فنون بصرية سعيد فرحاوي - بلاغة الألوان ودلالة الأنساق.. قراءة في لوحة زهرة الحنصالي من مراكش

عندما نراجع لغة القاموس؛ ونجعل منه لغة تسعف لفهم الانزياحات؛ كما تقربها منا لنتاكد أننا ؛ فعلا نسير بالشكل الصحيح في الاتجاه الصحيح لنعيد النظر في قبحنا؛ ربما نتمكن من عملية التحويل فنخرج من الألم ليصبح حقيقة أخرى للإدراك السليم في الاتجاه السليم بالفهم السليم. تلك بدايات اخرى لتواصل آخر فرضته علينا لوحة تشكيلية من صناعة امرأة اسمها زهرة الحنصالي تسعى أن تعيد النظر في الشرح القديم الذي تعلمته في المدرسة؛ في البيت؛ في الشارع؛ ربما؛ أيضا ماتلقنته من ثقافة العادات والتقاليد؛ فجعلته بناء جديدا و صياغات َمغايرة بلون الريشة ؛ لتخرج من الماضي بصناعة جديدة؛ كلها دلالات ومعاني؛ مرتبة بإشارات مشفرة سنبحث عن معانيها بمقاربة نقدية؛ تفكك الرموز والإشارات؛ بقراءة سيميائية من خلالها نراجع البضاعة التي وصلتنا مربكة ومتداخلة.
إن القراءة النقدية التي تفكك اللوحة العميقة و الدالة عن عوالمها الخارجة عن الطبيعة؛ لأنها إنتاج يتدخل فيه الفكري بالثقافي بالفني بالنفسي ؛ كما تتحكم فيه رؤية الفنان الخاصة وطبيعة وعيه بما يحيط به اكيد انها قراءة واعية تجعل من الدارس قارءا يعيد إنتاج بناءات اللوحة؛ كما يتدخل في كل صغيرة وكبيرة تضعها الفنانة بعلم دقيق وبوعي كبير؛ هادفة إلى صياغتها وبلورتها لتسهم إلى جانب إشارات اخرى فتنتج لوحة متناسقة متداخلة؛ تتداخل فيها عناصر كثيرة؛ فتصبح في الأخير عملا مركبا من عناصر مركبة تبنى بناء على عمليات تحويلية تركيبية دلالية وتوليدية معبرة عن شتات كثير بنظام كبير؛ فتضعنا الفنانة أمام شتاتها بنظامها المترتب بدقة عالية. دورنا سننطلق من اللوحة؛منها سنبحث عن القاموس المسعف لفهم إيحاءات زهرة الحنصالي في لوحة من لوحاتها الرائعة. لوحة توصلت بها؛ وجدتها بدون عنوان؛ لكن في نظري اعتبر العنوان بداية تشكيل الإرهاصات الأولى لبناء معاني النص. واللوحة هي بالضرورة نص مغلق؛ له مكوناته كما له دلالاته وإيحاءاته العميقة. إذا كان الكاتب يكتب بالكلمات فالفنان التشكيلي يكتب بريشته؛ بالألوان يعيد التأويلات؛ كما يكتب العالم ويعيد صياغته بدلالة المعمار الرمزي؛ كلها تسنينات مركبة تشكل قواعد وتقنيات الكتابة التشكيلية . ينطلق الفنان من العنوان؛ سواء منطوقا او مضمرا؛ ليقص حكاياته اللامتناهية؛ كما يروي ظمأه الغابر في تجليات لوحة ترشق العلامات بعدة إشارات مفتوحة وأخرى مغلقة لتقول الكثير بالكلام القليل؛ كما بالقليل تحكي اللامتناهي بلغة اللون ودقة الصور وحكاية الرموز والشفرات.
العنوان المناسب لنص الحنصالي الذي كتب بتمفصلات مختلفة؛ يبدو لنا على الشكل التالي :
_1_العنوان الأول:
كل الطرق تؤدي إلى الله.
_2 العنوان الثاني:
الممرات المناسبة للوصول إلى الله.
_3 العنوان الثالث:
مراكش ارض الله.
_4 العنوان الرابع:
النخيل والورود مناطق السمو والتعالي للوصول إلى الله.
اخترت هذه العناوين ؛ لأنها ترسم وجه الحقيقة كما تراها الفنانة تعبيرا تشكيليا مسعفا للخروج من الأسفل؛ ترقبا وحلما إلى التعالي؛ هناك حيث الله يراقبنا ويساير خطانا المحروحة؛ الحالمة في حلكة اللون الاحمر؛. وفي ضياء لون الورود وتجليات النخيل وشموخ البنايات العالية على شكل مساجد الرحمة والمحبة والسلام.
الانساق الظاهرية للوحة زهرة الحنصالي:
أول عنصر يتجلى بشكل مثير في اللوحة هو العقد في أعلى اللوحة مكتوب علية اسم الله؛ بشكل يجعل العين تلتقط أول إشارة معبرة ومركزة؛ بعدها تتفرع باقي الصور على الشكل التالي:
_1_ مساجد شامخة بألوان زاهية؛ يتوسطها العقد السابق ذكره (عقد الله)؛ مساجد بمعمار محدد يجعل المتتبع يلمس أن توزيعها جاء دقيقا ليرسم معمارا يشبه صورة قصر شامخ الجمال والبهاء؛ مازاد من قيمة هذا الشموخ هو وجود طرق متنوعة كلها تقود نحو قصر الله وبهاء المساجد؛ تنطلق من الأسفل لتتجه نحو الأعلى (نحوالله) ؛ وفي اتجاه المساجد حيث صورة الله وقصر المساجد.
_2_ في الركن الأيسر تنتشر أشجار النخيل؛ التي وصل علوها درجات عليا؛ ليصل إلى مستوى شموخ المساجد.
_3_ في الجهة الاخرى؛ يمين اللوحة تنشر الورود ببهاء زاد من بهاء قصر الله وتعالت نحو عقد الله. قربها واد جميل؛، يشكل منطلقا تنتشر فيه مجموعة الجذور لتصل نحو اسم الله وتواجد المساجد.
_4 مابين النهر والورود واشجار النخيل تتخرك مجموعة من المائنات بشكل تصاعدي ؛ هي مخلوقات كانت سابقا موجودات مقرها سفلي لكنه صار يعلو ويتعالى ليصل امتداده حيث اسم الله وحيث مساجده؛ كما توجد مجموعة من الطرق هي الاخرى تتحرك من الأسفل نحو الأعلى
.
خلاصة عامة:
كل الصور تشكل منطلقا سفليا؛ ببهاء شديد؛ لتصل بعلو مركزي؛ حيث المساجد بعظمتها وعقد الله بجماله وعلوه وبهائه؛ ليصبح اسم الله واسطة العقد هو أساس كل التلاقي وأساس كل الاشارات بمختلف توجهاتها الجمالية.
عناصر بلاغية تحدد ماهية الألوان ووظائفها في علاقتها بقوة انتشار الصور وشكل تجلي عظمة خالق الوجود.
بلاغة الالون ووظيفتها في تشكيل الأنساق الدلالية.:
الألوان المشكلة للوحة زهرة الحنصالي يغلب عليها الأحمر المغلق والاخضر المغلق ؛ والأخضر الباهت والأصفر الخفيف والأبيض اللامع؛ ثم البني المغلق؛. كل هذه الالوان توزعت حسب الاشكال المعمارية التالية:
_1_البني المغلق :
ألوان عقد الله؛ كما هي ألوان قصر المساجد.
موضوع القوة والعظَمة؛ والجمال والبهاء ؛ كما هي لغة القوة والإثارة. ألوان تثير الانتباه وتجر النظر ؛ بمنبه قوي موضوعه أن المتكلم عنه هو خالق يعلو عن باقي الموجودات؛ اختارت له الفنانة مكان السمو والجلال و العظمة في إشارة تجعل كل الصور تشكل فروعا لهذا الأصل :اساس الجلال والقوة والعظمة. لذلك كانت الوانا قوية وشديدة الإثارة والانتباه.
_اللون البني نوعان:
_أ__ البني المغلق :لون العقد حيث الله ببهائه وعظمته
_ب _اللون البني المفتوح لون اسم الله بجلاله وجماله.
_2_ اللون الاحمر نوعان:
_أ_اللون الأحمر المغلق :
لون السماء بحرارتها وقوتها وشرارتها.
اللون الأحمر المائل ألى البرتقالي:
لون يحيط بأشجار النخيل.
الأحمر المائل إلى البرتقالي يحيط بأشجار النخيل؛ التي تمثل أالوانا تدل عن مدينة الحمراء بمساجدها الشامخة؛ خاصة َمسجد الكتبية العظيم الذي يربط المدينة بتراث عريق ومتجدر في تاريخ مدينة مراكش والمعبر عن ماضي حضاري يربط المغرب بتراثه اللامادي الغارق في عظمة التاريخ.
مدينة الله بمساجدها الجميلة؛ وكأن الفنانة أوقفت التاريخ كله والأرض بكل من عليها؛ فجعلتهما مجالا محصورا في أرض مراكش؛ بصفتها المجال الجغرافي والدعامة التاريخية التي تربط الإنسان بعظمة الله وبالحياة وبالكون برمته. .
اللون الأخضر الباهت هو لون الكرامات؛ لون اولياء الله؛ ولون يربط الروح السفلية بالحياة الزاهدة المتعالية. الأخضر الباهت لون صوفي روحاني ورباني المعنى.
اما اللون الاخضر المنغلق هو لون الخير والبركة؛ لون الولادة؛ لون العطاء؛ كما هو لون الطبيعة عندما تلد الحياة وتستجيب عطفا و رحمة للانسان وكافة الكائنات؛ كما هو لون البهاء والجمل؛. بشكل عام الأخضر المغلق هو لون الحياة الجميلة.
اللون الأصفر لون الشمس؛ لون الحرارة؛ لون الدفء؛ لون مثير بجمال خاص.
الالوان ؛ بشكل عام؛ بكل تجلياتها البهية؛ المتناسقة نرسم مراكش ؛ أرض النخيل؛ فجعلت منه أرض الله؛ مدينة روحانية بكل المواصفات؛ حيث الله يتابعنا دائما؛ كما هي أرض المساجد؛ مدينة روحانية؛ ربانية؛ هي أصل كل البدايات؛ كما هي مجال كل النهايات؛ تمتد بالصعود من الأسفل نحو الاعلى؛ كما هي ارض الجمال باخضرار طبيعتها؛ وشموخ نخيلها؛ وعظمة مساجدها؛ وعلو جسدها الشامج بعدة إشارات ترمز لها اللوحة بكل ما يمكن اعتماده لتجعل منها مدينة العلو والتسامي؛ كما جعلت منها مدينة غير عادية؛ مختلفة عن باقي المدن؛ خاصة عندما ربطتها بالله مباشرة؛ واخرجتها من المادي لترسمها جنة من جنات الخلد التي تكلم عنها القران
قراءة في الأنساق التحويلية والتوليدية والتركيبية .
الأنساق التحويليةو التوليدية:
في هذا المستوى تشتغل اللوحة على نسق بناء نسيج الدلالة وأشكال تحقق الخطاب اعتمادا على خاصية التوالد؛ لأن كل عنصر يلد معطى سيحولك إلى مستوى آخر. فاللون الأحمر المغلق يحولك إلى دلالة قوة الله وعظمته؛ كما يربطك بلون النار الخفية في عالم الغيب؛ كما هو لون يقودك إلى جلال المساجد وعظمة الله الكامنة في عمق البني الخفيف؛ هذا الآخر يؤطره بني مغلق ليرتبط بالأحمر المغلق فيعلو بنا إلى رحمة الله الحاضرة في البني المفتوح؛ ثم تنفتح الحياة ببهاء الطبيعة وجمال الروح في عمق الورود الرائعة والانهار المتدفقة والنخيل الشامخ الذي تعالت عظمته لتصل الارض بصومعة المساجد. كل شيء موضوع بدقة وبهندسة دلالية واضحة؛ كل واحد يلد الآخر؛ فتنتهي بنا اللوحة إلى معمار توالدي تام.
.الانساق التركيبية:
_1النسق الدلالي:
لوحة تعبر بكل عناصر تشكلها عن أفكار متعددة تلتقي في عمق موضوع واحد؛ جعلت من مدينة الحمراء/مراكش أرض سبعة رجال؛ أرض الكرامات وأولياء الله موضوع بنائها الدلالي. هذه المدينة تكلمت عنها بكل الأوصاف؛ جعلت منها جنة ارضية ونورا سماويا؛ جعلتها تتحرك فوق الأرض بنظام خاص ومحدد؛ كما وضعتها بهندسة جد دقيقة؛ فأصبحت مكانا يتعالى و يسمو ليصبح في علاقة مباشرة بالله و بالسماء؛ خاصة عندما جعلت منها مدينة المساجد الشامخة وأرض الله الخضراء البهية بجنتها الأرضية التي عبرت عنها بالأنهار وبجمال النخيل وبهاء الورود؛ كما جعلت منها طريقا مفتوحا يصل الأرض مباشرة بالله المتعالي بقوته وجبروته وبهاء صورته.
_2_ النسق الخطابي:
لوحة تتحرك بأقطاب متعددة؛،في أزمنة واضحة وأمكنة تدل عليها عدة عناصر؛ هذه المعطيات سنحددها حسب الشكل التالي:
*السارد:
اللوحة تشكل نصا دلاليا بحكاية محددة؛ ساردها يحكي بدقة الإشارات والرموز التي جعلت من الألوان لغة تحل محل الكلمات؛ فالنخيل شخصية تتكلم باسم بهاء المدينة والأحمر ينطق باسم مراكش المعروف بمدينة الحمراء؛ والمساجد الشامخة لسان يحيل على مسجد الكتبية العريق في قدمه ودلالته التاريخية. كلها صورة تمثل شخصية كما ان كل لون يدل على شفرة معينة؛ بلسان سارد خفي يروي القصة بدقة متعالية.
*المسرود له متعدد؛ منه ماهو داخلي وآخر خارجي. الداخلي يتفاعل مع السارد الداخلي والمسرود له الخارجي يتجاوب َمع المؤلف الضمني؛ لتشكل كلها اقطابا تساهم بتحاذب كبير في بناء حكاية اللوحة بانسجام وتماسك تام ودقيق. تريد اللوحة بحكايتها الشاملة تذكيرهما بألغاز هذه المدينة؛ فجعلت منها مدينة غريبة عنهما رغم أنهما يعيشان فيها أومعا يعرفان عن بعد أو عن قرب كل شيء عنها؛ مع ذلك يتلقيان رسالة عن مدينة بمواصفات جعلتهما يعيدان النظر في ذاكرتهما وفي العناوين الصغرى التي كانا معا يتجاوبان بها عن مدينة أصبحت غير مألوفة وخارجة عن فهمهما في كل النطاقات القديمة.
وظيفة السارد إقتاع المسرود له بموضوع حكايته التي تغيرت عناوينها واختلفت مضامينها وتنوعت أشكال الحكاية فيها؛ ومسرود له يعيد النظر في أفكاره فيقوم بتأويل جديد برؤية مغايرة عن تلك التي كان يعرفها
.
المكان:
متعدد هنا؛ الاأوان تتكلم عن مدينة مراكش؛ وعن ازمنة متنوعة؛ منها ماهو أصيل /زمن التاريخ العريق؛ والزمن المعاصرالتي تدل عليه طبيعة توظيف الرموز بكل صورها؛. فجعلت منها صورا تخرج من تقليديتها وفي ماضيها التراثي فتصبح أشكالا حداثية تمثل زمننا ببهاء مثير.
الشخصيات:
تتفاعل عدة شخصيات في النص؛ منها ماهو بشري تدل عليها صور صغيرة لبشر يتحركون في أزقة تمر من الأسفل نحو الأعلى؛ كما نجد شخصيات أخرى غير بشرية تحيل عليها الأنهار والنخيل والمساجد والطرق والألوان؛ فتشكل كلية تتلاقى وتتفاعل لتنتج خطابا دلابيا متناسقا ببناء تام وجد محكم.
خاتمة:
تشكل لوحة زهرة الحنصالي معمارا فنيا مبنيا بناء تاما ومتماسكا في كل المجالات على مكتويات فنية متداخلة :
صور موضوعه بدقة؛ كل عنصر يجرك إلى عنصر آخر.
ألوان متماسكة ومنسجمة؛ رغم كثرتها؛ تميل إلى الانغلاق تارة كما تنفتح لتتحرك نحو عوالم مفتوحة مبنية على أسس التفاؤل والاطمئنان؛ فأصبحت هذه األالوان بانغلاقها وانفتاحها تفتح القدرة على الحياة والرغبة في تقبل كل مجالات جمالها؛ و في نفس الوقت تنغلق لتعود بنا إلى الخالق من جهة التذكير والإرشاد؛ فنصبح بذلك أمام رؤى متداخلة يحضر فيها الفني ليرافق الجمالي ؛ كما يستدعي الفكري الثقافي التراثي؛ فنصبح امام لوحة مليئة بالأسرار والألغار تقود إلى أكثر من سؤال.


1668962619918.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى