ربيع جابر - لغز "مدينة النحاس" بين روايات الأقدمين واقتراحات المعاصرين . ياقوت الحموي تحفظ... وابن خلدون استنكر الرواية ونقضها.. 2 من 2

تحدثت الحلقة الأولى عن اكتشاف المدينة بعد وصول أخبارها الى دمشق، وفشل فاتح الاندلس موسى بن نصير في دخولها. وتتناول الثانية آراء المؤرخين وخلافاتهم على وجودها.

ينقل ياقوت الحموي في "معجم البلدان" كثيراً عن ابن الفقيه ويذكره بالاسم عشرات المرات، في المجلد الخامس من معجمه طبعة دار بيروت ودار صادر، بيروت، 1957م. يكتب الحموي في مادة "مدينة النحاس": "ويقال لها مدينة الصُّفر، ولها قصة بعيدة عن الصحة لمفارقتها العادة، وأنا بريء من عهدتها إنما أكتب ما وجدته في الكتب المشهورة التي دوّنها العقلاء، ومع ذلك فهي مدينة مشهورة الذكر فلذلك ذكرتها، قال ابن الفقيه: ومن عجائب الأندلس أمر مدينة الصفر التي يزعم قوم من العلماء أن ذا القرنين بناها وأودعها كنوزه وعلومه وطلسم بابها فلا يقف عليها أحد، وبنى بداخلها بحجر البهتة وهو مغناطيس الناس، وذلك إن الإنسان إذا نظر إليها لم يتمالك أن يضحك ويلقي نفسه عليها فلا يزايلها أبداً حتى يموت، وهي في بعض مفاوز الأندلس. ولما بلغ عبدالملك بن مروان خبرها ... كتب الى موسى بن نصير ... من هنا وحتى نهاية مادة "مدينة النحاس" في "معجم البلدان" ينقل الحموي حرفياً رواية ابن الفقيه المذكور معظمها في الجزء الأول من المقال.
يلاحظ القارئ أن الحموي كان يملك مخطوطة أكثر اكتمالاً من مخطوطة ابن الفقيه التي وصلت إلينا. إلاّ إذا كان صاحب "معجم البلدان" أضاف مسألة الاسكندر و"مغناطيس الناس" معتمداً على رواية أخرى، شاء ألا يذكرها، أو نسبها لابن الفقيه خطأ. لكن المهم في رواية الحموي تلك الإضافة الخيالية البديعة التي تفسر اسم المدينة عند ابن الفقيه: حجر البهت الذي يجذب الإنسان إليه وهو يموت ضحكاً. وهذا الحجر يعرفه القزويني القرن الثالث عشر للميلاد جيداً، وهو يُسمى في طبعة بيروت 1981 من كتاب "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، "حجر باهت"، وهو "أبيض في لون المرقشيتا البيضاء يتلألأ حسناً. إذا وقعت عليه عين الإنسان يغلبه الضحك. وقيل إنه مغناطيس الإنسان" ص250.

بدأ ياقوت مادة "مدينة النحاس" بالتبرؤ من عهدتها، إذ إن قصتها "بعيدة عن الصحة لمفارقتها العادة" فكيف يتوانى عن ذكر ذلك، والمادة التي تسبقها تتعلق بمدينة موسى المعروفة في قزوين بناها موسى الهادي في حياة أبيه الخليفة المهدي الذي يُزودنا ابن الأثير بقصة بديعة حول موته - موت يخرج من منام!، فيما المواد الأخرى التي تليها تتعلق كلّها بمدن حقيقية جداً: نيسابور ويثرب و...
واللافت في رواية الحموي عبارته: "بعيدة عن الصحة لمفارقتها العادة"، ذلك أنها عبارة متينة نعثر على صداها معكوساً بعد بضعة عقود فقط في مقدمة القزويني لكتاب "عجائب المخلوقات" إذ يخبرنا أن "التعجب" يسقط بالأنس "وكثرة المشاهدة" ص35. الطبعة المذكورة سابقاً.
تحفظ الحموي
لا يجزم الحموي في إمكان وجود مدينة النحاس حقاً أو عدم وجودها. هو فقط يقول إن قصتها بعيدة عن الصحة لمفارقتها العادة، فإذا استعنا بالقزويني وبقوله إن "العجب حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء"، بدت مدينة النحاس ربما من الممكنات! إذا فهمنا سببها.
إن اقتراحاً كهذا يثير لا ريب غضب ابن خلدون المتوفى سنة 1406م. كيف يعقل أن يظن شخص عاقل أن مدينة كمدينة النحاس هي مدينة حقيقية؟ لا يملك ابن خلدون أن يتلفظ بهذه الكلمات الماوردي ذكر جيَفاً تتكلم كالأحياء لكنه خطَّ قبل موته، في "المقدمة" الشهيرة، كلمات تشبهها: "... ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً ... في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غزوته الى المغرب وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القُصّاص وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبر ثم إن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادة مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية ... وأما تشييد المدينة منها فكما تراه من الاستحالة...".

نلاحظ أولاً أن ابن خلدون يعتمد على رواية للمسعودي ليست بحوزتنا. رواية أكثر تفصيلاً من تلك التي اقتبسناها من "مروج الذهب"، لا يذكر ابن خلدون مصدره. ربما كان المصدر ذاكرته، وعندئذ قد نتخيل أنه جمع بين مصادر عدة من دون انتباه. أو ربما كان مصدر ابن خلدون كتاب "أخبار الزمان" الذي ألفه المسعودي وذكره كثيراً في "مروج الذهب" ثم ضاع وفُقد فلم يصلنا طبع منه في بيروت جزء صغير.
نلاحظ ثانياً أن ابن خلدون يكاد أن يرتكب أخطاء منطقية فيما يحاجج المسعودي بالمنطق. فالقول إن "صحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء" من دون أن يقفوا على خبر لمدينة النحاس فيهما، هذا القول ليس حجة كافية، فالمدينة ربما كانت موجودة في أواخر القرن السابع للميلاد بحسب روايات ابن الفقيه والمسعودي والغرناطي أي قبل سبعة قرون تقريباً من كتابة ابن خلدون لكلماته، إذ يمكن لرمال الصحراء أن تغمر المدينة في هذه المدة، من دون أن يدري بالأمر إنسان، خصوصاً متى علمنا وهذا ما يعلمه ابن خلدون أيضاً أن سجلماسة "منقطعة لا يسلك إليها إلا في القفار والرمال" ص 34، من كتاب "المسالك والممالك"، للأصطخري، المتوفى سنة 957م. صادر عن وزارة الثقافة في الجمهورية العربية المتحدة 1961، ومن حسن الحظ، أن المسعودي لم يتطرق لمسألة "حجر البهت"، إذ في تلك الحال كيف كنا سنحاجج ابن خلدون دفاعاً عن المسعودي وعن المدينة الخيالية. لكننا في المقابل نستطيع أن نتساءل لماذا يكون بناء مدينة بكاملها من النحاس مستحيلاً؟ صحيح أن ذلك "مناف للأمور الطبيعية" ابن خلدون لكنه ربما كان ناتجاً مثلاً من عدم توافر مادة النحاس، كما يتوافر الخشب أو الطين أو الحجر عادة. أما في سجلماسة حيث "لا يعرف معدن للذهب أوسع ذهباً ولا أصفى منه" الأصطخري فربما كان النحاس متوافراً أكثر من الخشب والطين والحجارة!
معنى الخرافة
وُجدت مدينة النحاس في المغرب أو في الأندلس، أم لم توجد إلا في الخيال وفي كتب ابن الفقيه والمسعودي والغرناطي، فإن حكايتها لا تنتهي عند الإجابة عن هذا السؤال. اكتشف ايتالو كالفينو في مطلع سبعينات القرن العشرين أن المدن هي رموز أيضاً، خصوصاً تلك المدن غير المرئية انظر روايته الجميلة "مدن غير مرئية" الصادرة بالإيطالية عام 1972 والمترجمة الى الإنكليزية عام 1974. مدينة النحاس، أو البَهْت، أو الصُفر، ما معناها؟ كيف نفهم حاجة الخيال الإنساني الى اختراعها؟ وإلى ماذا ترمز؟
معاصرُنا فاضل الربيعي عراقي مقيم في هولندا حيث مكتبة لايدن - التابعة لجامعة لايدن - والتي تضم آلاف المخطوطات الإسلامية والعربية الثمينة يقدم في كتابه "إرم ذات العماد، من مكة الى أورشليم، البحث عن الجنة" دار رياض الريس، بيروت، 2000 جواباً فاتناً وإن كانت الدقة تعوزه بعض الشيء. يستعيد الربيعي نص ابن خلدون المذكور آنفاً ثم يكتب: "ما لم يلاحظه ابن خلدون، وهو يُسلط سيف النقد الجارح على البكري والمسعودي، أن أسطورة "مدينة النحاس" التي يتحدث عنها، والمعتقد أنها موجودة في الصحراء، حيث يأتيها الإنسان ليرمي بنفسه من أعلى شرفاتها وينزلق في اللازمن، هي أسطورة غير منفصلة غير مستقلة تماماً عن أسطورة إرم بل هي ذاتها أسطورة إرم، لكن بلغة أكثر تكثيفاً ... ولأنها "مدينة النحاس" تقع في الصحراء تماماً مثل إرم فإن من يدخلها لن يدخل مكاناً أرضياً يستطيع مغادرته والعودة الى قبيلته، بل سيصبح جزءاً منها. الإنسان الباحث عن مدينة النحاس الصحراوية لكي يُصعق ويرمي بنفسه من أعلى شرفاتها فلا يعود إلا آخر الدهر الزمن هو نفسه الإنسان العائد الى مكانه الأول، موطنه القديم، الجنة". ص 186- 187.

قد تكون الإشارة أعلاه الى مدينة النحاس إشارة الربيعي الوحيدة إليها في كتابه عن إرم. هناك طاقة شعرية أكيدة تُوكد استعارات الربيعي كما تُوَجه استقصاءاته. فالفصل الأول بافتتاحيته البديعة حيث نكتشف أن "الضياع، وحده، يمكن أن يقودنا في النهاية الى المدينة"، لا يبدو تعليقاً على قصة عبدالله بن قلابة - الشارد خلف ابله الضائعة في الصحراء - فقط، وإنما تعليقاً على قارئ القصة أيضاً، كما على كاتبها!.
اكتشف أحد رعاة الإبل مدينة إرم ذات العماد مصادفة وسط الصحراء. حدث ذلك في أيام معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية. عبدالملك بن مروان، الذي في أيامه اكتشفت مدينة النحاس، هو خامس الخلفاء الأمويين، في المقابل. يستعيد الربيعي روايات جغرافيين وإخباريين ومؤرخين عديدين بشأن مدينة إرم الثعلبي، المسعودي، الأبشيهي، الحموي، الطبري، الزمخشري، ابن خلدون الخ... الخ...، لكنه لا يستعيد مثلاً رواية الغرناطي. ولو فعل، لربما كان تخلى عن تشبيه "مدينة النحاس" بمدينة إرم تخلياً كاملاً. تكلمنا على دقة تعوز جوابه بالمطابقة بين مدينة النحاس ومدينة إرم، نذكر سببين: أولاً عبدالله بن قلابة رجع من إرم، فيما الذين تسلقوا سور مدينة النحاس ثم نزلوا إليها لم يرجعوا منها أبداً، ثانياً إرم لها باب وعبدالله بن قلابة، دخلها من بابها ولم يجد فيها أحداً، وهذا يعني أنها مدينة تُعطي نفسها للغريب، مدينة النحاس، من جهة أخرى، بلا باب. وهي ليست فارغة تلك الضجة المخيفة التي يصفها الغرناطي، من ينساها؟. ولا تريد أبداً أن تفتح قلبها للغريب. بالعكس: هي تريد تقطيعه الى نصفين. على الأقل في رواية الغرناطي - وهو رجل خبير في التغرُّب!.
الغرناطي واقتراحه
على رغم ذلك يبقي اقتراح الربيعي - في أحد مستوياته - معقولاً ومرغوباً أيضاً، لكن الغرناطي يدفعنا نحو اقتراح آخر، أو لنقل إن الغرناطي لا يكتفي بتكرار رواية ابن الفقيه ورواية المسعودي بل هو يقدم أيضاً اقتراحه الخاص، الذي نستطيع تفكيكه على هذا النحو: قرأ الغرناطي كتاباً عن مدينة النحاس قرأ رواية ابن الفقيه مثلاً ثم تساءل مستغرباً: لماذا ترك موسى بن نصير المدينة ولم يقدم على اجتياحها بعد اختفاء رجاله الثلاثة؟ لماذا لم يرسل أيضاً رجلاً رابعاً؟ بينما يطرح الغرناطي على نفسه هذه الأسئلة أعاد قراءة رواية ابن الفقيه فانتبه إلى أن موسى بن نصير هو المؤلف الحقيقي للرواية. ذلك أننا نحن القراء، والغرناطي أحدنا، وإن سبقنا بقرون نعرف ما جرى لموسى بن نصير وأصحابه عبر الكتاب الذي كتبه موسى بن نصير نفسه الى الخليفة! عندئذ فكر الغرناطي أن موسى بن نصير ربما قال نصف الحقيقة. عندئذ فكر الغرناطي أن موسى بن نصير أرسل رجلاً رابعاً ليتسلق السور وأن الكارثة قطع الرجل نصفين التي حدثت بعدئذ كانت السبب في يأس القائد ورحيله عن المدينة. كارثة أُخفيت عن الخليفة.
هذا الاقتراح من الغرناطي يفيد الآتي: يعيش في مدينة النحاس مجموعة من أكلة لحم البشر، يصف المسعودي هؤلاء مطولاً في "مروج الذهب" كما في "أخبار الزمان". لكننا نجد الوصف المفزع فعلاً للمتوحشين عند مترجم "ألف ليلة وليلة" الى الإنكليزية - لنتذكر مدينة النحاس في "ألف ليلة وليلة" - نقصد السير ريتشارد بيرتون الذي كتب إثر رحلة طويلة الى مجاهل افريقيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وصفاً مثيراً للرعب، قارن فيه بين قبيلة افريقية وبين ما سمعه عن سلخ الهنود الحمر لجلدة رأس العدو وصوت الفرقعة FLIB الذي تحدثه الجلدة المطاطة لحظة انفصالها كاملة عن عظم الرأس. وكان بيرتون يكتب هذا في ضوء النهار، أما في الليل، بعد نوم الليدي بيرتون، فيترجم "الروض العاطر" الى الإنكليزية.

وبحسب الغرناطي، وعبر الاستعانة بقصة مكتوبة سنة 1949 لخورخيه لويس بورخيس الأرجنتيني انظر "قصة ابن حاقان البخاري، ميتاً في متاهته"، نستطيع الافتراض أن أكلة لحوم البشر هؤلاء، صنعوا مدينتهم على ذلك النحو من أجل اصطياد البشر، طعامهم الأثير. إن مدينة من نحاس، تبرق عن بعد خمسة أيام، هي طُعم فاعل، ومصدر جذب أكيد للعابرين من أهل الفضول. حين يقترب غريب يدلون له سلّماً. وإذا اقترب جيش قد يهددهم لم يرموا سلماً، بل انتظروا، فإما يصعد رجل واحد، أو يبتعد الجيش عنهم. هم في أمان، فمدينتهم بلا باب!.
هذا اقتراح نسوقه من قبيل اللعب اللعب ذاته الذي يملأ "تحفة الألباب" أو "عجائب" القزويني. والهدف منه اكتشاف رمز شرير، قاتل ومرتبط بالفناء، لمدينة النحاس. إنه الرمز نفسه الذي نجده عند هيرمان ملفيل سيئ الحظ الذي وقع مرة في أسر المتوحشين، ليس في افريقيا، بل في جزر البحار الجنوبية في المحيط الهادئ، قبيل انتصاف القرن التاسع عشر. والرمز الذي نعنيه هو موبي ديك 1850 طبعاً، ذلك الحوت الأبيض الرهيب، الذي يجذب القبطان ببريقه من بعيد، من بعد أيام، فيقطعه نصفين، ويقتله، أو للدقة: يخفيه في جوفه، الجوف الذي لا تراه العين، تماماً كما المدينة النحاسية!
لا يبقى إلا اقتراح أخير: أن تكون مدينة النحاس رمزاً للكتاب. تفتح الكتاب تنظر الى المدينة، تصاب بالدهشة تصفق فرحاً، تنسى العالم تتجاهل نداء الأصحاب، وتقفز الى حياة جديدة، فلا ترجع منها أبداً. وإذا رجعت كنت مختلفاً عن قبل، فلم يعرفك أحد، ولم تعرف أحداً.

* روائي لبناني.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى