سُوف عبيد - من القُرط... إلى النّخلة.. مقاربة في شاعريّة الميداني بن صالح

إنّ المسيرة الطّويلة والمستمّرة للشّاعر التّونسي الميداني بن صالح بما تخلّلها من إصداره لأكثر من عشر مجموعات شعريّة على مدى النّصف الثّاني من القرن العشرين تُوجب على دارسي الأدب العربي المعاصر أن ينظروا في نصّه الشّعريّ كي يُوضع في المستوى الجدير به ضمن تطوّر الشّعر العربي عبر العصور.

ملاحظات حول التّرجمة الـذّاتيّة

المعلومات الواردة في ترجمة الشّاعر الميداني بن صالح لئن تُعطي الإطار الزّماني والمكاني لولادته ولدراسته ولنشاطه الثّقافي والاِجتماعي فإنّها غير كافية وتظلّ في حاجة إلى دعائم أخرى لتفسّر المؤشّرات الفاعلة في مسيرته الشّعريّة المتنوّعة والثريّة بأبعادها النّفسية والفكريّة من ناحية وبمدلولاتها الاِجتماعيّة والحضاريّة والسياسيّة من ناحية أخرى.

تاريخ الولادة يُضبط بيوم 15 نوفمبر من سنة 1929 بواحة نفطة، فإذا كان الظّرف الزّماني تسهل الإحاطة به بالعودة إلى التّاريخ وإذا كانت الواحة هي الإطار الطّبيعي الذي أثّر في شاعريّته فإنّ الذي يمكن إضافته في هذا الشّأن أنّ الميداني بن صالح من أسرة عريقة في الفقه والأدب وتنتمي إلى الطّريقة القادريّة الصّوفية ذات التأثير الكبير في الوجدان والمخيال الشّعبي فلا عجب حينئذ أن يتأثّر بأذكار ودعوات والده وهو يردّدها على مسامعه في آناء اللّيل وعند أطراف النّهار ممّا جذّر فيه اللّغة العربيّة في مناخاتها الإسلاميّة قبل أن يرتاد الكُتّاب بجامع ـ ابن الوعايد ـ ليحفظ فيه القرآن وقبل أن يلتحق بجامع الزّيتونة بالعاصمة تونس بعد الحرب العالميّة الثّانية.

إنّ طفولة الميداني بن صالح لم تتأطّر بالواحة وبالتّربية التّقليديّة ذات الملامح الصّوفية فحسب وإنّما عَرف فيها مدينة تونس العاصمة مدّة ليست بالقصيرة حيث دخل فيها المدرسة ببطحاء (رحبة الغنم) (معقل الزّعيم) الآن في منتصف العشريّة الرابعة من القرن العشرين.

هذه معلومة ساقها الشّاعر في مناسبة من المناسبات الخاصّة التّي كانت تجمعنا في كثير من الأحيان على هامش أنشطة اتّحاد الكتّاب التّونسيين.
وهنا أقول إنّ سيرة الميداني بن صالح تمثّل شهادة حيّة حول الحياة الأدبيّة والاِجتماعيّة والسياسيّة في تونس والمشرق العربي منذ ثلاثينات القرن العشرين إلى مطلع القرن الواحد والعشرين ذلك أنّ الرّجل قد تقاطع مع كثير من أحداثها وكان مع عدد مهمّ من النّاس الذي شاركوا فيها من قريب ومن بعيد فَشِعْرُه ليس إلاّ أحد الأبعاد الظّاهرة في حياته.

إنّ دخول الميداني بن صالح إلى المدرسة الإبتدائيّة بالعاصمة ربّما يكون هو السّبب المباشر للإلتحاق بالنّظام المدرسي العصري في نفطة حين عاد إليها آنذاك والمهمّ من هذه الفترة الأولى من حياة الميداني بن صالح أنّه فتح عينيه على مشاهد الواحة واستمع إلى اللّغة العربيّة الأصيلة في البيت قبل أن يتلقّنها خارجه ثمّ انفتاحه مبكّرا على العوالم الصّوفية بالإضافة إلى اكتشافه مبكّرا للمدينة وعودته بعد ذلك إلى مرابع الطّفولة الأولى.

إنّ التّكوين العصري في دراسته الإبتدائيّة هو الذي سيجعله مُهَيّأً للكتابة ضمن المدرسة التّجديدية في الشّعر الحرّ هذا الشّعر الذي يُعتبر الميداني بن صالح أحد روّاده في المغرب العربي فهو الذي جايل الشّعراء الذي أحدثوه ورسّخوه في العراق ولا شكّ أنّه قد تأثّر بذلك المناخ الذي عايشه عن قرب عندما ارتحل إلى بغداد سنة 1956.

وعندما قدم تونس العاصمة مرّة ثانية سنة 1946 كان من المفروض أن يلتحق بالتّعليم الثّانوي العصري في المدرسة الصّادقية حسب ما كان متعارفا عليه في ذلك العهد بالنسبة لتلاميذ المدارس لكن الميداني بن صالح نجده ينخرط بالجامع الأعظم -جامع الزّيتونة- شأن الأغلبيّة السّاحقة من أبناء الشّعب بسبب الظّروف الماديّة الصّعبة وقد بيّنها الشّاعر في ديوانه الأوّل (قُرط أمّي).

إنّ ثنائيّة التّعليم التّقليدي والتّعليم العصري التّي عرفها في بدايات تكوينه العلمي ستظهر بعد ذلك عند تعليمه الجامعي عندما سافر إلى بغداد ثمّ رحل نحو باريس فيُيمِّمُ وجهه شطر جامعة السّربون لإكمال الحلقة الثّالثة ولكن يبدو أنّ مشاغله السياسيّة حالت دون ذلك بطريقة أو بأخرى ولسبب أو لآخر.
عندما اِستقرّ به المقام بتونس العاصمة كانت الحرب العالميّة الثّانية قد وضعت أوزارها وهي التّي كانت سببا في تأخّر الميداني بن صالح عن القدوم إليها بعض السّنوات عكف فيها على قراءة وحفظ المُتون القديمة ممّا جعله يتضلّع في أصول الثّقافة العربيّة الإسلاميّة.

تونس أواخر الأربعينات شهدت اِستئناف العمل الوطني من خلال الأحزاب والمنظّمات والجمعيّات العديدة، في هذا المناخ الذي كان يزخر ويَعُجّ بالطّاقات المنطلقة نحو التّحرّر والِانعتاق بدأ الميداني بن صالح ينخرط في الحياة العامّة وقد كان جامع الزّيتونة مركزا للثّقافة التّقليديّة لكنّه كان كذلك قلب الوطن النّابض والمعبّر من خلال حركات طلبته عن عزيمة أبناء تونس في الاِستقلال فنجد الميداني بن صالح ينخرط في الحركة الطّلابيّة سنة 1948.

قد كانت حرب فلسطين سنة 1948 المناسبة الكبرى التّي ربطت الوجدان التّونسي بالقضيّة العربيّة الكبرى التّي تحمّس لها الشّباب وحاول الكثير منهم الالتحاق بجبهة القتال ضمن المتطوّعين التّونسيين ولكنّ السّلطة الإستعماريّة وفقدان التّنظيم المُحكم منع أمثال الميداني بن صالح من تحقيق رغبتهم في التّصدّي لقوى الطّغيان والجبروت التّي اغتصبت فلسطين.

من هنا ربّما تَجَذَّرَ الوعي القومي لدى الميداني بن صالح فقد أثّرت تلك السّنوات -سنوات أواخر العقد الرّابع من القرن العشرين- في تكوينه الفكريّ حيث اِنخرط مبكّرًا في النّضال الوطني ضدّ الاستعمار وفي العمل النّقابي الذي تجذّر معه مع تأسيس الاتّحاد العام التّونسي للشّغل وعندما عمل مُعلّمًا بمنطقة المناجم في مطلع النّصف الثّاني من القرن العشرين.

فمناخ هذه الحقبة يمكن أن يكون المساعد الأساسي لنشأة عديد القصائد التّي تضمّنها الدّيوان الأوّل (قرط أمّي) وإليه تعود ايضا أغلب قصائده في دواوينه الأخرى تلك التّي تصوّر مسيرة الميداني بن صالح من القرية إلى المدينة ومن المدينة إلى الوطن في أبعاده العربيّة والعالميّة ضمن الاِنتماء الواضح إلى قيم التّحرّر والعدالة الاِجتماعيّة مع الاِعتزاز بالتّراث الإنساني الذّي يعبّر عن الصّراع من أجل تحقيق تلك القيم في التّاريخ البعيد والقريب.

المنطلق والأفق

أغلب نصوص الميداني الشّعريّة يمكن أن تندرج ضمن مبدإ الإلتزام هذا الشّعار الذي ظهر في الثّقافة العربيّة منذ منتصف القرن العشرين وهو يتضمّن اِنخراط المثقّف والمبدع في المشروع السّياسي لإيديولوجيا معيّنة وقد قابلتها مقولة أو شعار الفنّ للفنّ ونجد أنّ الشّاعر الميداني قد خصّص لهذه القضيّة قصيدة هي عبارة عن بيان شعري يوضّح فيه رؤيته للشّعر من هذا المنطلق.
شعري: لُهاث الكادحين على الدّروب
شعري: أهازيج الشّعوب
مَنْ صارعوا الأمواج، والبحر الغَضُوبْ
مَنْ غالبوا الأقدار واِقتحموا الخُطوبْ
مَنْ عبّدوا الطُّرق المديدة في الجبال
وفي الصّحاري والسُّهوب
الشّعبُ جبّار غلوب
الشّعبُ إلهامي
إلاه الشّعر في قلبي الرّحيبْ

إنّ هذا التّعريف الفصيح للشّعر يمثّل قطيعة واضحة وحادّة مع ما سبق من التّنظيرات التّي صاغها الشّعراء الذين اِنطلقوا من النظرة الرّومنطيقيّة أو الوجوديّة أو الإصلاحيّة ففي هذه القصيدة (شعري ودعاة الفنّ الواردة ضمن ديوان قرط أمّي) نلاحظ التّحدّي الواضح لنمط آخر من الشّعر كان سائدًا في النّصف الأوّل من ستينات القرن العشرين ويتمثّل في المواضيع الغزليّة والمدحيّة أو المواضيع ذات الصّبغة الوجدانيّة الشّخصيّة... على تلك المواضيع يثور الميداني بن صالح ثورة شعواء قائلا:

شعري لعينيْ ذلك الإنسان لحنٌ
ثائرٌ، أبدا حِداءٌ للشّعوب
لا وشوشاتٌ ماجنةٌ
في أذن فاتنة لعوب
من شاعر نزق العواطف
تافهِ الإحساس، نَظّامٍ، كذوب.

إنّ الميداني بن صالح بهذه القصيدة يُعلن بيان الشّعر الواقعي الملتزم بقضايا الإنسان ضمن المقولة الاِشتراكيّة في الفنّ تلك المقولة التّي سادت ردحًا لا بأس به بين كثير من الأدباء وخيّمت على كثير من النّصوص الشّعريّة وغيرها ولتفسير هذا المنحى لدى الميداني بن صالح لا بدّ من الرّجوع إلى مسيرته الفكريّة التّي نلاحظ أنّها مرّت بمراحل ضمن تطوّر تاريخي واضح المعالم لعلّه يبدأ من اِنتمائه إلى منظّمة صوت الطّالب الزّيتونيّ ذات التوجّه الوطني في النّضال ضدّ الاِستعمار الفرنسيّ ثمّ تأتي المرحلةُ المشرقية عندما التحق ببغداد واِنخرط في المشروع القومي الذي ينشد الوحدة العربيّة غير أنّه عندما رجع إلى تونس اِنخرط في المشروع الاِشتراكي الذي اِنتهجته الدّولة على مدى سنوات النصف الثاني من ستّينيات القرن العشرين...إنها مراحل ثريّة من حيث أثرها الواضح في مسيرة الأدب التونسي لكنها ظلت غير مدروسة بدرجة كافية ونذكر منها بهذه المناسبة رحلات الأدباء التونسيين إلى بلدان المشرق العربي واستقرارهم فيها كمصر والعراق وسوريا ولبنان وهي البلدان التي درس فيها كثير من الأدباء والشعراء التونسيين بل ونشروا فيها نصوصهم وتفاعلوا مع مختلف أحداثها
يمكن أن نذكر مثلا الأديب أبو القاسم محمد كرو الذي درس في بغداد بعد الحرب العالمية الثانية وكتب ونشر في صحفها ومجلاتها قصائده النثرية والشاعر مصطفى الحبيب بحري والشاعر الشاذلي زوكار ونور الدين صمود بعد الاستقلال ثم علي دَب وعلي شلفوح في بيروت ودمشق في الستينيات ثم الطيب الرياحي و بعده محمد الخالدي ولعل الشاعرين علي الحمروني والهاشمي بلوزة هما من آخر الأدباء التونسيين الذين اِستقروا سنوات بالعراق

إن مسيرة الميداني بن صالح ذاتُ مراحل متوالية جميعًا ممّا جعل موهبته الإبداعيّة مهيّأة لصياغة شعرٍ يُعبّر عن طموحات جيله في التّحرّر والعدالة الاِجتماعيّة وبناء الدّولة الوطنيّة من جهة، وفي تَوقه إلى جمع شمل الأمّة العربيّة ضمن القيم الإنسانيّة الخالدة تلك القيم التّي اِنخرط للنّضال في إطارها مدى سنوات السبعينيات تلك السنوات التي شهدت نشاطا حثيثا لإرساء فكرة حقوق الإنسان سواء في تونس أو في سائر البلاد العربيّة.

ثمّة مرحلة قصيرة طواها الميداني بن صالح طيًّا في أغلب سيرته الذّاتيّة التّي نشرها هنا وهناك ألا وهي المرحلة الباريسيّة تلك السّنوات القليلة التّي قضّاها في فرنسا بعد فشل المشروع الاِشتراكي في تونس والذي كان أحد رموزه على المستوى الثّقافي ذلك أنّ الميداني بن صالح من الأدباء العرب القلائل الذّين تفاعلوا مع التّطوّرات الوطنيّة والقوميّة والعالميّة وتأثّروا بأحداثها مدًّا وجزرًا. وقد تجلّى ذلك بوضوح عند حرب الخليج حيث تخلّى عن كثير من قناعاته والتزاماته التّي لازمته ولازمها سنينا طويلة فعاد إلى ذاته يكتشف خباياها وعاد من حيث اِنطلق إلى تونس يتغنّى بتاريخ نضالاتها وأمجادها من خلال نشاطه الأدبي والفكري في إطار اِتّحاد الكتّاب التّونسيّين خاصّة.

إنّ تناقضات العصر وبصمات العمر واضحة المعالم في أغلب نصوص الميدان من القُرط إلى القطار ومن حلقات الذّكر إلى الحمار ومن كهف الشّاذلي إلى لندن والبيت الأبيض مرورا بالقدس وتلّ أبيب ووصولا إلى قرطاج في آخر المطاف وليعرج إلى سماوات الوجد الصّوفي في الخنام

المفاتيح والخريطة

يمكن أن أقول بكلّ تأكيد إنّ صدور ديوان قرط أمّي قد جسّم علامة بارزة في تاريخ الشّعر التّونسي على مدى القرن العشرين وبذلك كان إضافة ثانية لديوان أغاني الحياة لأبي القاسم الشّابي الذي تمثّلت فيه الخصائص والأبعاد الرّومنطيقيّة على مستويات المعنى والمبنى، بينما مثّل ـ قرط أمّي ـ المدرسة الواقعيّة بما تقوم عليه من وصف للواقع ونقده وقد كان الشاعر منوّر صمادح قد ساهم بوضوح في ترسيخ هذا المذهب الشعريّ منذ منتصف الخمسينيات من خلال ديوانه ـ حرب على الجوع ـ

ديوان قرط أمّي يضمّ أبوابا متنوّعة بعضها يفضي إلى بعض وقد وردت تحت العناوين التّالية:

من مذّكرات تلميذ ريفي
أشباح
رؤى
أشواق
بطولة شعب

وقد كتب المقدّمة الأديب محمّد العروسي المطوي الذي وضع أشعار الميداني في سياقها الذّاتي والأدبي والتّاريخي مشيدًا خاصّة بالوهج الصّادق الذي فيها وبالمعنى المعبّر عن طموحات المرحلة.

أمّا أبواب الدّيوان الخمسة فقد اِشتملت على أغراض متفرّقة لكنّها جميعا ضمن مسار تعبيريّ واضح يتراوح بين همس الذّات في اِختلاجات الرّوح وبين الاِحتجاج الصّارخ في خضمّ الأوضاع المتردّية التّي لا تحتمل الصّمت.

الفصل الأوّل: من مذكّرات تلميذ ريفي

وقد ضمّ القصائد التّالية:

- قرط أمّي
- أنا وحماري والقمر
- معه في المحطّة
- معهنّ في القطار
- رسالة إلى أبي
- في كهف الشّاذلي

إنّ جميع هذه القصائد تمثّل سجلاّ خاصّا للرّحلة التّي انطلق فيها الشّاعر من الواحة إلى العاصمة بداية من وداع الأمّ إلى رفقة الحمار ووقوفًا عند وصف المحطّة والقطار إلى ذكر المغامرات الأولى في هتك الممنوع وانتهاء بحلقات الذّكر عند أبي الحسن الشّاذلي على أطراف العاصمة تونس.

إنّها قصائد مرحلة الرّحلة والإكتشاف التي ستنطلق منها أغلب الدّواوين التّي تلت هذا الدّيوان بما فيها قصائد التّعبير الصّوفي كما تجلّت في قصيدة: في رحاب المتولّي التّي مثّلت النّخلة فيها المنطلق والأفق في آن واحد.

الفصل الثّاني: أشباح

وهي القصائد التّي تُمثّل الصّدمة الحضاريّة تلك التّي فعلت فعلها الضّاري في نفسيّة ذلك الفتى الذي نشأ على البداوة بما فيها تعلّق بأصالة القيم وإنسانيّة العلاقات بين النّاس ولكنّه يكتشف بشاعة المدن وزيف المشاعر والخطر الذّي يهدّد الكون حيث دأب المختصّون في الحروب على أبحاث الدّمار والخراب (قصيدة الجرذ والأرض).

الفصل الثّالث: رؤى

قصائد هذا الفصل تدور حول الشّعر والفنّ عامّة ويرى الميداني بن صالح فيها أنّ الشّعر هو المعبّر عن طموحات الطّبقات الكادحة في بحثها عن العدالة والحريّة عبر التّاريخ وهو بذلك يناقض مقول الفنّ للفنّ وتبدو قصيدة (من وحي الصّومعة) الواردة في آخر الدّيوان أقرب إلى هذا الفصل من الفصل الواردة فيه لأنّها جاءت ضمن السّياق التّنظيري للشّعر، والقصيدة في الأصل كتبها الميداني ردًّا على أحد الشّعراء المعاصرين له.

الفصل الرّابع: أشواق

يمكن أن تندرج هذه القصائد ضمن الشّعر الذّاتي الذي يُقال في المناسبات الخاصّة لما فيها من وشائج القُربى والصّداقة والمحبّة والوفاء ولكنّها برغم المناسبتية التّي قيلت فيها فإنّها تُعبّر عن كثير من الأبعاد الذّاتية والفكريّة لدى الميداني بن صالح.

الفصل الخامس: بطولة شعب

هو الشّعب التّونسي طبعًا الذي خاض معارك الاِستقلال في مناسبات عديدة خلّدها الشّاعر في هذا الفصل مثل الجلاء عند بنزرت وشهداء 9 أفريل 1938 وقد تغنّى كذلك بعيد الشّغل وعيد الاِستقلال وعيد الأمّهات بالإضافة إلى قصيد نداء الذي يدعو فيه إلى المنهج الإشتراكي في الاِقتصاد ذلك المنهج الذي جرّبته البلاد في الستّينات من القرن العشرين.

إنّ ديوان (قرط أمّي) يعبّر عن مسيرة الشّاعر الميداني بن صالح اِنطلاقًا من طفولته وشبابه إلى اِنخراطه في الحياة بتشعّب ميادينها وأبعادها المتعدّدة لذلك جاء ممثّلا لمرحلة هي مرحلة الكشف والمدّ في مسيرة هذا الشّاعر الذي لوّن شعره بألوانه الخاصّة وطبعه ببصماته الذّاتية وتلك لَعمري أهمّ خصائص العمل الإبداعي بمَا فيه من صدق ومعاناة وتوهّج ليحط الركب به أخيرا في تخوم التجربة الصّوفيه مع قصيدته ـ أقباس في كهف الظلمة ـ التي أبحر فيها نحو إشراقات الروح متجاوزا حدود الزمان والمكان محتفلا بالوجد والتماهي مع الكون حيث يقول

هذه ليلة عرسي
وانطلاقي
وعبوري
واندماجي
يا ليلة عيدي الموعود
يا ليلة عرسي وسعودي
يا فجر حنيني المنشود
يا موكب بعثي وخلودي
أصبحت طليقا...أجنحتي
تتجاوز كل محدودي

أما في قصيدة ـ في رحاب المتولّي ـ فإنه يجعل من النخلة المنطلق والأفق لرحلته الصّوفية التي كانت خاتمة مسيرته الإبداعية

نخلة أنتَ
وهذا الظل ظلّي
أنت يا راكبا لترحالي وحلّي
في متاهات اغترابي
وابتعادي واقترابي
أنت يا سجادة الوجد
إذا قمتُ
من الشوق إصلي
في فضاءات التجلّي

أمّا بعد ...

وحدها قراءة القصائد وشرحها والوقوف عند خصائصها في المعنى والمبنى، واحدة تلوَ واحدة في كلّ ديوان ثمّ إيجاد علاقات الوصل وحدود الفصل بين الدّواوين نفسِها ثمّ وضعها في سياقها الشّخصي والتّاريخي ودراستها من المداخل النّفسيّة والاِجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة والأسلوبيّة وغيرها، بجميع ذلك يتسنّى لمسيرة الميداني بن صالح أن تُوضع في المنزلة الجديرة بها فهو من الشّعراء العرب القلائل الذين حافظوا على خصائصهم الشّعريّة تلك التّي تُميّز نصوصهم بسهولة من بين ركام النّصوص الأخرى.

إنّ نصّ الميداني بن صالح قد حجبته شخصيّة الميداني بن صالح بما فيها من ثراء وتنوّع على مدى أكثر من نصف قرن وقد آن الأوان أن ننظر إلى هذا النّصّ بعيدًا عن كلّ الملابسات الأخرى الظّرفيّة لأنّ النّص الشعريّ هو الأبقى.

سُوف عبيد
أعلى