د. محمد عبدالله القواسمة - التكنولوجيا والقصة القصيرة جدًا

أثرت التكنولوجيا في القصة القصيرة جدًا تأثيرًا يلتقي مع تأثيرها في الأدب، وبخاصة في الرواية والقصة القصيرة. ونستطيع رصد هذا التأثير بانفتاح النص القصصي من خلال التفاعل بين أطراف العملية الإبداعية: النص، المؤلف، المتلقي باستخدام الوسائل السمعية والبصرية عبر الإنترنت. مثلما رأى جميل حمداوي، على سبيل المثال، في القصص القصيرة جدًا للكاتب المغربي حسن برطال: "الثأر"، و" "ماسح الأدمغة"، و"ثلاث زيارات لملاك الموت"، و"ميركافا"، فمثل هذه النصوص التفاعلية "تحتاج إلى قراءات عديدة وتأويلات تختلف باختلاف القراء والسياقات الظرفية. ويساهم التدقيق والتركيز في خلق شاعرية النص عبر مجموعة من الروابط التي تُضفي على النص الطابع القصصي والتراتبية المنطقية والكرونولوجية، بله عن خاصية الاختزال والتوازي والتشظي البنائي والانكسار التجريبي".
ويبدو تأثير التكنولوجيا واضحًا في المفردات التي تستخدمها القصة القصيرة جدًا حيث استفادت من المفردات التي تنتمي إلى التكنولوجيا وما يتصل بها من برامج وتطبيقات، مثل: جوجل، الإنترنت، والفيسبوك، والموبايل حتى أطلق على القصة القصيرة جدًا القصة التويترية التي تقترب من وسيلة التواصل الاجتماعية تويتر التي لا تتيح للمتلقي أكثر من مئة وأربعين حرفًا كي تظهر كتابته على صفحتها.
نورد لبيان التأثير التكنولوجي المعاصر في القصة القصيرة جدًا سواء في المبنى أم المعنى قصة قصيرة جدًا لمحمد عارف مشه بعنوان "فنجان" من مجموعته "شبابيك" تقول القصة " قرأ في بريد زوجته الإلكتروني وهي تجلس بحواره: زوجي العزيز قررت خلعك بلا أسباب"، نظر إليها ثم كتب:"قومي أحضري لي فنجان قهوتي" بحثتْ في جوجل. أرسلتْ له فنجان القهوة ساخنًا"
نلاحظ في هذا النص استخدام التكنولوجيا الحديثة وإمكاناتها في التصوير، وإرسال الصور، وتبادل الرسائل بين شخصيتي القصة، كما يتكشف تأثير التكنولوجيا في لجوء الكاتب إلى الإيجاز والحذف باستخدام عدد قليل من الكلمات، وفي ترك المتلقي أن يتعرف الوجهُ العبثي لاستخدام التكنولوجيا. وهذا يشير إلى الميزة الأساسية للقصة القصيرة جدًا ميزة القصر، وهي الميزة التي لازمت القصة القصيرة جدًا قبل غزو التكنولوجيا الحديثة. إنها لا تنمّ عن الجانب الكمي للألفاظ والحيز المكاني الذي تشغله فحسب، بل عن تكثيف اللغة واختزال المعنى أيضًا.
كما يبدو التأثير التكنولوجي في القصة القصيرة جدًا في أسلوب القص الذي يترك فراغات بالإضمار والحذف ليملأها المتلقي، كما ساهمت التكنولوجيا في استيعاب هذا الفن وسرعة انتشاره، وجعلِه متماشيًا مع الحياة الحديثة التي تتميز بالسرعة والسيولة في العلاقات الإنسانية. لقد أمدت التكنولوجيا هذا الفن بموضوعات جديدة تتصل بما حدث من تغيرات في الحياة والمجتمع بفضل الاكتشافات والاختراعات التي جاءت بها هذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية، فنجد بعض القصص القصيرة جدًا تصور هذه التغيرات، كما نلاحظ في قصة "خلوي" لصبحة علقم من مجموعتها القصصية "مجرد صديقة" تقول القصة:
"رجل وامرأة في المقهى، هو ينظر إلى هاتفه، هي تنظر إلى هاتفها.. يسترقان النظر إلى بعضهما بعضًا بخجل، وخوفًا من أن تلدغَهما هواتفُهما بنظرة.. أنا أراقب المشهد باندهاش، وسؤال يُلحُّ ببالي: مع من يجلسان؟! النادل يبتسم لي: "مشهد عادي ويومي" رجل وامرأة يغادران المقهى.. هو يضع هاتفه على أذنه .. وهي تضع سمّاعتها في أذنها وتبتسم"..
لا شك في أن هذا النص، وإن كان يفتقد إلى التكثيف بمعنى تقليص الألفاظ والشخوص، إلا أنه على مستوى القص ترك للمتلقي أن يتفاعل معه من خلال الحذف والإضمار اللذين استخدمتْ في إبرازهما النقطتان الأفقيتان لكي يتكشف في النهاية تغلغلُ الفردية، والاكتفاءُ بجهاز الهاتف الذكي الخلوي بديلًا عن الآخر؛ الشريكِ أو الحبيب.
هكذا لم تكتف التكنولوجيا بتسهيل استخدام تقنيات الإيجاز والحذف والإضمار والتكثيف في القصة القصيرة جدًا بل إنها ساندت وسهلت استخدامَ تقنيات أخرى لتقديم المضامين الحديثة والاستجابةِ لمتطلبات العصر، من سرعةٍ وانفتاح وسهولة، من هذه التقنيات: السخرية، والمفارقة، والتناص وغيرها.
ReplyForward

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى