سعيد الكفراوي - الجمل يا عبد المولى الجمل

في الحلم .. يمتطي الصبي الجليل «عبد المولى» ظهر الأتان (لم يكن يعرف أنه ملاقيه) ينتقل من غرب المرج حتى مدق المسير، فتتجلى له الدنيا – في الحلم – كوكبًا دريًا. والشمس مستوية في العلا على رأسه؛ حيث رآها تبحر بشراع من نار، تبحر وهي تفارقه محنة للقلب.

مضى عليه وهو واقف قمران، وثلاثون شمسًا، هبت فيها ريح رضية أول الأمر، لاهبة وخائنة مع آخر الشموس.

لا يعرف ما الذي دفعه للانتظار؟!

(كأنه ينتظر تجليه).

يلوح مراوغًا في فضاء الظهر، دافعًا بالمخاوف إلى قلبه.

عنق طويل من عظام ووبر، ينتهي برأس صغير دقيق. فيه عينان واسعتان مخيفتان.

(لم أستطع أن أقاومهما، وهربت من خوفي بستر عيني حتى لا أرى ما أرى).

شفة مشقوقة كأنما ضُربت بسكين، تلتقط من أعلى الشجر خضرة الفرع، وتلوكه أسنان كحب الذرة.

(لو أنني لم أمتطِ ظهر الأتان وأفارق غرب المرج، وانتظرت أرقب عينَي السمكة التي تحدقني من جدول الماء وتبدو مبتسمة، لو أنني ما تهورت وفارقت أمي التي تنتظرني من أول النهار على عتبة الدار، تضع يدها على عينها وتنظر إلى بعيد وتسأل: ما الذي أخَّر الولد؟).

يدفع بعنقه المقوس سور اللبن فينهدم، وينتشر غبار الهدم كدخان. يصنع لنفسه طريقًا ينفذ منه طالبًا الولد.

ظهر بجسمه الكبير على السكة مهرولًا، فحوم سرب القطا يهف بأجنحته ناحية الماء.

(يطلبني ويجد في أثري. مهرولًا بأخفافه الأربعة التي تنطبع على تراب السكة، وكلما نظرت ناحيته اضطرب قلبي، وفارقني أماني. يخرج من بين الشجر ويقصدني. وأنا مقيد فوق ظهر الأتان التي حرنت ورفضت السير. أسمع، «بقاليله» كالطبلة في قطعة الظهر الأحمر).

(جمل الدار هو جميل الدار).

أطلقها مستغيثًا صرخة مدوية:

- الحقوني، جمل الدار هيموتني.

انتبه من منامه على لحظة من يقظة – تلك اليقظة التي نصفها نوم ونصفها إدراك – أحس بيد توضع على جبهته. هل كانت يد «مضاوي» أخته التي تنام جنبه، أم يد الحنون «أمينة» أمه؟

سمع صوتًا لم يميزه: «اسم النبي حارسك وصاينك.. بيحلم».

كان لزامًا عليه أن يعود من لحظة الإفاقة – التي نصفها إدراك ونصفها نوم – ليرى ذا الأخفاف والسنام العالي يأتي نحوه بقوة وانتظام.

ترك الأتان واستلم جسر النهر يعدو تحت سماء مكشوفة، يحدق فيه الجمل، وتضيق بينهما المسافات. خُيِّل للصبي أنه شُلَّ، وأن قدمه مغروسة في أرض مروية.

- الجمل هيموتني.

تمنى بشغف أن يرى إنسيًّا. رجلًا على النهر. انحرف على اليمين وتجاوز خط السنط، وحديقة البرتقال، وعبر القنطرة.

سمع في البعيد – في الحلم – صوت الأذان يأتي من جامع «أبو حسين» فاندفع ناحيته.

انزلقت قدمه فهوى مستندًا على يده. لهاث الجمل في قفاه وخطوه لم يعد يفصله عن المطارد إلا أشبار.

فوجئ بسيدي «أبو حسين» يقف على باب مسجده.

- سيدي أبو حسين.

قالها ملهوفًا ممدود اليد كالمحتاج.

يتجلى في جبة من الجوخ الأزرق، وعلى رأسه عمامة هائلة، ملفوفة بشال أخضر في لون الزرع، تحيط وجهه لحية طويلة من هيبة بيضاء..

- الحقني يا مولانا، الجمل هيموتني.

(ولما لقيت نفسي في حضن سيدي. راح روعى، وعندما نظرت تجاه الجمل وجدته يقف مكانه، لحظة أن أشار له مولاي: «مكانك يا جمل» وقف الجمل مكانه وعيَّط).

الصبح قص على أمه رؤيته.

وقال لها إنه يخشى النوم حتى لا يحلم ويرى الجمل.

وضعت يدها على صدره، وقالت له: عليك نذر، والجمل في الحلم شيخ.

قال لها إنه من زمان يرى الجمل في الحلم، وإنه بات يكره جمل الدار وكل الجمال في البلد.

قالت له: وفِّ النذر ينصرف الخوف.

في العصر، جهزت سبت السمار الملون والمرسوم عليه عرائس، وحطت فيه النذر.

قرص، وبرتقال وفضلة الخير: فطيرة من الدقيق العلامة، وفي جيبها دست جنيهًا. وعلى الطريق من البلد للمقام دعت: «نذرك يا أبو حسين، اصرف عن وليدي خوفه، فالخوف في البلد من طبع النساء».

وكان الولد إذا ما عبر كوبري الرباط، وجلس على سور الحجر، رافعًا ركبته، مسندًا عليها ذقنه الصغير، محدقًا في الزراعية. ويرى على البعد قافلة الجمال، آتية في رهط مختلط، مربوطة لبعضها البعض، متوجهة لسوق الثلاثاء. وكان يرى سيقانها العالية تنحط على السكة، ويرى لعابها ينساب على الأرض في خطوط. ينهض من جلسته ويحادث صاحب الجمال: «على فين العزم؟»، ينظر إليه الرجل مستغربًا ويرد عليه: «إلى السوق».

يظل يحدق في رهط الجمال الذاهبة حتى تغيب، وبرأسه يتجسد جمل المنام.

* * *

تكررت رؤيته للحلم.

فزع بالليل.

ففزعت الجارة والجار.

أخبرت «سكينة» النسوة بالحلم فقالوا لها: أبو عبد المولى عليه نذر كبير، والرجل بطنه واسعه، ويأكل مال النبي. شخطت فيهن «سكينة» أن يخرسن، فالرجل يزكي ويتقي ويعامل الناس بما يرضي الله، وماله للفقير فيه نصيب، وحقيقة الأمر أن الولد معذور.

وإذ يسير الأب ممتطيًا ظهر الحمار، صانعًا لوايات البرسيم، ودافعًا بها لشدق الجمل الذي يشبه «الشروقة» يمر به الحاج «يوسف عبيد» راكبًا حماره. وبعد السلام يسأل:

- الولد ما له؟

- بخير.

- معذور؟

- أبدا .. غمة وتعدي .. يخاف.

- ربك المنجي..

تطبطب العصا على عنق الحمار. وتضرب رجله اليمنى جنبه. ويطلق صوتًا محزوقًا: «حا» فيركض الحصاوي مخلفا غبرة تعلو حتى الأب وجمله الذي بدأ يحادثه بصوت مسموع:

- إياك تظن نفسك شيخًا، وإلى متى ستعاود ولدي بالفزعة؟ خف عن ابني، ولا تزد من همي؛ فخزائن الأرض لا تعوضني عن ولد أهبل.

هدر البعير وأشاح برأسه، وتطلع من علاه ناحية الأب الذي قال مستسلمًا:

- مقدر ومكتوب.

في الضحى، نصبوا الفخاخ للقطا، ورموا النبقة بالحجارة. وقطفوا حب العنب من غيط «عبد الغني بدر» المجموع، ورأوا على النهر مراكب راحلة بالجرار وأحمال القصب.

في مصلية «أبو موسى» خلعوا أثوابهم ورموا بأرواحهم للنهر، سبحوا حتى البر الثاني وعادوا ثم خرجوا من الماء. قال ولد لـ«عبد المولى»:

- يقولون إنك تخاف من الجمل!

- في الحلم.

- يا ابن أمك .. حد يخاف من جمل؟

- الجمل عدو.

- أصلك خواف وابن خوافين.

ولما لم يجد هدومه سأل العيال: «أين هدومي؟» .. ضحكوا منه، والتفوا حوله عاريًا. كان وسطهم تظهر عورته، وتبدو مؤخرته مكشوفة للعيال .. صرخ فيهم: «هدومي يا أولاد الكلب» إلا أنهم أخذوا يجرسونه في زفة عيال صاخبة صائحين بصوت له إيقاع موحد: «هم يا جمل.. هم هم هم هم.. هم يا جمل.. هم هم.. هم هم..».

في الليل، شرق في المنام .. نهضت أمه واستلفت من الجارة «طاسة الخضة» ووضعتها بمائها على السطوح حتى الصباح .. شربها لما قام، وفي الليل هاجمه الجمل.

ظهر الجمعة، حضرت خالته للدار، خالته التي يلوذ بحضنها، والتي تحبه أكثر من أمه .. دخلوا «المندرة» التي تشيع بها ظلمة خفيفة وسمعها تستحث أمه:

- النار يا أمينة.

دخلت أمه تحمل إناء الفخار، مصفوفة عليه قوالح لها شكل الهرم، طابت نارها واستقرت حمراء كعين العفريت .. وضعت أمه إناء النار وسط البحراوية ورمت فيها البخور فتصاعد برائحة ذكَّرته برائحة المقام.

كان يجلس بجوار الجدار، يده في عبه وينتظر .. تلتقط أذناه أصواتًا بعيدة من مكبر للصوت معلق على مئذنة المسجد، فيما تهب زمتة الظهر، ويهب صهد النار على وجهه .. نظر أمه تخرق عين العروسة الورق وجسمها بإبرة، وسمع خالته تتمتم بأدعية غريبة على سمعه .. تستجير بالله في جرأة لم يعهدها. كأنها تراه بالقرب منها، يحتل إحدى زوايا «المندرة».

- ارفع عن ابني خوفه فنحن ناس في حالنا.

صاحت في الولد:

- قم يا عبد المولى خطِّ النار.

نهض مذعورًا ومع خطوته الأولى سمعها:

- الأولى باسم الله.

وخطا النار الثانية .. فسمعها تقول:

- والثانية باسم الله.

وخطا النار الثالثة.. فسمعها تقول:

- والثالثة باسم الله.

«حتى خطوت النار السابعة فوجدتني في دنيا من دخان، لها رائحة المسك، وبها تجثم المخاوف، ورأيتني أمد يدي لشيخي الذي يخرج من الدخان بعمامته الخضراء ولا يبتسم، ضاع مني وجهه لما سمعت خالتي تصيح بصوت له نغم قراءة التعاويذ».

- السابعة رقيتك واسترقيتك من عين حاسد شافك ولا سمى .. فرقت عيني وعين خلق الله على الله .. رب المشارق، رب المغارب، ولا يغلب الله غالب .. ربي يأخذ بيدي «وتغير صوتها واختلج، وخُيِّل إليَّ أنها انفصلت عنَّا وكأنها تحادث أشباحًا تلبد في الأركان».

وعادت تتمتم:

- العين الغبية، الخائنة الردية، قابلها سليمان النبي تعوي عواء الذئب، تنبح نباح الكلاب، قال: اطلعي يا عين الأذى من جسد الصبي كما افترق الندى عن طلع الشجر .. يفك ويزيح عن بدنك يا عبد المولى يا ابن أمينة .. حجاردة، بجاردة، من كل عين سارجة، طقت الحجر واطفأت سراج النور، ولمعت في الظلام بالأذى .. يفك عنك الهم والغم، ويمنع عنك الخوف والضيق. رقيتك من عين مشحونة بالمناجل، باسم الله الشافي المعافي».

رمت بالملح في الأركان، وألصقت عروس الورقة في جدار الطين.

وكنت وسط الدخان خائفًا من أمي وخالتي، ألوذ بالجدار حين رأيته أمامي يجتر غذاءه في تؤدة، يحدق ناحيتي بعينين مستقرتين وكأنما جاء على رائحة البخور والرقى. نظر ناحيتي فصرخت .. انتبهت خالتي وأمي فصاحتا: «الجمل .. الجمل».

كان بلا مقود، يحرك فكيه في حركة رتيبة ومنتظمة، وينظر تجاهنا. وكنت أرفع ثوبي، وأبدو بعورة مشكوفة، أنتفض من خنقة الدخان ورؤية الجمل المفاجئة.

قبضت خالتي على حفنة من الرماد وألقتها في وجه الجمل وصاحت فيه:

- حل عنا يا لعين، فالولد حيلة.

الصبح سرح مع أبيه.

أخذه الرجل حتى مناخ الجمل وقال له: «انظر يا عبد المولى. جمل لا يؤذي». حاول هو الاقتراب لكنه خاف، ولم يرد أبوه أن يضغط عليه، وتركه وذهب إلى ذيل الأرض البعيد.

لعب حول المربط وحاذر الاقتراب من المناخ. طارد فراشة محوّمة وخاب في الإمساك بها.

حدق تجاه الجمل. يقف تحت النخلة بطوله، وعنقه الممتد حتى سطح الخص المقام على المربط.

رآه يتحرر من قيده، خالعًا الوتد المربوط فيه.

ينطلق عابرًا القنطرة بجسده الأشهب وظهره العالي من غير عدة.

فوجئ الصبي فحدق فيه وأسلم ساقيه للريح طالبًا جسر المصرف. فيما يقطره الجمل.

- الحقني يابه.

اندفع يعدو بعزمه، والكيان الهائل يجد في أثره ولأخفافه صوت كمطرحة العجين.

كان عبد المولى يلهث مكروش النفس وقلبه يدق بصدره، يحدق في الفراغ الممتد أمامه ويشعر بتلك المصيبة التي تطارده:

- الحقني يابه .. الجمل .. الجمل.

صاح الأب:

- الخزام .. شد الخزام يا عبد المولى، واثبت مكانك.

بال الصبي بين فخذيه، وهدر الهجين، فيما ضاقت بينهما المسافة.

- اقف يا ولد.

(ووقفت ينتفض قلبي، وكلما اقترب مني تحدر مني البول، إلا أنني شعرت بشيء لا أعرفه يتصاعد من قلبي إلى يدي، وجعلني أهتف: العمر واحد، والرب واحد .. قابلت الجمل. هدفي الخزام الذي قبضت عليه، شددت بكل عزم الخائفين. رجع الهجين بظهره، فجذبته لقدام، ناضل الجمل وشرع يرفع رأسه يريد سحبي، إلا أن أنشوطة النار وضربات يدي جعلته يذعن وينعر.

عيط الجمل بصوت كسير وناح. ورأيت لعابه يسيل على شدقه في مذلة، ورأيت أبي يعدو ناحيتي وبيده فأسه، ولما رأى الجمل يطلق صياحه قال لي: «برّكه .. برّكه.. نخخه».

ولما ناخ الجمل وقام .. ثم ناخ وقام .. سحبه «عبد المولى». وكان يحمل بيده عودًا من التوت، ويرفعه أمام عين الجمل. وكان يشعر تحت رجله الحافية بتراب الطريق الساخن بينما ينظر الأب ما حدث وهو غير مصدق.
أعلى