لا شك أن تصورنا للعالم مرده اللغة ،فنحن نستحضر الأشياء بتسميتها مما يفتح لنا مجال تمثلها، كذلك تخبرنا اللسانيات باعتبار أن اللغة مجموعة من الإشارات والرموز الخاضعة إلى نظام وقواعد معينة ،يستعملها المتكلم لا لتبليغ مقصوده للمتلقي والتواصل معه فحسب ، بل لوصف العالم الخارجي وتصوره أيضا ،بالتالي ارتبط ذلك النظام ارتباطا عضويا بالتفكير بأن أصبح تابعا له دون إمكانية الفصل بين الفكر و اللغة .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المسائل ليست موضوع تساؤلنا، بل هي مدخل لإشكالية أخرى أكثر دقة، تلك التي تتعلق بتركيبة الجملة في اللغة العربية ونخص بها بالذكر الجملة الفعلية. أما دواعي التخصيص، فتعود إلى أسبقية الفعل الذي يعتبر ( المسند) على الفاعل ( وهو المسند إليه ) ، كيف يحتل الفاعل المرتبة الثانية في الجملة الفعلية من حيث الموقع وهو مصدر الفعل خاصة إذا علمنا أن ترتيب عناصر الجملة وموقع كل منها هو المنتج للمعنى وهو المؤسس لقواعدها ؟ لذلك لا يتبع الفعل الفاعل( باستثناء التأنيث) لا في الجمع ولا في المثنى ، ولا يخضع دائما لقواعد الصرف لأسبقيته في الترتيب على الفاعل، إذ يمنحه ذلك الموقع التحكم في تنظيم بقية عناصر الجملة كتلك المتعلقة بتعديه إلى مفعول به فأكثر.
والمراد مما ذكرنا في هذه المسألة ،أن التعريف الذي يعتبر الفعل حركة صادرة عن فاعل ومقترنة بزمن ليس مطابقا المطابقة التامة لتركيبة الجملة الفعلية في اللغة العربية ،لذلك استندنا إلى التعريف الذي اقترحه سيبويه الوارد بكتابه وهو الآتي : الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، لما يكون ولم يقع ،ما هو كائن ولينقطع (1)والمقصود بأحداث الأسماء أنها لا تتعلق بالأفعال فحسب بل بالمصادر أيضا باعتبارها الأصل ولبيان ذلك كتب الدكتور حسن عبد الغني الأسدي " ما يلي : "لقد ذكر سيبويه أن الأفعال تؤخذ أي يتم اشتقاقها من لفظ أحداث الأسماء وتفسير ذلك أن الأفعال تشتق من الحدث المعبر عنها باللفظ المأخوذ من طائفة من الأسماء تتضمن فضلا عن اسميتها دلالة الحدث (2).""ومعنى ذلك أن الفعل يؤخذ من المصدر لا من معناه إذ لو كان الفعل يشتقّ من معنى المصدر لاشتقّ من مرادفه وهذا غير وارد في اللغة." كما ذكر الباحث محمد دلوم (3) .
الفعل إذا ، كما سبق بيانه هو الذي يحدد جميع العناصر الواردة بالجملة رغم حاجته إلى فاعل سواء كان بارزا أو ضميرا مستترا ، معلوما أو نكرة باتخاذه عدة صيغ ،صريحة أو خفية ، يعني أن مكانته وإن كانت ضرورية إلا أنها لا تحتل المركز ويمكن تعويضه بالمفعول به مثلا إذا كان الفعل مبني للمجهول .
ونظرا لارتباط القواعد اللغوية وتحديدا النحوية بالمعنى وتأسيسه وتعدده في الجملة، سواء كان ضمنيا أو صريحا ،فلا بد أن يكون لأسبقية الفعل على الفاعل من تأثير على طريقة تفكيرنا .
ما معنى أن يكون الفعل سابقا للفاعل ومحركا لجميع مجالات الجملة ، هل يمكن التسليم جدلا باستقلالية كل منهما عن الآخر ولو جزئيا واعتبار أن الفعل صادر في الحقيقة عن قوة أخرى غير معلومة ،وأن الفاعل تابع له، ليس بمصدره إلا ظاهريا بوصفه يؤدي وظيفة دون أن يكون مرجعا ؟
كيف يمكن للخطاب في اللغة العربية أن ينتج " الذات الفاعلة"خلافا لما تبيحه قواعد النحو ؟ وهل يمكن للجملة الاسمية أن تحقق ذلك بأن تجعل من تلك الذات مركز الجملة بكل عناصرها ؟
لقد كتب الدكتور حسن عبد الغني الأسدي في هذا المضمار : ونخلص من ذلك إلى القول بأن المسند في النمط الاسمي لا يشتمل من الناحية الأولية على القدرة التي تولد مجالات الوظائف ،فعلى الرغم من امتلاك المبتدأ للسمات المعجمية، إلا أنها ليست كسمات الفعل وتقتصر قدرة المبتدأ على إحداث مجال تلازمي يربط معه دلاليا لا بنائيا كما في الفعل الذي يتجاوز إلى تلازم آخر من النوع الدلالي يلزم منه ظهور مفعول واحد أو مفعولين معا أو ثلاثة مفعولين(4)ليستنتج قصور الجملة الاسمية على توليد مجالات واسعة داخل الجملة ومنافسة الجملة الفعلية التى تبقى النمط المركزي في اللغة العربية على مستوى التداول التخاطبي .
فهل يمكن القول بأن الجملة الفعلية هي ميتافيزيقية بامتياز ؟
وقبل الجواب عن هذا السؤال، نسوق هذه الملاحظة المتعلقة بما تتصف به علاقة الفعل بالفاعل من التباس والتي تذكرنا بنظرية الكسب لدى الفقهاء من أهل السنة فقد قال الغزالي في هذا المنحى: أفعال العباد مضافة إلى الله تعالى، خلقا وإيجادا ،وإلى العبد كسبا، ليثاب على الطاعة ( القيام بتكليف ما كلف به من نهي أو أمر) ويعاقب على معصية ...فقدرة العبد عند مباشرة العمل لا قبله . فحينما يباشر العمل ،يخلق الله تعالى له اقتدارا عند مباشرته فيسمى كسبا (5).
ووجه المقاربة بين علاقة الفعل بالفاعل ونظرية الكسب ، أن الفعل يستمد قوته من نفسه ليمنحها للفاعل في أوجه دون أخرى ، مما يضفي على الجملة الفعلية في اللغة العربية بعدا ميتافيزيقيا ،و يجعلنا نطرح أكثر من سؤال : إن كانت غلبة الأشاعرة على المعتزلة كما سجلها التاريخ من المسائل المحسومة لا فقهيا أو دينيا بل ولغويا أيضا ؟
إذا كانت اللغة العربية قادرة على فتح أفق التفكير في الحرية وفي وجود ذات متكلمة مفكرة مبدعة قادرة على تجاوز موقع المتبوع للفعل ؟
الرأي عندنا ،أن ذلك ممكن بفضل الإبداع أدبا وشعرا وفكرا ،باستعماله جميع إمكانيات اللغة عند صياغة الجملتين الفعلية والاسمية لاكتشاف زوايا أخرى ليست بالمألوفة ،تخص الفعل الإنساني وصلته بالآخر وبالعالم .
كاهنة عباس
(1)الكتاب سيبويه الجزء الاول الطبعة الثالثة سنة 1988 مكتبة الخانجي بالقاهرة الصفحة 12 .
(2)مفهوم الجملة عند سيبويه ، الدكتور حسن عبد الغني الاسدي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الصفحة 76الطبعة الأولى سنة 2007.
(3)محمد دلوم الفعل دلالته على الزمن ووظيفته الإخبارية عند سيبويه "،منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية ، القسم الاول : بحوث ومقالات ، مصدر المقال : مجلة الحكمة مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع الجزائر ع 9 ،سنة 2011.
(4)مفهوم الجملة عند سيبويه الدكتور حسن عبد الغني الاسدي الصفحة 186 ( السابق الذكر).
(5)الثابت والمتحول بحث في الابداع والاتباع عند العرب أدونيس الجزء الاول الصفحة 79 دار الساقي الطبعة السابعة ، 1994.
نشرت هذه المقالة بموقع الكوة بتاريخ 12 أوت 2020
وبمجلة الكلمة شهر جانفي 2021 عدد 165
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المسائل ليست موضوع تساؤلنا، بل هي مدخل لإشكالية أخرى أكثر دقة، تلك التي تتعلق بتركيبة الجملة في اللغة العربية ونخص بها بالذكر الجملة الفعلية. أما دواعي التخصيص، فتعود إلى أسبقية الفعل الذي يعتبر ( المسند) على الفاعل ( وهو المسند إليه ) ، كيف يحتل الفاعل المرتبة الثانية في الجملة الفعلية من حيث الموقع وهو مصدر الفعل خاصة إذا علمنا أن ترتيب عناصر الجملة وموقع كل منها هو المنتج للمعنى وهو المؤسس لقواعدها ؟ لذلك لا يتبع الفعل الفاعل( باستثناء التأنيث) لا في الجمع ولا في المثنى ، ولا يخضع دائما لقواعد الصرف لأسبقيته في الترتيب على الفاعل، إذ يمنحه ذلك الموقع التحكم في تنظيم بقية عناصر الجملة كتلك المتعلقة بتعديه إلى مفعول به فأكثر.
والمراد مما ذكرنا في هذه المسألة ،أن التعريف الذي يعتبر الفعل حركة صادرة عن فاعل ومقترنة بزمن ليس مطابقا المطابقة التامة لتركيبة الجملة الفعلية في اللغة العربية ،لذلك استندنا إلى التعريف الذي اقترحه سيبويه الوارد بكتابه وهو الآتي : الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، لما يكون ولم يقع ،ما هو كائن ولينقطع (1)والمقصود بأحداث الأسماء أنها لا تتعلق بالأفعال فحسب بل بالمصادر أيضا باعتبارها الأصل ولبيان ذلك كتب الدكتور حسن عبد الغني الأسدي " ما يلي : "لقد ذكر سيبويه أن الأفعال تؤخذ أي يتم اشتقاقها من لفظ أحداث الأسماء وتفسير ذلك أن الأفعال تشتق من الحدث المعبر عنها باللفظ المأخوذ من طائفة من الأسماء تتضمن فضلا عن اسميتها دلالة الحدث (2).""ومعنى ذلك أن الفعل يؤخذ من المصدر لا من معناه إذ لو كان الفعل يشتقّ من معنى المصدر لاشتقّ من مرادفه وهذا غير وارد في اللغة." كما ذكر الباحث محمد دلوم (3) .
الفعل إذا ، كما سبق بيانه هو الذي يحدد جميع العناصر الواردة بالجملة رغم حاجته إلى فاعل سواء كان بارزا أو ضميرا مستترا ، معلوما أو نكرة باتخاذه عدة صيغ ،صريحة أو خفية ، يعني أن مكانته وإن كانت ضرورية إلا أنها لا تحتل المركز ويمكن تعويضه بالمفعول به مثلا إذا كان الفعل مبني للمجهول .
ونظرا لارتباط القواعد اللغوية وتحديدا النحوية بالمعنى وتأسيسه وتعدده في الجملة، سواء كان ضمنيا أو صريحا ،فلا بد أن يكون لأسبقية الفعل على الفاعل من تأثير على طريقة تفكيرنا .
ما معنى أن يكون الفعل سابقا للفاعل ومحركا لجميع مجالات الجملة ، هل يمكن التسليم جدلا باستقلالية كل منهما عن الآخر ولو جزئيا واعتبار أن الفعل صادر في الحقيقة عن قوة أخرى غير معلومة ،وأن الفاعل تابع له، ليس بمصدره إلا ظاهريا بوصفه يؤدي وظيفة دون أن يكون مرجعا ؟
كيف يمكن للخطاب في اللغة العربية أن ينتج " الذات الفاعلة"خلافا لما تبيحه قواعد النحو ؟ وهل يمكن للجملة الاسمية أن تحقق ذلك بأن تجعل من تلك الذات مركز الجملة بكل عناصرها ؟
لقد كتب الدكتور حسن عبد الغني الأسدي في هذا المضمار : ونخلص من ذلك إلى القول بأن المسند في النمط الاسمي لا يشتمل من الناحية الأولية على القدرة التي تولد مجالات الوظائف ،فعلى الرغم من امتلاك المبتدأ للسمات المعجمية، إلا أنها ليست كسمات الفعل وتقتصر قدرة المبتدأ على إحداث مجال تلازمي يربط معه دلاليا لا بنائيا كما في الفعل الذي يتجاوز إلى تلازم آخر من النوع الدلالي يلزم منه ظهور مفعول واحد أو مفعولين معا أو ثلاثة مفعولين(4)ليستنتج قصور الجملة الاسمية على توليد مجالات واسعة داخل الجملة ومنافسة الجملة الفعلية التى تبقى النمط المركزي في اللغة العربية على مستوى التداول التخاطبي .
فهل يمكن القول بأن الجملة الفعلية هي ميتافيزيقية بامتياز ؟
وقبل الجواب عن هذا السؤال، نسوق هذه الملاحظة المتعلقة بما تتصف به علاقة الفعل بالفاعل من التباس والتي تذكرنا بنظرية الكسب لدى الفقهاء من أهل السنة فقد قال الغزالي في هذا المنحى: أفعال العباد مضافة إلى الله تعالى، خلقا وإيجادا ،وإلى العبد كسبا، ليثاب على الطاعة ( القيام بتكليف ما كلف به من نهي أو أمر) ويعاقب على معصية ...فقدرة العبد عند مباشرة العمل لا قبله . فحينما يباشر العمل ،يخلق الله تعالى له اقتدارا عند مباشرته فيسمى كسبا (5).
ووجه المقاربة بين علاقة الفعل بالفاعل ونظرية الكسب ، أن الفعل يستمد قوته من نفسه ليمنحها للفاعل في أوجه دون أخرى ، مما يضفي على الجملة الفعلية في اللغة العربية بعدا ميتافيزيقيا ،و يجعلنا نطرح أكثر من سؤال : إن كانت غلبة الأشاعرة على المعتزلة كما سجلها التاريخ من المسائل المحسومة لا فقهيا أو دينيا بل ولغويا أيضا ؟
إذا كانت اللغة العربية قادرة على فتح أفق التفكير في الحرية وفي وجود ذات متكلمة مفكرة مبدعة قادرة على تجاوز موقع المتبوع للفعل ؟
الرأي عندنا ،أن ذلك ممكن بفضل الإبداع أدبا وشعرا وفكرا ،باستعماله جميع إمكانيات اللغة عند صياغة الجملتين الفعلية والاسمية لاكتشاف زوايا أخرى ليست بالمألوفة ،تخص الفعل الإنساني وصلته بالآخر وبالعالم .
كاهنة عباس
(1)الكتاب سيبويه الجزء الاول الطبعة الثالثة سنة 1988 مكتبة الخانجي بالقاهرة الصفحة 12 .
(2)مفهوم الجملة عند سيبويه ، الدكتور حسن عبد الغني الاسدي دار الكتب العلمية بيروت لبنان الصفحة 76الطبعة الأولى سنة 2007.
(3)محمد دلوم الفعل دلالته على الزمن ووظيفته الإخبارية عند سيبويه "،منتدى مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية ، القسم الاول : بحوث ومقالات ، مصدر المقال : مجلة الحكمة مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع الجزائر ع 9 ،سنة 2011.
(4)مفهوم الجملة عند سيبويه الدكتور حسن عبد الغني الاسدي الصفحة 186 ( السابق الذكر).
(5)الثابت والمتحول بحث في الابداع والاتباع عند العرب أدونيس الجزء الاول الصفحة 79 دار الساقي الطبعة السابعة ، 1994.
نشرت هذه المقالة بموقع الكوة بتاريخ 12 أوت 2020
وبمجلة الكلمة شهر جانفي 2021 عدد 165