مديح الصادق - العربيّةُ بين العجمة وحُوشيّ الكلام.

تحايا طيبة للزميلات والزملاء، الأدباء والكتّاب، للدارسين والمتابعين، وبعد:

عندما وضع (سيبويه) (148 هـ - 180 / 765- 796 م) وهو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، المُكنَّى أبو بشر؛ كتابه الذي سمّاه النحاة (قرآن النحو)؛ لم يستشهد إلا بأشعار الموثوق بعربيتهم من الشعراء في عصره وما قبله؛ وحجتة أن العجمة قد لحقت أقوال بعضهم نتيجة اختلاطهم بأقوام أعاجم، من غير العرب، بعد توسع الفتوحات، وبذلك جرت قواعد اللغة العربية، في كتابه، وما كُتب فيها بعده؛ بناء على شواهد القرآن الكريم، وأشعار العرب القدماء، قال (الجاحظ) في كتاب (سيبويه): "لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله وجميع كتب الناس عليه عيال".
لقد أخذ سيبويه شواهده التي بلغت أكثر من ألف من المصادر التالية:
1- من شيوخه وأساتذته، وهم : يونس بن حبيب، الخليل بن أحمد الفراهيدي، أبو الخطاب الأخفش، عيسى بن عمر، والأصمعي. لقد كان يذكر في كتابه اسم من أخذ منه في كل شاهد بقوله: سمعتُ فلاناً يقول، أو: حدّثني شيخي فلان أنه سمع من العرب الذين يوثق بعربيتهم.
2- شواهد سمعها من العرب مشافهة وهو على راحلته يطوف القبائل العربية التي يوثق بعربيتها، على حد قوله، منها: قريش بالدرجة الأولى، قيس، تميم، أسد، هذيل، بعض كنانة، وبعض الطائيين، وقد استبعد من كانوا مجاورين لأقوام أعاجم، في العراق والشام والبحرين واليمن.
3- شواهد سمعها من بعض الموثوق بهم يروونها عن العرب، فالرواية كانت هي الوسيلة الوحيدة لتوثيق الأشعار.
من شواهده قول زياد الأعجم في نصب الفعل المضارع بعد (أو):
وكنتُ إذا غمزتُ قناةَ قومٍ كسرتُ كعوبَها أو تستقيما
فقد نصب الشاعر الفعل المضارع (تستقيم) ب (أن) مضمرة بعد (أو).
ومن شواهده القرآنية النصب على المدح، كما هي (والمقيمين):
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾. النساء (162).
وقد جاء بشاهد شعري نظير هذا، قول الخِرْنِق بنت بدر، من العصر الجاهلي:
لايبعدنْ قوْمي الذين هُمُ سمُّ العداة ِ وآفة ُ الجزرِ
النازلينَ بكُلِّ مُعْتركٍ والطيبونَ معاقدَ الأزرِ
فقد دأب علماء النحو الأوائل حينما تعرض عليهم مسألة نحوية في القرآن الكريم؛ يذهبون للشعر العربي المعتمد لديهم للاستشهاد به، وصولاً إلى حكم مشترك، وهكذا فعل سيبويه في كتابه للوصول إلى قواعد للغة العربية لا تقبل الشك .
هذا ما كان في ذلك الزمان، أما اليوم فنحن نطالع باستمرار، وعلى مئات المواقع، وما تفرزه بعض دور النشر؛ عجائب أشكالاً وأنواعاً، ولا يقتصر هذا على الأخطاء النحوية والصرفية، بل يمتد أحياناً إلى ركاكة الأسلوب، وحُوشيّ الكلام، وأخطاء الكتابة والإملاء.
المصيبة لا تتوقف عند هذا الحد؛ بل تتعدى إلى ما هو أسوأ وأمرّ، يومياً أمتنعُ عن نشر نصوص كثيرة على المواقع التي أُديرُها، والتي أُشرفُ عليها، لكونها لا تصلح للنشر، لكثرة أخطائها وركاكة أسلوبها، وسطحية معانيها أو تكرارها؛ لكني أُفاجأُ بأنها تُنشر على بعض المواقع، ولا يُكتفى بذلك إنما تنال إطراء ليس في محله بأجمل الألفاظ، أو أن صاحبها ينال شهادات تكريم، مُزيَّنة بالورود الجميلة، ودروع، وما استجدّ في قواميسهم من الألقاب، تضعه في مصاف كبار الكتاب والأدباء.
تردني كتب وبحوث للمراجعة، أرفض ذلك لكثرة أخطائها، في النحو والصرف، والإملاء، وعلامات الترقيم، وبعد مدة أقرأ أنها قد تم طبعها ونشرها في واحدة من دور النشر التجارية؛ على أخطائها ونواقصها، وبذلك يتباهى صاحبها بأنه البطل المنتصر.
عندما تحتجُّ، وتقول لهؤلاء الأحبَّة: رفقاً بلغة الضاد، أرجوكم؛ يُجيبُك (البطران):
تساهَلْ قليلا، فهؤلاء مبتدئون، وحقُّهم علينا الرعاية والتشجيع...
لهؤلاء الزملاء الطيبين جداً أقول: اللغة أداة الكاتب في التعبير عمّا يريد إيصاله للمتلقي، وعليه أن يحاول قدر ما بوسعه لضبطها، ولا عيب في أن يستعين بمن هو أعلم منه، أو بذوي الاختصاص، نقول هذا ولا ندّعي الكمال، فكلُّنا بحاجة للمزيد من الدرس والاطلاع، مع احترامي لمن يشعر أنه للمشورة محتاج، ولا يُثنيه عن هذا خجل أو مكابرة، به قد يشعر أنها لا تليق.

مديح الصادق

* من الكتاب القادم (محاضرات في النحو المُيسَّر).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى