللعب على حركة رسم الكلمات وموقعها في كل مرة تماشيا مع الحالة النفسية المتنوعة لكل قصيدة وفيها .
وإذا كانت الألفاظ، كما يقول سعيد بكور " ليست مجرد صوامت جوفاء، بل إنها وحدات تحمل لون المشاعر وتقلبات النفس، وتتأثر بطبيعة التجربة، فقد نجد اللفظ الواحد يتكرر في قصائد متعددة لكنه يكتسب دلالات سياقية من تفاعله النصي الداخلي، ومعنى ذلك أن للفظ دلالة أصلية ودلالة أو دلالات طارئة يكتسبها من طبيعة التجربة ومن السياق".
فإن اللغة في الديوان تتحول غاية، يتم التعامل معها باعتبارها وسيطاروحيا، ليفهم الإنسان معنى وجوده في العالم وليعبر عن كل المشاعر التي تنتابه وأهمها الحزن والاغتراب والوحدة والإحساس بالزمن ووطأته، وكمثال على ذلك القصيدة الأولى التي تعد مفتتح الديوان:
على امتداد نقطة الماء
ما وراء الأفق
مرفأ بعيد لي،
يغرق في كل المنافي،
يحصده الاغتراب
في حرقة دمع سخين
على خد بهيم،
ويكرع من موجات صهيل،
تركض
به الريح
إلى زمن غيلان،
تصول في غابات الوقت،
تئد رقص السنابل،
وعرس المناجل... ص7 و8.
فالمثال النصي يعبر عن تغول القبح من خلال كلمة غيلان التي تئد كل ما هو جميل، والمعبر عنه هنا بالسنابل والعرس، فالكلمتان توحيان بالفرح لكن المنجل كان لها بالمرصاد.
ولعل معنى كلمة سدم التي تتصدر عنوان الديوان والمسبوقة بحرف الجر، ما يعبر عن اجواء القصائد جميعها، ويطويها تحت جناح معنى الأسى والغربة والألم والوحدة، واليأس والقنوط، إذ تشير كلمة سديم إلى:
• التَّعَب والسدر وَالْمَاء المندفق والضباب الرَّقِيق وبقع سحابية متوهجة أَو مغيمة فِي الفضاء ناشئة عَن تكاثف أَو تصادم عدد لَا يُحْصى من الأجرام السماوية وَمِنْه المجرة (ج) سدم
إن المعنى الأساس للكلمة هو التعب والسأم والعيش في وضعية ثابتة كالماء إلى أن يأسن، ويفقد عذوبته ومذاقه السلسبيل، ويتقوى هذا المعنى بالمضاف إليه وهو الجحيم.
هكذا، نجد الإيقاع يتأرجح بين الخفوت والحركية ، ويتأثر بالمعاني والواقع النفسي المتحول للشاعر ، ويكتسب نبضه من توظيف الطباق الذي يجعل حركيته بين مد وجزر، صاعدة حينا ونازلة حينا آخر ومتموجة حينا ثالثا، كما يتأثر بقلب مواضع الألفاظ في التركيب، حيث يحاكي القلب الموضعي حركية النفس الداخلية، وتتقوى فاعليته بالجناس والتوازي والتكرار، وهذه الظواهر كلها تجعل القصيدة لوحة فسيفسائية تتلون بأصباغ متباينة، وبين انفعال النفس ورنين الصوائت وتلوّن الصوامت تتحول جغرافيا القصيدة إلى ميدان فسيح يعكس طبيعة التموج الذي تحياه الذات .سعيد بكور.
**
وختاما يمكن القول إن من مميزات الديوان ذلك الانسجام الجمالي والمعنوي بين عناصره، وهو ما أثرى تجربة الشاعر، ووسم نمطه الإبداعي بتطور مُطَّرد يصعب مواكبة سيرورته، والإحاطة بما تجترحه من أساليب خلق وابتكار في قراءة مقتضبة ومبتسرة. عبد النبي بزاز.