في منتصف الخمسينيات أتيح لي أن أري عزالدين إسماعيل وأستمع اليه عن قرب, وهو يتوسط بعض رفاقه المؤسسين للجمعية الأدبية المصرية: صلاح عبدالصبور وفاروق خورشيد وعبدالرحمن فهمي, كان الأربعة ـ في بداية إعلانهم عن ميلاد جمعيتهم ـ قد رحبوا بدعوة اللجنة الثقافية في كلية دار العلوم وحرصوا علي أن يقوم كل منهم بدور بارز في هذا اللقاء, كان صلاح عبدالصبور يعلن من منصة علي مبارك في قلعة الكلاسيكية الشعرية عن تيار شعري جديد يمثل انعطافة كبري في مسار الشعر العربي, وكان فاروق خورشيد مهتما بتوضيح وظيفة الأدب ـ كما يفهمها أعضاء الجمعية الادبية ـ الذين خرجوا لتوهم من عباءة جماعة الأمناء وشيخها أمين الخولي ومجلتها أدب.
وانشغل عبدالرحمن فهمي بشرح المفاهيم الجديدة للقصة الجديدة, ويعني القصة في الأدب الحديث. أما عزالدين اسماعيل فقد تولي مسئولية المنظر لأفكار الجمعية فيما يتصل بالنقد الأدبي, والتأصيل لنظرية التفسير النفسي للأدب, كان محمد خلف الله ـ عميد آداب الاسكندرية وعضو المجمع اللغوي ـ قد سبق الي طرح هذا المنهج في تاريخ مبكر.. وظلت ذاكرتي تحتفظ بصورة عزالدين اسماعيل في قامته السامقة وشموخه ووجهه الجاد حتي اتيح لي أن أتعامل معه بعد ذلك بسنوات بعد ان التحقت بالاذاعة, وصادقت فاروق خورشيد, الذي كان واسطة العقد في تأليف القلوب من حول الجمعية الأدبية المصرية, ونجح ـ بشخصيته القوية الأسرة ـ في أن يجعل من عدد شباب الاذاعيين المنغمسين في الحياة الأدبية والثقافية ـ أصدقاء للجمعية, يحضرون ندواتها ومجالسها وأسمارها البديعة ـ في مراحلها المختلفة ـ دون أن يكونوا أعضاء بالفعل, وكنت واحدا من هؤلاء, وعندما اقتربت من عزالدين اسماعيل وتعاملت معه, وأخذت أستضيفه لبرامج البرنامج الثاني ـ البرنامج الثقافي الآن ـ خاصة مع النقاد ثم بعد ذلك بسنوات طويلة للبرنامج التليفزيوني الامسية الثقافية حلت في نفسي صورة ممتلئة بالصفاء والعذوبة والنقاء ـ والقلب الطفولي ـ لانسان جميل, وناقد ومفكر ومبدع من طراز رفيع. خلال هذه السنوات الطويلة ـ علي مدار أكثر من نصف قرن ـ كان عزالدين يحقق مراقيه وتجلياته في رحلة الحياة والثقافة والفكر, استاذا جامعيا في آداب عين شمس, ورئيسا لقسم اللغة العربية فيها, وعميدا للكلية, ثم رئيسا لهيئة الكتاب ورئيسا لتحرير مجلة فصول المدفعية الثقيلة في النقد الأدبي كما كنا نسميها, فرئيسا لاكاديمية الفنون, وخلال ذلك رئيسا للجنة الدراسات الأدبية بالمجلس الأعلي للثقافة, وحين توقفت علاقته بالمؤسسة الرسمية للثقافة, كان نشاطه المتوهج في تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي, ورئاستها والتخطيط لها مع نخبة من أصدقائه وتلاميذه, وإقامة مؤتمراتها الدولية, والاصرار علي اقامتها ودفع تكلفتها من جيبه الخاص.
لكن شيئا لن يعادل السنوات العشر الأخيرة في علاقتنا معا, التي عمقت وتأكدت واتسعت لكثير من بوحه وإفضاءاته عن كثير من ظواهر حياتنا الأدبية والثقافية والنقدية, وعن كثير من رموز هذه الحياة, وعن طعنات الغدر التي تلقاها ممن كانوا ـ بالنسبة اليه ـ في مقام مريديه وطلابه, المستعينين به في أمور شتي حياتية وثقافية, كان يضمنا معا خلال هذه السنوات العشر بمجلس الأمناء في مؤسسة البابطين الكويتية للابداع الشعري, وخلالها كانت عشرات اللقاءات ومئات الحوارات والعديد من الأسفار والرحلات الي عواصم عربية وأجنبية, وأشهد أن صوته طيلة هذه السنوات كان الي جانب العدل والموضوعية, والجدية في الطرح والتناول, والترفع لغة وفكرا ومنهجا عما يمكن أن يعتبره خروجا علي شرف الثقافة والفكر, والانتصار الدائم للابداع الحقيقي, من غير تحيز الي اتجاه بعينه, أو تعصب أيديولوجي الي مذهب بذاته, وكان آخر لقاء لي معه وهو في مرضه الاخير ـ قبل رحيله بأيام ـ وأنا أحمل اليه رسالة من مجلس الأمناء, بعد أن أعجزه المرض الخطير المداهم عن الحضور والمشاركة, كما حال بينه وبين حضور المؤتمر الاخير للجمعية المصرية للنقد الأدبي بعد أن خطط له وتابع كل خطواته ومراحله, وغاب عنه عند اجتماعه منذ شهور قليلة في نوفمبر الماضي. ويرحل عزالدين اسماعيل عن ثمانية وسبعين عاما(1929 ـ2007) بعد أن فتكت به العلة الشرسة, وفي نفسه من الآلام والاوجاع ما يفوق علة الجسد.. كان يحدثني في آخر لقاءاته عن موقف جامعته من الجمعية التي يرأسها ومن مؤتمرها السنوي, وعن إحجامها الشديد عن تقديم أدني مساعدة أو إسهام أو مشاركة في تكاليف هذا المؤتمر, وكيف أحس بالغربة الشديدة والإهانة القاسية والموجعة من جامعة انتمي اليها طيلة حياته استاذا وعميدا واستاذا غير متفرغ ومشرفا علي عشرات الرسائل للماجستير والدكتوراه ومربيا لأجيال عدة من الدارسين والباحثين والنقاد!
وكثيرا ماكنت أذكره بديوانه الشعري البديع دمعة للأسي دمعة للفرح الذي يضم مقطوعاته الشعرية القصيرة المحكمة, والتي تنتمي الي فن الابجرامات, والابجرام مصطلح يدل علي القصيدة الشعرية الشديدة القصر, التي تنتهي عادة بمفاجأة تلقي الضوء علي أبياتها وتخلع عليها دلالة خاصة.
وأقول له: لقد نفست علي نفسك وداويت أوجاعها بهذا الديوان الجميل, وأوصلت الرسالة الي من يعنيهم الأمر بعد أن صورتهم في لوحات قلمية شعرية ناطقة. لم لا تواصل عملية التطهير التي أشار اليها أرسطو في حديثه عن وظيفة الشعر أو بلغته, الدراما, وتخرج ديوانك الثاني للناس وفيه الجديد من القصائد والابجرامات, وحين أقنعه صديقه وموضع ثقته الناقد الدكتور محمد عبدالمطلب بنشر هذا الديوان الجديد ضمن السلسلة التي يشرف عليها والتي تصدرها هيئة قصور الثقافة, ظهر الديوان في يوم رحيله الأخير تحت عنوان هوامش في القلب كما ظهر ـ قبله بأيام كتابه النقدي الجديد كل الطرق تؤدي الي الشعر صادق العزاء لرفيقة عمره وشريكة حياته الحافلة الدكتورة نبيلة ابراهيم استاذة الادب الشعبي بجامعة القاهرة.
*الأهرام ـ في 18/1/2007م.
وانشغل عبدالرحمن فهمي بشرح المفاهيم الجديدة للقصة الجديدة, ويعني القصة في الأدب الحديث. أما عزالدين اسماعيل فقد تولي مسئولية المنظر لأفكار الجمعية فيما يتصل بالنقد الأدبي, والتأصيل لنظرية التفسير النفسي للأدب, كان محمد خلف الله ـ عميد آداب الاسكندرية وعضو المجمع اللغوي ـ قد سبق الي طرح هذا المنهج في تاريخ مبكر.. وظلت ذاكرتي تحتفظ بصورة عزالدين اسماعيل في قامته السامقة وشموخه ووجهه الجاد حتي اتيح لي أن أتعامل معه بعد ذلك بسنوات بعد ان التحقت بالاذاعة, وصادقت فاروق خورشيد, الذي كان واسطة العقد في تأليف القلوب من حول الجمعية الأدبية المصرية, ونجح ـ بشخصيته القوية الأسرة ـ في أن يجعل من عدد شباب الاذاعيين المنغمسين في الحياة الأدبية والثقافية ـ أصدقاء للجمعية, يحضرون ندواتها ومجالسها وأسمارها البديعة ـ في مراحلها المختلفة ـ دون أن يكونوا أعضاء بالفعل, وكنت واحدا من هؤلاء, وعندما اقتربت من عزالدين اسماعيل وتعاملت معه, وأخذت أستضيفه لبرامج البرنامج الثاني ـ البرنامج الثقافي الآن ـ خاصة مع النقاد ثم بعد ذلك بسنوات طويلة للبرنامج التليفزيوني الامسية الثقافية حلت في نفسي صورة ممتلئة بالصفاء والعذوبة والنقاء ـ والقلب الطفولي ـ لانسان جميل, وناقد ومفكر ومبدع من طراز رفيع. خلال هذه السنوات الطويلة ـ علي مدار أكثر من نصف قرن ـ كان عزالدين يحقق مراقيه وتجلياته في رحلة الحياة والثقافة والفكر, استاذا جامعيا في آداب عين شمس, ورئيسا لقسم اللغة العربية فيها, وعميدا للكلية, ثم رئيسا لهيئة الكتاب ورئيسا لتحرير مجلة فصول المدفعية الثقيلة في النقد الأدبي كما كنا نسميها, فرئيسا لاكاديمية الفنون, وخلال ذلك رئيسا للجنة الدراسات الأدبية بالمجلس الأعلي للثقافة, وحين توقفت علاقته بالمؤسسة الرسمية للثقافة, كان نشاطه المتوهج في تأسيس الجمعية المصرية للنقد الأدبي, ورئاستها والتخطيط لها مع نخبة من أصدقائه وتلاميذه, وإقامة مؤتمراتها الدولية, والاصرار علي اقامتها ودفع تكلفتها من جيبه الخاص.
لكن شيئا لن يعادل السنوات العشر الأخيرة في علاقتنا معا, التي عمقت وتأكدت واتسعت لكثير من بوحه وإفضاءاته عن كثير من ظواهر حياتنا الأدبية والثقافية والنقدية, وعن كثير من رموز هذه الحياة, وعن طعنات الغدر التي تلقاها ممن كانوا ـ بالنسبة اليه ـ في مقام مريديه وطلابه, المستعينين به في أمور شتي حياتية وثقافية, كان يضمنا معا خلال هذه السنوات العشر بمجلس الأمناء في مؤسسة البابطين الكويتية للابداع الشعري, وخلالها كانت عشرات اللقاءات ومئات الحوارات والعديد من الأسفار والرحلات الي عواصم عربية وأجنبية, وأشهد أن صوته طيلة هذه السنوات كان الي جانب العدل والموضوعية, والجدية في الطرح والتناول, والترفع لغة وفكرا ومنهجا عما يمكن أن يعتبره خروجا علي شرف الثقافة والفكر, والانتصار الدائم للابداع الحقيقي, من غير تحيز الي اتجاه بعينه, أو تعصب أيديولوجي الي مذهب بذاته, وكان آخر لقاء لي معه وهو في مرضه الاخير ـ قبل رحيله بأيام ـ وأنا أحمل اليه رسالة من مجلس الأمناء, بعد أن أعجزه المرض الخطير المداهم عن الحضور والمشاركة, كما حال بينه وبين حضور المؤتمر الاخير للجمعية المصرية للنقد الأدبي بعد أن خطط له وتابع كل خطواته ومراحله, وغاب عنه عند اجتماعه منذ شهور قليلة في نوفمبر الماضي. ويرحل عزالدين اسماعيل عن ثمانية وسبعين عاما(1929 ـ2007) بعد أن فتكت به العلة الشرسة, وفي نفسه من الآلام والاوجاع ما يفوق علة الجسد.. كان يحدثني في آخر لقاءاته عن موقف جامعته من الجمعية التي يرأسها ومن مؤتمرها السنوي, وعن إحجامها الشديد عن تقديم أدني مساعدة أو إسهام أو مشاركة في تكاليف هذا المؤتمر, وكيف أحس بالغربة الشديدة والإهانة القاسية والموجعة من جامعة انتمي اليها طيلة حياته استاذا وعميدا واستاذا غير متفرغ ومشرفا علي عشرات الرسائل للماجستير والدكتوراه ومربيا لأجيال عدة من الدارسين والباحثين والنقاد!
وكثيرا ماكنت أذكره بديوانه الشعري البديع دمعة للأسي دمعة للفرح الذي يضم مقطوعاته الشعرية القصيرة المحكمة, والتي تنتمي الي فن الابجرامات, والابجرام مصطلح يدل علي القصيدة الشعرية الشديدة القصر, التي تنتهي عادة بمفاجأة تلقي الضوء علي أبياتها وتخلع عليها دلالة خاصة.
وأقول له: لقد نفست علي نفسك وداويت أوجاعها بهذا الديوان الجميل, وأوصلت الرسالة الي من يعنيهم الأمر بعد أن صورتهم في لوحات قلمية شعرية ناطقة. لم لا تواصل عملية التطهير التي أشار اليها أرسطو في حديثه عن وظيفة الشعر أو بلغته, الدراما, وتخرج ديوانك الثاني للناس وفيه الجديد من القصائد والابجرامات, وحين أقنعه صديقه وموضع ثقته الناقد الدكتور محمد عبدالمطلب بنشر هذا الديوان الجديد ضمن السلسلة التي يشرف عليها والتي تصدرها هيئة قصور الثقافة, ظهر الديوان في يوم رحيله الأخير تحت عنوان هوامش في القلب كما ظهر ـ قبله بأيام كتابه النقدي الجديد كل الطرق تؤدي الي الشعر صادق العزاء لرفيقة عمره وشريكة حياته الحافلة الدكتورة نبيلة ابراهيم استاذة الادب الشعبي بجامعة القاهرة.
*الأهرام ـ في 18/1/2007م.