نادية الزقان - الوعي بالذات: بين التفتيش ومحاربة التهميش قراءة في قصيد "أعي ما أقول" للشاعر التونسي عادل الهمامي

يحثنا التفكير المنهجي على التأمل الذاتي من أجل الوعي بدواخلنا النفسية، نَهْجٌ سار عليه
أكبر الفلاسفة ومنهم سقراط الذي قال "اعرف نفسك بنفسك" مؤسسا بذلك ما عُرِفَ لاحقا
بفلسفة معرفة الذات...
من هذا المنطلق نجد أن الشاعر التونسي عادل الهمامي قد افتتح قصيده بقوله "أعي ما
أقول" ، ولأننا ندرك ذواتنا وأنفسنا من خلال اللغة والفكر، فمن البديهي أن نجده قد مزج
الوعي بالقول، باعتبار تصديقه لما يُنْتجُه فكره التوعوي من أفكار من جهة، وترجمتها
بالقول من جهة ثانية، في علاقة جدلية مترابطة الأواصر، استعمل فيها الفعل المضارع
(أعي - أقول) الذي يدل على حالته اليوم تنصيصا، وكأننا به يجيب عن سؤال طرحه عليه
المخاطب الافتراضي: هل أنت على وعي بما تقول؟
من هذا المقام التواصلي أنشد الشاعر قصيده، معبرا عن ذاته، وفاسحا المجال لملفوظاته
لتقدم رؤيته الخاصة عن العالم الذي يعيش فيه، والذي لم يجلب له إلا الجراح التي من فرط
تكاثرها ومكوثها تدلت، فخرجت نظما شعريا فيه امتداد لدمعه قائلا "أعي أن شعري امتداد
لدمعي".
عبر أبيات القصيد، يُفْصِحُ لنا الشاعر بأن خُطاهُ كانت تسير بثبات، إلا أن روحه قد أصابها
الشتات... هذا التصريح الواعي الذي جلب له العناء ، هو تأكيد لمقولة ميلتون إيركسون
Milton Erickson "أن الحياة بحد ذاتها سوف تجلب لك الألم" ، وهذا هو مربط الوعي
ومقصده في هذا القصيد الذي يروم التجديد في معالم النص الشعري، والذي يكون فيه
التعبير عن الألم أحد روافده المميزة، ذلك أن الأدب الحداثي الذي انطلق مع ميلان كونديرا
Milan Kundera قد بدأ بمقولة "أنا أتألم أنا موجود"، وعليه فالشاعر هنا قد جعل الألم
هو محفز البحث عن النور ضمن ظلمة المآسي التي يرصدها في كل حين فيقول "فجاء
القصيد ملاذا لبوحي، فقلت بجرحي، أعي ما أقول...";
إن توظيف الشاعر لمعجم الألم هو ممارسة لفعل الكتابة التي يسعى من خلالها أولا إلى
التطهير النفسي، وثانيا إلى ممارسة التحسيس بغد مشرق فيقول "لعلي أراود حلما
سيأتي...لعلي أرى سنديانا..." وهذا ما يجعلنا نعيد عليه طرح السؤال الفلسفي الكبير الذي
صاغه ديكارت قديما "هل يمكن للإنسان أن يعرف نفسه؟"... لأن معرفة الذات تستوجب
تقبل ما هي عليه، واتخاذ قرارات بناء على هذا الفهم، لكننا ونحن نحاور هذا النص، نجد
أن الشاعر يراوده ذلك الشعور بالاغتراب في وطنه (وَ وَجْهِي يُرَاوِدُهُ الاغتراب ...) كشأن
كل مبدع متفاعل مع واقعه، يحاول البحث عن "الربيع الذي بعمره أخل"، فيما يوحي بأن
الإنسان منذ كان – ومازال - يسعى للتوصل لهويته التي بالرغم من براءتها "أعي أن قلبي
بريء كظلي" إلا أن الزمن الذي يعايشه بات حافلا بالجرعات التي أَرَّختْ لمدن تَعُجُّ بخطى

2

"الصعاليك"، والذي لا يمكن أن يفسره إلا الاغتراب المكاني الذي تعانيه فئة مجتمعية كبيرة
بكل البلدان العربية بامتدادها الموسع (فئة المهمشين) حتى أصابه ذلك بالذهول، فيقول
"وأن فؤادي احتواه الذهول..."
هذا الإحساس الذاتي "اللانتمائي" إزاء المكان، هو ما يُشْعِرُ الذات نفسها بالتضاؤل
والانسحاق، الشيء الذي جعل الشاعر يَنْفُثُ روحه لِتَبُثَّ مشاعره في أشياء من صورته
بموعد لم تزره المرايا، لكنها فتحت له صوتا من الشذو الذي اعتراه الوصول إليه فقط
بأغنياته الحزينة قائلا "وأفضح حزني على أغنياتي..."
من الواضح عبر القصيد أن محاولة الشاعر معرفة الذات قد خلق عنده نوعا من الصراع
النفسي بين ما اعتقد أنه عليه وما أصبح فعلا عليه، وهو في ذلك يخاطب شريكا ثالثا
يستحضره بوعي منه هو المتلقي، مستثيرا أهواءه العاطفية عبر بث مظاهر لسانية معينة
فيقول: أسأل عن لون عاشقة لا تفرق بين مرارة وجهي – عند المساء أسكر بالعاشقات –
جنازة صمت – وهذا العويل... وكلها ملفوظات تعبيرية وجدانية، تؤثث لصورته ضمن
النسق اللساني المعبر عن أحاسيسه المؤثرة في المتلقي في محاولة لإقناعه عبر جلب
تعاطفه...فنكون بالتالي أمام نص ارتأى صاحبه الثورة على التقليد فكرا ونظما واحتجاجا،
منطلقا من هذا الشكل التعبيري الذي اتخذ القصيد مَطِيَّةً لإخراج دواخله الذاتية المنفعلة
والمتفاعلة مع طيات المجتمع، من أجل الصدح بأصوات المهمشين ، وتوظيفا لدوره كمثقف
عضوي كما دعا لذلك غرامشي Antonio Gramsci...
كلنا يدرك أن التجارب الحياتية تؤكد فشلنا في فهم ذواتنا والوعي بها تماما كما راهن على
ذلك الشاعر، إلا أننا نعترف له بإيصال تلك المسافة الفاصلة بين المعرفة والواقع، هذا
الأخير الذي يوجد به من يَعْمَدُ ويعمل بوعي وإصرار إلى تبئيس المثقف وتهميشه، لكن
هيهات لذلك أن يدوم مادام هناك شاعر لا يحترم الجراح ويصرخ بالسؤال، معتبرا أن مولد
الاشتعالات ستوقدها نرجسة الصباح، فتأتي قصيدا عذراء لا يشتهيها الذبول، لِتُحْدِثَ تنويرا
توعويا يحارب الأفول...
وهو ما سارت عليه الحداثة الأدبية منذ انطلاقها مع رواد النهضة بفكرهم التنويري
المحارب لكل تقليد وتقييد... وما القصيد إلا امتداد لذلك.
نص القصيد

أعي ما أقول
*شعر : عادل الهمامي – 1999م
أَعِي مَا أَقُولُ
وَ لَيْسَ بِوِسْعِي احْتِرَام الجِرَاحِ
وَ لاَ فَيْضَ دَمْعِي الذّي لاَ يَزُولُ
أَعِي مَا أَقُولُ
* * *

2

جِرَاحِي تَفِيضُ عَلَى شُرْفَةٍ مِنْ ذُهُولٍ
وَ صَدْرِي يُغَادِرُنِي نَحْوَ جَمْرِ الثَّنَايَا
فَأَسْأَلُ عَنْ لَوْنِ عَاشِقَةٍ لاَ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَرَارَةِ وَجْهِي
وَ طَعْمِ النَّشِيج
وَ أَمْتَدُّ مِنْ صَرْخَةٍ فِي السُّؤَالِ
إِلَى رَعْشَةٍ مِنْ مَرَايَا الضَّيَاعِ
لَعَلِّي أُرَاوِدُ حُلْمًا سَيَأْتِي
لَعَلِّي أَرَى سِنْدِيَانًا تَعَرَّى مِنَ الوَقْتِ
أَوْ لَحْظَةً لَمْ يَنَلْهَا الأُفُولُ
فَأَمْضِي
وَ بِي رَغْبَة في الأَمَانِي
لَعَلِّي أُلاَمِسُ عِشْقًا يَطُولُ
أَعِي مَا أَقُولُ
***
أُؤَثِّثُ صَمْتِي نَشِيدًا
وَ قَلْبِي المُوَزَّعُ مِثْلَ الثَّنَايَا على أَلْفِ عَاشِقَةٍ
أَسْتَعِيدُ إِلَيْهِ طُقُوسَ البِدَايَاتِ
أَكْتُبُ عَنْ فَاتِنَةٍ لَمْ تُبَارحْ أُنُوثَتَهَا
أَرْسُمُ الحُبَّ في جَسَدٍ مُثْقَلٍ بِالهَمْسِ
أَوْ جَسَدٍ شَاحِبٍ مِنْ ذُنُوبِ الزَّمَانِ
وَ أَتْلُو احْتِرَاقِي بَعِيدًا عَنِ الظِّلِّ ...
أَكْتُبُ عَنْ شَغَفِ الدَّمْعِ بِالأُقْحُوَانِ
وَ عَنْ مُدُنٍ لاَ تُؤَرِّخُ خَطْوَ الصَّعَالِيكِ
أَكْتُبُ عَنْ شَاعِرٍ هَدَّهُ العِشْقُ
وَهْوَ يُغَنِّي عَنِ اليَاسَمِينِ
وَ عَنْ مَوْعِدٍ لَمْ تَزُرْهُ المَرَايَا
وَ أَفْتَحُ صَوْتًا على زَمَنٍ حَافِلٍ بِالجِرَاحَاتِ
أَمْشِي
وَ وَجْهِي يُرَاوِدُهُ الاغتراب ...
أَعِي أَنَّ شَدْوِي اعْتَرَاهُ الوُصُولُ
أَعِي أَنَّ دَمْعِي مَرِيرٌ كَعُمرِي
وَ أَنَّ فُؤَادِي احْتَوَاهُ الذُّهُولُ
أَعِي مَا أَقُولُ
* * *

2

أُعَلِّقُ وَشْمِي عَلَى أُمْنِيَاتِي
وَ أَفْضَحُ حُزْنِي عَلَى أُغْنِيَاتِي
أُمَارِسُ تَبْغَ الكَثَافَةِ وَحْدِي
وَ عِنْدَ المَسَاءَاتِ أَسْكَرُ بِالعَاشِقَاتِ ...
كَثِيفٌ أَنَا
وَ الفُتُوحَاتُ وَقْعِي
وَ فَيْضِي يَفِيضُ على النَّبْضِ
دَمْعًا على دَمْعِي السَّوَادُ يَسِيلُ
وَ هَذَا العَوِيلُ
جَنَازَةُ صَمْتٍ أَتَاهُ الهَدِيلُ
وَ إِنِّي أَسِيلُ
وَ عُمْقِي احْتِرَاقٌ
وَ لَيْلِي طَوِيلُ
أُبَارِحُ سَيْلَ المَرَاثِي بِصَمْتِي
وَ فِي مَوْلِدِ الاِشْتِعَالاَتِ أُوقِدُ نَرْجَسَةً للصَّبَاحِ
تُؤَثِّثُ وَجْهًا لِعَذْرَاءَ لاَ يَشْتَهِيهَا الذُّبُولُ
أُظَلِّلُ أَرْصِفَتِي بِالقَصِيدِ
أُغَنِّي
فَبِالشِّعْرِ تَأْتِي الأُصُولُ
أَعِي مَا أَقُولُ

* * *
أَعِي أَنَّ وَعْيِي عَنَاءٌ تَجَلَّى
وَ أَنَّ جِرَاحِي مُكُوثٌ تَدَلَّى
أَعِي أَنَّ شِعْرِي امْتِدَادٌ لِدَمْعِي
وَ أَنَّ الرَّبِيعَ بِعُمْرِي أَخَلَّ
أَعِي أَنَّ قَلْبِي بَرِيءٌ كَظِلِّي
وَ أَنَّ الخَرَابَ عَلَيَّ أَطَلَّ
فَلاَ ذَنْبَ لِي قَدْ أَتَاهُ الغِيَابُ
وَ لاَ وَرْدَ عِنْدِي سَقَتْهُ السُّيُولُ
أَعِي مَا أَعِي
أَوْ أَعِي مَا أَقُولُ
خُطَايَ ثَبَاتٌ
وَ رُوحِي شَتَاتٌ
وَ عِشْقِي نَوَاةٌ ... مَحَتْهَا الفُصُولُ

2

وَ إِنّي أَعِي أَنَّ خَمْرِي اتِّقَادٌ
وَ أَنِّي القَوَافِي
وَ وَقْعِي فَعُولُ
فَجَاءَ القَصِيدُ مَلاَذًا لِبَوْحِي
فَقُلْتُ بِجُرْحِي :
أَعِي مَا أَقُولُ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى