أ. د. عادل الأسطة - عزت الغزاوي وهاجس الكتابة: تساؤلات حول رواية "الخطوات"

يواصل عزت الغزاوي مشروعه الكتابي دونما انقطاع وبإصرار يغبط عليه لا ينازعه فيه منازع سوى قلة من كتاب ، وهذا الإصرار يجعل منه كاتبا محترفا يرى أن الكتابة هاجسه ومشروعه الأساس .
أصدر عزت محموعة قصصية واحدة في العام ١٩٨٧ وكتابا نقديا في ١٩٨٩ وثالثا نثريا " رسائل لم تصل بعد " في ١٩٩١ وأربع قصص طويلة جنسها تحت جنس الرواية وهي " الحواف " ١٩٩٣ و" جبل نبو " ١٩٩٥ و " عبد الله التلالي " ١٩٩٨ و " الخطوات " ٢٠٠٠ ، وترجم وأعد مختارات من الأدب الفلسطيني كما أنه نقل نصوصه إلى الإنجليزية ، وحظيت أعماله في فلسطين وخارجها بمراجعات نقدية عديدة ، وهذا كله يثير العديد
من الأسئلة حول هذا النشاط الاستثنائي .
إن الدارس يتساءل حقا عن الموضوعات التي يخوض فيها وعن الإضافات في باب النثر الفلسطيني ؛ الإضافات التي دفعت إلى ترجمة نصوصه وتلقيها وفوزها بالجوائز .
في هذه الكتابة سوف أقف أمام رواية " الخطوات " .
إشكالية التجنيس :
تقع " الخطوات " في ٨٨ صفحة من الحجم المتوسط وتقترب من روايات الكاتب الأخرى ، وسوف أستخدم مفردة رواية التي استخدمها الكاتب لتجنيس عمله ، فالحواف تقع في ١٤٢ صفحة وجبل نبو في ١٢٣ وعبدالله التلالي في ١١٥ ، وإذا ما نظرنا إلى طبيعة الخطوات قلنا إنها تقترب من الحواف ، فهل تعد حجما رواية؟
قبل أن أجيب عن هذا السؤال أود أن ألفت النظر ثانية إلى تجنيس الكاتب لعمله " رواية " .
في كتابه " مدخل لدراسة الرواية " يخصص ( جيرمي هورثون ) الفصل الرابع لمناقشة الفارق بين القصة الطويلة والرواية ويكتب :
" على الرغم من أن الطول هو السمة الواضحة والمميزة التي تفصل الرواية عن القصة القصيرة والرواية القصيرة إلا أنه ليس السمة الوحيدة " (٣٦) ، " فالقصة القصيرة تقرأ عادة في جلسة واحدة ، وتميل لأن تكون خبرة أقل تأملا وأكثر تركيزا " . " فنادرا ما نتوقف عدة مرات لنتأمل طويلا ونحن نقرأ قصة قصيرة ، وتحدد القصة القصيرة نفسها نموذجيا بمدة قصيرة من الزمن ، كما أنها بدل متابعة تطور شخصياتها ونضوجهم تعمد إلى كشف ذلك في لحظة الأزمة الكاشفة سواء داخليا أم خارجيا "(٣٦) ، ويضيف( هورثون ) " ونادرا ما يكون للقصص القصيرة حبكات معقدة ، ونعيد القول إن التركيز يقع على مشهد أو موقف معين أكثر مما يقع على سلسلة من الأحداث " .
وأما الرواية القصيرة " فتكون عادة أكثر طولا من القصة القصيرة ، وبرغم أنه بالإمكان قراءتها في جلسة واحدة لكنها في الأعم الأغلب ليست كذلك "(٣٧) ، ويعد المؤلف رواية( جوزيف كونراد ) " قلب الظلام " رواية قصيرة ، ويرى أن الرواية القصيرة ذات رمز سائد أو مجموعة من " الرموز في مركزها ، وأن هذه الرموز ، وليس تعقيد حبكتها ، هي التي تعطي الرواية القصيرة عمقها وأهميتها "(٣٧) .
فهل نعد الخطوات رواية أم قصة قصيرة- قصة طويلة ؟
إنها حجما وتعدد شخصيات ورمزا لا تختلف كثيرا عن " قلب الظلام " . وما من شك في أن تحديد الجنس هنا قد يعيدنا إلى مساءلة كثير من نصوص الأدب العربي النثرية التي تقارب الخطوات حجما ، ولكنها أدرجت في الدراسات تحت جنس الرواية ، وقد تذكرنا ببعض آراء بعض الدارسين ومنها أنه لا توجد في الأدب العربي حتى ٧٠ القرن ٢٠ رواية سوى ثلاثية نجيب محفوظ وثلاثية الجزائري محمد ديب ، وقد اختلف الحال في ٨٠ و ٩٠ القرن ٢٠ وبعدهما ، فكتب على سبيل المثال عبد الرحمن منيف خماسية " مدن الملح " وثلاثية " أرض السواد " .
استدراك العتبة :
نقرأ في ص ٦ الآتي :
" استدراك
حين يختفي المؤلف
تنظر الأشياء بمعزل عن الرقابة
عزت الغزاوي "
ويكتب اسم المؤلف على صفحة الغلاف ، فيم يرد في ص ٧ " هل هو الموت ؟. وهل يحق للمؤلف أن يموت قبل ترتيب روايته؟" و " البداية خدر في القدمين يصعد رويدا رويدا . لن يصرخ أحد في إشارة تنبيه : سيكون حدثا عاديا وسيمر وقت ما قبل أن يكتشف أحدهم أن المؤلف مات وهو يحاول أن يرتب فصول روايته ، رواية الأمكنة وعلاقتها باليوسفي ، عارف بن إبراهيم الغنايم المولود في صفد ١٩٣٦ " .
لم يختف المؤلف في النص إطلاقا ، فالرواية مرتبة ترتيبا جيدا ، وهذا يعني أن الأمر ليس سوى تخييل وإيهام ، وعدا ذلك فقد عاد المؤلف في نهاية الرواية في صفحة ٨٧ و ٨٨ ليقول أشياء تحت عنوانين هما : " ما لم ينسبه المؤلف لأحد " و " ما ظنه المؤلف كلام الجافنة " . وإذا ما فحصنا المستوى اللغوي للمتكلمين فسنجد أنه واحد - وسوف أعود إلى هذا - وهذا يعني أن المؤلف حاضر في نصه ، وهو ، وإن مات قبل أن يرتب فصول روايته كما جاء في ص ٧ ، فإنه لم يترك الأشياء تنظر بمعزل عن الرقابة كما جاء في الاستدراك ، ويخيل إلي أنه لم يراقب كلام شخوصه وحسب ، بل صاغه على هواه ، وهذا يحيلنا إلى المستوى اللغوي .
اللغة :
يقص الرواية غير واحد ، يقص الصفحتين ٧و٨ سارد ما ، والصفحات ٩ إلى ١٩ هاجر بنت محمد القاسم ، والصفحات ٢٠ إلى ٦٠ اليوسفي ، وتستدرك هاجر ما فاتها فتقص الصفحتين ٦١ و ٦٢ ، ويورد (المؤلف ؟) ما قرأه الشيخ عبد القادر الحكواتي في ست ليال في الصفحات ٦٣ إلى ٧٧ ، ليظهر لنا بعد ذلك ما روته زكية السلطان في الصفحات ٧٨ إلى ٨١ ، وما روته مي رسولي ص ٨٢ و ٨٣ وما قاله الكاظم - وهو اليوسفي - في الصفحات ٨٤ إلى ٨٦ ، وبعد ذلك نقرأ كلام المؤلف في الصفحتين ٨٧ و ٨٨ .
وإذا أمعنا النظر في العناوين الفرعية قرأنا : ما روته ، ما رواه ، ما قرأه ، ما روته ، ما روته ، ما قاله ، ما لم ينسبه المؤلف لأحد . وهذا يعني أننا أمام لغتين على الأقل ؛ لغة الرواية / الراوي ولغة القراءة - الكتابة . وإذا ما أمعنا أيضا النظر في طبيعة الشخوص فإننا أمام شخوص مثقفين مثل اليوسفي وشخوص أقل ثقافة مثل هاجر وزكية . ولكن لغة هؤلاء كلهم ، فصاحة ، لغة واحدة .يختفي التعدد اللساني وتختفي اللهجات ، ويبدو المؤلف مثل الشاعر الغنائي الذي أدخل لغته ، والرأي لميخائيل باختين ، في مياه نهر ( ليثي ) . لقد أدخل المؤلف قبل أن يموت لغة شخوصه في مياه هذا النهر وجاءت لغة الرواية واحدة هي العربية الفصيحة . إننا نقرأ مستوى لغويا واحدا في السرد والحوار معا .
الحكاية الرئيسة وما قرأه الحكواتي :
الرواية ، كما يرد في الصفحة الأولى ( السابعة حسب الترقيم ) هي رواية الأمكنة وعلاقتها باليوسفي عارف بن إبراهيم الغنايم المولود في صفد سنة ١٩٣٦ ، وقد تشرد هذا في العام ١٩٤٨ وتنقل في أماكن عديدة :
" المنفى بدأ من صفد إلى " الجافنة " وارتحل إلى عمان فبيروت فأوراسيا ، وبالنسبة لغيري مر أيضا بالكويت وبغداد وتونس وصنعاء والقاهرة وغيرها . علها ستكون آخر المقام هذه العودة "(٥١) .
لم تكن حياة اليوسفي ، وهو الشخصية المحورية في الرواية ، هادئة مستقرة . لقد كانت حياة قلقة مضطربة عاش صاحبها من الهجرات والملاحقة والاضطهاد والمساءلة قبل أن يستقر في المنفى استقرارا مؤقتا ليتزوج من مايا ويخلف نتاشا .
وإذا كانت هاجر تقص عن زكية السلطان والدة اليوسفي ، وإذا كان اليوسفي يقص عن تجربته ، فإننا في الرواية أمام حكواتي قاريء يقص علينا في ست ليال ما قرأه ؛ يقرأ في الليلة الأولى قصة عنترة وعبلة ، وفي الثانية أوديب الملك وفي الثالثة مقتل الإمام الولي الحسين بن علي وفي الرابعة يقص عن أخبار سعيد بن المسيب وفي الخامسة عن حكاية أنانا الإلهة الجميلة التي أحبت الفداء وفي السادسة يقص قصة الرجل الثري وزوجته وجبينة .
ويشعر المرء للوهلة الأولى أن هناك خروجا عن النص ، وأن ما يدرج تحت هذا العنوان " ما قرأه الشيخ عبد القادر الحكواتي " مقحم إقحاما . ويشعر المرء أيضا أنه لا يقرأ رواية قدر ما يقرأ مختارات من كتب قرأها قاريء أعجب بها ثم أدرجها ضمن كشكوله الخاص . ولكن إمعان النظر في الحكايات ومقارنتها بحكاية زكية السلطان وابنها اليوسفي تدفع المرء إلى إجراء مقارنة بين الحكايات كلها : الحكاية الرئيسة والحكايات المقروءة ، كما تدفعه إلى البحث عن شكل العلاقة بينها ومن ثم الكشف إن كانت علاقة تواز أو إتمام أو عكس . أنقول أحيانا حكاية توازي أخرى لتؤكد الحكاية الأولى ؟ أم أننا حين لا نتم الحكاية الأولى نتمها من خلال حكاية ثانية ؟ أم نقول الثانية لتناقض الأولى ؟
ثمة في هذا العالم حكايات كثيرة تنشابه وثمة حكايات تتم ما لم يكن تم في حكاية سابقة وثمة أشياء كثيرة متناقضة . وأرى أن تتبع سير الحدث في الحكاية الرئيسة وفي القصص الست التي قرأها الحكواتي ما يحتاج إلى متابعة لتبيان شكل العلاقة .
ما قد يظنه بعض القراء من أن هذه الحكايات مقحمة على النص يعيدنا إلى بعض الروايات العالمية الصادرة في النصف الثاني من القرن العشرين ، وتحديدا روايات الكاتب التشيكي ( ميلان كونديرا ) .
يفاجأ من يقرأ روايات كونديرا ، وتحديدا رواية " الخلود " ورواية " كائن لا تحتمل خفته " بأنه في أجزاء الرواية الأخيرة يقرأ أخبارا أدبية وأساطير . ويتساءل إن كان ما يقرأه يدرج في باب الرواية - أحيل القاريء هنا إلى القسم الثاني من " الخلود " حيث فيه نقرأ عن حياة الأديب الألماني ( غوتة ) . هل تأثر عزت بكونديرا ؟ ( في رده على أسئلة كتبتها بعد قراءة الخطوات أخبرني عزت هاتفيا أنه لم يقرأ لكونديرا إلا " البطء " وهي قصة طويلة ) .
تشاؤم الكاتب أم تشاؤم اليوسفي بطل رواية الخطوات ؟
يأتي اليوسفي على اتفاق أوسلو ويعني هذا أن الزمن الروائي يمتد من ١٩٣٦ إلى ما بعد أوسلو ، بل إننا من خلال الليالي الستة للحكواتي نعود إلى زمن أوديب وأنانا والعصر الجاهلي والعصر الإسلامي . وكان اليوسفي عنصرا من عناصر الثورة الفلسطينية . فهل كانت مرحلة السلام تبعث فيه الطمأنينة ؟ وهل رأى في الحل المنجز حلا لمشكلته ولمشكلة اللاجئين ؟
يقول اليوسفي :
" كأننا لم نفرح أبدا بفكرة العودة إلى وطن محاصر "(٥٧) .
وحين يزور الجافنة يظل السؤال عن معنى الوطن مشرعا :
" إذ ما هو المبرر الأخلاقي للتنازل عن حقنا التاريخي في فلسطين الكاملة ؟ ليس بالإمكان إخفاء حيفا وصفد عن خارطة الحلم والحكاية التي سردناها على أطفالنا منذ النكبة . كانت تلك صلب حكايتنا التي تناقض حكاية الآخر "(٥٢) .
ما يثيره اليوسفي من أسئلة وما يعبر عنه الغزاوي متخفيا وراءه هو السؤال الصعب الذي أثير منذ أوسلو ، وربما منذ ١٩٧٤ عام مشروع الدولة المستقلة . وتحفل الرواية بالإشارة إلى فلسطينيي المنفى ممن لم يعودوا ، ويرد على لسان بعض الشخصيات ما يبرز سخرية هؤلاء مما جرى وممن وافقوا على حل لم يعد اللاجئين إلى ديارهم .
وسواء أكانت الرواية تعبر عن تشاؤم بطلها أم عن تشاؤم كاتبها، فمما لا شك فيه أن ما أنجز حتى الآن لا يبعث على التفاؤل ، وتضاف هذه الرواية إلى تلك النصوص الأدبية التي أنجزت بعد أوسلو وحفلت بتساؤلات كثيرة وبنزعة تشاؤمية أكثر مما حفلت به من نزعة تفاؤلية .
النزوع نحو التجريب :
يلحظ قاريء روايات الكاتب أنه مسكون بنزعة التجريب والبحث عن شكل روائي ، لأن الشكل أيضا مهم . ولا شك أن قراءات عزت للرواية العالمية - حيث يدرس الأدب الإنجليزي في جامعة بير زيت - تترك أثرها في رواياته . ويبدو أن هذا الهاجس هو الذي جعله ينجز أربعة نصوص روائية ذات شكل روائي لا يتكرر في أكثر من رواية ، وهذا التركيز على الشكل يفقد رواياته عنصر التشويق - وإن كانت الخطوات تقترب من مجموعة " سجينة " ففيها لغة فيها قدر من التوتر الاسر المشوق - ولا أدري إن كان الكاتب يتحلل من كتابة الرواية الأقرب إلى الحكاية ويميل إلى كتابة الرواية التي تتطلب قارئا متأنيا . وأنا أقرأ روايات عزت أحتاج إلى صبر وأناة ، خلافا مثلا لقراءتي روايات سحر خليفة التي لم تتخل عن عنصر التشويق على الرغم من عدم اهتمامها بالبناء الفني اهتمام عزت به.
أيفكر عزت وهو يكتب روايته بقاريء متمرس ولا يفكر بقاريء يقرأ من أجل المتعة ؟ أم أنه لا يفكر بالقاريء إطلاقا ؟ أتؤثر نزعة التجريب على هذا الجانب ، لأنه يبحث عن شكل جديد ؟ مجرد تساؤلات كانت تثار وأنا أقرأ نصوصه ولا أدري إن كان غيري من القراء أثارها !؟
ومع ذلك ليس أمام القاريء إلا أن يغبط الكاتب على إصراره على مواصلة مشروعه الأدبي في وقت خفتت فيه أصوات أدبية كثيرة كان يتوقع أن تنتج أفضل مما أنتجت .
( نشرت الكتابة في جريدة الأيام الفلسطينية في ١٥ / ٨ / ٢٠٠٠ )
يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى