لم يستفد الشعراء من الأساطير في آثارهم الأدبية في أي عصر من العصور کما استفادوا في عصرنا الحاضر. ومن أبرز الأساطير التي استفادوا منها: أسطورة الموت والانبعاث من خلال رموزها؛ الفينيق، وتموز، وأدونيس.
وترتبط جدلية الموت والانبعاث لدى الشعراء بهواجس نفوسهم التي تنشد الخلاص من بوتقة الجدب والعدم.
فما علاقة الموت والانبعاث برواية "عقد المانوليا" لنعيمة السي أعراب؟
ذلك ما سأسعى إلى تبيينه بشكل سريع. فقد وردت بمقطع "القطة "من الرواية هذه الفقرة بلسان عائدة، تقول فيها:
أود لو كان لي طفل منك، صبي يشبهك.. ألده وأستمتع برؤيته يكبر، ولا أضيع لحظة من لحظات حياته الثمينة... هذا الصبي يكون أنت؛ وعندما نضج وتغدو رجلا مكتملا، أتحول أنا كما زليخة يوسف، أتحول إلى شابة نضرة وأقترن بك... هكذا يكون لي ماضيك وحاضرك ومستقبلك !
وتعود إلى الموضوع نفسه في مقطع "ورطة" بقولها مع نفسها:
يا ألله !كم انتظرت هذه اللحظة !أن أراك أمامي، تصحو، وكأنك ولدت من جديد !أنت الآن ذلك الصبي الذي تمنيت أن ألده... ألست أنا من كنت وراء انبعاثك، عتادي نبض قلبي وبضع كلمات؟ !.
إن قراءة سريعة للمقطعين ستوصل إلى جدلية الموت والانبعاث، حيث إن غيبوبة نوري هي بمثابة موت مؤقت، وستسعى عائدة إلى بعثه كما عشتار، بواسطة حلم الولادة، وقبل ذلك من خلال إلقاء تعويذة سحرية تمكنه من الخروج من تلك الغيبوبة، ولعل المقطع التاسع عشر كان بمثابة تلك التعويذة التي قرأتها عليه فارتدت إليه روحه، فانتعشت نفسها بعودته إلى أحضانها كصبي رغبت فيه يكبر أمام ناظريها إلى أن يصير كبيرا تعشقه.
فما علاقة ما جاء في المقطعين بالكتابة باعتبارها محور الرواية وسؤالها الأساس؟
لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا كإجابة ذلك التماثل بين الطرفين في عملية المخاض والإنجاب. فكل منهما يعيش اللحظتين معا، بيد أن المخاض والولادة في المقطعين الأولين يرتبطان بحلم يراود الذات المتكلمة ليكون واقعيا وملموسا، وطبيعيا، بينما الثاني فذو ارتباط بالمجال الرمزي. هما معا حلم الأول لا يتحقق إلا رمزيا وإن كان من العالم الطبيعي، أما الثاني فيتحقق واقعيا بالرغم من أنه ينتمي للمجال الرمزي.
في الأول استحالة، إلا بفعل الخيال، أما في الثاني فإمكانية واقعية وتحقق فعلي.
تؤكد الفقرتان كما فكرة الرواية أنهما انفتاح على الحياة، وأنهما يعيشان معا جدلية الموت والانبعاث، ويدخلان معا ضمن صيرورة التحول والتجدد، وأن فكرة القدم تتلاشى لصالح فكرة الانبعاث كتجدد. إنهما معا يندفعان في فورة حماس إلى الأمام، ينشدان المستقبل دون انفصال عن الحاضر الذي يعد منصة انطلاق من دونها ستتعثر الخطوات، وينهار الحلم.
في الفقريتين تحضر فكرة الامتلاك والاستحواذ، فالذات المتكلمة ذات شهوة ونهم، تريد موضوعها كاملا غير منقوص، يتجدد وبه تجدد نفسها ورغباتها، تستحضر ذاتا أخرى عاشقة حد الذوبان، استحوذ عليها موضوعها فما عادت ملتزمة بالقوانين، بل تحدتها بصنع اتهام يبقي موضوعها تحت عينيها، وما همتها النهاية باعترافها، لكن ذات القول في الفقرتين لم تذهب إلى ذلك الحد من ضرب القوانين الأخلاقية، لأن مجالها لم يكن الخرق إلا على مستوى الطبيعة وبواسطة الحلم أو التمني المستحيل، وهو مستحيل ممكن بفعل الكتابة وبواسطتها، فهي الأداة التي ستمكن الذات الراغبة من تحقيق حلمها. من هنا ذلك التداخل بين المجالين، وانصهارهما.
ولعل رغبة إنجاب عائدة لنوري المتجددة تجد لها حضورا في بعض تعبيراتها المبثوثة في ثنايا الرواية كنوع من التشوير القرائي المنبه إلى حضورها من أجل أخذها بعين الاعتبار، من ذلك حضور إشارة عائدة إلى رغبتها في الالتهام بما هو ابتلاع بسرعة، ويرتبط باللحم؛ دون أن تحدد موضوعه، تلك الرغبة التي وردت بعد فراغها من الأكل، وخروجها من المطعم بمرح صحبة نوري الذي أصيب بعدواه؛ هو صاحب البنية القوية التي تشد الانتباه وتغري بالتهامه خاصة وأن الأزقة خالية، فإن ما ورد من أحداث بعدها وغير بعيد عنها يشي بأن نوري هو موضوع الالتهام. فحين جلسا على مقعد معدني بحديقة تكاد تشبه ما رسم على مذكرتها، وانغماسهما في قبلات جعلت عائدة تتيه، يمكن أن يقوم دليلا على سعيها إلى ابتلاع حبيبها ليصير جنينا في بطنها تعيد بناءه ثم إنجابه؛ أي إخضاعه لجدلية الموت والانبعاث.
ويأتي سؤال بداية النص الروائي، هل للكتابة من جدوى؟
ونجيب بنعم بسرعة، لأنها تعيد إلينا ما افتقدناه، تعيده وكأنه ولد من جديد، فالكتابة تمنحنا حياة جديدة، تعيد إنشاءها، أو تبعثها من فقدانها، أي من ضياعها رمزيا وواقعيا، كما أنها صعقة لإعادة الحياة لمن فقدها، وإيقاظ للموتى عساهم يغيرون منظوراتهم، ويجددون حيويتهم، ويحققون التغيير المنشود في واقعهم.
فللكتابة جدوى، حين تكون ملتزمة وجادة وقيمة، وذات معنى، تحمل رسالة نبيلة همها تغيير الناس ليغيروا ما بأنفسهم وما حولهم، وواقعهم بالتبعية.
تمنحنا الكتابة حياة جديدة، نولد من خلالها وبها، كما ولد نوري من جديد.
ولكن، كيف تنبعث الكتابة بنفسها؟
لا يمكن للكتابة أن تكون حية بمفردها، فهي بحاجة إلى من يخرجها من صمتها، على اعتبار أن الصمت قرين الموت، ومن يقوم بهذا الدور السحري هو القارئ. فلا حياة للكتابة من دونه، لذلك، فهو مطلوب، لأنه الركن الأساس والزاوية التي منها تولد الكتابة. القارئ مثل عشتار، يسمح وجوده بحياة الكتابة. ثم إن حضوره يقود إلى غياب الكاتب. وليس بدعا أن يتحدث البعض عن موته؛ موت مؤقت لأن الكتابة ستظل ملتصقة به تعبر عن هويته، وبصمته الخاصة، لكنه يفسح للقارئ مكانا مهما في كتابته لتحيا.
والرواية إذ تؤكد من خلال عائدة على أن الكتابة تحرر المشاعر المكبوتة في الأعماق، وتصعد بالنفس إلى السطح، فإنها تبين دورها في خلق جدلية الموت والانبعاث؛ موت الكاتبة قبل كتابتها لتنبعث من جديد بواسطة كتابتها التي حررتها من الموت. وتأتي القراءة للكتابة لتمنحها حياة جديدة، تذوب في الذات القارئة موتا ينشد انبعاثا يتحقق بفعلها السحري، وإنجازها المتكرر؛ حيث إن تلك الكتابة لا تظل مقيدة بقارئ واحد، بل تنفتح على تعدد القراء، ومن ثم تعدد انبعاثها.
ويؤكد كمال في حواره مع عايدة على أهمية القارئ، إذ يخبرها أن العلاقة جدلية بين الكتابة وبين فعل القراءة؛ إذ لا يمكن وجود قارئ من دون كاتب، كما لا معنى لوجود كاتب من دون قارئ؛ ومن هنا، التفاعل مطلوب في ما بينهما، كما التأثير، وبالتالي، فعلى كل طرف أن ينهض بدوره.
وعملية التفاعل شبيهة بالعملية الجنسية الذي تحقق الولادة؛ إذ من خلال كيميائها تتحقق مسألة الموت والانبعاث.
وترتبط جدلية الموت والانبعاث لدى الشعراء بهواجس نفوسهم التي تنشد الخلاص من بوتقة الجدب والعدم.
فما علاقة الموت والانبعاث برواية "عقد المانوليا" لنعيمة السي أعراب؟
ذلك ما سأسعى إلى تبيينه بشكل سريع. فقد وردت بمقطع "القطة "من الرواية هذه الفقرة بلسان عائدة، تقول فيها:
أود لو كان لي طفل منك، صبي يشبهك.. ألده وأستمتع برؤيته يكبر، ولا أضيع لحظة من لحظات حياته الثمينة... هذا الصبي يكون أنت؛ وعندما نضج وتغدو رجلا مكتملا، أتحول أنا كما زليخة يوسف، أتحول إلى شابة نضرة وأقترن بك... هكذا يكون لي ماضيك وحاضرك ومستقبلك !
وتعود إلى الموضوع نفسه في مقطع "ورطة" بقولها مع نفسها:
يا ألله !كم انتظرت هذه اللحظة !أن أراك أمامي، تصحو، وكأنك ولدت من جديد !أنت الآن ذلك الصبي الذي تمنيت أن ألده... ألست أنا من كنت وراء انبعاثك، عتادي نبض قلبي وبضع كلمات؟ !.
إن قراءة سريعة للمقطعين ستوصل إلى جدلية الموت والانبعاث، حيث إن غيبوبة نوري هي بمثابة موت مؤقت، وستسعى عائدة إلى بعثه كما عشتار، بواسطة حلم الولادة، وقبل ذلك من خلال إلقاء تعويذة سحرية تمكنه من الخروج من تلك الغيبوبة، ولعل المقطع التاسع عشر كان بمثابة تلك التعويذة التي قرأتها عليه فارتدت إليه روحه، فانتعشت نفسها بعودته إلى أحضانها كصبي رغبت فيه يكبر أمام ناظريها إلى أن يصير كبيرا تعشقه.
فما علاقة ما جاء في المقطعين بالكتابة باعتبارها محور الرواية وسؤالها الأساس؟
لعل أول ما يتبادر إلى أذهاننا كإجابة ذلك التماثل بين الطرفين في عملية المخاض والإنجاب. فكل منهما يعيش اللحظتين معا، بيد أن المخاض والولادة في المقطعين الأولين يرتبطان بحلم يراود الذات المتكلمة ليكون واقعيا وملموسا، وطبيعيا، بينما الثاني فذو ارتباط بالمجال الرمزي. هما معا حلم الأول لا يتحقق إلا رمزيا وإن كان من العالم الطبيعي، أما الثاني فيتحقق واقعيا بالرغم من أنه ينتمي للمجال الرمزي.
في الأول استحالة، إلا بفعل الخيال، أما في الثاني فإمكانية واقعية وتحقق فعلي.
تؤكد الفقرتان كما فكرة الرواية أنهما انفتاح على الحياة، وأنهما يعيشان معا جدلية الموت والانبعاث، ويدخلان معا ضمن صيرورة التحول والتجدد، وأن فكرة القدم تتلاشى لصالح فكرة الانبعاث كتجدد. إنهما معا يندفعان في فورة حماس إلى الأمام، ينشدان المستقبل دون انفصال عن الحاضر الذي يعد منصة انطلاق من دونها ستتعثر الخطوات، وينهار الحلم.
في الفقريتين تحضر فكرة الامتلاك والاستحواذ، فالذات المتكلمة ذات شهوة ونهم، تريد موضوعها كاملا غير منقوص، يتجدد وبه تجدد نفسها ورغباتها، تستحضر ذاتا أخرى عاشقة حد الذوبان، استحوذ عليها موضوعها فما عادت ملتزمة بالقوانين، بل تحدتها بصنع اتهام يبقي موضوعها تحت عينيها، وما همتها النهاية باعترافها، لكن ذات القول في الفقرتين لم تذهب إلى ذلك الحد من ضرب القوانين الأخلاقية، لأن مجالها لم يكن الخرق إلا على مستوى الطبيعة وبواسطة الحلم أو التمني المستحيل، وهو مستحيل ممكن بفعل الكتابة وبواسطتها، فهي الأداة التي ستمكن الذات الراغبة من تحقيق حلمها. من هنا ذلك التداخل بين المجالين، وانصهارهما.
ولعل رغبة إنجاب عائدة لنوري المتجددة تجد لها حضورا في بعض تعبيراتها المبثوثة في ثنايا الرواية كنوع من التشوير القرائي المنبه إلى حضورها من أجل أخذها بعين الاعتبار، من ذلك حضور إشارة عائدة إلى رغبتها في الالتهام بما هو ابتلاع بسرعة، ويرتبط باللحم؛ دون أن تحدد موضوعه، تلك الرغبة التي وردت بعد فراغها من الأكل، وخروجها من المطعم بمرح صحبة نوري الذي أصيب بعدواه؛ هو صاحب البنية القوية التي تشد الانتباه وتغري بالتهامه خاصة وأن الأزقة خالية، فإن ما ورد من أحداث بعدها وغير بعيد عنها يشي بأن نوري هو موضوع الالتهام. فحين جلسا على مقعد معدني بحديقة تكاد تشبه ما رسم على مذكرتها، وانغماسهما في قبلات جعلت عائدة تتيه، يمكن أن يقوم دليلا على سعيها إلى ابتلاع حبيبها ليصير جنينا في بطنها تعيد بناءه ثم إنجابه؛ أي إخضاعه لجدلية الموت والانبعاث.
ويأتي سؤال بداية النص الروائي، هل للكتابة من جدوى؟
ونجيب بنعم بسرعة، لأنها تعيد إلينا ما افتقدناه، تعيده وكأنه ولد من جديد، فالكتابة تمنحنا حياة جديدة، تعيد إنشاءها، أو تبعثها من فقدانها، أي من ضياعها رمزيا وواقعيا، كما أنها صعقة لإعادة الحياة لمن فقدها، وإيقاظ للموتى عساهم يغيرون منظوراتهم، ويجددون حيويتهم، ويحققون التغيير المنشود في واقعهم.
فللكتابة جدوى، حين تكون ملتزمة وجادة وقيمة، وذات معنى، تحمل رسالة نبيلة همها تغيير الناس ليغيروا ما بأنفسهم وما حولهم، وواقعهم بالتبعية.
تمنحنا الكتابة حياة جديدة، نولد من خلالها وبها، كما ولد نوري من جديد.
ولكن، كيف تنبعث الكتابة بنفسها؟
لا يمكن للكتابة أن تكون حية بمفردها، فهي بحاجة إلى من يخرجها من صمتها، على اعتبار أن الصمت قرين الموت، ومن يقوم بهذا الدور السحري هو القارئ. فلا حياة للكتابة من دونه، لذلك، فهو مطلوب، لأنه الركن الأساس والزاوية التي منها تولد الكتابة. القارئ مثل عشتار، يسمح وجوده بحياة الكتابة. ثم إن حضوره يقود إلى غياب الكاتب. وليس بدعا أن يتحدث البعض عن موته؛ موت مؤقت لأن الكتابة ستظل ملتصقة به تعبر عن هويته، وبصمته الخاصة، لكنه يفسح للقارئ مكانا مهما في كتابته لتحيا.
والرواية إذ تؤكد من خلال عائدة على أن الكتابة تحرر المشاعر المكبوتة في الأعماق، وتصعد بالنفس إلى السطح، فإنها تبين دورها في خلق جدلية الموت والانبعاث؛ موت الكاتبة قبل كتابتها لتنبعث من جديد بواسطة كتابتها التي حررتها من الموت. وتأتي القراءة للكتابة لتمنحها حياة جديدة، تذوب في الذات القارئة موتا ينشد انبعاثا يتحقق بفعلها السحري، وإنجازها المتكرر؛ حيث إن تلك الكتابة لا تظل مقيدة بقارئ واحد، بل تنفتح على تعدد القراء، ومن ثم تعدد انبعاثها.
ويؤكد كمال في حواره مع عايدة على أهمية القارئ، إذ يخبرها أن العلاقة جدلية بين الكتابة وبين فعل القراءة؛ إذ لا يمكن وجود قارئ من دون كاتب، كما لا معنى لوجود كاتب من دون قارئ؛ ومن هنا، التفاعل مطلوب في ما بينهما، كما التأثير، وبالتالي، فعلى كل طرف أن ينهض بدوره.
وعملية التفاعل شبيهة بالعملية الجنسية الذي تحقق الولادة؛ إذ من خلال كيميائها تتحقق مسألة الموت والانبعاث.