حسن بيريش - تباعا يرحلون.. في رثاء أحبة رحلوا: اطو حزنك ودع الموت يرفع لحده ويفر من المقبرة!!

(1)
صائرون، مهما أبحرنا في اللقاء، إلى مرفىء فراق.
في ظلمات العزلة، يشرق الردى، ونلمح في بصيص الحياة وجوها طوتها القبور، وما نسيتها القلوب.
كانوا هنا، معنا في الدنيا، وأصبحوا هناك في الٱخرة بجوار الله، وما أعزه وما أكرمه من جوار.
نعيش، نحلم، نتمنى، نكابد، وفجأة يأتي ذاك المجهول الذي يتكرر وصفه في نهاية كل حكاية من "ألف ليلة وليلة".
"هازم اللذات
ومفرق الجماعات".
(2)
تباعا، تباعا، يرحل الأحبة، يرحلون تاركين في الدواخل جمر الفراق، في الروح شجن اللوعة، وفي الذاكرة بقايا من فاخر عطورهم.
ما أفظع الموت..!!
إنه يتسلل إلى أوج فرحنا بالحياة، ثم يسرق منا وجوه من نحب، ويتركنا ناقصين بدونهم..!!
لو كان للموت أحباء، مثلنا،
أكان سيطعن قلبه بخنجر غدره،
ويخطف أرواحهم،
تاركا وراءه كل هذا العويل..؟!
وحتى لا يهزمني الموت مرتين، ها أنا أعيد إلى ناظري تلك الوجوه لأتملاها، وأرى رحيلي في مرايا بقائها.
(3)
مع زهرة زيراوي، سليلة غبطة الحياة، يخجل الموت الأليم من الاقتراب منا، من التعبير عن حضوره المبهم.
مع ذلك، يقتضي وهم غيابها هي، أن أستحضر حقيقته هو، ليس من أجل أن أبكيها هي، بل لأنتحب أنا.
وهذا مقطع من بورتري، كتبته عنها وهي قيد الأمل الواسع في حياة خذلتها على حين غرة.
"إذا أمسكت الكلمة،
جاءت إليها القصيدة توا،
وأزهرت بين يدي إجادتها.
إذا أزمعت الخيال في عوالم اللون،
امتلأ الفن بفرشاتها،
وأجاد المثول في أطراف أصابعها.
في شعرها، الذي ترسمه بكلام اللون،
تأخذنا إليها بجماع ما فيها من ألق،
وما فينا من دهشة.
هكذا نعثر في قصيدها، الوارف بها وبنا،
على استثناء في عموم القاعدة.
فتلمح هي في عبورنا
إقامة راسخة في تفردها.
في لوحاتها، التي تكتبها بلون الكلام،
تثير فينا سرائر العين،
وأقاصي التأمل، ولباب الجمال.
هكذا نعيد اكتشاف أعماقنا
أمام لوحاتها النضرات.
نمد البصر عطشا صوب
ألوان تشي بجهارة إبداعها،
وصمت انبهارنا.
في حالتيها،
شاعرة ترسم، ورسامة تكتب،
تتبدى زهرة زيراوي سليلة الأعالي،
وسيدة القمم".
لما نشرت البورتري، كتبت لي زهرة زيراوي، عبر الخاص، ما عبره ارتفعت أكثر في رحاب إعجابي.
"تنمل علي جسدي وأنا أقرأ ما كتبه عني
الأديب حسن بيريش.
أيها الأديب العزيز، كم أحلم أن نلتقي!".
(4)
أستعيد سبع سنوات قضيتها برفقة محمد شكري، وأتصفح كتابي الذي ذهبت إليه من معبر الموت، وكتبته عبر مسافة الحياة "شكري.. وأنا".
هذا مقتطف منه، لا يشي إلا بلوعة الفراق:
نعش محمد شكري
محمول على الأكتاف.
الأصوات الجنائزية تبدد هدوء
مقبرة مرشان.
سبحان الحي الذي لا يموت،
سبحان رب العزة والملكوت،
سبوح قدوس
رب الملائكة والروح.
وأنا أقف على حافة قبره، أحسني أسمعه
يردد قولة سعيد المتشائل:
"أما بعد، فقد اختفيت،
ولكنني لم أمت"!
ساعتها تمنيت لو أن شكري انتفض
فزال القبر والكفن،
بعبارة شيخنا المدهش المتنبي.
(5)
أتذكر استضافته لي في بيته بالرباط، أعود إلى رسائله التي شرفني بإرسالها لي، أبحث في لمع كلماته عن وجهه الذي ما زال مطبوعا في ذاكرتي التي تجهش الٱن.
بصوت شاحب، أقرأ ما تيسر من رسالة بعثها لي، صيف سنة 2005، الغالي محمد الصباغ:
"أخي الأحسن، وبيريش أكتنزها.
عم سلاما لما، عم ودا ندا.
أزهرتني بالتنزه المشتاق في
رغيد عباراتك ورفاهيتها،
ذكرتني
بمعرفتي بك - في زمن وثير مضي -
من خلالها تعرفت إلى ماهدات لطيفاتك،
ولامعات جوهرياتك:
بشاشة بيان، ونداوة معرفة،
وصفاءة عواطف، مشفوعة بشميم شيم،
وياسمين همم.
أيها الأحسن:
لسلسبيل حياتك، دفق،
مجريات شاديات بنعماك، غريدات،
واطرباه!
مع لفة عناق، وضمة شكر".
ٱاااه يا محمد !
(6)
لشد ما أحن إلى جلساتي معه، إلى سنوات عملي برفقته، ولا يعثر حنيني المكلوم هذا سوى على فيوض عشر سنوات من الصحبة، تعلمت فيها كيف أكون قيد الوفاء.
لن أقتله في كلمات رثائي، فقط سأزور قبره، ثم أكتب على شاهدة حياته بضع دمعات علها تروي ترابه.
أمات خالد مشبال..؟!
أبدا..!
خالد لا يموت!
فقط ذهب دون أن يستأذننا،
وسرعان ما سيعاود الرجوع!
هكذا عودنا أن يفعل كلما شعر برغبة في
اقتراف الغياب ليزداد حضورا.
إذن:
لا تشهروا الموت في وجه رجل
أدمن الحياة!
فقط رددوا معي:
حمل خالد الحروف والآراء وذهب إلى
حيث يطبع آخر عدد من "الشمال"..!!
..............
منذ أسبوعين كنت في حضرتك.
وأدركت كم تكابر أنت لتحافظ على
يفاعة حضورك.
كم تكابر لتتبدى بما يليق برجل
ما انحنى يوما إلا ليكتب.
وما رضخ، لحظة واحدة، لغير حقيقة حبره.
وجهارة رأيه.
وغادرتك - غادرتك يا خالد القلب - دون أن
تلمح دمعا أجهش به قلبي، وفاضت أنهاره،
وأنا في مصعد يتركك في قمتك.
وينزل بي إلى حزني.
................
أصحيح أننا لن نراك بعد الآن..؟!
أصحيح أن صوتك لن يصل
إلى مسامعنا بعد الآن..؟!
لا أريد أن أصدق أنك عنا رحلت.
وأننا لنعيك صدقنا..!
إذن:
سنلتقي غدا صباحا في مقهى بيكاسو
لنتقاسم أول سيجارة، وأخر ضحكة.
فاطلب لي فنجان قهوتي
يا خالد البهاء..!!
...............
أميت أنت السي خالد..؟!!
أبدا لن أقتلك في رثائي..!!
فقط أذكرك بنزار قباني الذي خاطب
طه حسين من مسافة
الموت والحياة قائلا:
"إرم نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان"!
وها أنا أخاطبك - السي خالد - من
مسافة الحياة لا الموت،
ولك أقول:
إرم موتك جانبا، ما أنت ميت
إنما نحن الموتى/ الأحياء!
(7)
كل ذكرياتي معه تهجم علي الٱن. تستبقيني في وجيبها، فلا أعرف كيف أقاومها وأنا أعزل إلا من وحشة عزلتي، مأهول بطيفه، وحيد كحرف ألف به يبدأ اسم الألم.
وها أنا أسترجعه من ذاكرة يمرح هو في وجعها، وألوذ بكل حضوره، متأبطا لغة الغياب.
محمد المعادي،
أيها الحي في موتك.
هل تذكر نقاشاتنا الصاخبة
خلال رحلاتنا المتعددة في الجغرافية
الثقافية المغربية.
كنت تحاور من مسافة الإدراك،
أنت الناقد الحصيف، وما عرفت فيك
سوى المثقف العضوي.
وكنت لا تترك مناسبة دون أن تعلن
أمام الملأ إعجابك الراسخ بتجربتي
في كتابة البورتري الأدبي.
وكم كنت مقصرا في حق بهائك.
لأن ذاك البورتري الذي تمنيته دوما،
لم أكتبه عنك..!
فدعني، يا محمد،
أضع قلبي على شاهدة قبرك،
واغفر لي تقصيري،
ولا تكفكف دمعي المتهاطل
فوق أديم بقائك،
لا رحيلك..!
(
😎

رحل إدوار الخراط تاركا خلفه مجدا أدبيا لا يفنى ولو قرأناه عمرا بأكمله.
عرفته عن قرب، خلال تواجده في طنجة، وتجولت بصحبته في أزقة وشوارع المدينة، وكان ينهل من سحر ليالي طنجة العجائبية، قبل أن يعود إلى عزلته في نهارات القاهرة.
في باحة فندق المنزه، أجريت معه حوارا حول أفق تجربته الباذخة في الكتابة الروائية والنقدية، نشرت أجزاء منه في الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي".
يوم جاءني نعيه، شلني الحزن، وما استطعت أن أكتب عنه سوى عبارات تشبه تلويحة الوداع.
يا صديقي إدوار الخراط:
أحقا رحلت..؟!
تذكرت موتي،
وأنا أبكي حياتك..!!
(9)
في عز الوحدة، التي تخلقها العزلة، يأتيني صديقي الغائب تحت تراب تطوان، محمد الشودري.
يذكرني بالذي مضى، ولم يمض، فأرى، بعين أيامي، شارع النخيل وهو يتضوأ بملامح وجهه الذي أشتاقه، ثم يشرع قلبي في الهطول، لا يتوفر سوى على كلمات.
أيها المقيم في ملكوت الله:
أستعرض، الآن، ذكرياتي العاطرات معك،
هناك في تطوان وهنا في طنجة،
فأحن إلى سنوات قضيناها معا.
أستعيدك - الآن - من ذاكرة البقاء.
لست غائبا يا صديقي.
من يسكن القلب، مثلك،
لا يطاله الغياب.
أتذكر شمائلك الباقيات في دواخلي،
ومواقفك ذات السطوع في ذاكرتي.
.................
أيها الساكن في لمعان العين:
ما نسيتك يوما لأتذكرك أو أستعيدك.
مثلك لا يقيم في جب النسيان.
لأنك منظور للبقاء في ذاكرة الرسوخ،
في رسوخ الذاكرة.
ها أنا - في لحظتي هذه - أراك
بعين القلب.
ها أنت - في لحظتك تلك - تكلمني
من مسافة الروح.
إذن يا صديقي الذي لم يمت:
بين العين والروح،
تعيش أنت خلودك الأثيل.
(10)
فلينكس القلب أعلامه.
رحل محمد البغوري.
صديق عمر بكامله، ما عرف يوما لحظة خصام.
كم وددت أن أحضنه،
أن أودعه،
أن أشم في رحيله
رائحة ما تبقى من عمري !!
تباعا.. تباعا:
يرحل الأحبة دون وداع.
يرحلون في صمت ويتركون في القلب أوجاع ذكرياتهم.
فيا محمد القلب:
مع من سأسافر إلى أصيلة،
إلى تطوان، إلى الرباط،
بعد أن ترجلت من علياء السفر ؟!
لأول مرة، مذ عرفتك سنة 1990:
تتركني أبكي دون أن تمسح بقلبك دمع وجعي.
أنا منفرد، الٱن، بغزير حزني.
أستعيد ذاكرتي الملأى بحضورك الجميل،
وألوذ بأيامي الثكلى !
يا صديقي...
الذي رحل بتوقيت الأوج:
لن أخلع الحداد !
(11)
ها هي المقاهي
فأين الرفيق................. ؟!
هذا الصباح:
صدمت بخبر رحيل عبد القادر الخراز
أستعيد، الٱن، جلساتنا معا في مقهى "كفاليا" بطنجة. أتذكر جولاتنا الكثيرة في أزقة طنجة.
كان يأتي من تطوان إلى طنجة، فنقضي أجمل الأوقات في فضاءات هو يحبها في طنجة.
لما كنت أزور تطوان، كنا نلتقي في مقهى "الزهرة"، وننسى الوقت تماما، لفرط انخراطنا في أحاديث ثقافية بلا ضفاف. وكان عبد القادر الخراز محدثا بارعا، ومثقفا رائعا.
ثم أخذتنا الحياة نحو شتاتها، وما عدنا نلتقي لا في طنجة التي أحبها هو، ولا في تطوان التي أحببتها أنا.
وها هو اليوم يغادر تاركا إياي وحيدا مع ذكرياتنا... فلا أنا قادر على النسيان، ولا هو قادر على التذكر !
أحسه، الٱن، يقول لي، على لسان محمود درويش:
"لا أستطيع الذهاب إليك،
ولا أستطيع الرجوع إلي".
وأحسني أرد عليه على لسان نفس الشاعر:
"وإن أعادوا لك المقاهي القديمة،
فمن يعيد لك الرفاق".
رحمة الله عليك، وعلي، يا صديقي.
(12)
يا أنت، يا أنا:
اطو صفحتك،
ارتد حدادك،
كفكف دمعك،
ثم أعد قلمك إلى غمده في قلبك،
واطلب من الموت
أن يرفع لحده
ويفر من المقبرة..!!


1668171993687.png



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى